تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

الخير في طبقات المفسّرين من الطبقة الأولى (١) ، ومنهم عبد الله بن مسعود ، ومنهم الصحابي الجليل أبي بن كعب ، وهو أوّل من صنّف في فضائل القرآن ، وهو سيّد القرّاء ، وعدّه أبو الخير في الطبقة الأولى من المفسّرين ، وهو ممّن جمع القرآن على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، ومنهم سعيد ابن جبير التابعي ، وهو أعلم التابعين في التفسير ، وقال قتادة : كان سعيد ابن جبير أعلمهم بالتفسير (٣) ، وقال خصيف فيه : كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيّب ، وبالحجّ عطاء ، وبالحلال والحرام طاووس ، وبالتفسير أبو الحجّاج مجاهد بن جبر ، وأجمعهم لذلك كلّه سعيد بن جبير (٤).

وممّن اهتمّوا بعلوم القرآن وعنوا بها : أبان بن تغلب (ت ١٤١ ه‍) ، فهو أوّل من صنّف في القراءة ، ودوّن علمها ، وأوّل من صنّف في معاني القرآن ، وأوّل من صنّف في غريب القرآن ، ومنهم طاووس بن كيسان (ت ١٠٦ ه‍) ، وهو من أصحاب الإمام عليّ بن الحسين عليهما‌السلام ، عدّه ابن تيميّة من أعلم الناس بالتفسير ، ومنهم محمد بن السائب الكلبي من أصحاب الإمام محمّد الباقر عليه‌السلام ، وهو أوّل من صنّف في أحكام القرآن (ت ١٤٦ ه‍) ، وهو صاحب التفسير الكبير ، ومنهم أبو حمزة الثمالي صاحب الإمام زين العابدين عليه‌السلام وقد ذكر تفسيره ابن النديم.

ومن المشاهير المهتمّين بعلوم القرآن الفراء يحيى بن زياد فقد صنّف في معاني القرآن ، ومنهم عليّ بن إبراهيم القمّي ، وله كتاب تفسير القرآن ،

__________________

(١) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ص ٣٢٣.

(٢) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ص ٣١٩ ـ ٣٢٣.

(٣) انظر تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ص ٣٢٢ فما بعدها ؛ مجمع البيان : ج ١ ، ص ٧ ؛ التفسير والمفسّرون : ج ١ ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٤) التفسير والمفسّرون : ج ١ ، ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

٤١

وعليه المعوّل إلى اليوم ؛ لأنّه تفسير بالمأثور عن أهل البيت عليهم‌السلام ، عاصر الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام وهو من أعيان القرن الثالث.

ومنهم محمد بن أحمد بن جنيد ، وهو من الفقهاء الأعاظم ، ألّف في الفقه المقارن ، وهو أوّل من صنّف في أمثال القرآن. ذكر ابن النديم في الفهرست ما لفظه : كتاب الأمثال لابن الجنيد. وله مصنّفات كثيرة ، وهو من معاصري والد الشيخ الصدوق ، ومنهم العيّاشي محمّد بن مسعود ، فله ما يقرب من مائتي مصنّف ، منها كتاب التفسير المعروف ب «تفسير العياشي». والحسن بن عليّ بن فضال ، له كتاب «الناسخ والمنسوخ» وكان من خواصّ الإمام الرضا عليه‌السلام ، وتوفّي سنة (٢٢٤ ه‍) ومحمّد بن العبّاس بن عليّ المعروف بابن الحجّام ، له في كلّ علوم القرآن كتب مفردة ، وله كتاب «ما نزل في أهل البيت عليهم‌السلام من القرآن» وهو ألف ورقة.

ومنهم أبو عليّ الكوفي (ت ٣٤٦ ه‍) له كتاب «فضائل القرآن» ومنهم ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه‍) وتفسيره مشهور باسمه.

ومنهم ابن عقدة أبو العبّاس ، وهو وحيد دهره في حفظ الحديث (ت ٣٣٣ ه‍) له كتاب في تفسير القرآن من طريق أهل البيت عليهم‌السلام.

وفي هذا القرن ازداد ازدهار المؤلّفات ، وكثرت المصنّفات ، فظهر منها «البرهان في علوم القرآن» و «البيان في علوم القرآن» للشيخ المفيد محمّد بن النعمان (ت ٤٠٩ ه‍) وقيل (ت ٤١٣ ه‍) وكتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للسيد الشريف الرضي (ت ٤٠٦ ه‍) وكتاب «التبيان في تفسير القرآن» للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) ومنهم الشيخ رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب (ت ٥٨٨ ه‍) له كتاب «أسباب النزول» وكتاب «متشابه القرآن» ، ومنهم الشيخ أبو الفتوح الرازي له كتاب «روض الجنان في تفسير القرآن» في عشرين مجلّدا ، ومنهم أمين الدين الطبرسي (ت ٥٤٨ ه‍) وقيل (ت ٥٦١ ه‍) صاحب «مجمع

٤٢

البيان في تفسير القرآن» (١).

ثم استمرّ العلماء في إغناء المكتبة الإسلاميّة بصنوف المؤلّفات والأبحاث المتعلّقة بالقرآن الكريم أمثال زبدة البيان للمقدّس الأردبيلي ، وكنز العرفان للفاضل المقداد ، وتفسير الصافي للفيض الكاشاني ، والميزان للسيّد الطباطبائي ، وغيرها الكثير الكثير المصنّف في هذا الشأن بنحو جامع شامل أو مختصّ بباب أو مجال من المجالات. ولا يزال البحث والتأليف مستمّرا في أصقاع العالم الإسلامي ، والعلماء عاكفين على دراسة ما في القرآن الكريم من أصناف المعارف والعلوم ، حيث ظهرت بدائع المؤلّفات ونفائس المصنّفات التي كشفت عمّا في القرآن الكريم من ذخائر وكنوز المعرفة والعلم ، وهو يمدّ البشريّة بأنوار الهداية والرشاد ، ويدلّهم على الطريق المستقيم والحياة الحرّة السعيدة الكريمة.

