تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا

____________________________________

الذبيحة التي ذكر اسم غير الله عليها عند الذبح ـ كما تقدم في سورة البقرة (١) (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي ما خنقت بأي نحو كان (وَالْمَوْقُوذَةُ) الوقذ هو الضرب ، أي التي ضربت حتى ماتت (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) التردي : الوقوع من مكان عال ، والمراد بها : التي وقعت من مكان عال فماتت ، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون الحيوان بهذه الكيفيات (وَالنَّطِيحَةُ) وهي التي ينطحها غيرها فتموت (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) فريسة السبع : وهي التي أكل الحيوان المفترس بعضها وأبقى بعضا ، فإنه يحرم أكل الباقي (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) التذكية لغة هي «تمام الشيء» والمراد بها هنا : تحليل الحيوان بإجراء السنن الشرعية عليه من كون الذابح مسلما ، والتوجه إلى القبلة بالذبيحة ، وكون آلة التذكية من حديد ، وذكر الله حالة الذبح ، وفري الأوداج الأربعة ، والمراد : الاستثناء من (ما أَكَلَ السَّبُعُ) وإن كان الحكم عاما أي أنه لو أدركتم ما أكله السبع فذكيتموه فهو حلال.

وإدراكها ما عن الباقرين عليهما‌السلام حيث قالا : «إن أدنى ما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه» (٢).

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) جمع «نصاب» وهي الحجارة التي كانوا يعبدونها ، أي التي تذبح باسم الأوثان تقرّبا إليها (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا

__________________

(١) البقرة : ١٧٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦٢ ص ١٠٧.

٦٠١

بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ

____________________________________

بِالْأَزْلامِ) الاستقسام طلب القسمة ، والأزلام جمع «زلم» وهو القدح أي السهام ، فقد كان أهل الجاهلية يشترون جزورا ثم يكتبون على سهام عشرة أسماء خاصة ، فلسهم حصة واحدة ، ولسهم حصتان ، وهكذا إلى سبعة حصص ، ويتركون ثلاثة أسهم لا حصة لها ، ثم يجتمعون عشرة أشخاص فيخرج سهم باسم شخص ويعطى بمقدار حصة السهم لذلك الشخص وهكذا .. بعد ما كانوا يقسمون الجذور ثمانية وعشرين قسما ، أما ثمن الجزور فقد كان على من يخرج باسم السهام التي لا حصة لها. وهذا نوع من القمار فحرمه الإسلام.

(ذلِكُمْ) أي الاستقسام بالأزلام أو جميع ما سبق من المحرمات ، إتيانها (فِسْقٌ) والفسق هو الخروج عن الطاعة وارتكاب المعصية (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) قال في «مجمع البيان» : ليس يريد يوما بعينه ، بل معناه : «الآن يئس الكافرون من دينكم» (١). وروى القمي : إنه يوم نصب الإمام عليه‌السلام (٢) وهذا هو الأوفق بما تواترت به النصوص وذكره المفسرون من شأن نزول آية الإكمال ، فقد كان الكفار يترقبون أن يترك الرسول الأمر سدىّ حتى إذا قبض ولم يقم له خلف انقضوا على الإسلام يهدمونه ، فلما نصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام يئسوا من ذلك حيث كانوا يعلمون كفاية الإمام وقدرته العظيمة ، ولذا لما مات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلم الكفار والمنافقين باغتصاب الخلافة انقضوا على الإسلام يريدون

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٢٧٣.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ص ١٦٢.

٦٠٢

فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً

____________________________________

اقتلاع جذوره وقد علم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك حين وصى الإمام بالصبر وإلا قامت حروب داخلية وخارجية تذهب بالإسلام.

