تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً

____________________________________

بعضا في بيع أو غيره (بِدَيْنٍ) إما تأكيد وإما لدفع توهم أن يكون المراد من المداينة المجازاة كما قال الشاعر «ولا أنت دياني فتجزيني» (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي مدة قد سميت في العقد كما لو دائنه إلى سنة أو باعه نسيئة إلى ستة أشهر مثلا (فَاكْتُبُوهُ) أي اكتبوا ذلك الدين في صك وأنه إلى أية مدة لئلا يقع فيه نسيان أو جحود أو خلاف (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ) كتاب الدين (كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) بالحق لا يزيد في المقدار والأجل والوصف ولا ينقص منها (وَلا يَأْبَ) أي لا يمتنع (كاتِبٌ) أي شخص كان من المتعاملين أو غيرهما (أَنْ يَكْتُبَ) الصك (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) بأن يبخل فلا يكتب ، فالتكليف من الله سبحانه وهو في مقابل أن علمه تعالى الكتابة والعلم فلا يثقل أو يبطئ أو يبخل (فَلْيَكْتُبْ) الكاتب (وَلْيُمْلِلِ) بمعنى ليملأ فإن الإملال والإملاء بمعنى واحد يلقي صيغة الكتابة على الكاتب (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) أي المديون حتى يقر على نفسه أولا ، حتى لا يقول زائدا على الحق ثانيا ، فالذي له الحق لو أملى كان معرضا لأن يقول الزيادة (وَلْيَتَّقِ اللهَ) الكاتب أو المديون (رَبَّهُ) فإنه رب له فكيف يخالف أمره (وَلا يَبْخَسْ) أي لا ينقص الكاتب أو المديون (مِنْهُ) أي من الحق (شَيْئاً) أما نقص الكاتب فواضح وأما نقص المديون كأن يجعل

٣٠١

فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى

____________________________________

الدينار والذي هو مقابل ثوب في مقابل ثوبين (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) بحيث لم يتمكن من الإملاء (أَوْ ضَعِيفاً) لجنون أو كبر أو صغر أو نحوها (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) لخرس أو عذر آخر مع عدم السفاهة والضعف (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) أي ولي من عليه الحق (بِالْعَدْلِ) بلا إفراط أو تفريط (وَاسْتَشْهِدُوا) أي اطلبوا شهادة (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) على المكتوب لينفع ذلك عند الترافع والمخاصمة لدى التخالف ، ولعل قيد من رجالكم لإخراج الكفار (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي لم يكن الشاهدين (رَجُلَيْنِ) لعدم حضورهما أو عدم إرادة المستشهد (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) يشهدون على الكتابة ، أو فليشهد رجل وامرأتان (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) لوثاقتهم أو عدالتهم إذ لا تقبل شهادة من عداهم لدى المخالفة والتراخ ، وإنما جعلت المرأتان مكان رجل واحد لأن المرأة لضعف ذاكرتها كما ثبت في العلم الحديث يتطرق إليها من النسيان ما لا يتطرق إلى الرجل ، ولذا قال سبحانه : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) من الضلال أي تخطأ وتشتبه وتنسى (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا) التي لم تضل (الْأُخْرى) التي نسيت وضلت ، و «أن» إما بمعنى «لئلا» وتكون جملة «فتذكر» منقطعة ، أي إن ضلّت تذكر الثانية الأولى ، وأما أصلها «إن» بالكسر ، صفة

٣٠٢

وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً

____________________________________

لامرأتان ، والأول أقرب (وَلا يَأْبَ) أي لا يمتنع (الشُّهَداءِ) الذين يراد إشهادهم للدين ـ وسموا شهداء بمجاز المشارفة ـ (إِذا ما دُعُوا) لتحمل الشهادة وهذا أمر إيجابي أو استحبابي ، أو المراد الأعم من التحمل والأداء.