علم التفسير أساس علوم القرآن

التفسير في اللغة الكشف والإظهار والإبانة ، وفي الاصطلاح بيان معاني الآيات القرآنيّة وشأنها وظروفها بلفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة (٢).

وأما التفسير بوصفه علما فهو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاما لله تعالى (٣).

فالنظر في القرآن الكريم من حيث كونه كلاما له دلالة ومعنى ولله تعالى فيه غرض وقصد ، ومن أجل بيان هذه الدلالة وشرح المعنى وإيضاح القصد والإفصاح عن الغرض نشأ علم التفسير الذي تكفّل بتلك الغايات.

__________________

(١) لمزيد الاطلاع راجع كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ؛ مجمع البيان لتفسير القرآن ، مقدّمة الكتاب.

(٢) أنظر لسان العرب : ج ٥ ، ص ٥٥ ، «فسر» ؛ مجمع البيان : ج ١ ، ص ١ ، كلمة في التفسير ؛ دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعية : ج ١١ ، ص ٤٧.

(٣) دائرة المعارف الإسلامية الشيعية : ج ١١ ، ص ٤٩.

٤٣

ولعلّ على هذا المعنى جاء قوله سبحانه : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (١) وبذلك يختلف عن التأويل ؛ لأنّ التأويل من الأول ؛ أي الرجوع إلى الأصل كما في مفردات الراغب (٢) ، والتفسير أعمّ منه ، كما وأنّ أكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ والتأويل في المعاني ، كتأويل الرؤيا ، كما أنّ التفسير أكثره يستعمل في المفردات بينما التأويل في الجمل ، مضافا إلى أنّ التأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهيّة ، بينما التفسير قد يستعمل في الأعمّ ، ولا يخفى عليك أنّ تفسير القرآن والعلم بتأويله من أشرف الصناعات وأسمى المعارف ، وذاك لما ثبت في المنطق من أنّ الصناعات الحقيقيّة إنّما تتشرّف بأحد ثلاثة أمور :

الأول : شرف موضوعاتها ، وهو المشهور الغالب في مختلف العلوم ، كما قالوا بأشرفيّة علم الكلام على الفقه ، والثاني على الأصول ؛ لكون الأوّل يبحث في موضوع المبدأ والمعاد ، وهما يعودان إلى الخالق تبارك وتعالى ، وفي العرف يقولون : الصياغة أشرف من الدباغة ؛ لأنّ موضوعها الذهب والفضّة ، وهما أشرف من جلد الحيوان المذكّى أو الميتة الذي هو موضوع الدباغة.

الثاني : شرف أغراضها وغاياتها ، كما شرّف علم الطب على غيره ؛ لكونه يهدف إفادة صحّة الإنسان وسلامته ، والإنسان أشرف مخلوقات الله سبحانه ، وكما شرّف علم الفقه على غيره ؛ لكونه يهدف الرفعة بالإنسان إلى الكمالات المعنويّة العالية. وفيه قد قيل :

موضوعه فعل المكلفينا

غايته الفوز بعليينا (٣).

الثالث : شرف معلومه ، وبعضهم أضاف شدّة الحاجة إليه ؛ لوقوع مسائله كثيرا في محلّ حاجة العالم واستنفاد أغراضه.

__________________

(١) الفرقان : ٣٤.

(٢) مفردات الراغب : ص ٩٩ ، «أول».

(٣) انظر الذريعة : ج ٧ ، ص ٢١٣.

٤٤

وهذا ما حازه جميعا علم التفسير ؛ وذلك لأنّ موضوعه كلام الله سبحانه وتعالى الذي هو ينبوع كلّ حكمة ، ومعدن كلّ فضيلة ، ومخزن العلوم والمعارف ، وغرضه هداية الناس إلى التي هي أقوم في الدنيا والآخرة.

كما أنّ معلومه ما أودعه الله سبحانه من قوانين ومعان وأسرار في عالمي التكوين والتشريع ، فعلم التفسير هو من أجلّ العلوم قدرا ؛ لأنّه الموصل إلى فهم مراد الباري عزوجل في كتابه ، ومعرفة أحكامه في وحيه وتنزيله ، وما فرضه على عباده ، وهذه الغاية من أشرف الغايات وأحسن الطرق لنيل السعادات.

هذا وقد نشأت للتفسير أساليب ومذاهب ، ودوّنت للمفسّرين شرائط وآداب ، وصار المفسّرون طبقات.

ولأهمّيّة الدور الذي يمارسه علم التفسير صار هذا العلم أساسا لكافة العلوم وأهمّها ، وما من علم إلا ويعوّل عليه ، ولقد بيّن العلماء الشروط التي يجب توفّرها في العالم ليكون قادرا على التفسير ، ولعلّ من أهمّها ما يلي :

١ ـ اللغة : ليعرف بها شرح المفردات ومدلولاتها بحسب الوضع ، فلا يكفي معرفة اليسير منها.

٢ ـ النحو : بما أنّ المعنى يتغيّر ويختلف باختلاف الإعراب فلا بدّ من وجود الإعراب لتحديد المعنى المراد من التركيب بناء على معرفة إعرابه.

٣ ـ التعريف : وبه يعرف المفسّر أبنية الكلم وموازينها وصيغها ، فإذا وجد كلمة مهمة استطاع تصريفها ، فاستطاع معرفة مادّتها ومعناها.

