تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)

____________________________________

فإن الإنسان في كل آن يحتاج إلى من يرشده ويهديه ، وإن كان مهديا ، وحيث لم يذكر متعلق الصراط المستقيم ، دلّ على العموم ، فالمسلم يطلب منه سبحانه أن يهديه الصراط المستقيم ، في العقيدة ، والعمل ، والقول ، والرأي ، وغيرها.

[٧] (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) إنه تفسير ل : «الصراط المستقيم» أي إن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعمت عليهم ، بهدايتهم من النبيين والأئمة عليهم‌السلام والصالحين (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) فإن من أنعم الله عليه بالهداية ، لا يكون مغضوبا عليه (وَلَا الضَّالِّينَ) أي الضال المنحرف عن الطريق ، والضال يمكن أن يكون مغضوبا عليه إذا كان عن تقصير ، ويمكن أن يكون غير مغضوب عليه إذا كان عن قصور ، والمسلم يطلب من الله تعالى أن لا يكون من هؤلاء ولا هؤلاء.

١٠١

(٢)

سورة البقرة

مدنية / آياتها (٢٨٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

سميت السورة باسم «البقرة» لاشتمالها على قصة البقرة وهي مدنية.

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتدأت السورة باسم الله تعالى ، لتكرر الاستعانة به ، وليتعلم المسلم كي يبتدئ جميع أعماله بهذا الاسم المبارك ، وليتركز هذا الاسم الكريم في الأذهان ، فإن للتكرار أثرا بالغا.

١٠٢

الم (٢) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٣) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٤) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ

____________________________________

[٢] (الم) أي من جنس هذه الحروف المقطعة : «أ» ، «ل» ، «م».

[٣] (ذلِكَ الْكِتابُ) والإشارة بالبعيد ، للإشارة إلى كون القرآن سامي المقام ، عالي المنزلة (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس محلّا للريب ، وإن ارتاب فيه الكفار ، كما أن النهار لا ريب فيه ، وإن ارتاب فيه السوفسطائيون ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) صفة للكتاب (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) صفة بعد صفة ، أي أن هذا القرآن هداية لمن اتقى ، وخاف من التردي ، فإنه هو الذي يهتدي بالقرآن ، وإن كان القرآن صالحا ، لأن يهدي الكل.

[٤] (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) صفة للمتقين ، والمراد بالإيمان الاعتقاد به ، والغيب هو الذي غاب عن الحواس الظاهرة ، أي ما وراء الطبيعة ، فالروح غيب ، وأحوال القبر غيب ، والله سبحانه غيب ، وهكذا (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) إقامة الصلاة ، الإتيان بها دائما على الوجه المأمور بها ، ولذا تدل على معنى أرفع ، من معنى «صل» (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) والرزق أعم من المأكول ، والملبوس ، والمسكون ، والعلم والصحة ، وغيرها ، وإنفاق كل شيء بحسبه.

[٥] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من الوحي والقرآن (وَما أُنْزِلَ مِنْ

١٠٣

قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)

____________________________________

قَبْلِكَ) فإن من شرائط الإيمان ، الإيمان بكل الأنبياء عليهم‌السلام (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) واليقين بالآخرة هو الاعتقاد بها ، والعمل بمقتضاها ، وبعض هذه الأمور ، وإن كانت داخلة في «الإيمان بالغيب» ، لكنها ذكرت لزيادة الاهتمام بها ، وذكر الخاص بعد العام.

[٦] (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) أي على بصيرة ، وهذه البصيرة أتت إليهم من ناحية الله سبحانه (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الناجحون ، فهم في الدنيا على بصيرة ، وفي الآخرة في زمرة الناجين ، ثم أن القرآن لما ذكر المؤمنين ، ثنّاهم بذكر الكافرين ، ثم ثلّثهم بذكر المنافقين ، فإن كل دعوة ، لا بد وأن ينقسم الناس أمامها إلى ثلاثة أقسام : مؤمن بها وكافر بها ، ومذبذب بين ذلك يجامل الطرفين.

[٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) والكفر هو الستر ، كأن الكافر يستر الحقيقة ، ولا يبديها (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) والمراد ب «الذين كفروا» هنا هم المعاندون منهم ، لأنهم المصداق الأجلى للكافر ، وإلا فالذين آمنوا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الناس كانوا كفارا ثم

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

١٠٤

خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)

____________________________________

آمنوا ، ومن المعلوم أن المعاند يتساوى في حقه الإنذار وعدمه ، نعم يجب إنذاره إتماما للحجة ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى لا تذهب نفسه عليهم حسرات.

[٨] (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) طبعها بالكفر ، أي جعلها بحيث يصعب إيمانها ، لأنها اعتادت الكفر ، وعدم الاستماع إلى الحق ، وإنما ختم الله ، لأنها لم تقبل الهداية ، كمن يطرد ولده عن داره بعد ما أرشده مرات ، فلم يفد فيه النصح ، كما قال تعالى (طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (١) أي بسبب كفرهم ، وإنما فسرنا «الختم» ب «يصعب» لبداهة أن الإنسان ولو كان معاندا ، لا يخرج عن قابلية القبول والاهتداء (وَعَلى سَمْعِهِمْ) بمعنى إنهم لا يستفيدون من السمع ، كالأصم ، لأن في سمعهم خلل (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) تشبيه للغشاوة المعنوية بالغشاوة الظاهرية ، فكما أن من على بصره غشاوة ، لا يرى المحسوسات ، كذلك من يعاند يكون على بصره مثل الغشاوة ، وهو تنزيل لفاقد الوصف منزلة فاقد الأصل ، كما تقول لمن لا ينتفع بالعلم ، هو جدار (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا والآخرة ، فإن من ينحرف عن قوانين الله تعالى ، يكون (لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (٢).

__________________

(١) النساء : ١٥٦.

(٢) طه : ١٢٥.

١٠٥

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً

____________________________________

[٩] (وَمِنَ النَّاسِ) المنافقون ، وهم القسم الثالث ، فهو (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) قولا باللفظ فقط (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) حقيقة ، فلا يعملون أعمال المؤمنين ، وإن كانت قلوبهم أيضا متيقنة بحقائق الإيمان.

[١٠] (يُخادِعُونَ اللهَ) أي يفعلون مع الله تعالى ، فعل المخادع ، الذي يريد الخديعة ، فيظهر ما لا يريده ، ويريد ما لا يظهره (وَالَّذِينَ آمَنُوا) فيرونهم خلاف ما يضمرونه ، لكن عملهم هذا ليس خدعة حقيقية لله وللمؤمنين ، فإنهما يعلمان نواياهم ، فلا ينخدعان بهم ، بل (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ يجري عليهم أحكام المؤمنين ظاهرا ، ولا يشتركون معهم في أسرارهم ، كما لا يشتركون معهم في آخرتهم ، فهم مخدوعون من حيث ظنوا أنهم خادعين (وَما يَشْعُرُونَ) بأنهم خدعوا أنفسهم ، لا أنهم خدعوا الله والمؤمنين ، إذ لو شعروا بأنهم يخدعون أنفسهم ، لم يقدموا على ما ظنوه خدعة لغيرهم ، والحال أنها خدعة لهم حقيقة وواقعا.

[١١] (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فإن قلب المنافق ملتو ، ونفسه معوجة ، لا تريد الاستقامة (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) إذ نزول الآيات ، ونصب الرسول ،

١٠٦

وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ

____________________________________

أوجب أن يزيدوا في التوائهم ، لئلا يسلط النور عليهم ، فيعرفوا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي بسبب كذبهم ، بمخالفة ظاهرهم لباطنهم ، فإنه نوع من الكذب ، وإن كان كلامهم مطابقا للواقع ، لكنهم حيث أخبروا عن إيمانهم ـ ولم يكونوا مؤمنين ـ كان ذلك كذبا.

[١٢] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للمنافقين (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) فإن النفاق يلازم الإفساد ، إذ يعمل المنافق ضد الدعوة ، ويؤلب عليها ، وهو إفساد حينما تريد الدعوة الإصلاح والتقدم (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) فإنهم يظنون أن الدعوة إفساد ، وأنهم بوقوفهم ضدها يصلحون في الأرض.