(وَلا تَسْئَمُوا) أي لا تضجروا أيها المتداينون (أَنْ تَكْتُبُوهُ) أي تكتبوا الدين أو تكتبوا الحق (صَغِيراً) كان الحق والدين (أَوْ كَبِيراً) وهذا تأديب لمن يترك كتابة الصغير لعدم الاهتمام به ، فكثيرا ما يقع التنازع في الصغير (إِلى أَجَلِهِ) أي إلى أجل الدين ومدته ، وفيه تنبيه إلى أن الكتابة تبقى إلى الأجل فتنفع هناك ، أو المعنى كتابة تتضمن إلى الأجل ، فيعين في المكتوب أجل الدين.

(ذلِكُمْ) ذا إشارة إلى الكتاب الذي يكتب في المداينة «وكم» خطاب إلى الذين آمنوا (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) أي أعدل ، بمعنى أقرب إلى العدل وإلا فليس في العدل مفاضلة حقيقية (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) فيه تقوم الشهادة التي تؤمن عن الزيادة والنقصان (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أي أقرب إلى عدم الريب في المبلغ والأجل فالله يريده وأنتم لا تشكون ، والشهادة تستقيم ، بسبب الكتابة والصك وما ذكر من الكتابة عامة لكل مكان (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) المعاملة ـ المفهوم من الكلام ـ (تِجارَةً حاضِرَةً) معجلة غير

٣٠٣

تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)

____________________________________

مؤجلة كغالب التجارات النقدية التي تجري في الأسواق (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) إدارة يد بيد ، ومعنى الإدارة المناقلة ، فينقل هذا ماله إلى ذاك وينقل ذاك عنه إلى هذا (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) وحرج (أَلَّا تَكْتُبُوها) فلا مانع من عدم كتابة التجارة النقدية إذ الكتابة للوثيقة وهنا لا يحتاج إلى الوثيقة (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فإنه يستحب للإنسان الذي يريد المبايعة أن يأخذ الشاهد ، ففي المعاملة كثيرا ما يقع من نزاع وخصام فإذا كان هناك شهادة يقل وطئ النزاع ، والآية وإن كانت عامة لفظا لكن لا يعد أن لا يراد بها الإطلاق من المعاملات الجزئية اليومية لعدم تعارف الأشهاد منذ زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) بأن يكلف الكاتب الكتابة ويكلف الشاهد الشهادة في حال يكون حرجا عليهما وضررا ، كما تعارف الآن عند الحكومات المنحرفة فإنه يحضر الشاهد ويعنت ويضار فإن في مضارتها زهادة للناس عن الكتابة والشهادة (وَإِنْ تَفْعَلُوا) المضارة بها (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) أي خروج عن أمر الله سبحانه لسببكم أيها المضارون (وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) مصالحكم فاتبعوه (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وأنتم لا تعلون وما أجدر بالجاهل أن يتبع العالم ، عن علي بن إبراهيم أن في

٣٠٤

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ

____________________________________

سورة البقرة خمسمائة حكم وفي هذه الآية الكريمة وحدها خمسة عشر حكما والآية كما تقرر في العلم الحديث من أعجب الآيات في باب المعاملة.

[٢٨٤] (وَإِنْ كُنْتُمْ) أيها المتداينون المتبايعون (عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين والتعبير بلفظ «على» لركوب المسافر غالبا (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب الدين والمعاملة (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) تقوم مقام الصك ورهان جمع رهن ، وهو اسم للوثيقة ولذا جاءت الصفة بالتأنيث والقبض شرط في صحة الرهن ، ولذا وصفه بالقبض (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ) وهو صاحب الحق (بَعْضاً) وهو من عليه الحق بأن وثق به وأنه يؤدي الدين بدون صك ولا رهن ، فأعطاه الدين مجردا عن الأمرين (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) أي المديون (أَمانَتَهُ) فلا ينكر ولا يمطل ، كفاء لما رآه أهلا (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) فإن الله شهيد ويجازي فإن أنكر أو مطل أو بخس كان معرضا نفسه لعقوبة الله سبحانه (وَلا تَكْتُمُوا) أيها الشهود (الشَّهادَةَ) التي تحملتموها (وَمَنْ يَكْتُمْها) أي يخفي الشهادة فلا يحضر لأدائها أو يؤديها على خلاف الواقع (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) فقد عزم القلب على الكتمان وأطاعته الجوارح واللسان ولأن الكتمان أنسب إلى القلب لكونه في محل

٣٠٥

وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)

____________________________________

مكتوم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من إخفاء الشهادة وإبدائها (عَلِيمٌ) فلا تفعلوا ما يوجب عقابه وسخطه.