٤ ـ الاشتقاق : وهو معرفة المصدر الذي صدرت عنه الكلمة ، فالاسم إذا كان من مادّتين مختلفتين اختلف معناه باختلافهما ، كالمسيح مثلا : أهو من السياحة أم من المسح؟.

٤٥

٥ ـ علوم البلاغة : وبها يعرف المفسّر طريق المعاني ، وخواصّ التراكيب.

٦ ـ علم القراءات : وبه يعرف كيف ينطق بالقرآن ، وبه كذلك يرجّح بعض وجوه التفسير المحتملة على بعض آخر ؛ لتواتر قراءة ، أو شهرتها ، أو شذوذها.

٧ ـ أصول الدين : وهي قواعده المتعلّقة بذات الله وصفاته وأفعاله والإيمان به وما إلى ذلك ، وبهذا العلم يستدلّ المفسّر على ما يستحيل بحقه تعالى ، وما يجب ، وما يجوز.

٨ ـ أصول الفقه : وبه يستطيع أن يدرك وجه الاستدلال على الأحكام فيه.

٩ ـ أسباب النزول : إنّ معرفة أسباب النزول توضّح إلى حدّ بعيد مرامي تلك الآية ومدلولها.

١٠ ـ الناسخ والمنسوخ : يعلم به الآيات المحكمة والآيات المنسوخة وما بطل العمل به وما بقي وهكذا.

١١ ـ الحديث النبوي : وما حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا تفسير للقرآن والشريعة ، فكم من حديث فسّر القرآن ، وكم من مغلق فتحه.

١٢ ـ علم الموهبة : وهو علم يورثه الله لمن عمل بما علم ، كما ربّما يستفاد من بعض الأخبار.

١٣ ـ علم المنطق : وهو علم مهمّ للغاية يحتاجه المفسّر طريقا إلى الفهم الصحيح ، لكونه ضابطا للتفكير.

إضافة إلى كلّ هذا يجب أن يكون المفسّر أديبا ، ذكيا ، واسع العقل ، كبير القلب ، تقيّا ، صالحا ، يخشى الله في السرّ كما يخشاه في العلانيّة ؛ لأنّ هذه تهيئ في نفسه الاستعداد لشروق الروح وصفاء الضمير ، فيفيض الباري

٤٦

عزوجل عليه من أنواره وعناياته وألطافه.

أنواع التفسير

ربما ينقسم التفسير إلى نوعين أساسيين :

الأول : تفسير لفظي لا يتجاوز غالبا حلّ الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما يحتويه نظم القرآن من نكات بلاغيّة وإشارات فنّيّة ، وهذا النوع أقرب إلى التطبيقات اللغويّة والبلاغيّة منه إلى التفسير وبيان مراد الله سبحانه من هداياته.

الثاني : تفسير المعنى وهو يجاوز اللغة ، ويجعل هدفه الأعلى تجلية معاني القرآن وتعاليمه ، وحكمة الله تبارك وتعالى فيما شرّع للناس في كتابه العزيز على وجه يزكّي الأرواح ، ويفتح القلوب ، ويرفع النفوس إلى الاهتداء بهديه ، وهذا هو الأصل فيه.

هذا وللمفسّرين في مساعيهم مذاهب مختلفة ترجع إلى اختلاف الهدف أو الجهة التي أراد كلّ مفسّر أن يستنطق القرآن ويستهدي بهديه فيها ، ولعلّ من أبرز هذه المذاهب ما يلي :

١ ـ التفسير بالمأثور

٢ ـ التفسير بالدراية ، والمراد بالدراية هنا الاجتهاد بعد معرفة المفسّر كلام العرب وأساليبهم في القول ، وبعد وقوفه على أسباب النزول والناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه ونحوها من مسائل وفنون مختلفة.

٣ ـ التفسير الباطني

٤ ـ التفسير العقلي الفلسفي أو الكلامي

٥ ـ التفسير الفقهي

٦ ـ التفسير العلمي ، ويقصد به التفسير الذي يتحدّث عن

٤٧

الاصطلاحات العلميّة في القرآن ، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء القائمة على الأسس الفلسفيّة منها ، أو العلوم التجريبيّة.

٧ ـ التفسير الاجتماعي

٨ ـ التفسير الأدبي

٩ ـ التفسير التدبري الذي يعتمد غالبا على الفهم العميق والإدراك المركّز لمعاني الألفاظ القرآنيّة بعد إدراك مدلول العبارات القرآنيّة وفهم دلالاتها فهما عميقا ودقيقا ، ثم ربطها بواقع الحياة البشريّة ، وفهم أبعادها وجوانبها المختلفة في الآمال والآلام والطموحات والمشاعر والتفكّرات.

١٠ ـ التفسير الشمولي ، وهو الذي يجمع بين كلمات الله سبحانه وكلمات حججه الطاهرة عليهم‌السلام بما لهما من ظلال وتطابق وتكامل في آن واحد ، ويجعل من كلّ منهما ميزانا ومفسّرا للآخر ؛ لأنّ القرآن والسنّة نور واحد ورسالة واحدة تجلّى أحدهما في كلمات الوحي الإلهي والآخر في كلمات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام.

مضافا إلى اعتماده في ذلك على تجارب الحياة وعبقريّة البشر وطاقاته العقليّة وتدبّره في مختلف المسائل والشؤون ؛ وذلك للتطابق الجوهري بين النقل والعقل لكونهما يرجعان إلى خالق واحد ونظام واحد ورؤية واحدة.