[١٣] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) لأنهم بوقوفهم النفاقي ضد الإسلام ، يكونون مفسدين إفسادا بالغا أكثر من إفساد الكفار ، ولذا قال تعالى في آية أخرى (هُمُ الْعَدُوُّ) (١) على نحو الحصر (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) بذلك ، بل يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

[١٤] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي للمنافقين ، والقائل هم جماعة من المؤمنين

__________________

(١) المنافقون : ٥.

١٠٧

آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ

____________________________________

الذين لا يخافونهم (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) إيمانا لا يشوبه نفاق (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون بالسفهاء المؤمنين الحقيقيين (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) وأية سفاهة أعظم من كون الإنسان حائد عن طريق الحق مع كونه متصفا بصفة النفاق الرذيلة (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) إنهم هم السفهاء ، لأنهم يظنون أن طريقتهم النفاقية ، أصلح الطرق.

[١٥] (وَإِذا لَقُوا) من «لقى» أي التقى المنافقون ب (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا) لهم (آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) أي أشباههم من المنافقين (قالُوا) لهم (إِنَّا مَعَكُمْ) يريدون بذلك إرضاء الجانبين (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بالمؤمنين ، في إظهار الإيمان لهم ، وهذا هو دليل نفاقهم ، وإلّا لو كان الأمر بالعكس ، بأن أظهروا الكفر تقية لم يزيدوا على إظهاره.

[١٦] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي يفعل لهم فعل المستهزئ ، فيجري عليهم في الدنيا أحكام الإيمان ، وفي الآخرة يجازيهم بجزاء الكفار ، وفي بعض الأحاديث إنه يستهزئ بهم في الآخرة في النار (وَيَمُدُّهُمْ) إمداد الله سبحانه وتعالى ، بعدم الضرب على أيديهم كما يقال : الملك يمد

١٠٨

فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ

____________________________________

قطّاع الطريق حيث لا يستأصلهم (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الطغيان تجاوز الحد ، والعمه التحير ، فإن المنافق ، كالشخص المتحير ، وإنما يمدهم الله سبحانه ، لأن الدنيا دار اختبار وامتحان ، فلا جبر ولا إلجاء.

[١٧] (أُولئِكَ) المنافقون (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فكأنهم أعطوا الهداية ، وأخذوا مكانها الضلالة ، أو كأنهم أعطوا أنفسهم بدل الضلالة ، بينما كان الذي ينبغي أن يعطوا أنفسهم بدل الهداية ، كما قال الشاعر :

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلا

تشري بها لهبا في الحشر تشتعل

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) المعنوية ، بل خسروا رأس المال الذي هو أنفسهم (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) في هذه التجارة والاشتراء.

[١٨] (مَثَلُهُمْ) أي مثل هؤلاء المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) استوقد بمعنى أوقد ، أو بمعنى طلب الوقود الذي هو الحطب ونحوه ، والمعنى أشعل نارا ليستضيء ويدفأ بها (فَلَمَّا أَضاءَتْ) النار (ما حَوْلَهُ) وانتفع بها (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) بأن أرسل ريحا فأطفأها

١٠٩

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ

____________________________________

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) ما حولهم وإنما كان هذا مثلا لهم ، لأن المنافق بإيمانه الظاهري ، يعبّد لنفسه سبيل الحياة ، وينور في طريقه ، فإن الإيمان نور ، وسبب لهداية الإنسان إلى الحق والعدل والخير ، فإذا قبض الله أرواحهم تركهم ، كسائر الكفار في نار وعذاب ، حين يقبض الله أرواح المؤمنين ، إلى نور أوسع ورحمة أكبر ، فهؤلاء المنافقون :

[١٩] (صُمٌ) جمع أصم ، لأنهم لا ينتفعون بالحق ، فهم والأصم سواء (بُكْمٌ) جمع أبكم ، وهو الأخرس ، لأنهم لا يقولون الحق فهم والأبكم سواء (عُمْيٌ) جمع أعمى ، لأنهم لا يبصرون الحق ، فهم والأعمى سواء (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) عن غيهم وضلالهم ، و «ف» ، للإشارة إلى أنهم حيث صموا وأبكموا وعملوا لم يرج فيهم الخير ، فإنه (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) (١).

