تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

مقدمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسّلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين. لعل سبحانه يوفقني لشرح ألفاظ من القرآن الحكيم ، ليسبب تسهيلا على الطالب ، ويفتح لي سبيل فهم كتابه ، الذي هو سبب سعادة الدنيا والآخرة. ويتقبله بقبول حسن ، ليكون مصداقا ل : «كتب علم ينتفع بها» في الدنيا ، وموجبا للأجر والثواب في الآخرة.

هذا ما يرجوه «محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي» عند افتتاح كتابه التفسير ، المسمى ب : «تقريب القرآن إلى الأذهان» والله الموفق ، وهو المستعان.

كربلاء المقدسة ٢٩ ربيع الأول سنة ١٣٨٣ هجرية.

٨١

المدخل

كتاب كل عصر ومصر

قد اشتهر عند أتباع المستعمرين من المسلمين الجدد أصحاب الثقافات الشرقية والغربية ، أن القرآن لا يلائم العصر من جهة وجود أحكام فيه تصلح لعهد البداوة ، مثل قطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه ، وتقرير الاستعباد والقصاص وحرمة الربا والمكس والحريات الكثيرة والأحكام الخاصة بالمرأة ، ومن جهة عدم وجود أحكام فيه يتطلبها العصر ، مثل أحكام السياسة والاقتصاد والأمن وما أشبه ذلك ، ثم قالوا بأن الإسلام حيث ينطلق من القرآن فالقرآن أيضا لا يصلح للعصر الحديث ، فاللازم فصل الدين عن الدولة ، وهذه الفكرة إن لم تعم كافة المثقفين فهي بلا شك تعم أكثرهم ، وحيث أن الاستعمار الفكري يستتبع الاستعمار العسكري ، فبلاد الإسلام تعيش في استعمار عسكري صريح أو مغلف ، والواجب الاهتمام لتغيير هذه الفكرة بمختلف وسائل التغيير ، فإن الله سبحانه (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١) (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) (٢) فإنهم إذا لم يغيروا ما بأنفسهم من أسباب الضعف والانحطاط أراد الله بهم سوءا إرادة تكوينية تابعة لخلق المسببات بعد أسبابها.

__________________

(١) الرعد : ١٢.

(٢) الرعد : ١٢.

٨٢

والكلام حول رد هذه الإشكالات طويل نكتفي بالتلميح إليه فنقول : أما الجهة الأولى فيرد على إشكال قطع يد السارق ، أن الإسلام لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير أوليات العيش المتوسط له ، وإذا وفر له أوليات العيش المتوسط فهل الأفضل أن يردعه ـ إذا سرق ـ بعقاب صارم يجعل المجتمع في أمن بعد توفر زهاء عشرين شرطا في السرقة يشترط بها القطع؟ أو أن يحبسه أو ما أشبه الحبس؟ مما لا يكون رادعا ، بل أحيانا يكون مشجعا كما لا يخفى على من طالع أحوال المجتمعات الغربية والشرقية.

وعلى إشكال جلد الزاني ، إن الإسلام لا يجلد إلا إذا اضطر ، وإذا عرفنا أن الإسلام يوفر المناخ الملائم للعفة برفع الاضطرار إلى اقتراف الجنس حراما ، كان زنى الرجل أو المرأة خرقا للعفاف الاجتماعي وتعريضا له إلى الانهيار في أقدس روابطه وهدما للعائلة ، وأيهما خير العقاب الصارم المناسب للذة الزنى ـ إذ الجلد إيلام يناسب ما اقترفه الزاني من الإثم ـ أو عقوبة خفيفة لا تسد هذا الباب الخطر؟

أما الرجم فهو للزاني المحصن ، وكل إنسان عاقل يعترف بأنه إذا كانت له زوجة يشبعها جنسيا ثم خانته كان اللازم إنزال أشد العقوبات بحقها ، وكذلك العكس وإلّا لزم انهيار المجتمع وانهدام العائلة وعدم الأمن وكثرة الطلاق وقلة النكاح واختلاط الأنساب وكثرة الأمراض الجنسية وتوسيع المجال للمستهترين ، إلى غيرها من المفاسد التي وقع فيها الشرق والغرب وقد رفع عقلائهم أصواتهم بوجوب وضع حد لهذه الاستهتارات.