وبالتالي فإنّ ما يبينانه من مفاهيم ومعان هي عين الحقّ والصواب لا يخالجه خطأ أو جهل أو قصور ، ولعلّ هذا أفضل أنواع التفسير وأكمله وأدقّه لما له من خصوصيّة فهم القرآن في أصل معناه أو حدوده أو مصداقه الأكمل على ميزان أهل البيت عليهم‌السلام ورؤيتهم ، كما أنّ القرآن الميزان الذي يميّز كلامهم عليهم‌السلام من غيره المشتبه على الناس في السند أو في الدلالة ، وهذا ما قد نجده جليّا في تفسير المرجع الديني الإمام السيّد محمّد الحسيني الشيرازي (أعلى الله مقامه) حيث جمع بين اللغة والعقل والنقل الوارد عن المعصومين عليهم‌السلام في فهم معاني الآيات وكشف مضامينها.

٤٨

هذا ولا يخفى عليك أنّ إعجاز القرآن لا ينحصر بألفاظه وظواهره ، بل في رموزه وإشاراته ولطائفه وحقائقه ، ففي كلّ سورة بحار من المعارف ، وتتجلّى في كل آية منه أنوار من الحقائق والهدايات ، وكيف لا يكون كذلك وقائله عزوجل لا نهاية لعلمه وكماله ، ولا حد لعظمته وجلاله ، وما حصل من التحديدات إنّما هو من مقتضيات الاستعدادات لطفا بالعباد ، لا أن يكون تحديدا منه.

وربّما يتوصّل من يراجع مختلف أنحاء التفاسير أنّه فسّر كلّ صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس عندهم ، فالفلاسفة والمتكلّمون فسّروه بمذاهبهم من الآراء الفلسفيّة والكلاميّة ، والعرفاء والصوفيّة على طريقتهم ، والفقهاء فسّروا ما يرتبط بغرضهم في فقه الأحكام والمسائل ، والمحدّثون فسّروه بخصوص ما ورد من السنّة الشريفة من الآيات ، كما أنّ الأدباء فسّروه من زاويتهم الأدبيّة ، وهكذا أهل المعارف والعلوم الإنسانيّة والطبيعيّة.

ومع كلّ ذلك يظهر العجب في أنّه كلّما كثر في هذا الوحي المبين والنور العظيم من هذه البيانات والتفاسير فهو على كرسي رفعته لا ينقص ، وجماله يزداد على مر العصور تلألؤا وجلالا ، فما نجده من مزايا وخصوصيّات لبعض التفاسير إنّما هي قضيّة نسبيّة تعتمد على ذكاء المفسّر وسعة اطّلاعه وطول باعه في العلوم المختلفة ، وهذا ما امتاز به الإمام الشيرازي (قدس‌سره) ؛ إذ له في كلّ فنّ معرفة ، وله في مختلف مجالات الثقافة والفكر رؤية ومنهج ، ومن هنا كانت له إشراقات وإلماعات ربّما لم يصل إليها قبله مفسّر أو يسبقه إليها ذهن عالم أو أديب ، كما ستجد ذلك جليّا من خلال مطالعتك لهذا السفر القيّم.

٤٩

الطريقة الجديدة في تفسير القرآن الكريم

إنّ مفسّري القرآن وبالأخصّ القدامى منهم أبلوا بلاء حسنا في تفسير الآيات الشريفة المتعلّقة بالعقائد والأحكام ، وخصوصا مواضيع التوحيد والشرك والنبوّة والإمامة ونحوها ، والتي تشكّل جوهر الإسلام ، والعنصر الذي اتّفقت عليه الشرائع الإلهيّة ، لكن الملحوظ أنّ منهج القدماء قام على أساس التسلسل السوري في القرآن ؛ إذ أخذوا في تفسيرهم سورة بسورة وآية بآية ؛ لذلك لم يبحثوا مجموع الآيات الواردة حول موضوع واحد دفعة واحدة إلّا نادرا ، مما أدّى إلى توزيع الكثير من المضامين والمعاني في الشيء الواحد على مختلف السور والآيات ، فصار الطالب يحتاج إلى المزيد من الجهد والتتّبع حتّى يحصل على الحقيقة كاملة جليّة على الرغم من وجود نقاط قوّة عديدة في هذا النهج.

أمّا طريقة التفسير الجديدة فهي جاءت تكملة لجهود المتقدّمين وإغناء لتجاربهم ودراساتهم لتعطي لنا صورة بالغة الوضوح ومكمّلة لما أعدّه السابقون من المفسّرين ، وهذا التفسير يسمّى «التفسير الموضوعي» وهو يعني بتفسير آيات القرآن الكريم حسب الموضوعات والمفاهيم ، أي حسب التبويب والتقسيم الموضوعي للقرآن الكريم.

وتتلخّص هذه الطريقة في جمع الآيات المتعلّقة بالموضوع الواحد في مكان واحد ، ثمّ تصنيفها على حسب التسلسل الموضوعي ، ثمّ القيام بعمليّة جمع بين الأصناف لاستنباط نظرة واحدة متكاملة وفكرة جامعة شاملة من مجموع هذه الآيات ، خصوصا أنّ القرآن الكريم (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) كما أنّنا نستفيد فائدة أخرى من هذا الجمع لمجموع الآيات المتعلّقة بموضوع معيّن بالإضافة إلى فائدة الوقوف على النظرة القرآنيّة المتكاملة ، وهي أنّنا

__________________

(١) النحل : ٩٠.