وهنا يتساءل البعض : كيف أن الإمام لما نهض بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون؟ والجواب : أن الظروف التي تقدمت على نهضة الإمام غيّرت معالم الإسلام ، ولذا احتاج الإمام إلى إرساء قواعد الدين من جديد ، وذلك مما يوجب اضطرابا واختلافا شأن الأنبياء حين يدعون أممهم إلى الخير ، لكن الخطر الخارجي كان حين ذاك بعيدا حيث أن الكفار انكمشوا وقوي الإسلام ـ ولو الصوري منه ـ والحروب الداخلية لم تكن تؤثر شيئا بالنسبة إلى انعكاس كفة الإسلام والكفر ، لتميل الكفة الثانية على حساب خفة الكفة الأولى.

(فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يظهروا على دين الإسلام كما كنتم تخشونهم من قبل (وَاخْشَوْنِ) في أن ترتكبوا العصيان وتخالفوا أمر الله والرسل. (الْيَوْمَ) أي يوم الغدير (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بنصب علي عليه‌السلام خليفة من بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) فإن نعمة الإسلام دون نعمة الإيمان بالولاية ناقصة (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فإن الإسلام ذو درجات ، واليوم رقيتم الدرجة القصوى فرضي الله عن المسلمين بالحال التي وصلوا إليها ، و «الرضى» هنا ليس في مقابل السخط بل في مقابل النقص الأثري ، كما أن من يريد بناء دار إذا بلغ منتصفها يقول : لم أرض بعد ، أي لم يكمل رضاي ، وإنما يقول : رضيت الآن ، إذا تم بناء الدار.

٦٠٣

فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)

____________________________________

وقد كان ذلك عند نصب الرسول للإمام أمير المؤمنين خليفته الرسمي بعد منصرفه من حجة الوداع بمحضر مائه وعشرين ألف من الأصحاب من الرجال والنساء ، فصعد المنبر وخطب خطبة طويلة ثم قال : «من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله» (١) وهو آخذ بكف علي. ونزل عن المنبر وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين ، وبقوا هناك ثلاثة أيام حتى تمت البيعة ثم قفلوا راجعين إلى المدينة.

(فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل المحرمات المذكورة (فِي مَخْمَصَةٍ) وهي «القحط» يسمى بذلك لإيجابه خمص البطون جوعا (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي في حال كون المضطر لم يمل (لِإِثْمٍ) فإن «الجنف» بمعنى الميل ، فلا يفرط في الأكل ، كأن يكون محتاجا إلى شرب نصف رطل من الخمر ـ مثلا ـ فيشرب رطلا ، وكذا بالنسبة إلى الميتة وسائر المحرمات (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر هذه السيئة الذاتية بمعنى عدم العقاب عليها (رَحِيمٌ) يرحم الناس فلا يجبرهم على الترك حتى عند أشد الضرورات.

[٥] وبعد بيان قسم من المحرمات ، يأتي السياق لبيان قسم من المحللات لتتعادل الكفتان ، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتل الكلاب (٢) ، فسئل عن الاستثناء ، فنزلت الآية تحلل ما يصطاده

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٩٥.

(٢) فقه القرآن : ج ٢ ص ٢٤٥.

٦٠٤

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ

____________________________________

الكلاب المعلمة والتي فيها نفع ، ونهت عن إمساك ما لا نفع فيه وأمرت بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ) من المأكولات بقرينة السياق (قُلْ) يا رسول الله : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) والطيب هو الشيء الذي لا خبث فيه مما لا ينفر منه الطبع ، وإذن الشارع في بعض المأكولات دون بعض لهذا الميزان ، وإن لم يعرف العرف أن هذا طيب وهذا خبيث ، فما أباحه الشارع فهو طيب وإن ظنّه العرف خبيثا ، وما حرمه الشارع فهو خبيث وإن ظنّه العرف طيبا.

(وَ) أحل لكم صيد (ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) وحذف المضاف أي «صيد» لدلالة قوله : (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ، و «الجوارح» جمع جارحة ، سمي بذلك الكلب وسائر السباع لأنها تجرح الصيد ، ثم خصّص سبحانه عموم الجوارح بقوله : (مُكَلِّبِينَ) أي في حال كونكم أصحاب كلاب معلّمة ، يقال : «كلّب الكلب» إذا علّمه الصيد (تُعَلِّمُونَهُنَ) أي الكلاب الجارحة.

(مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) فإن الله قد علمكم تعليمهن ، ولعل الإتيان بضمير «هن» الذي هو للمؤنث العاقل لانسجام سياق التعليم والتعلم مع ذلك ، وإلا فالقاعدة «تعلموها» كما أن فائدة (مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) لإيقاظ الضمير وتوجيهه إلى الله سبحانه ، فإن القرآن الحكيم يربط الأحكام والقصص بذاك الرباط العام وهو معرفة الله وسوق النفس إليه في كل مقام ومناسبة (فَكُلُوا) أيها الصائدون (مِمَّا أَمْسَكْنَ) أي

٦٠٥

عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)

____________________________________

حفظن واصطدن تلك الكلاب (عَلَيْكُمْ) أي لأجلكم لا لأنفسهن ، فإن ذلك حرام (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي على «ما أمسكن» حين إرسال الكلب. ولا يخفى أن بهذا القيد أي «مكلبين» خرج صيد سائر الجوارح إذا لم يدرك الإنسان ذكاته.

روى الحضرمي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن صيد البزاة والصقور والفهود والكلاب؟ فقال : «لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب». فقلت : فإن قتله؟ قال : «كل ، فإن الله يقول : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ثم قال عليه‌السلام : «كل شيء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب المعلمة فإنها تمسك على صاحبها» (١) وإنما تعدى الإمساك ب «على» لإفادة الإمساك ثقلا ومشقة ، أو يتضمن معنى «الرد» فالكلب يرد بعض الحيوان لصاحبه وقد أكل بعضه ، كما قال سبحانه : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) (٢).

(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما أمركم ونهاكم فلا تتناولوا ما حرمه (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فإن الإنسان وإن ظنّ طول المدة في الدنيا وأنه بعيد جزاؤه ، لكن لا تمض إلا مدة يسيره وإذا به يرى نفسه أمام الحساب. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فكأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا وكأن الآخرة لم تزل لهم دارا» (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٣ ص ٣٣٣.

(٢) الأحزاب : ٣٨.

(٣) نهج البلاغة : خطبة ١٨٦ ص ٣٨٥.

٦٠٦

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ

____________________________________

[٦] (الْيَوْمَ) الذي تمّ فيه بيان كل الأحكام ، ونوجز المحللات فنقول : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهذا عام يشمل الطيب من المآكل والمناكح والمساكن والملابس وغيرها بقرينة «والمحصنات» بخلاف الآية السابقة التي كانت خاصة بالمأكل بحكم السياق ، وهذه الآية تدل على كون الأصل في كل الأشياء الحلّ إلا ما خبث ، ومن المعلوم أن الخبث لا يميّز إلا بالشرع أو بالعقل نادرا (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي الذين أرسل لهم الكتاب السماوي كاليهود والنصارى والمجوس (حِلٌّ لَكُمْ) والطعام إما المراد به الحبوب ، كما هو المروي والمتعارف إلى اليوم ، فإن كلمة «باعة الأطعمة» أو ما أشبهها تنصرف إلى باعة الحبوب ، أو المراد به العام لكل طعام ، وقد استثني من ذلك الذبائح ، لقوله سبحانه : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) (١) ، وألحق به غيره إجماعا ، كما استثني ما لامسة الكتابي برطوبته لأنهم مشركون لقوله سبحانه : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٢) ، وفي آية أخرى حكم بنجاسة المشرك بقوله سبحانه : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (٣) ، وتفصيل البحث في الفقه (٤).

وهنا سؤال يفرض نفسه وهو : ما الفائدة من هذا التنصيص والحال أن طعام غير أهل الكتاب حلّ أيضا؟ والجواب : إنه من باب المورد والقيد الغالب لابتلاء المسلمين به غالبا ، كما يدل على ذلك (وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ومن المعلوم أن طعام المسلم حلّ حتى

__________________

(١) البقرة : ١٧٤.

(٢) الأعراف : ١٩١.

(٣) التوبة : ٢٨.

(٤) موسوعة الفقه : ج ٣.