وعلى إشكال تقرير الاستعباد ، إنه أفضل حل لمشكلة أسارى الحرب ، بعد الوضوح أن الإمام مخير بين الأسر وبين السجن وبين الفدية وبين الإطلاق كل منها حسب ما يراه من المصلحة ، فلنفرض أن المصلحة عدم القتل ، لأنه تضييع لقوى بناءة يحتاج إليها المسلمون ، وعدم السجن ، لأنه إرهاق لكاهل الدولة ، وعدم الإطلاق بمال أو بدون مال ، لأنه يخشى

٨٣

من تآمرهم على الدولة الإسلاميّة ، فما ذا يكون الحل المعقول غير استعبادهم بتسليمهم إلى سادة يكونون تحت إشرافهم دائما مع عدم إضاعة قدراتهم البناءة؟ ومن السهل نقد الإسلام في تقريره قانون الرقة ، لكن من المحال إيجاد حل أفضل منه ، ولذا نرى أن الذين انتقدوا الإسلام في هذا القانون ، لما جاء دور العمل أخذوا يقتلون مناوئيهم بالملايين لا الألوف ، ففرنسا قتلت مليونا أو مليوني جزائري ، وأمريكا قتلت خمسة ملايين فيتنامي ، وإنكلترا قتلت عشرين مليون صيني ، وألمانيا قتلت ما يقارب الخمسين مليون في الحرب العالمية الثانية ، وروسيا قتلت خمسة ملايين فلاح في نظام المزارع الجماعية ـ على ما ذكرت كل ذلك الكتب والجرائد والإذاعات ـ.

ثم نظام التعذيب الذي اخترعه الغرب والشرق أبشع بكثير من نظام الرق بل هو نظام استعباد الشعوب الكامل تحت غطاء الاستعمار مما أوقع العالم كله في دوامة الثورات والحروب.

وعلى إشكال القصاص ، إنه أمر طبيعي ، فهل يشفي غيظ من فقأ عينه عمدا أن يأخذ المال في قبال عينه التالفة؟ وهل من الإنصاف أن يترك مثل هذا الإنسان الجاني يعبث بالمجتمع بدون عقاب صارم يردعه ويردع غيره من العابثين؟ خصوصا إذا كان الجاني غنيا لا يهتم بالمال ، فقد أجاز الإسلام ذلك في صورة طلب المجني عليه ، مع إنه أعطى الحق له في أن يعفو ، وأن يأخذ الدية مع إعطاء الصلاحية للحاكم الإسلامي في تعزيره بما يؤلمه ، لأنه خرق حق الله سبحانه. بما يسمى في الاصطلاح بحق الادعاء العام.

نعم قد لا يكون للقصاص مجال في الحي ، أو في الميت ، كما في من قطع عضو ميت ، حيث أفتى الإمام الصادق عليه‌السلام بأن ديته كدية الجنين ، فيمن قطع رأس ميت ـ لوضوح اشتراكهما في أنهما إنسانان لا روح لهما ـ

٨٤

في قصة مشهورة (١) وحينذاك يرجع الأمر إلى الدية والتعزير إن صدرت الجناية عن عمد ، وإلى الدية فقط ، إن لم يكن عمد في البين.

وأما إشكال حرمة الربا ، فإنه وإن أورد عليها أن الربا حق معقول ، لأن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله فيربح ، وبين أن يدفعه قرضا فيربح من ورائه ، ولذا قالوا (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) (٢) لكن هو إشكال غير وارد ، لا لما أورد عليه الشيوعيون بأن تجارة غير الدولة سرقة لأتعاب العمال ، إذ أي حق للتاجر أن يستربح ثم يأخذ لأجل ماله شيئا من أتعاب وجهود الكادحين؟ فكل من الربا والاتجار المربح حرام.

ولا لما أورد عليه بعض الاقتصاديين الجدد بأن الاتجار مطلقا «سواء كان من الدولة ، كما في الشيوعية ، أو من غير الدولة ، كما في الرأسمالية» حرام ، إذ في كلا الحالين استفاد من لم يتعب ممن تعب فهو سرقة تحت اسم القانون ، إذ يرد عليهما أنه لا بد من مخزون مالي للقيام بخدمات المجتمع ، وأفضل طريق الخزن هو جمع المال عند التجار لئلا يجتمع المال والسلاح والقوة في مكان ، فيكون الظلم والديكتاتورية كما نشاهدهما بأبشع صورهما في البلاد الشيوعية .. مع لزوم مراقبة الدولة لأجل إعطاء الناس ما يحتاجون من مسكن وأثاث ، حتى لا يبقى فقير ، ولأجل عدم إفساد الرأسمالي ـ كما في النظام الإسلامي ـ.

بل لأن الربا على إطلاقه ظلم ، إذ ليس كل تجارة مربحة ، وليس كل إعطاء للمال يستحق المعطي أن يأخذ شيئا في مقابل الإعطاء وتوضيح ذلك أن لمال التاجر أربع صور :

__________________

(١) الكافي : ج ٧ ص ٣٤٩.

(٢) إشارة إلى سورة البقرة : ٢٧٦.