[٢٠] (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) مثال آخر لحال المنافقين ، والفرق بين المثالين ، إن المثال الأول ، كان مثالا للمنافق نفسه ، وهذا المثال مثال الحق الذي يغمر المنافق ، لكنه لا ينتفع به والصيب هو المطر ، فالحق الذي يغمر هؤلاء كمطر ينزل من السماء (فِيهِ ظُلُماتٌ) ظلمة السحاب وظلمة المطر ، لأنه يحول بين الضياء وبين الأرض ، وظلمة

__________________

(١) الأنبياء : ٤٦.

١١٠

وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)

____________________________________

سحاب فوق سحاب (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) من الأمور المخوفة (يَجْعَلُونَ) أي من ابتلى بهذا الصيب (أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ) خشية (الصَّواعِقِ) فإن الصاعقة إذا نزلت ، قرعت الأسماع بصوتها الشديد (حَذَرَ الْمَوْتِ) فإن الصوت الشديد يوجب انخلاع القلب ، فيموت الشخص ، لكن هؤلاء المنافقين الذين هم كفار في الباطن لا يظنون أنهم يتمكنون الفرار من بأس الله تعالى (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) إحاطة علم وقدرة.

[٢١] (يَكادُ الْبَرْقُ) اللامع في السحاب (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) أي أبصار من ابتلى بالصيب ، وخطف البصر كناية عن عماه (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) بأن أبرق ، ورأوا طريقهم (مَشَوْا فِيهِ) أي في البرق ـ بمعنى استفادتهم من نوره فيمشون (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) بأن لم يبرق (قامُوا) في أماكنهم ـ أي وقفوا ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) بسبب صاعقة قوية فتصمهم (وَأَبْصارِهِمْ) بسبب برق قوي ، إذ النور إذا قوي أوجب ذهاب البصر (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمنعه أن يحتمي الإنسان بإصبعه ، أو بغمض بصره عن أن يذهب بسمعه

١١١

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)

____________________________________

أو بصره ، وهذا توضيح المثال بتطبيقه على المورد أن «الصيب» هو الحق النازل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «البرق» هو تقدم المسلمين ، وما يسبب لهم إنارة الطريق ، و «الرعد والصاعقة» إيعادات الرسل ، والأهوال المكتنفة بالدعوة ، والمنافقون كمن ابتلى بهذا الصيب في الصحراء ، فالحق كالمطر فيه الحياة ، لكن فيه ظلمات غلبة الكفار ، وذهاب الأنفس والأموال والثمرات ، وفيه برق ينير طريق الحياة السعيدة ، وفيه رعد وصاعقة مواعيد الرسول ، وفضيحة المنافقين ، وهؤلاء المنافقون تكاد سرعة تقدم المسلمين ، تعميهم ، فإن العين إذا نظرت إلى ما لا يسرها اضطربت ودمعت ، كلما أضاء لهم ، بأن غلبوا في الحرب ، وحصلوا على الغنائم ، اتبعوا الرسول ، وإذا أظلم عليهم ، بأن غلب عليهم الكفار ، وقفوا وقاموا في مكانهم ، لا يعلمون ولا يتقدمون وهم يخافون من الفضيحة ، إن نزلت آية في شأن المنافقين ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم ، حتى لا يسمعونها ، أو يتغافلون عنها ، كي لا يرى أثر الانهزام في وجوههم ، فإن الإنسان المجرم إذا سمع ما يمس إجرامه ظهرت الصفرة وآثار الانهزام على وجهه ، لكن الله قادر على إماتتهم ، كما هو قادر على فضحهم والذهاب بسمعهم وبصرهم ، فليسوا هم في راحة من نفاقهم ـ كما زعموا ـ بل هم في أشد ابتلاء ومحنة.

