تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ

____________________________________

وشياطينهم (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) يا رسول الله ، إنهم خاضعون لقول غيرك ممن لم يأتوك لتحكيمك في قصة الزنا أو في قصة القتل (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) جمع «كلمة» أي كلام الله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي من بعد أن وضعه الله سبحانه في مواضعه ، كما حرفوا حكم زنا المحصن الذي هو الرجم إلى الجلد ، وكما حرفوا حكم القتل قصاصا إلى الدية (يَقُولُونَ) أي يقول المنافقون واليهود بعضهم لبعض (إِنْ أُوتِيتُمْ) أي أعطاكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هذا) وهو الجلد في الزنا والدية في القتل (فَخُذُوهُ) واقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) هذا الحكم ، بل حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما في التوراة من رجم الزاني وقتل القاتل (فَاحْذَرُوا) عن قبول قوله.

ثم توجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسلية له عن نفاق المنافقين وتحريف اليهود قال سبحانه : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي امتحانه ، فقد أراد الله سبحانه اختبار اليهود والمنافقين في هذه القضية ليتبيّن عنادهم وغيّهم وأنهم لا يرجعون إلى حكم الله ، ويظهر كذبهم في قولهم أنهم متدينون (فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي لن تستطيع يا رسول الله أن تدفع عنه من أمر الله شيئا ، بل إرادته نافذة وحكمه ماض (أُولئِكَ)

٦٤١

الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ

____________________________________

المنافقون واليهود (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الكفر ، فلم يلطف بهم اللطف الخاص ـ كما يلطف بسائر المؤمنين ـ حتى تتطهر قلوبهم من أدران الكفر ، إن الله سبحانه بيّن لهم الدلائل ونصب لهم الحجج لكنهم أبوا من الرضوخ ولذا قطع الله تعالى لطفه عنهم.

(لَهُمْ) أي للمنافقين واليهود (فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) فضيحة وذلة ، أما المنافقون فلظهور نفاقهم عند المؤمنين مما يوجب التنفّر منهم ، وأما اليهود فبضرب الذلة عليهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، واليهود معلوم حالهم هناك.

[٤٣] (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) تكرار لتصوير واقعهم البشع فإن الإنسان إذا أراد أن يؤكد شيئا قاله أكثر من مرة حتى يقع في نفس السامع موقع القبول (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) جمع «أكال» مبالغة ل «آكل» أي كثير والأكل للرشوة وسائر أقسام الحرام ، (فَإِنْ جاؤُكَ) يا رسول الله ليجعلوك حكما فيما بينهم في قصة الزنا والقتل (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) بحكم الله سبحانه (أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) وقد جاز الإعراض لأنهم كانوا يعلمون بالحكم حيث كان مثبتا في التوراة فلم يكن الإعراض يسبب سحق حكم الله

٦٤٢

وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)

____________________________________

سبحانه وجهالة المجتمع به (وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ) فلم تحكم بينهم (فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) إذ النفع والضرر بيد الله سبحانه لا بيد غيره (وَإِنْ حَكَمْتَ) يا رسول الله (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل الذي هو إجراء حكم الله من رجم الزاني المحصن وقتل القاتل شخصا ما (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي العادلين الذين يعدلون في حكمهم.

[٤٤] إن أمر هؤلاء اليهود عجيب فإنهم لا يعترفون بك رسولا ومع ذلك يحكمونك في قضيتهم وذلك ليس إلا أنهم يريدون فرارا من حكم التوراة إلى حكم يطابق أهواءهم (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) أي يجعلونك حكما يا رسول الله (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ) أي والحال أن لديهم التوراة التي يعترفون بها كتابا (فِيها حُكْمُ اللهِ) بالنسبة إلى الزنا والقتل (ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) التحكيم ، أو من بعد حكمك فلا يقبلون حكمك أيضا (وَما أُولئِكَ) اليهود والمنافقون الذين حكّموك ، ثم تولوا (بِالْمُؤْمِنِينَ) بالتوراة أو بحكمك ، وإنما يظهرون الإيمان كذبا واختلاقا.