٨٥

الأولى : أن لا تكون هناك تجارة يتمكن ما له من التقلب فيها.

الثانية : أن تكون تجارة غير مربحة إطلاقا ، أو مربحة بقدر أقل من التعب ، أو بمقدار التعب.

الثالثة : أن يصرف المال في الحوائج الضرورية ، لا في التجارة.

الرابعة : أن يصرف المال في تجارة مربحة ربحا أزيد من التعب ، والربا أخذ التاجر المال ممن أعطاه المال في كل الصور الأربعة ، مع أنه في الثلاثة الأولى ظلم.

أما في الصورة الأولى : فلوضوح أن قول المستشكل «إن أمر صاحب المال دائر بين أن يتاجر بماله فيربح ، وبين أن يدفعه قرضا فيربح» غير تام ، إذ المفروض أنه لا يمكن الاتجار بالمال في هذه الصورة.

وأما في الصورة الثانية : فإن المال ربح بقدر التعب ـ على أحسن الفرضين ـ والأحق بهذا الربح من تعب لا من لم يتعب.

وأما في الصورة الثالثة : فإن أخذ التاجر الربح خلاف الإنسانية ، لأنه استغلال لحاجة الإنسان في تدميره ، فالمفترض أخذ المال لأجل قوته ، أو دواء مريضه ، فهل يحق لصاحب المال أن يستغل هذه الحاجة في إنماء ماله؟ وتبقى الصورة الرابعة فقط مما يحق لصاحب المال أن يأخذ بعض الربح «أخذا لأجل وجود المخزون المالي الذي هو لأجل المجتمع أيضا ـ كما تقدم ـ» وحل الإسلام له بالمضاربة التي هي أقرب إلى العدالة بالنسبة إلى التاجر والمضارب ، أفضل من الربا الذي قد يكون الترجيح فيه لصاحب المال ، وقد يكون الترجيح للعامل وكلاهما اعتباطا لا يقره العقل والمنطق.

ويرد على إشكال حرمة المكس ، أن غاية ما يقال لتبرير المكس أمران :

٨٦

الأول : إنّه إذا رفع المكس أضر ذلك بالاقتصاد ، إذ الدولة تجني من وراء المكس مقادير كبيرة من المال تساعدها في إدارة شؤون الدولة.

الثاني : إنّه إذا رفع المكس لزم تحطم الاقتصاد الوطني ، لأن البضائع الأجنبية ترد في البلاد بما يوجب تحطم الاقتصاد ، ولا يخفى أن هذين الأمرين وإن تمّا في الجملة ، إلّا أن الحرمة الذاتية للمكس لا ترتفع بهما ، بل اللازم للدولة الإسلاميّة أن تلاحظ الأهمية وتأخذ بالأهم في البين ، فكل من المكس وتحطم الاقتصاد «المذكور في الأمرين» حرام ، فإذا دار الأمر بين الحرامين يجب الأخذ بأقلهما حرمة من باب قاعدة الأهم والمهم.

ومنه يعلم أن حرمة المكس ليست مطلقة حتى يستشكل على الإسلام بأنه حرم المكس ، وأن الحرمة لا تلائم الدول الحديثة.

ويرد على إشكال الحريات الكثيرة ، أن توهم أن الإسلام يعطي حريات تضر بالاجتماع باطل ، وجه التوهم أن الإسلام يعطي حرية البناء وحرية الحركة ، وحرية السكنى ، وحرية التجارة ، إلى غير ذلك ، وبذلك يختل النظام ، فكل أحد يبني ما يضر الطريق ، وكل أحد يترك بدون ملاحظة قوانين المرور ، ولمليون مسلم مثلا ، أن يأتوا للسكنى في بلد بحيث يضيق بهم هذا البلد ، وللتاجر أن يصدر كل بضائعه بحيث يقع أهل البلد في ضيق ، إلى غير ذلك.

والجواب : أن الإسلام إنما يعترف بالحرية المسؤولة «أي غير الضارة» لا الحرية غير المسؤولة ، فليس لأحد أن يستفيد من الحرية الضارة بالآخرين ، ويجب على كل مسلم احترام قوانين الدولة الإسلاميّة الموضوعة تحت نظر المجتهد الجامع للشرائط وإن أضرت القوانين بمصالحه الخاصة ، فإذا رأت الدولة أن استيراد هذه البضاعة مثلا تضر بالاقتصاد الإسلامي فمنعت عن ذلك ليس لأحد أن يستورد هذه البضاعة ، إلى غير ذلك.

