تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)

____________________________________

(فَلا وَرَبِّكَ) أي ليسوا بمؤمنين ـ قسما بربك ـ يا رسول الله (لا يُؤْمِنُونَ) إيمانا مرضيا أمر به الله ورتب عليه الجنة والثواب (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي يجعلوك حاكما (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي فيما وقع بينهم من الخصومة (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً) أي لا يجدوا في قلوبهم صعوبة من قضائك ، كما هو شأن المغلوبين في القضاء حيث لا يتقبلون الحكم بسهولة بل يظنون أن الحاكم بخسهم حقهم (مِمَّا قَضَيْتَ) وحكمت (وَيُسَلِّمُوا) أي ينقادوا لقضائك وحكمك (تَسْلِيماً) مطلقا بلا صعوبة ولا حرج يجدونه في نفوسهم.

فعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «لو أن قوما عبدوا الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا شهر رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله : ألا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم ، لكانوا مشركين ، ثم تلا هذه الآية» (١).

وفي بعض التفاسير : إن الآية نزلت في الزبير وابن أبي بلتعة حيث تنازعا فحكم الرسول للزبير فخرجا وقال ابن أبي بلتعة متهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه قضى لابن عمته ، وعيّرهم بذلك يهودي فقال : كيف تعتقدون أنه رسول الله ثم تتهمونه في قضاء قضاه (٢)؟

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٩٨.

(٢) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٢١.

٥٠١

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا

____________________________________

[٦٧] كيف أنهم يجدون حرجا من قضاء قضاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال أنه يجب إطاعة الرسول في كل شيء حتى لو أمر بأن يقتلوا أنفسهم ، كما أمر موسى قومه : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (١) فتابوا وفعلوا ما أمرهم به (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا) أي أوجبنا (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء الذين يجدون حرجا في أنفسهم مما قضيت (أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بأن يقتل بعضكم بعضا أو يقتل الشخص نفسه (أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) بأن تهجروا مساكنكم إلى بلاد الغربة ، كما خرج قوم موسى إلى التيه من منازلهم التي كانت في مصر (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) لما في ذلك من إهلاك النفس والمشقة (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من عدم الحرج في قضاء رسول الله واتباع أوامره وأحكامه (لَكانَ) فعلهم ذلك (خَيْراً لَهُمْ) في دنياهم وآخرتهم (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) فإن الإنسان كلما أطاع ثبّت دينه وقوّى ملكة عقيدته ، فإن العقيدة بتكرار التعقّل وتكرار التذكّر والاستسلام تقوى وتشد ، فما أمروا به ليس فيه جهد قتل النفس وإخراجها من الديار ، ومع ذلك فهو خير لهم وتثبيت لعقيدتهم المؤدية لكل سعادة.

[٦٨] (وَإِذاً) أي إذا فعلوا ما يوعظون به (لَآتَيْناهُمْ) أي أعطيناهم (مِنْ لَدُنَّا) أي لدن أنفسنا. وهذه الكلمة تفيد تأكيد الوعد ، إذ أن الله تعالى

__________________

(١) البقرة : ٥٥.

٥٠٢

أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ

____________________________________

ليس عاجزا لا يتمكن من إنجاز وعده ولا بخيلا أو مخلفا لوعده حتى لا يفي بما قال (أَجْراً عَظِيماً) أي كبيرا. وفي الأحاديث : إن نعيم الجنة بنحو «لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١).

[٦٩] (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ثبّتناهم ، وقد تقدم في سورة الحمد (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أن المعنى «ثبتنا» ـ بالتقريب الذي سبق ـ أو المراد هدايتهم صراط يوم القيامة الذي هو جسر على جهنم.

[٧٠] ثم ينتهي السياق إلى القاعدة العامة التي توجب خير الدنيا والآخرة (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) باتباع أوامرهما ونواهيهما بصورة عامة (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) في الدنيا في المكانة الرفيعة في القلوب والذكر الرفيع والنصرة ، كما قال سبحانه : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) الصديق هو الملازم للصدق في أقواله وأعماله ، أو هو المداوم على التصديق بما يوجبه الحق (وَالشُّهَداءِ) الذين استشهدوا في سبيل الله ، ويسمى الشهيد شهيدا لشهادة الملائكة والناس له بأنه من أهل الجنة (وَالصَّالِحِينَ) الفاعلين للصلاح الملازمين له (وَحَسُنَ أُولئِكَ)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ ص ٩٢.

(٢) غافر : ٥٢.