[٢٨٥] (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فما تعاطونه من الأملاك ليست لكم إلا مجازا وإنما هي ملك له سبحانه فاعملوا فيها حسب ما أمركم ولا تخالفوا أمر المالك الحقيقي (وَإِنْ تُبْدُوا) أي تظهروا (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) بما تعلمونه ويخفى على غيركم (أَوْ تُخْفُوهُ) فتكتموه (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) فإن جميع الأعمال والأقوال والأفكار تحت المحاسبة ، أو أن الإبداء والإخفاء لما في النفس محسوب عليهما ، وهذا العموم للتناسق مع إبداء الشهادة وكتمانها (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) حسب ما تقتضيه الحكمة البالغة فالغفران والشفاعة ليسا اعتباطا وإنما ينصبان على المحل القابل (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من المغفرة والعقاب ولا يخفى أن العذاب على ما في النفس لا ينافي ما دل على عدم العقاب ، على العزم على المعصية لاختلاف المعاصي ، واختلاف أنواع العقاب فلا شبهة في أن من يعزم على المعاصي وإن لم يفعلها أبعد عن قرب الحلال ممن لا يعزم إطلاقا ، وهذا البعد هو نوع من العذاب أو يجمع بنحو ذلك.

٣٠٦

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)

____________________________________

[٢٨٦] وهنا يرجع السياق إلى ذكر التوحيد والنبوة والشرائع جملة في لباس أنها لا تكلف الناس فوق الطاقة وسؤال المغفرة والعفو لتكون فذلكة للسورة (آمَنَ الرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فهو أول مؤمن بما أنزل إليه وليس كرؤساء الأديان المفتعلة والملوك والحكام الذين لا يشملهم القانون (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌ) أي كل واحد منهم (آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) فليس المؤمن أن يقتنع بجانب واحد من جوانب الإسلام كما هو كثير في تابعي الأحزاب والمبادئ حيث أن ذا النشاط المتفايض منهم يقتنع منه بجانب واحد وإن ترك سائر الجوانب فإن لسان حال المؤمنين (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) فلسنا كاليهود الذين لا يعترفون بالمسيح عليه‌السلام ونبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا كالنصارى الذين لا يعترفون بنبي الإسلام ، فلا تكون كمن يؤمن ببعض ويكفر ببعض (وَقالُوا سَمِعْنا) آيات الله وأحكامه (وَأَطَعْنا) أوامره ونواهيه لا كاليهود الذين قالوا سمعنا وعصينا ، يقولون (غُفْرانَكَ) أي نطلب مغفرتك (رَبَّنا) نعلم أن (إِلَيْكَ الْمَصِيرُ) فاغفر لنا حتى نكون في ذلك اليوم سعداء.

[٢٨٧] إن الأحكام التي سلفت في السورة وفي غيرها ليست مما لا يطاق

٣٠٧

لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا

____________________________________

فإنه (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فإن أوامره ونواهيه مستطاعة للمكلف وليس في الدين من حرج ، فلا يظن أحد أن الإيمان السابق ذكره في (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) يوجب مشقة وعنتا وإرهاقا (لَها) أي للنفس (ما كَسَبَتْ) من الحسنات فالجزاء الحسن يجزى به من أحسن (وَعَلَيْها) أي على النفس ضرر (مَا اكْتَسَبَتْ) من الآثام والسيئات ولعل في مجيء الكسب من بابين «كسب» و «أكتسب» إفادة أن الطاعة طبيعية والمعصية تؤتي بالتكلف إذ للفظة الاكتساب ظلالا يفيد التعب والغضب بخلاف الكسب وتؤيده قاعدة «زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى» وهناك يتوجه المؤمنون إلى الله داعين سائلين (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) بلا نسيان وإنما تصح المؤاخذة فيهما لغلبة كون مقدماتهما اختيارية وما ينتهي إلى الاختيار يكون بالاختيار (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) أي ثقلا فإن بعض التكاليف قد توجب ظروفها ثقلا وعنتا ، فالمؤمن يسأل أن يجنبه الله سبحانه مثل هذا الثقل (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) فإنهم بلجاجتهم استحقوا تحميل الثقل كما تقدم في قصة بقرة بني إسرائيل وكما قال سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١)

__________________

(١) النساء : ١٦١.