٦٠٧

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ

____________________________________

للمشرك الوثني ، ثم لو قلنا : إن الجملة عامة لكل طعام ، فهل معنى حلية طعامنا لهم الحلّية بالنسبة إلينا أي أن طعامهم حل لنا ، أو الحلية بالنسبة إليهم أي يجوز لهم أن يطعموه؟ الظاهر الثاني ، وإن كان لا يبعد الأول لأن قاعدة «ألزموهم بما التزموا به» تقتضي كون الحرام عندهم من أطعمتنا كذبائحنا بالنسبة إلى اليهود مثلا ، لا يجوز لهم أن يطعموه. وفي الكلام مناقشة.

(وَ) أحلت لكم (الْمُحْصَناتُ) أي العفيفات اللاتي أحصن أنفسهن عن الحرام (مِنَ) النساء (الْمُؤْمِناتِ) بأن تنكحوهن ، أما الزانيات غير العفيفات فالمشهور بين العلماء جواز نكاحهن بالسّنّة ، ولا مفهوم للآية حتى يمنع عن ذلك ، لما ثبت في الأصول من عدم حجية مفهوم اللقب وإنما خصّصن لأنهن من «الطيبات». (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أعطوا الكتاب (مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم اليهود والنصارى والمجوس ـ والمجوس أهل كتاب على الأصح ـ وقد اختلف العلماء في جواز نكاحهن نكاحا دائما بعد كون المشهور جواز نكاحهن منقطعا ، ولو قلنا بعدم جواز الدائم فهو تخصيص بالسنّة ، وقد ثبت جواز تخصيص الكتاب بالسنة الواردة (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي أعطيتموهن مهورهن ، وليس معنى «الإعطاء» الإعطاء الفعلي بل ذلك وإن كان في المستقبل ، ولا مفهوم للآية بالنسبة إلى الحكم الوضعي حتى يكون : «من لا يريد الإعطاء إطلاقا

٦٠٨

مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ

____________________________________

ولم يعط تحرم عليه المرأة المزوجة» بل المراد : الحكم التكليفي ، أي أن ذلك حرام لا يجوز وهذا تحريض للإعطاء.

في حال كونهم (مُحْصِنِينَ) بالمسلمة أو الكتابية ، بأن كان اقترابكم منهن بالإحصان والنكاح (غَيْرَ مُسافِحِينَ) تأكيد لقوله «محصنين» والسفاح هو الزنا (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) الخدن هو الصديق ، وهو أن ينفرد الرجل بالمرأة يزني بها دائما فهي وهو خدنان ، أي أنه لا يجوز للرجل بالنسبة إلى المسلمة والكتابية ذلك كما لا يجوز العكس. وقد تقدم شبه هذا في سورة النساء ، ومعنى الآية جملة : أن مقاربة المرأة المسلمة العفيفة والكتابية العفيفة يجوز لكم ويطيب ، وأعطوا مهورهن ، لكن اللازم أن يكون الاقتراب بالنكاح لا بالسفاح أو باتخاذهن أخدانا كما يكثر الأمران عند غير المسلمين.

ثم إن ما ذكرناه من المحرمات والمحللات كلها من مقتضيات الإيمان الواجب التمسك به (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) تعبير آخر عن المعصية والخروج عن الطاعة ، ولعل الإتيان بهذه اللفظة هنا لإفادة أن الكفر ـ في باب المحللات والمحرمات ـ ليس بالأصول وإنما هو بالفروع ، وقد تقدم في بعض الآيات أن الكفر قسمان : كفر بالأصول هو الموجب لخروج الإنسان عن كونه مسلما ، وكفر بالفروع ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ كَفَرَ) (١) ، وقال (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) (٢) ، وهو الموجب لكون

__________________

(١) النور : ٥٦.

(٢) إبراهيم : ٨.

٦٠٩

فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ

____________________________________

الإنسان فاسقا (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) معنى «الحبط» عدم استحقاق الثواب على العمل كما قال سبحانه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) ، (وَهُوَ) الكافر بالإيمان (فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) اللذين خسروا أنفسهم حيث استحقوا العقاب حين استحق سائر المطيعين الثواب.