[٢٢] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ) خلق (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وكان السبب في الخلق (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي خلقكم للتقوى

١١٢

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ

____________________________________

والعبادة ، كما قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١).

[٢٣] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) كالفراش الذي يكون راحة للبدن وزينة وجمالا (وَالسَّماءَ بِناءً) أي مبنيا ، وهذا يلائم كون السماء طبقة تحطم القذائف إلى الأرض ، فإن البناء ليس المراد منه أن يكون المبنى من جسم كثيف (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) والمراد من السماء هنا جهة العلو ، أو المراد من تلك الناحية (فَأَخْرَجَ بِهِ) أي بسبب الماء (مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) فإذا كان الخلق وسائر النعم من الله سبحانه (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) شركاء من الأصنام أو غيرها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنها باطلة ، وأنه ليس لله شريك.

[٢٤] (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتزعمون أنه ليس من الله سبحانه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) واحدة (مِنْ مِثْلِهِ) أي من مثل هذا المنزل ، ولو كان قصر سورة نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) أو (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) (٣) (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) ، الذين يشهدون

__________________

(١) الذاريات : ٥٧.

(٢) الإخلاص : ٢.

(٣) الكوثر : ٢.

١١٣

مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

____________________________________

معكم ، أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بنبي (مِنْ دُونِ اللهِ) أي كائن ما كان غير الله سبحانه ، كما يقال ما دون الله مخلوق (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ريبكم وزعمكم ، أن محمدا ليس بنبي ، وأن القرآن ليس منزلا من عند الله تعالى ، إذ لو لم يكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيا ، لكان إنسانا عاديا ، فيمكن الإتيان بمثل كلامه.

[٢٥] (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ولم تأتوا بسورة من مثل هذا القرآن (وَلَنْ تَفْعَلُوا) هذا إخبار بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا ، إذ القرآن معجز ، فلا يمكن الإتيان بمثله (فَاتَّقُوا) عاقبة تكذيبكم ، لرسول الله ، ولكتاب الله ، التي هي (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا) أي حطبها ، وما يسبب إيقادها (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) جمع حجر ولعل المراد بها أصنامهم ، كما قال تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) وتخصيص الحجارة بالذكر للتهويل ، إذ الحجارة لا تفنى ، فتكون النار دائمة (أُعِدَّتْ) هذه النار (لِلْكافِرِينَ) هذه عاقبة من يكذب.

[٢٦] (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم وألسنتهم (وَعَمِلُوا

__________________

(١) الأنبياء : ٩٩.

١١٤

الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)

____________________________________

الصَّالِحاتِ) بجوارحهم (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) الجنة باعتبار كونها بستانا ذات أشجار ونخيل ، تكون أرضها «من تحتها» فالأنهار جارية من تحت الجنة على أرضها (كُلَّما رُزِقُوا) أي رزق المؤمنون (مِنْها) أي من الجنات (مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) بأن أتى لهم بفاكهة وثمرة (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) فإنهم يألفون تلك الثمار لما رأوا منها في الدنيا ، وليسوا كأصحاب الجحيم الذين لا يألفون طعامهم الذي من ضريع ، ولا شرابهم الذي من حميم (وَأُتُوا بِهِ) أي بذلك الرزق (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا في الجودة والجدة ، لا كأثمار الدنيا ، بعضها ناضج ، وبعضها غير ناضج ، وبعضها جيد ، وبعضها رديء (وَلَهُمْ فِيها) أي في الجنات (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من القذارات الخلقية ، كالأوساخ والدماء ، والقذارات الخلقية ، كالسب والشتم والحسد ، ونحوها (وَهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (خالِدُونَ) أبدا لا يموتون ، ولا يتحولون عنها ، وحيث قسم الله الناس إلى أقسام ثلاثة ، مؤمن ومنافق وكافر ، ومثل للمنافق ، ثم أمر الناس عامة بالعبادة ، ودعاهم إلى حضيرة الإيمان ، وذكر لهم فوائده ، واحتج على من أنكر الرسالة ، أجاب عن سؤال سأله الكفار ومن إليهم تعنتا ،

١١٥

إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ

____________________________________

وهو : أن الله لما ذا يضرب المثل ، كما مثل للمنافق هنا ، ومثل في سور أخرى بالعنكبوت ونحوها؟ فإن المثال أوقع في النفوس ، وموجب لتقريب المطلب إلى الأذهان.