٣٠٨

رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٢٨٦)

____________________________________

(رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) وإن كان مقدورا لنا فإن عدم الطاقة ليس بمعنى عدم القدرة حتى يقال : إن الله لا يكلف غير المقدور فما وجه هذا الدعاء؟ (وَاعْفُ عَنَّا) ذنوبنا (وَاغْفِرْ لَنا) خطايانا أي استرها ولا تبدها (وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا) سيدنا والأولى بالتصرف فينا (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) حتى نغلب عليهم في الحكم كما نغلب عليهم في الحجة.

٣٠٩

(٣)

سورة آل عمران

مدنية / آياتها (٢٠١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

سميت بذلك لاشتمالها على لفظة آل عمران وقد نزلت بالمدينة.

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مرّ تفسيرها في أول سورة الحمد.

٣١٠

الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ

____________________________________

[٢] (الم) تقدم ما يحتمل أن يكون تفسيرا له.

[٣] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) فليس له شريك وهو الحي الذي لا يموت وإن كانت الحياة بالنسبة إليه تعالى تخالف الحياة بالنسبة إلينا فإن حياتنا غير ذواتنا وإنما هي صفة قائمة بنا بخلاف الحياة فيه سبحانه فإنه عين ذاته والقيوم هو القائم على كل نفس بما كسبت وعلى كل شيء

[٤] (نَزَّلَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (بِالْحَقِ) لا بالباطل فإن الإنزال قد يكون بالباطل وقد يكون بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) على موسى عليه‌السلام (وَالْإِنْجِيلَ) على عيسى عليه‌السلام.

[٥] (مِنْ قَبْلُ) إنزال القرآن عليك ، وكل هذه الكتب (هُدىً لِلنَّاسِ) فإنها تهديهم من الظلمات إلى النور ومن الباطل إلى الحق ومن الضلال إلى الرشاد (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الفارق بين الحق والباطل وهو أعم من الكتب السابقة وسائر ما أنزل على أنبياء الله ورسله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) بحجج الله ودلالاته (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في الدنيا بالفوضى والهرج والمرج والمشاكل كما قال تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ

٣١١

وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ

____________________________________

ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) وفي الآخرة بالعقاب (وَاللهُ عَزِيزٌ) له العزة والقدرة بأن يفعل ما يشاء (ذُو انْتِقامٍ) ينتقم ممن حادّه وعصاه.

[٦] (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فلا يظن عاص أنه يخفى على الله سبحانه ، فإنه يعلم كل شيء في الكون حتى وساوس القلوب وهواجس الصدور.

[٧] (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) أي يعطيكم الصورة في بطون أمهاتكم (كَيْفَ يَشاءُ) من رجل وامرأة وجميل وقبيح وقصير وطويل وغيرها فكيف يخفى عليه شيء وهو يفعل مثل هذا الفعل الدقيق في ذلك المحل المظلم (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو وحده إله الكون وخالقه (الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) فما يفعل شيئا عبثا بل يفعل ما يفعل بالحكمة.

[٨] (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن (مِنْهُ) أي قسم من الكتاب (آياتٌ مُحْكَماتٌ) غير متشابهات فالمفاد منها واضحة لا يخفى على أهل اللسان كقوله سبحانه (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢)

__________________

(١) طه : ١٢٥.

(٢) الإخلاص : ٢.

٣١٢

هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ

____________________________________

(هُنَ) أي تلك الآيات المحكمات (أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله الذي يرجع إليه لدى الشك والخصام والجدال.

