تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ

____________________________________

(فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) هنا حيث يمكن الإخفاء والمجادلة بما يظن الناس أنه حق وهو في الواقع باطل (فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) استفهام إنكاري ، أي ليس هنالك من يجادل عنهم في محضر عدل الله سبحانه الذي يطلع على السرائر والواقعيات (أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) يتوكل عنهم في إنقاذهم من عملهم الذي صنعوه خفية. والاستفهام في معنى الإنكار ، أي ليس هناك وكيلا يدافع عنهم ، ولعل الفرق بين «من يجادل» و «من يكون» أن المجادل لا يلزم أن يكون وكيلا فقد يوكل الإنسان من يدافع عنه ، وقد يدافع عنه شخص تبرعا.

[١١١] ثم بيّن سبحانه أن لا يأس من روح الله ، وأن الآثم لا يظن أنه قد انقطعت الصلة ، بل باب التوبة مفتوح (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) بإتيان معصية تتعداه إلى غيره كالزنا والسرقة (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بمعصية لا تتعداه ، كشرب الخمر وترك الصلاة. ومن المعلوم أن كل ظلم للنفس وكل سوء ظلم ، لكن حيث تقابلا في التعبير فرقنا بينهما بما لعله المستفاد من السياق (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) يطلب غفرانه بما أمر من التوبة والتدارك ، إن كان للعصيان له تدارك (يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ذنبه ويتفضل عليه بالرحمة والمنّ.

[١١٢] (وَ) لا يظن الآثم أنه أضر الغير وربح نفسه ، بل بالعكس فإنه (مَنْ

٥٤١

يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢)

____________________________________

يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) إذ كل خير يفعله الإنسان يعود إلى نفسه ، وكل عصيان يأتي به يعود إلى نفسه ، و (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بما يكسبه الإنسان (حَكِيماً) في عقابه وثوابه يضع الأشياء مواضعها ، فلا يظن أحد أنه يعصي ثم يفرّ من عدل الله ، أو أنه ما الفائدة من الخير الذي لا يعود نفعه إليه؟ إنه سبحانه حكيم ، وقد تقدم أن الحكمة وضع الأشياء مواضعها.

[١١٣] (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) لعلّ الفرق بينهما كون الأول لا عن عمد ، والثاني عن عمد ، وهذا الفرق إنما هو في المقام حيث تقابلا ، وإلا فالخطيئة تطلق على كل إثم. (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) من «رمى يرمي» أي ينسب ذنبه إلى إنسان بريء ، كما سبق في قصة ابن أبيرق (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) أي إثم البهتان ، وهو رمي الناس بالذنب كذبا (وَإِثْماً مُبِيناً) أي معصية واضحة ، فهو يتحمل إثمين إثم العمل وإثم البهتان. وهذا لا ينافي ما احتملنا في الخطيئة إذ الخطأ ينقلب إثما إذا تمادى الإنسان في توابعه ، ولم يتداركه.

[١١٤] في بعض التفاسير : أن وفدا من ثقيف قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا ، وعلى أن نمتّع بالعزى سنة. فلم يقبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبهم ، وإنما قبل منهم

__________________

(١) الطور : ١٧.

٥٤٢

وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

____________________________________

الإسلام بجميع شرائطه (١) ، فأنزل الله سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) بتأييدك من لدنه وتثبيتك على الصحيح الحق (لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي قصدت وأضمرت جماعة من هؤلاء ـ والضمير عائد إلى المقدّر ، نحو : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (٢) ـ (أَنْ يُضِلُّوكَ) بأن تجيز لهم ما أرادوا. وقيل إن الآية من تتمة قصة ابن أبيرق وما أراده المزكي من تزكية السرّاق وإلقاء التهمة على البريء.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ وبال كلامهم يعود إلى أنفسهم فهم يزيلون أنفسهم عن الحق ويهلكونها ، لا أنهم يزيلونك ويهلكونك ، ثم المراد بقوله «لو لا» نفي تأثير ما همّ به أولئك في الرسول لا نفي همّهم ، فالمراد : أنه لو لا فضل الله لأضلوك ، لا أن المراد : لو لا فضل الله لهمت طائفة .. (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ) فإنهم لا يضرونك ـ بكيدهم ـ في الدنيا لأن الله ناصرك ، ولا في الآخرة (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ) يا رسول الله (الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي علم وضع الأشياء مواضعها وتقدير الأشياء بأقدارها ، فأنت العالم بالأشياء الحكيم في التطبيق ، فكيف يمكن إضلالك ـ كما همّ أولئك ـ فإن الإضلال يحصل لمن لا يعرف الأشياء أو لا يتمكن من وضع الأشياء مواضعها