[٧] وفي سياق ذكر الطيبات والملاذ الجسدية يأتي دور الطيبات والملاذ الروحية التي من أكثرها طيبا ولذة الصلاة بما لها من طهارة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) أي أردتم إياها فان المريد لشيء يقوم إليه ليأتي به ، ألا ترى أن الناس يقعدون إلى أشغالهم فإذا أذّن المؤذن قاموا إلى الصلاة ليأتوا بها (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) من قصاص الشعر إلى الذقن طولا ، وما اشتملت عليه الإبهام والوسطى عرضا ، بالماء الطاهر المباح ، غسلا طبيعيا ، من الأعلى إلى الأسفل (وَ) اغسلوا (أَيْدِيَكُمْ) ولما كان المنصرف من «اليد» : تمام اليد إلى الكتف ، أخرجه بقوله : (إِلَى الْمَرافِقِ) فإن الغسل يستثني منه غسل العضد ولذا لا يستفاد من «إلى» هذه كونها غاية للغسل بل المستفاد كونها غاية للمغسول ، فإنك لو قلت لمصاب بالمرض : ادهن رجلك إلى الركبة. لم يستفد عرفا منه لزوم كون التدهين من الإصبع إلى الركبة بل استفيد كون الفخذ خارجا عن التدهين ، وعلى هذا فاللازم الابتداء من الأعلى لأنه الغسل الطبيعي الذي وردت به السنة (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)

__________________

(١) المائدة : ٢٨.

٦١٠

وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً

____________________________________

«الباء» للتبعيض أي : بعض رؤوسكم ، وهو الربع المقدم من الرأس من المفرق إلى قصاص الشعر (وَ) امسحوا (أَرْجُلَكُمْ) والمراد بهما ظهرهما (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) وهما قبتا القدمين ، وإنما قرء بالنصب مع أنه معطوف على المجرور باعتبار المحل ، وقد كان الترتيب المجزي قطعا في باب الوضوء غسل الوجه ثم اليد اليمنى ثم اليسرى ثم مسح الرأس ثم الرجل اليمنى ثم اليسرى ، والمسح ببقية بلل الوضوء.

(وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً) «الجنب» لفظ يقع على المفرد والمثنى والجمع ، والمذكر والمؤنث ، بلفظ واحد ، هو من «البعد» ، كأن الإنسان إذا اعترته هذه الحالة يبتعد من النظافة ، وحصول الجنابة بالإنزال أو الإدخال (فَاطَّهَّرُوا) من «تطهر» ثم أدغمت التاء في الطاء وجيء بهمزة الوصل لامتناع الابتداء بالساكن ، والتطهير هو الاغتسال بالارتماس في الماء مرة واحدة ، أو الترتيب بغسل الرأس والرقبة ثم الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) لا تتمكنون من استعمال الماء للوضوء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي مسافرين ـ وقد سبق أن ذكر السفر لغلبة عدم وجود الماء فيه ـ (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) و «الغائط» هو المحل المنخفض من الأرض وسمي البراز به بعلاقة الحال والمحل وذلك كناية عن الحدث (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) وهو كناية عن الجماع (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) هذا مرتبط بالسفر والحدث واللمس

٦١١

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)

____________________________________

(فَتَيَمَّمُوا) معنى الآية بالجملة : إن مريد الصلاة يلزم عليه الوضوء والغسل إن كان جنبا. وإن كان مريضا يضره الماء أو مسافرا أو مجامعا ، ولم يجد الماء للغسل أو الوضوء فليتيمّم ويبقى قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) فإنه ليس في مرتبة تلك الأمور ، ولعل الإتيان به لمراعاة غلبة التخلي عند إرادة الصلاة.

وقد سبق أن التيمم مصدر باب التفعل بمعنى القصد ، أي اقصدوا (صَعِيداً) أي أرضا (طَيِّباً) ليس بنجس ولا مغصوب (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) الباء للتبعيض ، أي بعض وجوهكم ، وهو من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى (وَأَيْدِيَكُمْ) من الزند إلى رؤوس الأصابع (مِنْهُ) أي مبتدءا بالمسح من ذلك الصعيد ، فاللازم أن يضرب باليدين على الأرض ثم يمسح بها ليصدق «منه».

(ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) من ضيق فأمره بالوضوء والغسل والتيمم ليس لأجل التضييق عليكم (وَلكِنْ يُرِيدُ) الله سبحانه (لِيُطَهِّرَكُمْ) وينظفكم من الأدران والأوساخ الظاهرية والباطنية ، أما تطهير الغسل والوضوء من الأدران فظاهر ، وأما تطهير التيمم فقد ثبت في العلم الحديث أن التراب يقتل الجراثيم بمرتبة أضعف من مرتبة الماء (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بإرشادكم إلى مصالحكم كلها بعد ما أرشدكم إلى أكبر النعم وهو الإيمان (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إياه بما أنعم

٦١٢

وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)

____________________________________

عليكم وأرشدكم إلى مصالحكم وما يقربكم منه سبحانه.

[٨] (وَ) إذ أتم سبحانه نعمته عليكم ف (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ) اذكروا (مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) أي عهده الذي عاهدكم به من الإيمان والسمع والطاعة ، فقد أخذ سبحانه ميثاق الأمم على يد الأنبياء (إِذْ قُلْتُمْ) بعد ما آمنتم : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فعليكم حسب المعاهدة السمع والطاعة وعلى الله الإسعاد في الدنيا والآخرة ، والله سبحانه فعل ما عليه فعليكم أن تفعلوا ما عليكم (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا أوامره ونواهيه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) في «ظلال القرآن» قال : و «ذات الصدور» أي صاحبة الصدور الملازمة لها اللاصقة بها ، وهي كناية عن النيات المقيمة والأسرار الدفينة والمشاعر التي لها صفة الملازمة للقلوب والاستقرار في الصدور وهي على خفائها هناك مكشوفة لعلم الله والله بها عليم.

[٩] ثم يرجع السياق إلى لزوم الجادة وعدم الاعتداء ـ كما سبق ـ في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ) (١) ، كما تجد مثل ذلك كثيرا في القرآن الحكيم حيث يلطف الجو بذكر الصلاة ونحوها ثم يرجع إلى المطلب السابق بعد ما لطف الجو وربطه بالطابع الإلهي العام وأخرج الكلام عن كونه مملّا. ثم إن ما يأتي هو من الميثاق الذي واثق الله

__________________

(١) المائدة : ٣

٦١٣

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)

____________________________________

عباده به (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ) أي كثيري القيام لأمر الله سبحانه ورضاه (شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي بالعدل في كل أمر من الأمور (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي لا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : عداؤهم لكم (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) في الحكم عليهم وعند مخالطتهم ، فإن الإنسان إذا عادى شخصا لا يعدل بالنسبة إليه ـ غالبا ـ انتقاما وشفاء لما في صدره من الضغينة عليه ، ولذا كان من أسس الإسلام قول الحق في الرضى والغضب (اعْدِلُوا هُوَ) أي العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) وليس المفهوم : أن الجور قريب إلى التقوى ، فإن التفضيل في مثل المقام ينسلخ عن معناه اللغوي (وَاتَّقُوا اللهَ) باجتناب نواهيه والإتيان بأوامره (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

[١٠] (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله وما جاءوا به (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) وذلك يلازم ترك السيئات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) وجملة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) في موضع نصب مفعولا ل «وعد» ولعلّ سر الإتيان بالجملة ، إفادة أن المطلب مقطوع به ، فإن الجملة الاسمية تفيد اليقين.

٦١٤

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)

____________________________________

[١١] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) فلم يؤمنوا إيمانا صحيحا (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) براهيننا وأدلتنا التي أقمناها على التوحيد وسائر الأصول (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الذين يصاحبون النار ويخلدون فيها.