[٤٥] ثم بيّن سبحانه أن التوراة التي أعرض عن حكمها في قصة الزنا والقتل كتاب سماوي يجب العمل به ، ومن المعلوم أنه ليس المراد بذلك

٦٤٣

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا

____________________________________

التوراة المحرّفة التي بأيدي اليهود اليوم ، فقد كان قسم من التوراة محفوظا عن التحريف إلى زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أن المعلوم أن المراد كون التوراة في وقتها هدى ونور ، أما إذا جاء أهدى منها وأكثر نورا ونسخ قسما من أحكامها لم يعمل بالمنسوخ منها ، وذلك كما لو قلنا : أن القرآن هدى ونور ، يراد المجموع من حيث المجموع ، لا أنه يعمل به حتى بالنسبة إلى الآيات المنسوخ حكمها على تقدير تسليم النسخ في القرآن.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) يهتدي به الناس إلى سبل الحق (وَنُورٌ) ينير دروب الحياة المظلمة ـ ولعل العطف للبيان ـ (يَحْكُمُ بِهَا) أي بالتوراة (النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) لله وأذعنوا لحكمه ، ومن جملة أولئك الأنبياء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حكم على طبقها في قصة الزاني والقاتل (لِلَّذِينَ هادُوا) أي أن الحكم إنما كان للذين هادوا أما غيرهم من النصارى والمسلمين فإنما يحكم بينهم حسب معتقدهم. وقد ثبت في الشريعة جواز الحكم لكل أهل كتاب بكتابهم. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم ، وبين أهل القرآن بقرآنهم» (١) ، كما ثبت قولهم عليهم‌السلام : «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٠ ص ٦٧٢.

(٢) تهذيب الأحكام : ج ٩ ص ٣٢٢.

٦٤٤

وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ

____________________________________

لكن من المعلوم أنه ليس كل الأحكام كذلك ، بل من الأحكام ما لا يجوز أن يحكم بها ، والقاعدة الكلية : أنه كل ما أجاز الإسلام أن يحكم به الحاكم على طبق دياناتهم جاز ذلك ، وكل ما لم يجز كان اللازم الرجوع إلى حكم الإسلام.

(وَ) يحكم بالتوراة (الرَّبَّانِيُّونَ) وهم المتدينون فإن «رباني» منسوب إلى «الرب» من غير قياس (وَالْأَحْبارُ) جمع «حبر» بالكسر و «حبر» بالفتح ، وهو العالم ، أي أن الأنبياء والأتقياء والعلماء يحكمون بالتوراة ، وإنما يحكم هؤلاء بالتوراة بسبب ما (اسْتُحْفِظُوا) أي استدعوا (مِنْ كِتابِ اللهِ) أي حيث أن الله سبحانه جعلهم حافظين للكتاب وائتمنهم عليه في أن يحكمون بموجبه (وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) أي أن النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على أن ما في الكتاب حق وصدق. والحاصل أن هؤلاء يحكمون بالتوراة لأنه وديعة عندهم وهم يشهدون بصدقه.

وحيث بيّن سبحانه أن التوراة يحكم بها أولئك الصفوة وأنهم محل وديعة والشهداء على صحته ، بيّن أن مقتضى ذلك أن يكون الإنسان المتصف بهذه الصفات شجاعا في إظهار أحكامه فلا يخون ولا يكتم ولا يخشى الناس (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ) في إظهار أحكام التوراة ومنها مسألة رجم الزاني وقتل القاتل (وَاخْشَوْنِ) في ترك أمري

٦٤٥

وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ

____________________________________

وتحريف حكمي فإن النفع والضرر بيدي (وَلا تَشْتَرُوا) بمقابل آياتي وأحكامي (ثَمَناً قَلِيلاً) حيث أنكم إذا كتمتم الأحكام لأجل الرشوة والرئاسة كنتم كمن يعطي السلعة ليأخذ المال ، وكل شيء من المال والرئاسة في مقابل حكم الله ثمن قليل لأنه يزول وينتقل وتبقى تبعة التحريف والكتمان والحكم بخلاف ما أنزل الله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) لعلّ وجه الإتيان بالنفي دون أن يقول «ومن حكم بغير ما أنزل الله» ليشمل الحاكم بالخلاف والساكت الكاتم ، فإن من يعلم حكم الله ويسكت ويكتم يكون مصداقا ل (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ)(فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ومن المعلوم أن عدم الحكم كفر عملي لا كفر اعتقادي ، إلا إذا رجع إلى الجحود لأصل من أصول الدين ، وإنكار ضروري من ضروريات الإسلام ، ويسمى كافرا لأنه ستر الحق ، فإن الكفر لغة بمعنى الستر.