(وَأُخَرُ) أي آيات أخر (مُتَشابِهاتٌ) والمتشابه هو الذي يحتمل وجهين أو وجوها مما سبب عدم إدراك الناس كلهم لها ، من تشابه ، وإنما يؤتى به إما امتحانا حتى يعرف المؤمن من المنافق أو لتقريب المطلب إلى أذهان الناس الذين لا يدركون الحقائق ككثير من آيات الصفات ونحوها كقوله سبحانه : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) حيث أريد التفهيم من أن المؤمنين ينظرون إلى رحمة الله ، أو كقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (٢) أو لأن المطلب دقيق لا تتحمله بعض العقول كآيات الجن والشيطان مما لا يتحملها عقل من إلف المادة فيشتبه الأمر عليه أو لأنه جيء به لاعتبار كلامي فاشتبه الأمر نحو (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٣) أو غير ذلك ، والمتشابه مما لا بد منه في الكلام الراقي كما لا يخفى بأدنى تأمل (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) أي ميل عن الحق وانحراف إما جهلا أو عنادا (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) اتباعا على خلاف المراد منه ويوجهون المتشابه حسب أهوائهم ومشتهياتهم كما يقول القائل

__________________

(١) القيامة : ٢٤.

(٢) البقرة : ٣٠.

(٣) التوبة : ٦٧.

٣١٣

ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ

____________________________________

بالتجسم من (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وبالجبر من (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (١) وبمعصية الأنبياء عليهم‌السلام من (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢) ويكون الإسلام خاصا بالعرب من (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٣) وهكذا (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي لأجل تفتين الناس وإضلالهم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي لأجل أن يكون له مجال في تأويل الكلام على غير المراد منه ليطابق هواه ومشتهاه (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) التأويل هو ما يؤول وينتهي إليه الكلام فمثلا ظاهر (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) إنهم ينظرون إلى الله لكن هذه الجملة تؤوّل إلى معنى أنهم ينظرون إلى رحمة الله ولطفه وثوابه ، كما يقال في العرف «إني أنظر إلى العقل وهو يسيّر الإنسان» إنه لا يريد النظر بالعين وإنما عرفان ذلك (إِلَّا اللهُ) فهو سبحانه يعلم المراد من كلامه (وَالرَّاسِخُونَ) أي الثابتون (فِي الْعِلْمِ) الذين لهم اطلاع على المعلومات وبأساليب الكلام وبما يدل عليه العقل والشرع وهذا ليس ببدع فإن القوانين المدنية لا يعرفها إلا من درسها وأتقنها وأساليب الكلام العربي لا يعرفها إلا من أتقن الأدب والبلاغة وهكذا ، إن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه في حال كونهم (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) أي بالمتشابه كما آمنا بالمحكم (كُلٌ) من المحكم والمتشابه

__________________

(١) الرعد : ٣٤.

(٢) طه : ١٢٢.

(٣) الزخرف : ٤٥.

٣١٤

مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا

____________________________________

(مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فإذا لم يظهر المعنى في بادئ النظر لا ينكرون ولا يقولون بالتناقض ، فإنهم جمعوا بين فضيلتي العلم بالتأويل والإذعان بصحة المتشابه بخلاف الجهال فإنهم يعترضون على المتشابه أولا ويفسرون حسب أهوائهم ثانيا ، وهكذا نجد الآن في العرف العالم الورع يجمع بين الفضيلتين والجاهل يشتمل على الرذيلتين (وَما يَذَّكَّرُ) أي يتذكر ويرد المتشابه إلى المحكم وإلى ما دل من العقل والنقل (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أصحاب العقول الحصيفة ، ثم إنه ورد في الأحاديث أن المراد بالراسخين النبي والأئمة عليهم‌السلام ولا يخفى أنهم من أجلّ مصاديق الراسخين وذلك هو المراد لا الانحصار.

[٩] إن الراسخين في العلم يلتجئون إلى الله سبحانه قائلين (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي لا تملها عن الحق وإنما نسب الزيغ إليه سبحانه لأنه هو الذي هيأ الأسباب ليمتحن عباده فترك الإنسان ـ وعدم اللطف به ـ حتى يقع فريسة الشيطان من صنع الله سبحانه كما يقال أن الملك أفسد الرعية لا يراد أنه أفسدهم وإنما يراد تركهم حتى يفسدوا ، ولا يخفى الفرق بينه سبحانه وبين الملك لرعيته فإن الله حيث خلق الدنيا للاختبار لا بد وأن يهيئ الوسيلتين ليظهر المطيع من العاصي كما قال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) (١) بخلاف الملك فإنه لا يحق له أن يفسد الرعية حتى بتركهم وما يشاءون فإنه يأمر بالصلاح والإصلاح كما أن الله تعالى يسبل النعم على الجنات ولا يعاقبهم عقوبة ظاهرة في

__________________

(١) الإسراء : ٢١.