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٨٨.

(٢) النساء : ١٢.

٥٤٣

وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ

____________________________________

(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من الأمور الخارجة عن نطاق الكتاب ، فإن الكتاب خاص بعلم بعض الأشياء ـ حسب الظاهر ـ (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ) يا رسول الله (عَظِيماً) وارتباط الآية بما قبلها على القول الأول ـ أي كونها حول وفد ثقيف ـ كون القصتين من واد واحد حيث حفظ الله الرسول في قصة السرقة وفي قصة الوفد حتى لا يقول ولا يعمل إلا بالحق.

[١١٥] وبمناسبة الحديث عن المؤامرات التي تجري في السر ، ويتناجى في شأنها المبيّتون ، وحيث أن في مثل هذه القضايا لا بد وأن تكثر النجوى وغالبها حول النقد والرد والطعن ، يذكر القرآن حكم النجوى ، وأنه (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) أي حديث بعضهم مع بعض سرّا وذكر «كثير» إما من باب المورد ، فإنه في مثل الموارد السابقة يكثر النجوى ، وإما أن المراد : الكثير من النجوى لا خير فيه ، أما القليل الذي لا بد لكل أحد حيث عنده بعض الأسرار التي يجب الإعلان عنها فلا بأس به ، لكن الظاهر المعنى الأول ، وأن المفهوم المطلق للنجوى كما قال سبحانه : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) (١) (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) بأي قسم منها من المال على الفقراء ، أو الوقف ، أو الإحسان (أَوْ) أمر ب (مَعْرُوفٍ) من أبواب البر الذي يعرفه الناس ـ ومنه سمي المعروف معروفا مقابل المنكر

__________________

(١) المجادلة : ١١.

٥٤٤

أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ

____________________________________

الذي هو ما ينكره الناس ـ (أَوْ) أمر ب (إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) فإن الحاجة غالبا تدعو إلى الإسرار بهذه الأمور لتكمل ولا يمنع عنها مانع (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي النجوى في هذه الأمور ، أو المراد : من فعل أحد هذه الأمور (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) أي طلب رضاه سبحانه (فَسَوْفَ) في القيامة (نُؤْتِيهِ) أي نعطيه (أَجْراً عَظِيماً) مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ـ كما هو كذلك في كل طاعة ـ.

[١١٦] وحيث تقدم في القصتين مخالفة الجماعتين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أرادوا ، بيّن سبحانه أن عاقبة المخالفة وخيمة (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ) أي يخالفه ، ومعنى المشاقة أي يكون كل واحد في شق غير شق الآخر (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) أي ظهر له الحق وأن الرسول لا يقول ولا يعمل إلا بالحق ـ أما من قبل التبيين فالمشاقّ معذور لعدم تمام الحجة عليه ـ (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) أي غير طريقهم الذي هو دينهم ، وهذا أعم من الأول ، وإن كان في مخالفة الدين مشاقة للرسول بالنتيجة (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) أي نخلي بينه وبين معتقده وعمله فلا نجبره على الرجوع ، لأن الدنيا للاختبار والامتحان والجبر ينافي ذلك ، كما قال سبحانه : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١) (وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) من «أصلاه

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧.

٥٤٥

وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً

____________________________________

يصليه» أي أدخله النار ، أي نتركه في الدنيا على حاله وندخله يوم القيامة النار (وَساءَتْ) جهنم (مَصِيراً) أي محلّا يصير إليه المجرمون.