٥٠

ربّما يصعب علينا فهم آية ما من الآيات ، أو معرفة الهدف منها لابتعادنا عن عصر الوحي وعدم اطّلاعنا على ملابسات نزول تلك الآية بنحوها الكامل والقرائن الحاليّة أو المقاميّة ونحوها السائدة في المجتمع الإسلامي آنذاك ، فيأتي أسلوب «جمع الآيات إلى جانب بعضها» ليساعدنا على رفع بعض الغموض وإزالة شيء من الإبهام ، وتنكشف لنا بسبب هذا الجمع ملامح الحقيقة من خلال غيوم الاحتمالات وسحب الأوهام التي قد تكتنف آية من الآيات ؛ ولهذا قيل : «إنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا» (١) وورد عن مولانا أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام تأكيد لذلك : «كتاب الله تبصرون به وتنطقون به ، وتسمعون به ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض» (٢).

هذا والتفسير الشريف الذي نتحدّث عنه وإن كان قد جاري طرق القدامى في نهجه وطريقته إلّا أنّه حاول فيه المصنّف (أعلى الله مقامه) أن يقترب بعض الشيء إلى الطريقة الجديدة ، فسعى إلى إيجاد ربط بين الآيات المختلفة ، وأشار إلى الجهات الأخرى المكمّلة لمعاني الآيات المفسّرة في موردها ، وفي بعضها أشار إلى عنوانها ، وبذلك يكون قد سهّل على القارئ الوصول إلى بعض الحقيقة كاملة ، وكان موفّقا في ذلك ؛ لأنّ من أصعب ما يجده الكاتب في مثل هذا النوع من الكتابات أن يجمع المعاني المتعدّدة في عبارة موجزة ومختصرة ، خصوصا وأنّه يفسّر القرآن.

القرآن يفسّره الزمان

إنّ تطور الزمن وتقدّم العلوم أكسب المحقّقين والمفكّرين نمطا جديدا من الرؤية ، حيث تتأكّد هنا أهمّيّة وضرورة التفسير الموضوعي ، فقد أصبح كلّ فريق من هؤلاء المفكّرين والمحقّقين وبالاعتماد على هذا النوع من التفسير يستخرج من القرآن الكريم مفاهيم وأمورا علميّة جديدة تطابق

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٤ ، ص ٢١٨ ، تبيين.

(٢) نهج البلاغة : ص ١٩٢ ، الخطبة ١٣٣.

٥١

اختصاصه ، فالاستفادة من القرآن الكريم على الأصعدة الاجتماعيّة والسياسيّة والأخلاقيّة في تصاعد واتّساع مستمرّين.

وقد استخرج المحقّقون الإسلاميّون المعاصرون بفضل ما أوتوا من الطرق الحديثة المبتكرة في البحث العلمي والدراسة والتحليل حقائق مهمّة من القرآن الكريم ربّما لم تخطر على بال المفكّرين والمحقّقين القدامى ، فأضافوا على علوم القرآن الكثير ، كما اكتشفوا من المعاني والمضامين الشيء الكثير.

إنّ القرآن الكريم كتاب أبدي خالد ينطوي على أبعاد مختلفة ، وبطون متنوّعة ، بحيث يمكن للعقل البشري المتطوّر أن يكتشف في كلّ مرّة معنى جديدا فيه ، وبحيث يمكن لدارسيه من أهل التحقيق أن يكتشفوا في كلّ عصر بعدا جديدا من أبعاده في شتى مجالات المعارف الإنسانية ، ومن هنا اتّفقت الكلمة على أنّ الاستفادة من القرآن الكريم لا تنحصر بالعرفاء والفقهاء والفلاسفة وأرباب العلوم القديمة والإلهيّات خاصّة.

إنّ استنباط نكات دقيقة وجديدة من القرآن من قبل علماء الطبيعة والرياضيين ورواد العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم فلسفة التأريخ خير دليل وأفضل شاهد على أنّ هذه المعجزة الخالدة تنطوي على بطون عديدة وأبعاد متنوعة ، وأنّها تتّسع لمفاهيم واسعة كثيرة يضيق عن استيعابها أو تحصيلها أيّ تصوّر بشري وذهن إنساني وبرنامج ثقافي عادي مهما ادّعى من الشموليّة والغزارة والإحاطة.

إنّ مرور الزمن وتقدّم العلوم لم يمنحا علماء الطبيعة وحدهم إمكانيّة استنباط حقائق وأبعاد مهمّة وجديدة عن القرآن في حقول علوم الطبيعة وخلقة الإنسان والأرض والسماء وغيرها من الظواهر الطبيعيّة ، بل ومكّنا المفسّرين أيضا من استخراج حقائق مهمّة وجديدة من هذا السفر الإلهي الخالد جنبا إلى جنب مع توسّع العلوم واتّساع نطاق المعارف وتفتّحها وظهور المناهج العلميّة الإنسانيّة الجديدة.

٥٢

والآن نحن نشاهد شروع التحقيقات العلمية حول القرآن من طريق أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) وقد كشفت للأجيال الحاضرة والقادمة الكثير من الحقائق والآفاق التي عجز العقل والذهن البشري العادي عن اكتشافها والتوصّل إليها بمجرّده ، فبواسطة هذا الجهاز العجيب تمكّن العلماء من إزالة الكثير من نقاط الإبهام التي دارت سابقا حول مضامين بعض الآيات والروايات بسبب قصور الناس عن دركها ، وسيأتي زمان أيضا يفسّر لنا الكثير من الغوامض فيهما التي ربّما تصوّرها بعض الناس أنّها شيء من الغريب أو المستهجن ، فإنّ للقرآن الكريم معاني ودرجات وصورا وحقائق ، وحينما يتّصل عقل الإنسان بنور الوحي يزداد انشراحا وبهاء وتألّقا ومعرفة ، فتفتح له من العلم أبواب وأبواب.