[١٢] ثم ذكّر المؤمنين بنعمة من نعمه سبحانه وأنه كيف وفي لهم بميثاقه حيث أنقذهم من كيد أعدائهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَ) أي قصد وأراد (قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) والمراد ب «بسط اليد» إيذاؤهم وقتلهم واستئصالهم. قال القمي يعني : أهل مكة من قبل فتحها ، فكف أيديهم بالصلح يوم الحديبية (١). وقيل : إن المراد بذلك العموم ، أي من أراد السوء بالمسلمين. وقيل : المراد بالقوم خصوص بني النظير حيث أرادوا قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر بذلك فنجى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كيدهم. وقيل غير ذلك (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي منعهم من الفتك بكم بل نصركم عليهم (وَاتَّقُوا اللهَ) بامتثال أوامره واجتناب زواجره (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يكلون إليه سبحانه أمورهم ويجعلونه نصيرا وظهيرا لهم.

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ١٦٣.

٦١٥

وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ

____________________________________

[١٣] لو كانت الآية السابقة حول بني النظير ـ وهم من اليهود ـ لكان الارتباط بين الآيتين واضحا ، إذ بيّن سبحانه هنا أنهم خانوا الأنبياء مع ما تفضل الله عليهم بكل خير ونعمة ، فكيف لا يريدون خيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ويحتمل أن يكون الارتباط من جهة الميثاق فيريد سبحانه أن يذكر المسلمين حتى لا يكونوا كاليهود الذين خانوا ونقضوا الميثاق بعد أخذه منهم إذ قد سبق قوله : (وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) (١) (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) العهد الأكيد الذي أخذه الله منهم على لسان أنبيائه (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) من «النقب» وهو الكشف ، فكأن النقيب ـ وهو كفيل القوم ـ ينقب عن أسرارهم ويكشف ضمائرهم ليسير بهم نحو الخير والصلاح في المجتمع. أي أمرنا موسى بأن يبعث من الأسباط الاثني عشر ، اثنى عشر رجلا كالطلائع يتحسّسون ويأتون بني إسرائيل بأخبار أرض الشام وأهلها الجبارين ، فاختار من كل سبط رجلا يكون لهم نقيبا ـ أي أمينا كفيلا ـ فرجعوا يثنون قومهم عن قتالهم لما رأوا من شدة بأسهم وعظم خلقهم إلا رجلين منهم ، بن يوقنا ويوشع بن نون (وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ) أي قال لبني إسرائيل ، وكونه معهم بمعنى أنه يؤيدهم وينصرهم ويهديهم (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) يا معشر بني إسرائيل (وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) أي أعطيتموها

__________________

(١) المائدة : ٨.

٦١٦

وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً

____________________________________

(وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) الذين يأتون من بعد موسى عليه‌السلام ولذا أخّر الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي عظمتموهم ، أو نصرتموهم (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي أنفقتم في سبيله ، فإنه كالقرض الذي يعطى ثم يؤخذ ، والمراد بكونه «حسنا» أن لا يكون فيه منّ ولا أذى ولا دواع غير الله سبحانه (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ) أي أذهبن ، ومعنى «التكفير» التغطية ، أي أغطي بالغفران (سَيِّئاتِكُمْ) التي صدرت منكم ، وهو جواب (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ)(وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورها وبساتينها (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد أخذ الميثاق (مِنْكُمْ) يا بني إسرائيل (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي أخطأ وسط الطريق ، فإن سواء كل شيء وسطه.

[١٤] (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي بسبب نقض اليهود ميثاقهم الذي كان بيني وبينهم حيث أنهم تركوا الصلاة ومنعوا الزكاة وكذبوا بالرسل وقتلوهم (لَعَنَّاهُمْ) أي طردناهم عن ساحة القرب وقطعنا رحمتنا عنهم حيث جعلنا بعضهم قردة وخنازير وجعلناهم مشردين مطرودين دائما لا تقوم لهم قائمة (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق

٦١٧

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ

____________________________________

وتميل نحو الظلم والكفر. وجعله سبحانه قلوبهم قاسية ، بمعنى : تركه اللطف بهم حتى تردّت ملكة أخلاقهم ، كمن يعصي أستاذه في أوامره فيترك تدريسه وتهذيب أخلاقه حتى يصبح جاهلا ذا أخلاق سيئة.