[٤٦] (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ) أي على بني إسرائيل (فِيها) أي في التوراة (أَنَّ النَّفْسَ) تقتل بمقابل النفس فإذا قتل الإنسان شخصا عمدا ، قتل القاتل في قبال ذاك ، ولعل هذه الآية تؤيد كون الآيات السابقة كانت بشأن قصة بني النضير وبني قريضة ـ كما تقدم ـ (وَالْعَيْنَ) مفقوءة (بِالْعَيْنِ) أو معمية بها (وَالْأَنْفَ) مجدوعة (بِالْأَنْفِ) أما

٦٤٦

وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)

____________________________________

ذهاب حاسة الشم فلعله خلاف الظاهر وإن كان الحكم كذلك إذا أمكن (وَالْأُذُنَ) مصلومة (بِالْأُذُنِ) وفي ذهاب السمع ما تقدم (وَالسِّنَ) مقلوعة (بِالسِّنِ) ولذلك كله شرائط مذكورة في كتب الفقه (١).

(وَالْجُرُوحَ) فيها (قِصاصٌ) فمن جرح إنسانا جرح كما جرح ، ويدخل فيه الشفة والذّكر والبيضتان واليدان والرجلان وسائر أقسام الجروح. و «القصاص» مشتق من «قص» بمعنى اتّباع الأثر ، كأن المجروح يتبع أثر الجارح فيجرحه (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي بالقصاص بأن عفا عنه وأسقطه وتنازل عن حقه (فَهُوَ) أي التصدّق (كَفَّارَةٌ) أي حط عن الذنوب (لَهُ) أي للمتصدق المجروح. قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «يكّفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره» (٢).

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) تقدم الكلام فيه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الظلم هو ظلم النفس وظلم الغير ، وقد اختلف التعبير هنا عن الآية السابقة «الكافرون» والآية الآتية «الفاسقون» لإفادة أن من لم يحكم بما أنزل الله يتصف بصفات ثلاث لأنه قد ستر حكم الله وكتمه فهو «كافر» إذ الكافر بمعنى الساتر ، كما تقول : الزارع كافر ، لأنه يستر

__________________

(١) موسوعة الفقه : ج ٨٩.

(٢) الكافي : ج ٧ ص ٣٥٨.

٦٤٧

وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)

____________________________________

الحبة تحت الأرض ، ولأن الكافر قد ظلم نفسه لأنه عصى الله سبحانه في كتمان حكمه وظلم المترافعين والمجتمع لأن حكم الله هو الحق وسواه انحراف وزيغ فهو «ظالم» وأنه قد خرج بحكمه ذاك أو سكرته عن الحق عن الجادة المستقيمة فهو «فاسق» إذ الفسق بمعنى الخروج والمروق.

[٤٧] ولما ذكر سبحانه اليهود ، اتجه الكلام إلى ذكر النصارى مبيّنا أن الأنبياء من سلسلة واحدة وأن كتبهم كلها هدى ونور ، وأن بعضها يصدّق بعضا (وَقَفَّيْنا) من «التقفية» أصله «القفو» بمعنى اتباع الأثر يقال : قفيته بكذا أي اتبعته به (عَلى آثارِهِمْ) أي آثار الأنبياء حيث قال سبحانه : (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ)(بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي أتبعنا على آثار النبيين عيسى ابن مريم فقد بعثناه رسولا من بعدهم (مُصَدِّقاً) أي في حال كون المسيح عليه‌السلام يصدّق (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي ما تقدمه (مِنَ التَّوْراةِ) بيان «ما» ويقال للسابق الزماني : «بين يديه» تشبيها بالسابق المكاني الذي هو «بين يدي الإنسان» أي في قباله (وَآتَيْناهُ) أي أعطينا عيسى عليه‌السلام (الْإِنْجِيلَ) أي أنزلناه عليه (فِيهِ هُدىً وَنُورٌ) تقدم معنى ذلك (وَمُصَدِّقاً) أي في حال كون الإنجيل مصدقا (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) فقد كان عيسى عليه‌السلام يصدق التوراة ، وكتابه الإنجيل يصدقها أيضا (وَهُدىً) أي أن الإنجيل كتاب هداية وإرشاد (وَمَوْعِظَةً) أي واعظا (لِلْمُتَّقِينَ) الذين