[٢٧] (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) فإن الحياء من الأشياء القبيحة ، أو نحوها ، وليس في تمثيل الله الكبير بالأشياء الصغيرة الحقيرة ، في النظر حياء ، أي مثل كان ، وهذا معنى قوله «ما» أي شيئا من الأشياء ، (بَعُوضَةً) وهي البقة (فَما فَوْقَها) ولعل ذكر البعوضة هنا لأنها أصغر حيوان متعارف يراه كل أحد (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) أي المثل (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) وأتى به لغرض التوضيح والتبيين (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ) معترضين (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) ومثلا تمييز في معنى «بهذا المثل» ولماذا يأتي الله بهذا المثل ـ غير المناسب لجلال الله ـ ف (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) ويوجب انقسام الناس ، ومن المحتمل أن يكون «يضل ...» جوابا عن اعتراضهم ، أي أن المقصود من المثل الإضلال والهداية ، لكنه ينافي السياق ، فإن المقصود بالمثل ليس ذلك ، وإنما التوضيح والتقريب (وَما يُضِلُّ بِهِ) أي بالمثل

١١٦

إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)

____________________________________

(إِلَّا الْفاسِقِينَ) الذين فسقوا أي خرجوا عن طاعة ربهم ومقتضى عقولهم ، ثم بين الفاسقين بإبراز سماتهم بقوله :

[٢٨] (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الميثاق ما وقع التوثيق به ، وميثاق الله هو ما أخذ عليهم في الكتب السالفة من الإيمان ، أو هو ما أودع فيهم من الفطرة بعرفان الحق (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) من صلة الأرحام ، أو صلة الرسول والمؤمنين (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالكفر والنفاق وإتيان المحرمات (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا أعمارهم ، فذهبت دنياهم ضنكا وآخرتهم عذابا ونارا.

[٢٩] ثم عاد سبحانه إلى حال الكافر ، ووجه الخطاب إليه مستدلا على بطلان كفره بقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) لا روح فيكم ، فإن أصل الإنسان التراب ، ثم يكون نباتا ، ثم يكون حيوانا وما أشبه ، فيأكله الإنسان ، فيتولد منه المني ، ثم يصير إنسانا ، ثم يموت ويرجع ترابا ، ثم يعاد يوم القيامة إنسانا (فَأَحْياكُمْ) نباتا أو حيوانا أو إنسانا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقت موتكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يوم القيامة (ثُمَ) بعد الحياة الثانية (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لتساقون إلى المحاكمة الكبرى ، وكون

١١٧

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ

____________________________________

الرجوع إليه ، مع إن الإنسان في جميع الأحوال ، بدءا وختاما ، تحت سلطة الله وقدرته وعلمه ، باعتبار محاسبته تعالى للإنسان.

[٣٠] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) لمنفعتكم (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) فمن خلقها غيره ، وكون الخلق للإنسان ، لا يدل على تحليل كل شيء ، بل كل شيء بحسبه ، فالأسماك المحرمة ، والحيوانات المفترسة لتمتع السمع والبصر ، لا للأكل ونحوه وهكذا (ثُمَّ اسْتَوى) أي توجه بالخلق والأمر (إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) مدارات للنجوم السيارة ، فإن السماء في اللغة بمعنى المدار ـ هذا إذا قلنا بالنظر الفعلي حول السماوات ـ ويؤيده حديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام ـ كما في «الهيئة والإسلام» (١) ـ (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يغيب عنه شيء ، فمن كفر كان الله مطلعا عليه لا يفوته ذلك ، ولا يخفى أن خلق الأرض كان أولا ، ثم خلق السماء ، ثم دحو الأرض ، كما قال (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٢).