٣١٥

بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا

____________________________________

الدنيا ، وذلك ليس جائز للملوك فإنه يجب إيقاف الجاني عند حده وإجراء العقاب عليه ثم إن الإنسان مهما كان من الرسوخ في العلم فإنه معرض للزلة كما زل «بلعم» قال سبحانه (نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١) ولذا يدعو الراسخون ربهم سبحانه أن لا يقطع عنهم لطفه الخاص ولا يتركهم ليلعب بهم الشيطان كما يشاء ، إذ (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى دينك (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (رَحْمَةً) ولطفا نثبت بها على دينك وطاعتك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) الكثير الهبة لمن تشاء بما تشاء.

[١٠] (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) تجمعهم (لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) هو يوم القيامة الذي لا شك فيه عند ذوي العقول وإن شك فيه أناس لا نصيب لهم من العلم والمعرفة وقد تقدم وجهه في أول سورة البقرة (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) أي الوعد الذي وعده أنبياءه والبشر بيوم القيامة ، فلا تزغ قلوبنا حتى نكون ذلك اليوم من المطرودين أو هذا إظهار من الراسخين بالاعتراف بالبعث وإنهم جمعوا بين فضيلتي الاعتراف بالمبدأ والمعاد.

[١١] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) من الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه وغيرهم

__________________

(١) الأعراف : ١٧٦.

٣١٦

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)

____________________________________

من سائر الكفار (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ) كي يعطوها فينجون من عذاب الله سبحانه كما تنفع الفدية في الدنيا (وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي من عذاب الله وسخطه (شَيْئاً) فلا يتمكن أولادهم أن يقفوا ليمنعوا عنهم العذاب (وَأُولئِكَ) الكفار (هُمْ وَقُودُ) الوقود الحطب وكل ما يوقد به النار (النَّارِ) يوم القيامة تتقد النار بأجسامهم كما تتقد النار بالحطب والنفط ونحوها.

[١٢] (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب العادة ، أي عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك وبما أنزل إليك كعادة آل فرعون الذين كذبوا الرسل (وَ) كعادة (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من سائر الكفار الذين كانوا يكفرون بآيات الله ويكذبون أنبياءه (كَذَّبُوا) جميعا (بِآياتِنا) أي بدلائلنا الدالة على التوحيد وسائر الأصول (فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي بسبب عصيانهم ومعاصيهم ، ومعنى الأخذ العقاب أي عاقبهم ، كقوله (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) (١) (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) فليس عقابه كعقاب سائر الناس ، وإنما (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) (٢).

__________________

(١) هود : ١٠٣.

(٢) الكهف : ٣٠.

٣١٧

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ

____________________________________

[١٣] (قُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) أي بعد قليل يكونون مهزومين إما في الدنيا بغلبة الإسلام ، كما صار وكما أخبر حيث إن الإسلام غلبهم وأخذ بلادهم (وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ) يوم القيامة ، وإما في الآخرة بمعنى أنكم بعد قليل تهزمون أمام أمر الله سبحانه ، ويقبضكم ملك الموت الذي وكل بكم ، وبعد ذلك تحشرون إلى جهنم يوم القيامة (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي بئسما مهد لكم أو ما مهدتم لأنفسكم.