٦٤٨

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ

____________________________________

يتقون الآثام ، فهو يحذّرهم من العقاب ويرشدهم ويحرضهم على الثواب. وقد كرر التصديق والهداية ، تأكيدا وتركيزا.

[٤٨] (وَلْيَحْكُمْ) أي يجب أن يحكم (أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) من الأحكام والدلالات التي منها التبشير بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجوب اتّباعه (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أن الديانات كلها من عند الله ، وأن الأنبياء كلهم سفراء له وحده ، وأن الكتب كلها منزلة من عند الله ، فمن الضروري أن يحكم الأنبياء بالكتب المنزلة ويتبع الناس الأنبياء والكتب ، أما ما حرّف منها فليس من الله ، كما أن ما نسخ منها فاللازم تركه واتباع الناسخ عوضه.

[٤٩] ولما أتم الكلام حول التوراة والإنجيل ـ وهما الكتابان المتداولان في أيدي الناس ـ ذكر سبحانه القرآن الحكيم (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ) أي القرآن الحكيم (بِالْحَقِ) كتابا بالحق لأنه ليس فيه باطل ، أو إنزالا بالحق ، حيث كان المنزل والمنزل عليه لهما الحق في ذلك ، فالمنزل إله يحق له التنزيل والتشريع ، والمنزل إليه رسول يحق له الأخذ والقبول (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) اللام للجنس أي أن القرآن يصدق ما سبقه من كتب الأنبياء (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) أي أن القرآن مهيمن على الكتاب المتقدم ، ومعنى الهيمنة السيطرة ، فإن

٦٤٩

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً

____________________________________

القرآن الحكيم كشاهد مسيطر يدل على مواقع الخطأ والصواب من الكتب السابقة ، كل ما حرفوه دل عليه وكل ما زادوا أو أنقصوا منهما أشار إليه ، وذلك لأن القرآن يبيّن كليات العقائد وأصول العبادة والمعاملة والأخلاق ، وفي الكتب السابقة مواقع كثيرة قد زاغت عن الحق بأيادي أثيمة ، يدل عليها القرآن ويشير إليها (فَاحْكُمْ) يا رسول الله (بَيْنَهُمْ) أي بين أهل الكتب السالفة ، أو بين اليهود (بِما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام ، ومنها في رجم زنا المحصن ، وقتل القاتل (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ما يشتهون من خلاف حكم الله ، فقد أحبوا أن يحكم الرسول بخلاف الحق ، فيفتي بجلد المحصن الزاني ، ودية القاتل (عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ) أي لا تزغ عما جاءك ، فإن معنى اتباع أهوائهم : الزيغ عن الحق. وكثيرا ما يشبه فعل معنى فعل آخر فيتعدى الفعل الأول بما يتعدى به الفعل الثاني ، كما ذكره «المغني».

ولما كان المقام يوهم اتحاد الديانات من جميع الحيثيات حيث أن الآيات السابقة أفادت تصديق كل نبي وكتاب لما سبقه ، فأية حاجة إذا لإيمان اليهود والنصارى بالنبي والقرآن ، تعرّض السياق إلى اختلاف الشرائع والمناهج في الخصوصيات والمزايا وإن اتحد الجميع في الأصول والجوهر (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ) أي لكل أمة منكم أيها اليهود والنصارى والمسلمون جميعا جعلنا (شِرْعَةً) أي طريقة (وَمِنْهاجاً) «الشرعة» أول الطريق ، و «المنهاج» الطريق المستقيم الذي يلزمه

٦٥٠

وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)