(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) جمع كلمة (عَنْ مَواضِعِهِ) وتحريفهم الكلم على قسمين : قسم بمحو بعض التوراة ، وقسم بتأويله على غير المعنى المقصود منه.

(وَنَسُوا حَظًّا) أي قسما (مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي من الأحكام التي ذكّرناهم بها في التوراة فإنه قد فقد بعض التوراة مما لا يعلّمونه للناس ، أو المراد من «النسيان» أنه صار كالمنسي عندهم من جرّاء عدم العمل ، فإن النسيان يطلق على ما أهمله الإنسان يقال : «نسيني» أي أهملني ، وقال سبحانه : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) ، (وَلا تَزالُ) يا رسول الله (تَطَّلِعُ) باستمرار (عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) أي طائفة خائنة ، أو نفس خائنة ، إذا قالوا قولا خالفوه وإذا عاهدوا عهدا نقضوه ـ كما أراد بنو النظير الغدر به والخيانة بعد الميثاق ـ (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) إما استثناء من الجميع أو من الجملة الأخيرة ، فإن «قليلا منهم» ليسوا كذلك كعبد الله بن سلام ، أو إن «قليلا منهم» لا يخون (فَاعْفُ عَنْهُمْ) أي عن

__________________

(١) التوبة : ٦٧.

٦١٨

وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

____________________________________

هؤلاء (وَاصْفَحْ) أي تجاوز ، فإنك لست منتقما ، وأن ذلك ليس من شأنك (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) فإن العفو والصفح إحسان ، والإحسان محبوب حتى بالنسبة إلى المجرم.

[١٥] هذا كان شأن اليهود ، أما النصارى فليسوا أحسن حالا من اليهود في بعض الجهات (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) قولا باللفظ لا اعتقادا بالقلب ، كما تقول : فلان يقول إني مسلم ، تريد بذلك أنه ليس بمسلم حقيقة بل مسلم قولا (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ) من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل واتباع أوامر الله (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) كما نسي اليهود ذلك من ذي قبل (فَأَغْرَيْنا) التسليط والتحرّش والتحريض (بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) فإنهم انقسموا إلى أقسام وأخذ بعضهم يعادي بعضا عداء لا مثيل له ، حتى إن عداء بعضهم بلغ إلى حد لم يبلغ عداؤهم لليهود والمسلمين والوثنيين ، وقد شهد التاريخ قديما مذابح في فرق النصارى ومعاداة الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس فعلا لا يحتاج إلى برهان ، وهذه إحدى معجزات القرآن الحكيم ، كإخباره عن ذلّة اليهود (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (١).

__________________

(١) البقرة : ٦٢.

٦١٩

وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ

____________________________________

وهنا سؤال وهو : كيف يكون إلى يوم القيامة ، وفي زمان المهدي عليه‌السلام الكلّ يسلم وجهه إلى الله؟ ثم إن يوم القيامة إنما يكون بعد موت الناس عشرات السنوات؟

والجواب : إن هذا معناه : بقاء العداوة ما بقوا ، يعبّر عن استمرار الشيء إلى الآخر بمثل هذا التعبير.

(وَسَوْفَ) في يوم القيامة (يُنَبِّئُهُمُ اللهُ) أي يخبرهم سبحانه (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) ويقف التعبير إلى هذا الحد ليرسم صورة من التهديد ، كما تقول للمجرم : غدا أنبئك بما عملت اليوم ، تريد بذلك تهديده بالعقاب القاسي.

[١٦] ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب بصورة عامة لهدايتهم سواء السبيل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) أيها اليهود والنصارى ـ ولعل المجوس أيضا داخلون في الخطاب ـ (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) من أحكام الله سبحانه التي عارضت مصالحهم فأخفوه عن الناس إبقاء على كيانهم وانحرافهم (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) ممّا استوجبوه من العقاب ، أو يعفو عن بعض الأحكام التي أوجبت عليهم العقوبة ، كما قال سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ

٦٢٠