قال سبحانه وتعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (١) وقال عزّ من قائل : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢) وجاء في الحديث الشريف عن الصادق عليه‌السلام : «كثرة النظر في العلم يفتح العقل» (٣) وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : «سلوني عن القرآن فإنّ في القرآن علم الأوّلين والآخرين ، لم يدع لقائل مقالا ، ولا يعلم تأويله إلّا الله والراسخون في العلم» (٤) وروي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة إلّا أنزله في كتابه ، وبيّنه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٥) لكن المشكلة في البشر أنفسهم لعجزهم وقصورهم أو تقصيرهم في الإمعان فيه واكتشاف أسراره وغوامضه ، لكن كلما سعى البشر في فهمه ودراسته وصل إلى

__________________

(١) العنكبوت : ٤٤.

(٢) الجاثية : ٢١.

(٣) بحار الأنوار : ج ١ ، ص ١٥٩ ، ح ٣٢.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٤ ، ص ١٧٩ ، ح ١١.

(٥) بحار الأنوار : ج ٨٩ ، ص ٨٤ ، ح ١٦ ؛ تفسير الصافي : ج ١ ، ص ٥٠.

٥٣

مطلوبه ؛ لأنّ القرآن كتاب هدى ونور ، ومن الهدى الإيصال إلى المطلوب.

ولعلّ ممّا يؤيّد ذلك ما ورد في بعض الأخبار من أنّ القرآن الكريم يفسّره الزمان ، والذي قد يكون من معانيه أمور :

١ ـ أنّ القرآن الكريم صالح لكلّ عصر وزمان ، ويتناسب مع أيّ تطوّر حضاري وعلمي وتأريخي ، بل هو الأساس في دعم أيّ حضارة وأيّ مدنيّة مؤمنة بأهداف إنسانيّة ، ويعطيها الروح والديموميّة.

٢ ـ أنّ تطوّر العلم والتكنولوجيا الحديثة كشف الكثير من الحقائق القرآنيّة ، ولعلّ من ذلك أنّ الشمس وردت في القرآن الكريم (٣٣) مرّة وبمعان فلكية رائعة تحكي الحقيقة العلميّة بكلّ وضوح ، ولعلّ أهمّها تلك الآيات التي تتحدّث عن حركتها أو حركاتها الكثيرة وبأسلوب علمي جمالي يخلب الألباب ... وتلك الآيات التي تتحدث عن هرم الشمس وشيخوختها وموتها في آخر الأمر كبقيّة المخلوقات التي نشرها الله تعالى في كونه الكبير ... وردت الشمس كما وردت بقيّة الأجرام الكونيّة والظواهر السماويّة الأخرى ضمن أسلوب وهدف القرآن ككلّ ، وهو الهداية وإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والحياة ؛ ولأنّ القرآن ليس كتابا علميّا خاصّا لم يتعرّض إلى قطرها ، ولا إلى حجمها ، ولا إلى كثافتها ، ولا إلى درجة حرارتها أو جاذبيّتها ، ولا لأي رقم علمي محدّد ممّا تتعرّض له الدراسات الكونيّة المعاصرة. ولكن يمكن لقارئ القرآن والباحث في الآيات الكونيّة أن يحصل على معلومات ممتازة عن الشمس لكن في حدود ، ويمكن أن يأتي باحث آخر ويلتقط معلومات أخرى وضمن حدود معيّنة أخرى ، ويبقى الباحثون الجادّون غائصين في بحر القرآن كلّ يلتقط ما يستطيع من لآلئه ، مستفيدين من علوم عصرهم ، فهي أضواء إضافيّة تنير الطريق للغوص في طرق الشمس والآيات الكونيّة الأخرى الزاخرة في القرآن

٥٤

الكريم (١). فإنّ ما يتوصّل إليه العلماء في مجال الفلك في هذا العصر الحديث المليء بالاكتشافات الباهرة حول هذا الجرم السماوي هو يؤكد ويؤيّد يوما بعد آخر ما ذكره ديننا الإسلامي حول الشمس في جميع خصوصيّاتها.

٣ ـ أنّ عقول البشر في تطوّر ونموّ ، والحياة سائرة نحو المزيد من العلم والمعرفة ، والتجارب تتراكم على كشف الكثير من الأسرار ، وكلّما تطوّر الإنسان توصّل إلى مراق وآفاق جديدة في القرآن لم يكن قد وصلها من قبل ، بل لم يكن يدركها لقصوره وعجزه ، فكلّما تطوّر الزمن وتطوّر معه الإنسان توصّل إلى حقائق وأبعاد جديدة في فهم الآيات ، واستنار بهديها ، فكلّ جيل منهم يختلف عن السابق كما سيختلف عن اللاحق حتّى تكتمل العلوم باكتمال الإنسان في عصر ظهور ولي الله الأعظم (عجل الله فرجه الشريف) ، فحينئذ يصل إلى درجات سامية من المعرفة والفهم والإدراك.

هذا التفسير

مهما كانت الدوافع الكامنة وراء كتابة التفسير وضمن الشروط التي ذكرناها فيما تقدّم والتي يجب أن تتوفّر في المفسّر فإنّ ما كتب في هذا المجال يعدّ إنجازا علميّا له خصائصه ومميّزاته ، حيث إنّ كلّ تفسير كتب ـ وضمن الشروط الموضوعة والمقرّرة لذوي الاختصاص ـ يضيف معلومات جديدة وفنّا وذوقا آخر لهذا العلم الذي لا ينضب ، لكن تبقى لمن اتّخذ أهل البيت عليهم‌السلام نهجا وطريقا ومدرسة وتألّقا وعلوّا وارتفاعا فيما يستنبط من آراء ويبني من أفكار ويؤسّس من رؤي السمة العليا في ذلك ، وهذا ما اتّسم به السيّد الراحل أعلى الله مقامه ، وتميّزت به كتبه الوفيرة ، وخصوصا هذا

__________________

(١) موسوعة أهل البيت الكونية : ج ٢ ، ص ٣٥٢.