[١١٧] وبمناسبة ذكر مشاقة الرسول ، يبيّن سبحانه أنه لا يأس من رحمة الله تعالى ، فمن تاب كان الله غفورا ، فإذا أخطأ أحد فليرجع إلى الله تعالى ، ليغفر ذنبه ويتوب عليه (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) إذا مات مشركا كما دل الدليل (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) أي دون الشرك (لِمَنْ يَشاءُ) إن تاب وإن لم يتب فذلك رهن إرادته سبحانه ، والإرادة ليست اعتباطا ، بل حسب النفسيات والأعمال والقابليات وما أشبه (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) أي يجعل له شريكا (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) أي عن طريق الحق.

[١١٨] ثم يبيّن سبحانه وجه ضلال المشركين بصورة فردية قبيحة فقال تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ) أي ما يدعون ويعبدون (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (إِلَّا إِناثاً) جمع أنثى ، فإنهم كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة وأساف ونائلة ، وكان لكل قبيلة صنم تعبده ، وكانوا يسمون الأصنام أنثى فيقولون : أنثى قريش وأنثى تميم ، وكان الشيطان يكلمهم منها أحيانا ، كما أن قسما منهم كان يعبد الملائكة ويقول : إنها بنات الله ، كما حكى سبحانه عنهم : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١)

__________________

(١) الزخرف : ٢٠.

٥٤٦

وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ

____________________________________

(وَإِنْ يَدْعُونَ) أي ما يدعون (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) أي ماردا ، فإن «المريد والمارد والمتمرد» بمعنى واحد ، وهو العاصي العاتي ، وكانت عبادتهم للشيطان عين عبادتهم للأصنام إذ هي من صنع الشيطان وأمره فلا يستشكل بأنه كيف يجمع بين النفيين؟

[١١٩] (لَعَنَهُ اللهُ) أي طرد الله الشيطان عن رحمته وقربه ، فهؤلاء يعبدون ويطيعون المطرود عن رحمة الله (وَقالَ) الشيطان لله سبحانه حين طرده : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ) أي عبيدك (نَصِيباً مَفْرُوضاً) أي معلوما ، والمراد من اتخاذه لهم : إضلالهم وإغوائهم عن الإيمان والعمل الصالح ، وقد كان الشيطان يعلم ذلك حين قال له سبحانه : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) (١) و (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) (٢).

[١٢٠] (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن طريق الهداية ، وهذا إما عطف بيان لقوله «اتخذن» أو المراد من الاتخاذ الاختصاص أي أختص بجملة من عبادك فأضلهم (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) من الأمنية أي أمنينهم طول البقاء في الدنيا وحب الرئاسة والمال حتى يعصون (وَلَآمُرَنَّهُمْ) بالوسوسة والإلقاء في قلوبهم (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) من «بتك يبتك» بمعنى «قطع يقطع» فقد كان المشركون يقطعون آذان الأنعام علامة على حرمة

__________________

(١) الإسراء : ٦٤.

(٢) ص : ٨٦.

٥٤٧

وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)

____________________________________

ركوبها وأكلها وشرب لبنها ، وكان ذلك حراما إذ هو من المثلة وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور» (١) كما أن تحريمهم كان بدعة وتشريعا محرما (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) من التغييرات المحرمة كإخصاء العبد وفقء عين الدابة والتمثيل بالأحياء والأموات وما أشبه ذلك. ويستفاد من الآية أن كل تغيير في الخلق حرام إلا ما دل عليه الدليل.

وبعد ما ذكر سبحانه بعض أقسام وساوس الشيطان التي كانت دارجة في ذلك الزمان وإلى زماننا هذا ، جعل الكل في إطار عام ، وأعطى القاعدة الكلية المنطبقة على كل جزئي بقوله سبحانه : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) يلي أموره ويطيع أوامره (مِنْ دُونِ اللهِ) قيد توضيحي للتهويل ، لا أنه من الممكن الجمع بين تولي الشيطان وتولي الله سبحانه (فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) أي خسرانا ظاهرا.