٨٧

لا يقال : فأي فرق بين مثل قوانين أمريكا ، وبين قوانين الدولة الإسلاميّة ، إذ كل منهما توضع حسب المصلحة؟

لأنه يقال : الفرق أن قوانين الدولة الإسلاميّة توضع في الإطار الإسلامي ، بخلاف قوانين مثل أمريكا ، فالفرق بينهما كالفرق بين قوانين أمريكا ، حيث توضع في الإطار الرأسمالي وقوانين روسيا ، حيث توضع في الإطار الشيوعي ، مع أن كلتا الدولتين تدعي أنها تلاحظ مصالح بلادها.

ويرد على إشكال الأحكام الخاصة بالمرأة أن المنطق والبرهان دلّا على صحة تلك الأحكام الخاصة ، بحيث إنها لو تساوت مع الرجل في الأحكام كان خباله مثل تساويها معه في خصوصيات الجسم ، فكما أنه لو كان كل البشر رجلا كان ذلك من أبشع الفساد ، كذلك لو كان كل البشر متساوين في كل الحقوق والواجبات كان ذلك من أبشع الفساد ، وقد فصلنا بعض أسباب الاختلاف بينهما في جملة من الأحكام في كتاب «في ظل الإسلام» (١) وفي «الفقه : الحكم في الإسلام» (٢) وغيرهما.

ويرد على إشكال القصاص ، أنه حكم إنساني رادع كما تقدم ، والإنسانية والردع لا توجدان في الغرامة والسجن ، مع أن الإسلام جعل اختيار العفو وأخذ الغرامة بيد المجني عليه ، رخص القصاص ، بما إذا كان الجاني عامدا ـ كما هو واضح ـ.

أليس من الحق أن جانيا عامدا إذا قطع يد إنسان كان جزاءه أن تقطع يده ، فيما إذا أراد المجني عليه ذلك؟ وإذا لم يكن هذا من الحق ، لنا أن نسأل الفرق بين المال والنفس ، فإذا أخذ السارق منك دينارا كان لك أن

__________________

(١) للمؤلف.

(٢) راجع موسوعة الفقه المجلد ٩٩.

٨٨

تأخذ منه دينارا ، وإن قيل فلما ذا لا يقتص في العرض؟ فإذا زنى زان بزوجة زيد كان لزيد أن يزني بزوجة الزاني ، قلنا الفرق واضح ، إذ يكون ذلك اعتداء على بريء هو زوجة الجاني بخلاف القصاص ، فإنه رد اعتداء على نفس المعتدي ، هذا كله بالنسبة إلى الجهة الأولى.

أما الجهة الثانية فالقول بأن الإسلام ليس فيه اقتصاد وسياسة وأمن ، كلام بلا دليل ، فالاقتصاد الإسلامي ليس فيه مضار الاقتصاديات الثلاثة الرأسمالية والشيوعية بفرعيها الاشتراكية والفوضوية «التي تدعي أن لكل نتاجه ، ومن كل عمله» بينما فيه الاقتصاد المعتدل الذي يعطي كل ذي حق حقه ، كما أن السياسة في الإسلام أفضل سياسة ، حيث تجمع بين حكم الله سبحانه والشورى في انتخاب الحاكم ، والأمن موجود في الإسلام لا للكبت بل لجمع المعلومات وإرصاد المخربين وإيقاف المفسدين عند حدهم ، وقد ذكرنا طرفا من هذه المسائل الثلاثة «الاقتصاد والسياسة والأمن» في كتاب «الفقه : الحكم في الإسلام» ولذا فلا نعيد التفاصيل.

وحيث أن القرآن مصدر لكل هذه الأحكام ، حيث بين فيها الخطوط العريضة للحياة السعيدة ، فالقرآن هو الكتاب الوحيد الصالح لتطبيقه في العصر ، وكل كتاب وقانون غير القرآن ليس له هذه الصلاحية ، والظاهر أن العالم أخذ أخذا حثيثا نحو السير إلى القرآن وأحكامه ، لأنه الكتاب الوحيد الصالح للتطبيق بعد أن ظهر فشل ما عداه في تأمين الحياة السعيدة ، فهو مثل الكهرباء بالنسبة إلى النفطيات ، حيث إنها تعطي مكانها للكهرباء ـ تلقائيا ـ طال الزمان أو قصر ، ولذا قال سبحانه (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (١).

__________________

(١) التوبة : ٣٣.

٨٩

تطبيق الفكر والعمل على القرآن

يجب تطبيق الفكر والعمل على القرآن ، وذلك ببيان مقدمات :

الأولى : إن الله سبحانه خلق الكون الواسع بما فيه الدنيا والآخرة والحياة وغير الحياة على كيفية خاصة من الحقائق والأبعاد والحدود والمزايا والخصوصيات وهذا واضح لا يحتاج إلى الدليل.