[١٤] ولما بين سبحانه أن الكفار سيغلبون بين لذلك شاهدا محسوسا في قصة بدر حيث كان المسلمون ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والكفار ألف رجل ولم يكن للمسلمين من العتاد إلا شيئا ضئيلا بينما كان الكفار بأكمل السلاح ومع ذلك فقد غلب المسلمون عليهم بنصر الله سبحانه (قَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المسلمون أو أيها الكفار (آيَةٌ) أي علامة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن الله ينصره ويهزم الكفار (فِي فِئَتَيْنِ) أي جماعتين جماعة المسلمين وجماعة الكفار (الْتَقَتا) من الملاقاة إذ اجتمعتا في بدر (فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) وهم المسلمون (وَ) فئة (أُخْرى كافِرَةٌ) وهم المشركون الذين أتوا من مكة (يَرَوْنَهُمْ) أي يرى المسلمون الكفار (مِثْلَيْهِمْ) أي ضعف أنفسهم (رَأْيَ الْعَيْنِ)

٣١٨

وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ

____________________________________

فلم يكن ذلك خيالا وإنما واقعا فإن الكفار في الواقع كانوا أكثر ، ومع ذلك فقد غلب المسلمون ، ولعل النكتة في ذكر ذلك بيان أن المسلمين غلبوا مع أنهم كانوا يعلمون بزيادة الكفار عليهم وإن ذلك يدل أن الله نصرهم وإلا فإن الجيش إذا علم أن العدو أكثر منه وهن في عضده ويسبب ذلك انهزامه في أكثر الأحيان ، وفي الآية أقوال أخر مذكورة في التفسيرات (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يقوي بنصره فلا يضرهم قلة عددهم وعدتهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور وهو غلبة المسلمين على المشركين مع أن الكفار كانوا ثلاثة أضعافهم (لَعِبْرَةً) أي اعتبار وهي بمعنى الآية وإنما سميت الآية عبرة لأنها تعبر بالإنسان من الجهل والغفلة إلى العلم والتذكير (لِأُولِي الْأَبْصارِ) أي أصحاب العقول ، وليس المراد بالبصر النظر بالعين وإنما النظر بالقلب كما يقال فلان بصير بالأمور أي يعرفها ويدركها.

[١٥] وهنا يتساءل الإنسان ماذا صرف الكفار عن الحق وهم يرونه؟ ويأتي الجواب إن الذي صرفهم هو جمال الدنيا ومالها كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام «لكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها» (١) (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) أي أن حب الإنسان للمشتهيات والملذات سبب لهم أن تتزين الدنيا في نفوسهم فيطلبون اللذائذ ولو

__________________

(١) نهج البلاغة : خطبة ٣ ـ ١٥.

٣١٩

مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)

____________________________________

في المحرمات ولم يذكر الفاعل ، لأنه ليس بمقصود وقد تقرر في علم البلاغة أن مقتضاه أن لا يذكر الفاعل أو المفعول حيث لم يكن مقصودا (مِنَ النِّساءِ) بيان «الشهوات» (وَالْبَنِينَ) فإن حب الأولاد يسبب إطاعتهم والتحفظ عليهم ولو بذهاب الدين (وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) القناطير جمع «قنطار» وهو ملء مسك ثور ذهبا وإنما سمي قنطارا لأنه يكفي للحياة فكأنه قنطرة يعبر بها مدة الحياة ، والمقنطرة بمعنى المجتمعة المكدسة كقولهم دراهم مدرهمة ودنانير مدنرة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) فإن الإنسان بحبه للأموال يعصي الله في جمعه وفي عدم إعطاء حقوقه (وَالْخَيْلِ) عطف على النساء ، والخيل الأفراس (الْمُسَوَّمَةِ) من سوم الخيل التي علمها ولا تعلم إلا الجيد الحسن منها (وَالْأَنْعامِ) جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم (وَالْحَرْثِ) أي الزرع فهذه كلها محببة للناس ، لكن (ذلِكَ) كله (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي ما يستمتع به في الدنيا ولا تنفع الآخرة إلا إذا بذلت في سبيل الله ـ كل حسب بذله ـ (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) المرجع أي أن المرجع الحسن في الآخرة منوط بالله سبحانه فاللازم أن يتزهد الإنسان في الملذات ولا يتناول المحرم منها رجاء ثواب الله ونعيمه المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال ، فلا تسبب هذه المشتهيات عدول الإنسان عن الحق إلى الباطل وعن الرشاد إلى الضلال.

٣٢٠