[١٢١] (يَعِدُهُمْ) أي يعد الشيطان أولياءه النصر والسعادة إن اتبعوه (وَيُمَنِّيهِمْ) بالأماني الكاذبة الباطلة حتى يركنوا إلى الدنيا ويتركوا الآخرة ويرجّحوا الشهوات على الأعمال الصالحة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) فكل وعوده غرور وكذب يغرّ به البسطاء الغافلين.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٩ ص ١٢٨.

٥٤٨

أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢)

____________________________________

[١٢٢] (أُولئِكَ) الذين اتخذوا الشيطان وليا وناصرا (مَأْواهُمْ) أي مرجعهم ومحلهم (جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها) أي عن جهنم ، فإنها «مؤنثة سماعية» (مَحِيصاً) أي مخلصا ومهربا ، من «حاص» بمعنى عدل وانحرف.

[١٢٣] هذا لمن اتخذ الشيطان وليا ، أما من اتخذ الرحمن وليا (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بما يجب الإيمان به من أصول الدين (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الحسنة (سَنُدْخِلُهُمْ) قيل : إن «السين وسوف» بمعنى واحد ، وقيل : إن السين للمستقبل القريب ، وتستعمل الكلمتان بالنسبة إلى الجنة باعتبارين : فباعتبار أن كل آت قريب تستعمل السين ، وباعتبار فصل البرزخ الطويل تستعمل سوف (جَنَّاتٍ) جمع «جنة» وهي البستان ، سمي بها لكونها مستورة بالأشجار من «جن» بمعنى ستر ، ومنه «الجنّ والجنين والجنّة» (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا انقطاع لها ولا زوال (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أي وعد الله ذلك وعدا في حال كونه حقا ، أو متصفا بكونه حقا ، لا خلف فيه ولا كذب (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) أي من حيث القول ، فهو أصدق القائلين ، خبيرا ومخبرا ، والاستفهام في معنى النفي ، أي لا أصدق من الله ، والسبب أن

٥٤٩

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ

____________________________________

الإنسان مهما أوتي من الصدق ، فإنه قد يجهل وقد لا يقدر وقد يشتبه ، والله منزّه عن جميع ذلك.

[١٢٤] ثم يبين السياق القاعدة الكلية للعمل والجزاء ، بعد ما بيّن ما لمن أشرك وما لمن آمن؟ فقال سبحانه : (لَيْسَ) أمر الثواب والعقاب والسعادة والخسران (بِأَمانِيِّكُمْ) جمع «أمنية» بمعنى رغبة النفس ، فلا ينال الإنسان خيرا بالأماني فيما إذا كان عمله خلاف ذلك ، والخطاب للمسلمين (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) في «المجمع» قيل : تفاخر المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم. فقال المسلمون : نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب ، وديننا الإسلام. فنزلت الآية ، فقال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء. فأنزل الله الآية التي بعدها (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ..) ففلح المسلمون (١).

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) فإن الذي ينفع عند الله هو العمل الصالح ، أما الأنساب والأحساب وما أشبه فلا تنفع إلا بقدر ما يرجع إلى العمل أيضا كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المرء يحفظ في ولده» (٢) ولذا من عمل عملا سيئا يجز به. وبما ذكرنا تبين أن حفظ نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما يرجع إلى أتعاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام.

(وَلا يَجِدْ) العامل للسوء (لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) غير الله

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٩٧.

(٢) البحار : ج ٢٨ ص ٣٠٢.

٥٥٠

وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ

____________________________________

(وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) فلا أحد يتولى أمره وينصره.