الثانية : إنّ القرآن هو الكتاب الوحيد الذي بقي مما أنزله الله سبحانه في أيدي البشر ، أما سائر الكتب المنزلة فقد حرفت وبدلت ، كما قال سبحانه : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١) و (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (٢) بل قامت الضرورة منا على عدم تمامية الكتب الباقية ، كالتوراة والإنجيل ، بالإضافة إلى فقدان بعض الكتب المنزلة من أساسها بحيث لم يبق منها عين ولا أثر ، بالإضافة إلى أنه لم يعلم أن سائر الكتب المنزلة كانت لأجل الهداية الكاملة المستوعبة للفكر والعمل بصورة مطلقة.

الثالثة : إنّ القرآن نزل بقصد توجيه الفكر وتوجيه العمل ، والمراد بالعمل أعمال الجوارح كلها بما فيها اللسان ، وقد دلت الأحاديث المتواترة على أن الهداية خاصة بالقرآن ـ أن من طلب الهداية في غير القرآن أضله الله ـ أي كان ضالا والنسبة إلى الله سبحانه باعتبار أن الآلة منه سبحانه ، ولذا نسب

__________________

(١) المائدة : ١٤.

(٢) المائدة : ١٥.

٩٠

كل شيء إلى نفسه.

قال سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) (١).

وقال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) (٢).

وقال : (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣).

وقال : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٤).

وقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٥) على فرض أن يراد به كل عمل الإنسان حتى المعصية باعتبار أن الآلة منه سبحانه ـ وإنما كان يضل من طلب الهداية في غير القرآن ، لأنه لا هداية فيما عداه ، مثل أن يكون الطريق إلى البلد الفلاني خاصا بطريق واحد فيقال : أن من سلك غير هذا الطريق ضل ، فإن وجهه أنه لا طريق غيره.

الرابعة : أن ظرفية البشر في عالم الدنيا ليست أكثر من القرآن ، فإنه وإن احتمل أن يكون الكون ـ بمعناه العام ـ أكبر من المقدار المذكور في القرآن ، إلا أن المقدار الذي يستوعبه الإنسان من الكون ـ استيعابا في فكره وفي عمله ـ ليس أكثر مما أرشد إليه في القرآن ، مثلا إذا كانت صحراء بمقدار مائة فرسخ ، لكن زيدا لا يتمكن من عمران أكثر من عشرين فرسخا منها ، كان مقتضى الحكمة أن يكون المنهاج الذي يضعه مربي زيد بقدر تعمير عشرين فرسخا فقط ، إذ الزائد لغو لا يصدر من الحكيم ، ويؤيد أوسعية الكون عن مقدار ظرفية الإنسان قوله عليه‌السلام : «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» إلا أن يقال أن هذا لا يدل على أوسعية الكون عن القرآن ، لأن

__________________

(١) الأنفال : ١٨.

(٢) الرعد : ٢٨.

(٣) الواقعة : ٦٥.

(٤) النساء : ٧٩.

(٥) الصافات : ٩٧.

٩١

للقرآن بطونا ، ولأنه لا تفنى غرائبه كما في الحديث ، فلعله سبحانه جعله يتدرج في الظهور كما جعل حقائق كونه ، في الدنيا وفي الآخرة تتدرج في الظهور.

وكيف كان فيدل على المقدمة الرابعة عدم وجود الهداية في ما عدا القرآن كما نص بذلك متواتر الروايات ، فلو كان البشر أوسع للزم وجود الهداية في ما عدا القرآن الأزيد من القرآن لا بد وأن يكون له طريق مستقيم وطريق غير مستقيم ، ومعرفة البشر الطريق المستقيم في المقدار الأزيد هداية ، والمفروض أنه لا هداية في ما سوى القرآن.

إذا تحققت هذه المقدمات الأربع قلنا : ثبت أن فكر البشر في أحوال المبدأ والمعاد والمعاش بكل أصنافه من عبادة ومعاملة بأقسام المعاملات ، وأخلاق وغيرها لا يعدو القرآن كما ثبت أن أعماله بكل أنواعها لا تعدو القرآن ، فاللازم تطبيق فكره وعمله في إطار القرآن إذ القرآن مرماة للكون والبشر مأمور بفهم هذا الكون والعمل على طبق ذلك الفهم ، فمثلا إذا فرضنا أن المريض كان مأمورا بشفاء نفسه ووصف المرض ووصف الدواء كان مكتوبا بكتاب ، وقال الآمر : أفهم داءك ودوائك وأعمل لشفائك ، كان اللازم على المريض أن يفهم الكتاب وألّا يبقى مريضا.