____________________________________

الإنسان في حياته ليسير عليه ، وكأن وجه تقديم «جعلنا» على «منكم» أن المقام مقام الجعل ، لا مقام ذكر الأمم. وقد تقرر في علم البلاغة أن المقدم من الألفاظ هو الذي سيق له الكلام ، يقال : «زيد جاء» إذا كان المقام مقام ذكر زيد وأعماله ، ويقال : «جاء زيد» إذا كان المقام مقام ذكر الجائين. (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ) أيها الأمم الثلاث (أُمَّةً واحِدَةً) بأن لا ينزل عليكم إلا كتابا واحدا ولا يرسل إلا رسولا واحدا (وَلكِنْ) جعلكم على شرائع مختلفة (لِيَبْلُوَكُمْ) أي يمتحنكم (فِي ما آتاكُمْ) أي فيما فرضه عليكم وأعطاكم وشرع لكم حتى يتبين من يقبل الرسول اللاحق ومن لا يقبل ، ومن يعمل بأوامره عملا تاما ومن لا يعمل (فَاسْتَبِقُوا) أيتها الأمم (الْخَيْراتِ) أي ليبادر بعضكم بعضا في تحصيل الخيرات والعمل بما أمر الله (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ومصيركم (جَمِيعاً) أيتها الأمم. وإنما سمي «مرجعا» تشبيها للمعقول بالمحسوس ، وإلا فلا مكان لله سبحانه حتى يكون مبدءا ومرجعا (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمور دينكم. وفي الإجمال ما لا يخفى من التهويل ـ كما يقول الملك لبعض رعيته : أعلمك بما صنعت ـ ثم يجازيكم حسب أعمالكم وعقائدكم.

[٥٠] ثم كرر سبحانه وجوب الحكم بين اليهود بما أنزل الله ، وقد كرر ذلك

٦٥١

وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ

____________________________________

لأنهم حكّموه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصتين قصة الزنا وقصة القتل (وَأَنِ احْكُمْ) عطف على قوله في الآية السابقة «فاحكم» أو عطف على «الكتاب» أي أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك «أن احكم» (بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وما يشتهون من خلاف الحكم (وَاحْذَرْهُمْ) يا رسول الله ، أي احذر اليهود (أَنْ يَفْتِنُوكَ) أي يضلوك (عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) بأن تفتي بغير ما أنزل الله. فقد ورد أن اليهود عرضوا على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤمنوا له إذا تصالح معهم على التسامح في أحكام خاصة ، منها حكم الرجم في الزاني المحصن ، وهذا التحذير للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس معناه أنه كان يعمل على الخلاف ، وإنما هو لبيان الحكم ، كما يخاطب بقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ) (١) ، ونحوه (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن الحق ولم يقبلوا قولك وحكمك (فَاعْلَمْ) يا رسول الله (أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) فإن التمرد على الله ورسوله يوجب نكال الله سبحانه ، وتمردهم عن حكمك موجب لأن يسخط الله عليهم فيأخذهم ببعض ما سلف من ذنوبهم ، أو نفس التمرد نكال سببه بعض ذنوبهم السابقة.

روي أن رجلا قال للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : إني حرمت صلاة الليل؟ قال الإمام : «أنت رجل قيدتك ذنوبك» (٢).

__________________

(١) هود : ١١٥.

(٢) عوالي اللآلي : ج ٢ ص ٥١.

٦٥٢

وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ

____________________________________

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله ، وهذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يغتم لعدم نفوذ حكمه.

[٥١] (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) استفهام إنكاري ، أي هل يبغي هؤلاء اليهود حكم الجاهلية ، والمراد بها جاهلية البشر التي لا يرجع حكمهم فيها إلى قانون ثابت بل تحكم الأهواء والقبليات والعصبيات وما أشبه ، فكل من يبتغي حكما غير حكم الله فإنه يبتغي حكم الجاهلية ، حتى إذا كان الحكم أكثرية «برلمانية» (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً) أي ليس هناك حكما أحسن من حكم الله (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) بالله واليوم الآخر ، فإنهم يعلمون أن حكم الله أحسن الأحكام لأنه خال من جميع الانحرافات التي تصيب حكم البشر.