[١٢٥] ولما كان الأمر محتملا لأن يشمل أهل الكتاب إذا لم يعملوا سوءا طبقا للمفهوم من الآية السابقة ، ذكر سبحانه أن من شروط قبول الأعمال الخيرة الإيمان الكامل (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي بعض الصالحات فإن الصالحات كلها لا يمكن أن يؤتى بها (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) ولعل التنصيص هنا لإفادة العموم ، ولدفع وهم جري التقاليد الجاهلية ، التي كانت تقضي بأكل الرجال ثمار الأعمال الطيبة للنساء ، وحرمان النساء من الحقوق (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ـ بما في الكلمة من معنى ـ لا إيمان ببعض الأصول دون بعض (فَأُولئِكَ) العاملون المؤمنون (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) أي قدر نقير ، وهو النكتة الصغيرة المنخفضة في ظهر النواة التي منها تنبت.

[١٢٦] ثم بيّن سبحانه فوائد الإيمان ومزاياه وأنه أحسن من جميع الطرق والمذاهب (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) الدين هو الطريقة التي يسلكها الإنسان في حياته لأجل نيل السعادة ، والاستفهام في معنى الإنكار أي ليس أحد أحسن طريقة (مِمَّنْ أَسْلَمَ) وأخضع (وَجْهَهُ لِلَّهِ) والمراد بالوجه : الذات والنفس ، وإنما ذكر الوجه لأن خضوع الوجه كاشف عن خضوع الذات ، ومعنى إسلام الوجه الإيمان بالله حيث أنه اعترف

٥٥١

وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)

____________________________________

به وخضع له (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي يحسن العمل فيتبع الأوامر والنواهي ، وإنما لم يكن أحد أحسن دينا من هذا الإنسان لأن الإيمان اعتراف بالحقيقة الكبرى ، والإحسان ، عمل بما هو الأصلح ، إذ ما يقرره الإله العليم الحكيم أحسن مما يقرّره الإنسان الجاهل ذو الطيش والسفه (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي طريقته (حَنِيفاً) أي في حال كون إبراهيم عليه‌السلام مستقيما في الطريق عقيدة وعملا فإيمان وإحسان واتباع طريقة صحيحة. وقد تكرر في الكتاب والسنة لزوم اتباع إبراهيم عليه‌السلام لأن دينه لم يكن يتطرّق إليه التحريف الذي تطرق إلى كتابي الكليم والمسيح عليهما‌السلام بالإضافة إلى أن موسى وعيسى عليهما‌السلام كانا بعد إبراهيم عليه‌السلام وأنه عليه‌السلام بصفته أب المسلمين العرب ، كان ذكره محفّزا لهم على الإيمان ، إنه طريقة جدهم كما قال سبحانه : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (١) (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) من الخلة ، بمعنى الحب والود لإبراهيم عليه‌السلام بإطاعته لله صار خليل الله ، فما يمنع الناس أن يتبعوا طريقة إبراهيم ، كي ينالوا حب الله ورضاه.

[١٢٧] وأخيرا فمن الأحسن اتباع طريقة الإله الذي له كل شيء وهو العالم بكل شيء (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فهو المالك لكل شيء ، وإذا أراد الإنسان اتباع طريقة للنفع فليتبع طريقة من له كل نفع (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) أي إحاطة علمية لا يعزب عنه شيء ،

__________________

(١) الحج : ٧٩.

٥٥٢

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ

____________________________________

وإحاطة بالقدرة ، إذ المحيط بالشيء يقدر عليه.

[١٢٨] قد سبق قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (١) وقد سبق الكلام في الآيات التالية حول هذا الموضوع مع شيء من الاستطراد. ثم يأتي السياق ليبين بعض أحكام النساء ، فإنه من الحكم بين الناس بما أراه الله سبحانه (وَيَسْتَفْتُونَكَ) يا رسول الله (فِي النِّساءِ) أي يسألونك الفتوى ـ وهو تبيين المشكل من الأحكام ـ فقد سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الواجب لهن وعليهن وكيفية معاشرتهن (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) أي في النساء وإنما نسب الجواب إلى الله سبحانه لتقوية إفادة أن الحكم لا يصح إلا من الله سبحانه ، فليس لأحد أن يحكم إطلاقا ، وقد سئل مثل هذه الأسئلة في غير الأحكام فجاء الجواب بدون النسبة إليه تعالى ، نحو : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) (٣) (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) (٤) وهكذا.