[٣١] وحيث ذكر سبحانه قصة خلق السماء والأرض ، وثم البناء ، توجه الحديث إلى من استخلف فيها (وَ) اذكر (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) الذين هم مخلوقين في الملإ الأعلى لا يرون بالعين إلّا لمن شاء الله

__________________

(١) للعلامة الشهرستاني.

(٢) النازعات : ٣١.

١١٨

إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)

____________________________________

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يخلفني في الأمر والنهي والإرشاد ، وهذا الحوار إنما كان لأجل إظهار كوامن ، وبيان حقائق (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) أي في الأرض (مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) وهذا استفهام حقيقي ، يريدون بذلك استيضاح السبب ، ولعلهم إنما علموا بذلك ، لما كانوا يدرون من كدرة الأرض وثقلها الموجبة للفساد والتكدر ، أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ففينا الكفاية ، وليس هذا تزكية ، بل كقول العبد المطيع لمولاه : إني أقوم بخدمتك فلما ذا تأتي بغيري الذي لا يقوم بالواجب ، ومعنى التسبيح التنزيه ، وكان المراد من التسبيح بحمده ، التنزيه المقترن بالحمد ، مقابل التنزيه غير المقترن به ، كتنزيه الجوهرة الثمينة عن النقائص ، لكن التنزيه فيها لا يقترن بالحمد ، إذ ليس ذلك باختيارها بخلافه تعالى المقترن أفعاله وأعماله بالإرادة (وَنُقَدِّسُ لَكَ) أي أن تقديسنا وتنزيهنا لأجلك لا يشوبه رياء وسمعة (قالَ) الله تعالى في جواب الملائكة السائلين عن السبب (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) فإن في استخلاف البشر ، مصالح أهم من الفساد الواقع منهم ، كما أن استخلافهم أهم من استخلافكم فإن منهم من الأخيار والصالحين من لا يلحقه الملك المقرب ، بالإضافة إلى أنه خلق يظهر من عظمة الصانع نوعا جديدا.

[٣٢] وإذا أراد الله تعالى إعلام الملائكة ببعض مزايا البشر ، وإنه من جنس

١١٩

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما

____________________________________

أرفع منهم ، علّم آدم عليه‌السلام ، علوما يتمكن هو من فهمها وهضمها ، بينما لا يقدر الملائكة على ذلك ، ثم قال تعالى للملائكة : هل تتحملون مثل ذلك؟ فأبدوا عجزهم ، وإذا رأوا من آدم التحمل والقدرة ، اعترفوا بالتفوق ، وإنه أحق بالخلافة ، وتوضيح ذلك بمثال أنه إذا كان لإنسان خادم لا يقدر فطرة على بناء دار جميلة ، ثم أراد استخدام مهندس ، فقال الخادم : لماذا تستخدم غيري وأنا حاضر؟ يقول له السيد : إني أعلم ما لا تعلم ، ثم يستخدم المهندس ، ويبين له ما يريده من الدار ، فيقدر المهندس من بنائها ، بينما لا يقدر الخادم على النزول عند رغبة السيد ، وهناك يعترف بالعجز ، وأن السيد كان عارفا حيث تركه إلى غيره (وَعَلَّمَ) الله تعالى (آدَمَ) عليه‌السلام (الْأَسْماءَ كُلَّها) أسماء الأشياء وعلائمها ، وذلك يستلزم تعليم المسميات والمعلومات ، فإذا علمت أحدا اسم زيد وعمرو وبكر ، كان اللازم تعريفهم له أيضا ، ولذا قال (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) بإتيان ضمير «هم» تغليبا للعقلاء على غيرهم ، والعرض على الملائكة (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) صدقا خبريا يطابق كلامكم الواقع في أنكم كافين في الاستخلاف ، ولعل تعليم آدم كان بالإلهام ، وخلق العلم فيه ، مما هو قابل له ، دون الملائكة ، فإنهم لم يكونوا قابلين لهذا العلم والإلهام ، فلا يقال لماذا لم يعلّم الله تعالى الملائكة.

[٣٣] (قالُوا سُبْحانَكَ) أنت منزه عن القبيح والعبث (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما

١٢٠