٥٥

التفسير ، حيث زانته من ضمن ما زانته اعتماده المطلق على ما ورد منهم عليهم‌السلام ، مسلّما لهم ، منقادا إليهم فيما يقولون ويعملون ويهذّبون ، وهذه سمة لا ينالها إلّا الفائزون الناجحون ، والعالمون الصادقون ؛ لأنّهم صلوات الله عليهم باب الله الذي منه يؤتى ، وهم عيبة علمه ، وحبلة المتين ، وصراطه المستقيم ، وعندهم عليهم‌السلام جوامع الكلم والعلم كما ورد عن ابن عبّاس أنّه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أعطاني الله خمسا ، وأعطى عليا خمسا ، أعطاني جوامع الكلم ، وأعطى عليا جوامع العلم» (١).

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّا أهل بيت عندنا معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الأمر» (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : «عندنا أهل البيت أصول العلم وعراه وضياؤه وأواخيه» (٣) (٤).

فالاعتماد عليهم صلوات الله عليهم يكشف الكثير من الحقائق والمعارف مع تطوّر الزمن والاكتشافات ؛ حيث أشاروا صلوات الله عليهم وبيّنوا جميع الأمور للبشريّة ، وبقي علينا أن نجدّ أكثر ونسعى لإظهار هذه الحقائق والاغتراف من منهلهم العذب ، وهذا لا يأتي إلّا بالمعرفة التامّة لأهل البيت عليهم‌السلام ، معرفة المؤمنين بهم وبمقاماتهم السامية والمستسلمين في مدرستهم بكل خشوع وانقياد ؛ وذلك لأنّ العلم نور يقذفه الله سبحانه في قلب من يشاء ، وليس ذلك إلّا من تنوّر بمحبّتهم عليهم‌السلام ، وتواضع لعظمتهم ، واقتدى بهم ، وتعلّم في مدرستهم ، وقد ورد عن الصادق عليه‌السلام : «فمن عرف

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ، ص ٢٨ ، ح ٣١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٦ ، ص ٣٠ ، ح ٤٢.

(٣) الأخيّة والآخيّة ـ بالمد والتشديد ـ واحدة الأواخي : عود يعرّض في الحائط ، ويدفن طرفاه فيه ، ويصير وسطه كالعروة تشدّ إليه الدابّة. أي بنا يشدّ ويستحكم أمر الدين ولا يفارقنا علمه. انظر لسان العرب : ج ١٤ ، ص ٢٣ ، «أخا» ؛ بحار الأنوار : ج ٢ ، ص ٢١٤ ، ح ٣.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٦ ، ص ٣١ ، ح ٤٤.

٥٦

من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجب حقّ إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه ، وعلم فضل طلاوة إسلامه ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه ، وجعله حجّة على أهل موادّه وعالمه ، وألبسه الله تاج الوقار ، وغشّاه من نور الجبّار ، يمدّ بسبب إلى السماء ... إلى أن قال : حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه ، يدين بهديهم العباد ، وتستهلّ بنورهم البلاد ، وينمو ببركتهم التلاد ... فليس يجهل حقّ هذا العالم إلّا شقي ، ولا يجحده إلّا غوي ، ولا يصدّ عنه إلّا جريّ على الله جلّ وعلا» (١).

وفي حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يا سلمان ، من عرفهم حقّ معرفتهم واقتدى بهم ... فهو والله منّا ، يرد حيث نرد ، ويسكن حيث نسكن ...» (٢) وإلى ذلك أشار الإمام الصادق عليه‌السلام بقوله : «ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه ، وردّوه إلينا» (٣).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام : «هم والله نور الله الذي أنزل ، وهم والله نور الله في السماوات وفي الأرض» (٤).

وعن أبي ذرّ (رضوان الله عليه) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «خلقت أنا وعليّ بن أبي طالب من نور واحد» (٥).

وفي رواية أنّهم جميعا عليهم‌السلام من نور الله الأعظم (٦).

كما أنّ علمهم عليهم‌السلام وورثوه من النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ عليّ بن أبي طالب كان هبة الله

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ، ص ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، ح ٢.

(٢) إلزام الناصب : ج ٢ ، ص ٣٣٣.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٥ ، ص ٣٦٤ ، ح ١.

(٤) أصول الكافي : ج ١ ، ص ١٩٤ ، ح ١.

(٥) بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١١ ، ح ١٢.

(٦) انظر إرشاد القلوب : ج ٢ ، ص ٤٠٤.

٥٧

لمحمّد ، وورث علم الأوصياء وعلم من كان قبله» (١).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث جاء فيه : «وربّ الكعبة وربّ البيت ـ ثلاث مرّات ـ لو كنت بين موسى والخضر عليهما‌السلام لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ، ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ؛ لأنّ موسى والخضر عليهما‌السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما هو كائن ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطي علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فورثناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وراثة» (٢).

فمن هنا كانت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام هي الأولى والأخيرة في هداية البشر ونقلهم إلى شاطئ الأمان ، والتأريخ هو خير دليل وشاهد على ذلك. وأعظم مدرسة للإسلام كانت مدرسة الإمام الصادق عليه‌السلام حيث كانت جامعة كبري شملت كلّ العلوم والفنون والمعارف ، وقد خرّجت الكثير من العلماء الذين قدّموا للبشريّة والحضارة الإنسانيّة بكلّ إخلاص وتفان الشيء الكثير. والإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام هو سادس أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد تهيّأت له عليه‌السلام الظروف السياسيّة في نشر علومهم وتأسيس دعائم العلم في مختلف المجالات حتّى أقام تلك الجامعة العظيمة التي لا زالت إلى يومنا هذا تخرّج الفطاحل من العلماء ممّن ينتسبون إليها.