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) عطف على «الله» أي أن الفتوى في باب النساء تأخذونه من الله سبحانه بما سيأتي ، وتأخذونه بما تلي عليكم في القرآن سابقا ، فقد سبق في ابتداء السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) (٥) ، (وَآتُوا الْيَتامى

__________________

(١) النساء : ١٠٦.

(٢) الإسراء : ٨٦.

(٣) البقرة : ٢١٦.

(٤) البقرة : ١٩٠.

(٥) النساء : ٤.

٥٥٣

فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ

____________________________________

أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (١) والحاصل أن الفتوى ـ أي تبيين مسائل النساء ـ يأتي فيما يقول الله وفيما سبق. (فِي يَتامَى النِّساءِ) أي البنات الصغيرات اليتيمات (اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَ) أي لا تعطوهن (ما كُتِبَ لَهُنَ) من الصداق فقد كان أهل الجاهلية لا يعطون اليتيمة صداقها لتمنع هذه العادة فقوله «في يتامى» متعلق ب «ما يتلى» ، أي تأخذون الفتوى في أمر النساء من الله ومما تلي عليكم سابقا في باب النساء اليتامى اللاتي تحرمونهن من مهورهن (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تريدون نكاحهن لأكل أموالهن. ثم إن قوله «وما يتلى» بصيغة المضارع للاستمرار لا الاستقبال. (وَ) ما يتلى عليكم في (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) أي ما تقدم في باب أمر الأيتام ، وهو قوله سبحانه : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) فإنه عام يشمل اليتيمات أيضا (وَ) ما يتلى عليكم في (أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) أي بالعدل كما تقدم في قوله (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) وعلى هذا فقوله «وما يتلى» إلى «بالقسط» جملة واحدة ، عطف على «الله».

والحاصل أن الله يفتيكم ، وما تقدم في القرآن من آيات اليتامى

__________________

(١) النساء : ٣.

٥٥٤

وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ

____________________________________

يفتيكم به أيضا ، ثم جمع سبحانه الكل في إطار عام فقال : (وَما تَفْعَلُوا) أيها المؤمنون (مِنْ خَيْرٍ) عدل وإحسان بالنسبة إلى النساء (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً) يعلمه ويجازيكم عليه بحسن الثواب.

[١٢٩] ثم توجه السياق إلى بعض أحكام النساء إيفاء لقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) وذلك حكم خوف النشوز ، فقد كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج وكانت قد دخلت في السن وكانت عنده امرأة شابة سواها فطلقها تطليقة حتى إذا أبقى من أجلها يسيرا ، قال إن شئت راجعتك وصبرت على الأثرة ، وإن شئت تركتك. قالت : بلى راجعني وأصبر على الأثرة فراجعها ، فنزلت (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) أي من زوجها (نُشُوزاً) ارتفاعا عليها بأن لا يعاملها معاملة الأزواج ، بل يعاملها وكأنه أرفع منها (أَوْ إِعْراضاً) أي يعرض عنها إطلاقا ، أو طلاقا ، وقد خافت لظهور أمارات ذلك (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الزوجين (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما) الضمير في «يصلحا» راجع إلى الزوجين ، أي يصطلحا فيما بينهما (صُلْحاً) أي نوع من أنواع الصلح الجائز ، فتتنازل هي عن بعض حقوقها ليبقى النكاح على حاله ولا تحصل الفرقة ، أو نحوها (وَالصُّلْحُ) بينهما ببقاء عقد الزواج والألفة (خَيْرٌ) من الافتراق والشقاق (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) الشح البخل وعدم التنازل عن الحقوق ، أي أن الأنفس يخالطها الشح ، فلا هي ترغب أن تتنازل عن بعض حقوقها لتبقى

٥٥٥

وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ

____________________________________

الألفة ، ولا الزوج مستعد لأن يعاشرها معاشرة صالحة لئلّا ينتهي الأمر إلى الطلاق (وَإِنْ تُحْسِنُوا) يحسن أحد الزوجين إلى الآخر (وَتَتَّقُوا) فلا تفعلوا ما يوجب سخط الله ، فإن الغالب أن يرتكب أحد الطرفين الحرام ، فيما إذا حدث بينهما صدام (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم عليه. ولا مفهوم للآية بأنه «إن لم تحسنوا فلا يعلم الله» كما هو واضح ، بل الشرط أتي به للتحريض والترغيب.