[٥٢] وبعد ما بيّن سبحانه انحراف اليهود وضلالهم ، ذكر سبحانه هنا عدم جواز اتخاذ اليهود أو النصارى أولياء. وقيل في سبب النزول : أنه لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا ، وقال آخر : أنا ألحق بفلان النصراني فآخذ منه أمانا ، فنزلت الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) فلا تصادقوهم مصادقة الولي لوليه والحميم لحميمه (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فإن بعضهم ينصر بعضا ويعينه عليكم ، وقد ظهر انطباق كلامه سبحانه على الخارج طيلة أربعة

٦٥٣

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

____________________________________

عشر قرنا فإن اليهود والنصارى لم يزالا ينصر أحدهما الآخر على المسلمين على ما بينهما من العداء والبغضاء (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) أي يصادقهم وينتصر بهم ويجعلهم أولياء له (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) فإنه كافر عملا ، من أهل النار ، وهو خطر على المسلمين ، فالذين تولّوا الكفار كانوا من أخطر الناس على المسلمين ، وكانوا في زمرة الكفار ينصرونهم وينتصرون بهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الذين يظلمون أنفسهم بعد ما علموا وعرفوا ، فإنه سبحانه لا يلطف بهم ألطافه الخفية.

[٥٣] وبعد هذا القرار الجازم ، الذي دل عليه منطق التاريخ السابق على الإسلام ، حيث أن كل موال لا بد وأن يكون هواه مع من يوالي ، لا مع مجتمعة ، والذي قد نهي عنه صريحا (فَتَرَى) يا رسول الله (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق. قال ابن عباس : إن المراد بذلك عبد الله بن أبي ، أن عبادة بن الصامت الخزرجي أتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إن لي أولياء من اليهود ، كثير عددهم ، قوية أنفسهم ، شديدة شوكتهم ، وأنا أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : لكن لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم.

ثم أنه شبّه النفاق بالمرض لأن كليهما موجب لانحراف الإنسان ، فالمرض يوجب انحراف مزاجه ، والنفاق يوجب انحراف سلوكه

٦٥٤

يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)

____________________________________

المنبعث من انحراف روحه (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) أي في تولي أهل الكتاب واتخاذهم أولياء ، ولعل الإتيان بلفظة «يسارعون» لإفادة أنهم يوالونهم قبل ظهور علائم الاحتياج إليهم «من هزيمة المسلمين» فإنهم يحتاطون باتخاذهم أولياء لئلا يأتي يوم يحتاجون إليهم ، وذلك أسوأ حالا ممن يوالونهم إذا ظهرت علامة هزيمة في المسلمين (يَقُولُونَ) أي قائلين لتبرير موقفهم (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) أي دوران الفلك الموجب لغلبة الكفار على المسلمين فإنا نتخذهم من الآن أولياء لنكون في أمان إذا دارت الدائرة (فَعَسَى اللهُ) أي لعل الله (أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) للمسلمين بأن يفتحوا بلاد الكفار ويكون الغلب لهم على الكفار (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) غير الفتح من إعزاز المسلمين وتكثير عددهم وجلاء الكفار (فَيُصْبِحُوا) أي يصبح هؤلاء المنافقون الذين والوا الكفار خوف غلبتهم ودوران الدائرة على المسلمين (عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ) من موالاة اليهود وتمني الغلبة لهم. ولعل ذكر «أسروا» مع أنهم أعلنوا عن ولائهم خوف الدائرة ، لإفادة أنهم كانوا قد أسروا أشياء كثيرة في أنفسهم ، كما هو شأن النفاق والمنافقين (نادِمِينَ) وليس ندمهم من جهة الحق ، بل من جهة أنهم خسروا الطرفين ، طرف المسلمين لأنهم عرفوا نفاقهم ، وطرف الكفار لأنهم هزموا.