فإنّ الذي يتتبّع كتب الرجال وتأريخ الأعلام يجد أنّ لعلماء الشيعة الذين ورثوا علوم أهل البيت عليهم‌السلام دورا أساسيا ومهمّا في تأسيس فنون المعرفة ، حيث تقدّموا في تأسيس العلوم في الصدر الأوّل ، وبرعوا ، وسادوا في حضارتهم وعلمهم على جميع المعاهد والجامعات ، وعلومهم مبنيّة على أسس الأخلاق ومكارمها التي ورثوها عن آل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وكما يقال : إنّ المحروم من حرم منهم عليهم‌السلام.

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ، ص ٢٢٤ ، ح ٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٧ ، ص ١٤٤ ـ ١٤٥ ، ح ٣٢.

٥٨

السيد صاحب التفسير أعلى الله مقامه

إنّ الأمم الحيّة والشعوب اليقظة في كلّ عصر من عصور التأريخ وعلى امتداد الأرض المعمورة تعرف بتقديرها للعلم واحترامها للعلماء والأخذ عنهم والاغتراف من مناهلهم العذبة الرويّة ، فهم المقياس الحقّ لحياة الأمم والشعوب أو موتها. وأمّتنا الإسلاميّة أشرف الأمم ، ويزخر تأريخها بالمكانة السامية التي يحتلّها العلماء في نفوس الناس ، والمنزلة الرفيعة التي بلغوها في قلوبهم ، وبالأخصّ العلماء الذين تخرّجوا من تلك المدرسة العظيمة التي بنى أساسها الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام ، كما ونجد القرآن الكريم يعطي العلماء منزلة تجعلهم في مصافّ الملائكة المنزّهين فيقول :

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) كما نراه جلّ وعلا يمنحهم منزلة الخشية منه سبحانه وتعالى على سبيل الحصر ، فيقول جلّ وعلا : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٢).

وهو بعد هذا وذاك يرفعهم درجات فيقول : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٣) إلى كثير من الآيات القرآنيّة التي تكشف عن مكانة العلماء عند الله سبحانه وتعالى.

وهكذا برز العلماء ، وخرّجت الحوزات العلميّة المقدّسة الفطاحل منهم الذين تركوا آثارا وتراثا استقوه من فكر ونهج أهل البيت عليهم‌السلام ، ينير البشريّة جمعاء ، ومن بين هؤلاء النوادر الذين أثروا المكتبة الإسلاميّة بمؤلّفاتهم وعلمهم صاحب هذا التفسير العظيم «تقريب القرآن إلى الأذهان» المرجع الديني الكبير الإمام السيّد محمد الحسيني الشيرازي (أعلى الله

__________________

(١) آل عمران : ١٩.

(٢) فاطر : ٢٩.

(٣) المجادلة : ١٢.

٥٩

درجاته) ، المولود في عام ١٣٤٧ ه‍ والمتوفّى في شوال عام ١٤٢٢ ه‍ ، فهو (رضوان الله عليه) من أجلى مصاديق قول النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء» (١) وما ذاك إلّا لأنّ العالم في الأمّة كالروح من الجسد ، وما هو إلّا المثل الصالح في زهده وورعه وتقواه والسمات الإسلاميّة الفاضلة والصفات الحميدة ، جليل القدر ، عالي المنزلة ، جمع إلى جانب العلم الغزير الأخلاق الفاضلة ، والسلوك الحسن ، والسيرة العطرة ، وحبّ الناس ، وعلوّ الهمّة ، ومكارم الأخلاق.

وبعد ذلك كلّه فهو حامل هموم المسلمين وهدفيّة الإسلام ، وقرنها بشجاعة وإقدام فائقين يعجز عن بلوغهما الأبطال الأشاوس في مختلف المجالات والأصعدة. لقد تميّز الإمام الشيرازي (قدس سرّه) بفكره المعطاء الغني المختصر بالتجارب ، والمفعم بالنضج والنظرة الواقعية إلى الأمور ، والأصيل المستلهم من الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة ، والذي يعالج شتى القضايا الحيوية ومشاكل العصر.

ورغم الحياة الصعبة والقاسية جدا التي كان يعيشها الإمام الراحل (قدس سرّه) طوال حياته الشريفة والظروف التي ألمّت به من كلّ حدب وصوب من البعيد وربّما القريب كان كما قالوا عنه : نادرة التأليف في التأريخ وسلطان المؤلفين (٢) ، حيث عرف بكثرة الإنتاج والعطاء الفكري والعلمي والتربوي ، حيث تنوّعت مؤلّفاته من حيث المادّة العلميّة ، وبلغت ألفا وثلاثمائة كتاب وكتيب وموسوعة ، فشملت الفقه والأصول والفلسفة والكلام والبلاغة والنحو وسائر العلوم الحوزوية من جهة ، والسياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والحقوق والإدارة والقانون والبيئة والأخلاق والتأريخ والطبّ وإدارة

__________________

(١) أصول الكافي : ج ١ ، ص ٣٨ ، ح ٢.

(٢) لقب أطلقه عليه الاتّحاد العامّ للكتّاب العرب بدمشق الشام خلال الحفل التأبيني الذي أقيم في سوريا في الحوزة الزينبيّة (مجلة النبأ العدد ٦٦ ـ ١٤٢٣ ه‍ ص ١٦٨).

٦٠