وعليه فإذا أفرغ البشر فكره وعمله في إطار القرآن هدى ، وإلا ضل عن سواء السبيل ، وللتوضيح نقول : حقيقة المبدأ وحقيقة المعاد وحقيقة المخلوقات ، أي خلق السماوات والأرض والجبال والرعد والبرق والجنة والنار والموت والحياة وغيرها ، شيء ثابت مسلّم سواء فهمها البشر أم لا.

كما أن سعادة البشر في الصلاة والصيام والزكاة والبيع والنكاح والحرية والحدود والقصاص وغيرها ، والواقع في باب الفهم وأسلوب العمل المسعد في باب العمل في القرآن الحكيم ، فإن صب البشر فكره في

٩٢

قالب فهم القرآن أدرك الحقائق وإن صب البشر عمله في قالب العمل الذي أرشد إليه القرآن سعد ، وإلّا أخطأ في فكره وشقي في عمله مثلا قال القرآن : الإله واحد ، وقال : أقيموا الصلاة ، فإن لم يصب البشر فكره وعمله في هذين ، لقال بأن الإله اثنان ، ولم يصل ، والأول يوجب انحراف فهمه عن الواقع ، والثاني يوجب شقائه حتى في الدنيا ، لأنه كما قال سبحانه : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١) وقال تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (٢).

ثم أن هنا ثلاثة أمور :

الأول : إن للقرآن ظهرا وبطنا ، ولبطنه بطن وهكذا ، وإذا لا حظنا ذلك في التكوينات التي خلقها الله سبحانه ظهر نوع شبه لفهم المقصود بذلك ، فمثلا التفاح له ظهر هو قشره ، وبطن هو لبه ، ولبطنه بطن هو نواته ، ولنواته بطن هو مخه ، وهكذا الإنسان له ظهر هو جلده المرئي منه ، وله بطن هو لحمه ، ولبطنه بطن هو القلب والكبد والكلية ، وكل بطن بمنزلة مخ النواة ، وفي القرآن مثلا قال سبحانه : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٣) فظهره هؤلاء الثلاثة في قبال موسى عليه‌السلام ، وبطنه أمثالهم في قبال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أمثالهم في قبال علي عليه‌السلام وهكذا ، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من أن القرآن كالشمس تجري كل يوم ، فله انطباق في كل زمان على أفراد وأعمال وحالات.

ثم أن من الطبيعي أن يكون القرآن كذلك ، لأنه كتاب اللفظ في قبال كتاب الكون ، فاللازم انطباق هذا الكتاب على ذلك الكتاب ، وإلا لم يكن كامل الانطباق.

__________________

(١) الرعد : ٢٩.

(٢) طه : ١٥.

(٣) القصص : ٧.

٩٣

الثاني : ورد بالنسبة إلى بعض أساميه سبحانه أنه لا يعلم ظاهرها ولا باطنها ولا تفسيرها ولا تأويلها إلا الله سبحانه ، كما في دعاء السمات ، وقد يظهر من بعض الروايات أن القرآن كذلك كما ذكر في قصة بلوهر مع يوذاسف.

وهنا سؤالان :

السؤال الأول : أنه ما معنى ذلك؟

والجواب : أن فهم كل ظواهر الأشياء وبواطنها كذلك ، فإن البشر لا يعلم إلا بعض السطحيات ، مثلا ما هي حقيقة اللحم والدم؟ وما هي حقيقة الماء والكهرباء؟ وإلى غير ذلك ، فإذا رأى الإنسان سيارة لا يعلم ما هي؟ فإنه لا يعلم هل هي حديد أو نحاس «ظاهرها» ولا يعلم ماذا في ماكنتها «باطنها» ولا يعلم ما نفعها «تفسيرها» ولا يعلم إلى أي شيء يكون أولها «تأويلها» وكذلك القرآن لا يعرف المراد الكامل من ظاهره ولا من باطنه ، كما لا يعرف الفائدة الكاملة منه حالا ولا أول القرآن للمستمسك به والتارك له.

السؤال الثاني : إذا كان لا يعلم ظاهرها ولا باطنها ولا تفسيرها ولا تأويلها فما فائدة ذلك؟

والجواب : الإشارة والتلميح وإن كانت الحقيقة مخفية ، مثلا أنك إذا سمعت من إنسان ما لاقاه من الأهوال في حرب ضروس ، وأراك بعض التصاوير التي التقطها من تلك الحرب ، فإن الكلام والصورة لا شك يلمحان إلى حقيقة ، لكن هل تدرك بذلك هول تلك الحرب وانفعالات أولئك المحاربين؟ إن نسبة ما نفهم من القرآن إلى حقيقته ، كنسبة الصور والكلام إلى حقيقة تلك الحرب ، وللحرب «ظاهر» هي المعركة و «باطن» هي الاستعمار الذي يريد التسلط مثلا ، و «تفسير» هو ما تنتجه الحرب الآن من

٩٤

غلاء الأسعار وانسداد الطرق و «تأويل» هو ما يترتب من الأثر على هذه الحرب من سقوط امبراطورية ودخول امبراطورية أخرى إلى الحياة.