٦٥٥

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

____________________________________

[٥٤] (وَ) إذ قسم الله الفتح للمؤمنين ، أو أتاهم بأمر من عنده (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إيمانا صادقا ، يقولون متعجبين من نفاق المنافقين واجترائهم على الله بالأيمان الكاذبة : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ) أي : هل هؤلاء المنافقون الذين انكشفت حقائقهم هم الذين حلفوا بالله (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي جهدوا جهد أيمانهم ، بمعنى : حلفوا بأغلظ الأيمان (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي مع المؤمنين في صدق الإيمان والمناصرة؟ كيف حلفوا بتلك الأيمان المغلظة ، وقد ظهر نفاقهم خلال المعركة الحاسمة الموجبة لترجيح كفة المسلمين؟ فإن النفاق لا يظهر جيدا إلا في المعارك والمخاوف. وهناك حيث عرف المسلمون حقيقتهم تعجبوا من إيمانهم المزيف ، وأيمانهم المغلظة الكاذبة التي أرادوا بها دعم إيمانهم وإدخال أنفسهم في زمرة المؤمنين (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) جملة مستأنفة ، أي أن المنافقين ضاعت أعمالهم الإيمانية بسبب النفاق ، أو : أنهم ضاعت مساعيهم في مصانعة الطرفين بسبب انهزام الكفار فلا ظهر لهم ، وكشف باطنهم للمسلمين فيتجنبون عنهم (فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ) دنيا وآخرة.

[٥٥] ثم بعد ما بيّن مضرّة النفاق ، توجه السياق إلى المؤمنين مبيّنا لهم أنهم إن ارتدوا فلا يظنوا أن ذلك يضر دين الله سبحانه فقد وكلّ الله بدينه في كل دور أناسا يقومون بشرائط الإيمان ، فالمرتد إنما يضر نفسه لا أنه يضر دين الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ)

٦٥٦

فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ

____________________________________

ارتدادا إلى الكفر ، أو إلى النفاق ، فإن انقلاب الباطن عن الإسلام هو نوع من الارتداد أيضا (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) فهو ذو صلة بهم وهم ذووا صلة به سبحانه. ولعل الإتيان بكلمة «سوف» لئلّا يظنون أن في تأخير الأمر انقطاعا وانفصاما للإيمان ، بل قد يتأخر مجيء الصلحاء بعد ارتداد قسم من الناس عن الإيمان (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أذلة من «الذّل» بكسر الذال : ضد الصعوبة ، وقد يكون من «الذّل» بضم الذال : ضد العزة (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) أي يكونون ليّنين على المؤمنين ، غلاظ شداد على الكافرين. وإنما كان ذلك مدحا لأن اللّين مع الكافر موجب لبقاء الكفر ، بخلاف إظهار الشدة الذي يوجب حصر الكفر على نفسه وانكماشه ، وعدم تعديه إلى المؤمنين الضعاف ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (١) ، (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته (وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) فإن الجهاد يلازم لوم اللائمين من المؤمنين ومن الكافرين ، أما «من الكافرين» فواضح ، وأما «من المؤمنين» فلأن الآراء غالبا ما تختلف بسبب لوم بعضهم لبعض كما هو المشاهد المحسوس ، وكثيرا من الناس يمنعه الجهاد والإقدام لوم اللائمين لا صعوبة الجهاد.

وقد نزلت هذه الآية في علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وأصحابه الأكرمين ، وإن كانت عامة بحسب اللفظ ، كما هو شأن آيات القرآن غالبا.

__________________

(١) الفتح : ٣٠.

٦٥٧

ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)

____________________________________

ولعل وجه قوله : «يأتي» مع أن الإمام عليه‌السلام كان حاضرا وقت النزول ، اعتبار الوصف أي قوله «يجاهدون». تقول : «سوف آتي بشخص يفعل كذا» تريد أن الفعل «سوف» يأتي لا الشخص.

(ذلِكَ) المذكور في أوصاف القوم من محبة الله لهم ومحبتهم لله ولينهم مع المؤمنين وشدتهم على الكافرين وجهادهم بدون خوف اللوم (فَضْلُ اللهِ) حيث تفضل عليهم بهذه الصفات وهداهم إلى الحق (يُؤْتِيهِ) أي يعطي هذا الفضل (مَنْ يَشاءُ) ممن كان قابلا وأهلا (وَاللهُ واسِعٌ) فضله فلا يخاف نفاده إن أعطى أحدا (عَلِيمٌ) بموضع فضله وجوده.