[١٣٠] ثم ذكر سبحانه حكم تعدّد الأزواج ، وأنه لا يمكن التسوية بينهن في الحب والود ، فإذا كان الميل القلبي يميل كليّا إلى جهة ، فاللازم حفظ العدالة بين الزوجات ، لئلّا يبقى بعضهن كالمعلقة (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) أيها الرجال أبدا (أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) عدالة في المودة والحب ، فإنه ليس بأيديكم ، ولا بد أن تكون بعض النساء أقرب إلى قلوبكم من بعض (وَلَوْ حَرَصْتُمْ) في العدالة القلبية (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) إلى جانب امرأة من زوجاتكم المتعددات (فَتَذَرُوها) أي المرأة التي لا تميلون إليها (كَالْمُعَلَّقَةِ) التي علقت فلا هي مستريحة بالزوج ولا هي مستريحة بعدم الزوج ، فتكون في عذاب وشقاء ، وإذا لم يكن باستطاعتكم العدالة فباستطاعتكم عدم الميل الكلي.

وقد روي عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقسم بين نسائه ويقول :

٥٥٦

وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ

____________________________________

«اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (١).

وقد ورد أنه سئل الصادق عليه‌السلام عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) (٢) فقال أما قوله : (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) فإنه عني في النفقة ، وأما قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) فإنه عني في المودة ، فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة (٣).

(وَإِنْ تُصْلِحُوا) بالتسوية في القسمة والنفقة الواجبتين (وَتَتَّقُوا) باجتناب المحرمات ، وذلك بترك الميل الكلي الذي نهى الله عنه (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر ما صدر منكم من الذنوب (رَحِيماً) يرحمكم بلطفه ويسبغ عليكم فضله.

[١٣١] (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) فيما إذا لم يصطلح الزوجان ، بل طالبت هذه بكل حقوقها وأراد الرجل الميل ، فخيّرها بين الطلاق والتنازل عن بعض حقوقها ، فاختارت الطلاق ، فتفرقا ووقع الافتراق (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) من الزوجين (مِنْ سَعَتِهِ) أي سعة فضله ورحمته ، فليس بابه مرتجا في وجه أي من الطرفين ، بل الرجل يستغني عن هذه المرأة بامرأة أخرى وعيشة أخرى ، والمرأة تستغني عن هذا الرجل برجل آخر وسعادة هنيئة. وفي هذه الجملة لفتة مشرقة لجبر انكسار قلبي الطرفين ، إذ من المعلوم أن كلّا منهما ينكسر قلبه حين الافتراق ، ولو كان هو السبب

__________________

(١) تفسير التبيان : ج ٣ ص ٣٤٩.

(٢) النساء : ٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٠ ص ٢٠٢.

٥٥٧

وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

____________________________________

في الفراق (وَكانَ اللهُ واسِعاً) في فضله (حَكِيماً) فيما يأمر وينهى ويفعل ويريد ، ونسبة السعة إليه يراد به السعة في فضله «مجازا».

[١٣٢] ثم ذكر سبحانه أنه يملك كل شيء فهو يقدر على إغناء الزوجين من فضله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قد تقدم أن المراد ب «ما في» الأعم من الظرف والمظروف (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم (مِنْ قَبْلِكُمْ) إشارة إلى كون الوصية لم تزل من القديم (وَإِيَّاكُمْ) أي وصيناكم أيها المسلمون (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه ، فاعملوا بالأوامر والنواهي (وَإِنْ تَكْفُرُوا) كفرا في العقيدة بإنكار الأصول ، أو كفرا في الفروع بالعصيان (فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يضره كفركم ولا ينفعه إيمانكم وعملكم (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) لا يحتاج إلى إيمانكم ولا إلى أعمالكم وإنما أنتم تحتاجون إلى ذلك (حَمِيداً) أي مستوجبا عليكم الحمد له لصنائعه الحميدة.