الثالث : قد ورد في باب القرآن أنه لا تنقضي غرائبه والمراد بذلك ، إما بعض حقائقه التي لا نعلم بها ، أو أن الطريق الذي أرشد القرآن البشر إليه طريق لا تنقضي غرائبه ، مثلا أرشد القرآن البشر إلى السير في الأرض والنظر والعبرة وهكذا يؤدي دائما إلى اطلاع البشر على معلومات جديدة غريبة واكتشافات حديثة مدهشة ، والله سبحانه العالم.

٩٥

فلسفة كاملة عن الحياة

حيث أن القرآن الحكيم فلسفة كاملة للحياة ولا فلسفة كاملة غيره ، لا بد وأن يسيطر على الحياة ، إن عاجلا أو آجلا ، فإنه إنما يسيطر إذا عرف البشر هذين الأمرين :

إنه فلسفة كاملة ولا فلسفة كاملة غيره :

إذ البشر بحاجة إلى فلسفة كاملة ليسعد ، والسعادة هي الغاية المتوخاة لكل بشر ، وليس وراءها مقصد ، فإن الذاتي لا يعلل بغيره.

أما أن القرآن فلسفة كاملة ، فلأنه يعطي شؤون الروح ، ويعطي متطلبات الجسد ويستند إلى ما لا يتغير ، وهذه العناصر الثلاثة هي التي تشكل السعادة الكاملة لأن الإنسان روح وجسد ، ولكل واحد منهما متطلبات ، ثم إذا كان متطلباتهما غير مستندة إلى قوة أزلية لا تتغير ، كانت محلّا للتغيير ، مما يسلب الثقة ، وسلب الثقة ينتهي إلى الشقاء ، فهو مثل أن تراجع طبيبا لا تثق به أو تركب طائرة أو سفينة لا تثق بهما حيث أن في الكل احتمال العطب الذي يوجب الشقاء النفسي وشقاء النفس كسعادتها ، تسريان إلى الجسد للتفاعل بين الروح والجسد ، ولذا كان القلق يوجب قرحة المعدة ، وأمراضا أخر ، ولذا كان أيضا المرض الجسدي يوجب اضطراب العقل ، ومنه قيل : «العقل السليم في الجسم السليم».

وعلى هذا فإذا لم تكن المتطلبات مستندة إلى قوة أزلية توجب الثبات والاستقرار ، كان الإنسان يعيش في ألم وعذاب ، وحيث أن من طبيعة

٩٦

الإنسان الفرار من الألم كان لا بد له أن يتطلب فلسفة صحيحة ليدفع بها ألمه ، وينتهي به المطاف إلى فلسفة القرآن ، التي هي الفلسفة الصحيحة للكون والحياة ، بكلا شقي الحياة : الروح والجسد ، بالإضافة إلى أنها مستندة إلى الله سبحانه ، الذي لم يزل ولا يزال ولا تتبدل قوانينه (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (١).

إذا ثبت هذا قلنا : أمهات الفلسفات الموجودة في عالم اليوم خمسة :

١ ـ فلسفة الإسلام ، ٢ ـ فلسفة اليهود ، ٣ ـ فلسفة النصارى ، ٤ ـ فلسفة الرأسمالية ، ٥ ـ فلسفة الشيوعية ، وما عدا الإسلام من سائر الفلسفات ليست صالحة للحياة ، فلا تبقى إلا فلسفة الإسلام ، التي ينتهي البشر في آخر المطاف إليها.

ولذا قال سبحانه : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٢) فهو بالإضافة إلى كونه غيبيا ، يؤيده المنطق والبرهان.

أما عدم تمكن الفلسفة اليهودية والنصرانية من الصمود أمام الحياة ، فلوضوح أنهما مشوبتان بأبشع أنواع الخرافة ، والعقل إن سبت ساعة لا يسبت إلى قيام الساعة ، ولذا بمجرد أن ترجم كتابيهما بعض المترجمين ، وعرف الغرب والشرق ما يحتويان من الخرافة لفظوهما ، بالإضافة إلى أنهما كانا مصادر لمحاكم التفتيش وما أشبهها ، مما اصطدم بالعلم حين نهوض العلم ، فانسحبا عن الميدان بعد مجازر بشرية رهيبة ـ هذا أولا ـ بالإضافة إلى أن اليهودية والنصرانية لا تشتملان على قوانين الإنسان في معاملاته وأحواله الشخصية وسائر شؤونه ، بل منطقهما : «دعوا ما لقيصر لقيصر ، وما

__________________

(١) فاطر : ٤٤.