[٥٦] ولما ذكر سبحانه أنه لا يجوز أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ، بيّن ولي المؤمنين وأن اللازم أن يتخذوا الله ورسوله ومن نصبه الله وليا. وقد أجمع المفسرون بأن هذه الآية نزلت في علي أمير المؤمنين عليه‌السلام (١). وقد يقال أن الأئمة الأحد عشر عليهم‌السلام ليسوا بمشمولين للآية ، لدلالة «إنما» على الحصر؟ والجواب من وجهين :

الأول : إن الآية حصرت الأمر في وقت النزول ، وكانت ولايتهم عليهم‌السلام بعد ذلك.

والثاني : وهو الأصح أن ولاية الأئمة من ولاية علي عليه‌السلام ، كما لو قال : والي بلدكم فلان ، فإن من عينه الوالي للأمور كان امتدادا لولاية فلان.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٣٦١ وتفسير العياشي : ج ١ ص ٣٢٧.

٦٥٨

إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)

____________________________________

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) فالله له الولاية المطلقة والسلطنة الكاملة من جميع الجهات عليكم (وَرَسُولُهُ) محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) المتصفون بكونهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي الصدقة (وَهُمْ راكِعُونَ).

وقد روت العامة والخاصة أن هذه الآيات نزلت في علي أمير المؤمنين عليه‌السلام لما تصدّق بخاتمه وهو في الركوع. وفي بعض الأخبار أنه كان تصدق قبل ذلك أيضا في صلاة أخرى بحلّة قيمتها ألف دينار أرسلها النجاشي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأهداها إلى علي عليه‌السلام. (١)

[٥٧] ثم ذكر سبحانه أنه في تولي هؤلاء النجاح والغلبة ، فمن ظن أن في تولي غيرهم النجاح فقد اشتبه ، ودل التاريخ أنه كلما التزم المسلمون بهؤلاء نجحوا وتقدموا ، وكلما تولوا غيرهم خسروا وتأخروا (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ) أي يتخذه الله سبحانه وليا يأتمر بأوامره وينتهي عن زواجره (وَرَسُولَهُ) يقتدي به في أعماله وأقواله (وَالَّذِينَ آمَنُوا) علي والأئمة من ولده عليهم‌السلام ـ حسب النزول ـ أو كل مؤمن حسب العموم ، في مقابل اتخاذ الكفار أولياء (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ) جنده وجماعته (هُمُ الْغالِبُونَ) على من سواهم من الأحزاب والجنود ، وفي قطع قوله : (فَإِنَّ حِزْبَ

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٨٨.

٦٥٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

____________________________________

اللهِ) عن الجملة السابقة ، إذ لم يقل «فإنهم الغالبون» ، إفادة أن المتولي يعدّ من حزب الله وجماعته ، فليس الأمر من ناحية العبد فقط ، بل من ناحية الله أيضا.

[٥٨] قد نهي المسلمون عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ، ثم الآن يأتي السياق لينهى عن اتخاذ أي كافر أو كتابي ـ ولو لم يكن يهوديا أو نصرانيا ـ وليا. وقد ورد في سبب النزول أن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم كان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت هذه الآية ، ولو كان الأمر كذلك فالمراد ، بمن ذكر في الآية أعم من المنافق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً) أي سخرية وتلاعبا ، وذلك بأن أظهروا الإسلام باللسان وأبطنوا الكفر بالجنان ، أو المراد جعله سخرية ولعب يستهزئون به (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أنزل عليهم الكتاب (مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم أهل الأديان السابقة على الإسلام (وَ) من (الْكُفَّارَ) المراد بهم الأعم من المنافقين ـ كما سبق ـ ولا يخفى أن الكفار أعم من أهل الكتاب ، لكن إذا ذكروا في كلام كان المراد بالكفار غيرهم (أَوْلِياءَ) تتولونهم كاتخاذ المؤمنين لله ورسوله أولياء (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وبما أمر به.

[٥٩] (وَإِذا نادَيْتُمْ) أيها المؤمنون (إِلَى الصَّلاةِ) إي دعوتم إليها

٦٦٠