[١٣٣] ثم يؤكّد غناه سبحانه وأن له كل شيء بقوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ليس شيء لغيره ، فإذا قطع عنكم رحمته لا تحصلون

٥٥٨

وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)

____________________________________

على ما تريدون من غيره (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي أنه أحسن وكيل وأكفى وكيل ، فلا يحتاج الإنسان إلى وكيل آخر إذا وكله سبحانه في أمره. وقد قيل في وجه التكرار في الآيتين ثلاث مرات أن الأولى : لإيجاب طاعته ، حيث له كل شيء والمالك تجب طاعته على المملوك ، والثانية : لأن الخلق محتاجون إليه وهو الحميد المطلق ، فن ذلك لا يكون إلا لمن له كل شيء ، والثالثة : لبيان أنه يكفي توكيله مطلقا ، فإن ذلك لا يكون إلا لمن يملك كل شيء.

[١٣٤] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ) إنه في غنى عنكم ، وقدرته تعمّكم فناء وإيجادا ، فإن أراد أذهبكم وأفناكم وأهلككم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أناسا آخرين يوجدهم من العدم (وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً) يقدر على إنفاذه.

[١٣٥] ولقد كان المنافقون يتبعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للغنيمة وللتحفظ على دنياهم ، وحيث تقدم أن لله ما في السماوات والأرض ، ذكّرهم بأن الإطاعة توجب خير الدنيا والآخرة ، فلم لا يسلكون أنفسهم في سلكها (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) أي منافعها ، فإن الثواب من «ثاب» بمعنى رجع ، لأن الثواب جزاء العمل الصادر من الإنسان ، يرجع إليه (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إذ يملك الجميع وبيده أزمة الكل ، فلم لا يطيعون حتى ينالوا الأمرين (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لأقوالهم (بَصِيراً) بأعمالهم.

٥٥٩

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما

____________________________________

[١٣٦] ولما ذكر سبحانه أن عنده ثواب الدنيا والآخرة ، عقّبه بالأمر بالعدل وعدم الجور كي ينالوا الثوابين ، وقد سبق الأمر بالعدل في قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (١) فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) قد تقدم أن الخطاب إنما خصص بالمؤمنين لأنهم المنتفعون السامعون ، وإلا فالأوامر والنواهي عامة للجميع (كُونُوا قَوَّامِينَ) جمع «قوّام» وهو كثير القيام (بِالْقِسْطِ) هو العدل ، أي كونوا دائمين في القيام بالعدل ، بأن تكون عادتكم على ذلك قولا وعملا ، ولعلّ في ذلك إشارة تنبيه إلى ما اعتاده الناس من أنهم لا بد وأن يزيغوا عن العدل إذا تمادت بهم الأزمان ، ولذا نرى من الحكام من يتنزّه عن الجور في أول أمره ثم إذا امتد به الزمان زاغ وانحرف (شُهَداءَ) جمع شهيد (لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي اشهدوا بالحق ـ لأجل أمر الله ورضاه ـ ولو كانت الشهادة في ضرركم ونفع الغير (أَوِ) على (الْوالِدَيْنِ) أي في ضررهما لنفع الغير ، إذا كان الحق مع الغير (وَ) على (الْأَقْرَبِينَ) أي من يتقرب إليكم بنسب ، فلا تميلوا عن الحق لنزوات أنفسكم ، أو ملاحظة مصلحة الوالدين ، أو رعاية الأقربين (إِنْ يَكُنْ) المشهود له أو المشهود عليه (غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) فلا تشهدوا للغني أو للفقير باطلا ، مراعاة لغناه أو شفقة عليه لفقره (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) إنه

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٥٦٠