(٢) التوبة : ٣٣.

٩٧

لله لله» الذي يعيش تحت مظلتهما ، لا بد له من وضع قوانين لحياته ، وحيث أنها ليست مستندة إلى قوة أزلية لا تصلح للإسعاد «كما تقدم بيان ذلك» ، وهذا ثانيا.

وقد ظهرت آثار انهزام اليهودية والنصرانية في هذا القرن بما لا يرجى في بقائهما وإن حقنتا بآثار الحضارة الحديثة ، فالخشبة اليابسة لا تحيى ، وإن سقيت بألف كر من الماء.

وأما عدم تمكن فلسفة الشيوعية والرأسمالية من الصمود أمام الحياة ، فلأنهما أولا : ناقصتان من حيث عدم وفائهما بجانب الروح ، وإنما تتعرضان لجانب الجسد فقط ، ولذا كان الغرب القائل بالروح اضطر إلى التشبث باليهودية والمسيحية لأجل إملاء الروح ، ولكنهما لم ينفعاه أيضا ، لخواء ما فيهما من الروحيات ، وأسوأ الاثنتين هي الشيوعية التي لا تعترف بالروح أصلا.

وثانيا : لا يستمدان قوانينهما الجسدية من قوة أزلية ، وقد عرفت أن القانون المستمد من الإنسان ونحو الإنسان ، مترجرج ، ولا ينفع استقرار الإنسان وثقته.

أما أمثال القومية ، والبعثية ، والوجودية ، والديمقراطية والاشتراكية ، ونحوها ، فهي ليست فلسفات أصلا ، وإنما هي فكر منحرفة لبقعة صغيرة من بقع الحياة ، فالقومية معناها جمع القوم ، والبعثية معناها بعث القوم ، والوجودية إفراط في الفردية مقابل إفراط الماركسية في الدولة ، والديمقراطية حكم الشعب ، والاشتراكية توزيع قسم من الثروة ، ومن الواضح أن أيّا منها ليست فلسفة للحياة ، هذا مع الغض مما سبب جملة منها من المآسي للإنسان ، إذا .. لم يبق في الميدان إلا القرآن ، ففي أي وقت اجتهد حملته في إيصاله إلى العالم ، استقبله العالم بكل ترحاب ، كما استقبله العالم بكل حفاوة إبان ظهوره.

٩٨

(١)

سورة الفاتحة

مكية ـ مدنية / آياتها (٧)

سميت السورة باسم «الفاتحة» لافتتاح المصاحف بكتابتها ولقراءتها في الصلاة فهي فاتحة لما يتلوها من السور وتسمى ب «الحمد» ومن أسمائها «سبع المثاني» و «الواقية» و «الكافية» وذكروا لها أسماء أخرى وهي مكية وقيل إنها مدنية ولعلها نزلت مرة في مكة ومرة في المدينة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي أستعين بالله ، وإنما لم يقل «بالله» تعظيما ، فكأن الاستعانة بالاسم ، والله علم له سبحانه ، والرحمن والرحيم صفتان تدلان على كونه تعالى عين الرحمة ، فلا يرهب جانبه ، كما يرهب جانب الطغاة والسفاكين ، وتكرير الصفة للتأكيد.

٩٩

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)

____________________________________

[٢] (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فإنه هو الذي يستحق الحمد ، لأن كل جميل منه ، وكل خير من عنده ، وهو رب العالمين ، الذي أوجدهم ورباهم. والتربية تطلق على الإنشاء والاستمرار ، والعالمين إشارة إلى عوالم الكون ، من جن وملك ، وإنسان وحيوان ، ونبات وجماد ، وروح وجسد ، وغيرها.

[٣] (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) تكرار للتأكيد ، لإفادة أن الرب ليس طاغيا ، كما هو الشأن في غالب الأرباب البشرية.

[٤] (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الدين هو الجزاء ، فيوم الدين : «القيامة» ، والله مالك ذلك اليوم ، لا يشرك فيه أحد (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١).

[٥] (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي عبادتنا وخضوعنا لك ، وقدم «إياك» لإفادة الحصر.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي نطلب الإعانة ، فإنه هو الذي بيده كل شيء ، فالاستعانة منه ، والإتيان بالتكلم مع الغير ، لإفادة كون المسلمين كلهم منخرطين في هذين السلكين : سلك العبادة لله ، وسلك الاستعانة به.

[٦] (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) غير المنحرف ، والهداية هو إرشاد الطريق ،

__________________

(١) الأنبياء : ٢٩.

١٠٠