٥٠٣

رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ

____________________________________

الأشخاص (رَفِيقاً) أي مرافقين لمن يطع الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[٧١] (ذلِكَ) التوفيق للإطاعة المعقب لكون رفقاء الإنسان النبيين وسائر من ذكر (الْفَضْلُ مِنَ اللهِ) أي تفضّل منه سبحانه لمن اهتدى بمثل هذه الهداية (وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) أي يكفي الله سبحانه عالما بما يفعله الإنسان من خير وشر ، فإنه إذا علم شيئا رتّب عليه الأثر.

[٧٢] وإذا انتهى الكلام حول الإطاعة المطلقة لله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتفت السياق إلى حكم شاق من أحكام الإسلام هو القتال لتدريب المؤمنين على هذا العمل الجهادي العظيم ، وتقرير الواجب عليهم فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ ذكرنا سابقا أن أحكام الإسلام عامة لكل شخص ، وتخصيص المؤمنين بالخطاب لأنهم المستفيدون من ذلك ـ (خُذُوا حِذْرَكُمْ) يقال : خذ حذرك ، أي احذر وتأهب لملاقاة الأمر بالمكروه ، أو المراد بالحذر : الأسلحة ـ مجازا ـ لأنه آلة الحذر فيكون من باب المجاز (فَانْفِرُوا ثُباتٍ) أي أخرجوا إلى الجهاد. و «ثبات» جمع مفرده «ثبة» الجماعة في فرقة ، أي ليكن خروجكم فرقة بعد فرقة ، كما تخرج السرايا سرية إلى هنا وسرية إلى هناك ، أو جماعة إثر جماعة (أَوِ انْفِرُوا) واخرجوا (جَمِيعاً) في عسكر واحد.

[٧٣] (وَإِنَّ مِنْكُمْ) أيها المسلمون (لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) أي يتأخر عن الخروج استثقالا من الجهاد ، وإرادة للفرار ، كما كان ذلك حال المنافقين فإنهم

٥٠٤

فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ

____________________________________

كانوا لا يريدون الجهاد ، ولذا كانوا يستثقلونه رجاء الفرار (فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) من هزيمة أو قتل لبعض أفرادكم (قالَ) ذلك المنافق المبطئ وهو مسرور جذلا : (قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً) أي شاهدا حاضرا في القتال ، حتى يصيبني ما أصابهم ، وهذا دائما عادة المنافقين في كل حركة ، أنهم يبطّئون حتى يذهب الناس ، ويترقبون الأنباء حتى إذا وجدوا في الذاهبين كسرا سرّوا بأنهم كانوا بعداء عن المعركة.

[٧٤] (وَلَئِنْ أَصابَكُمْ) في جهادكم (فَضْلٌ مِنَ اللهِ) بالفتح والغنيمة (لَيَقُولَنَ) ذلك المبطئ متحسّرا ـ (كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جملة معترضة ليست مقولة للقول ، وإنما هي حكاية حال المنافق الذي لا يريد إلا النفع والمادة ، ولا يخلص للدين والدعوة ـ : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) حاضرا في الجهاد ، لأنال مالا وفخرا (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) فإنه يتمنى الحضور لا لنصرتكم بل لأن يفوز هو بشرف الجهاد وغنيمة الفاتحين.

[٧٥] لما تقدم ذكر المنافقين الذين يبطّئون عن القتال ، بيّن سبحانه ما هو واجب المسلم بالنسبة إلى هذا الأمر المهم فقال : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لأجل أمره وإعلاء كلمته (الَّذِينَ يَشْرُونَ

٥٠٥

الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ

____________________________________

الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) أي يبيعون الحياة القريبة الفانية بالحياة الآخرة الباقية ، فإن من أقدم على الحرب ، كان كمن باع نفسه وكل ما يملك لأجل الآخرة (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بأن تكون مقاتلته لأجل إعلاء أمر الله وتنفيذ حكمه (فَيُقْتَلْ) يستشهد (أَوْ يَغْلِبْ) يظفر على الأعداء (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) فهو بين إحدى الحسنيين ، الاستشهاد والجنة ، أو الغلبة والفتح.

[٧٦] (وَما لَكُمْ) أيها المسلمون (لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته وتطبيق حكمه في البلاد (وَ) في سبيل نصرة (الْمُسْتَضْعَفِينَ) بإنقاذهم من براثن الحكّام الجائرين والسادة الظالمين (مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الذين بقوا محصورين في أيدي الجائرين ، فإنه يحق للمسلم أن يقاتل لأجل أحد هذين الأمرين ، ولا يحق له أن يقاتل لأجل نشر السيطرة والاستثمار والسيادة ـ كما هي العادة عند غير المسلم من المحاربين ـ و (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) أي المدينة التي هم فيها مما لا يجدون محيصا عنها ، فلا يتمكنون من الخروج عنها لضعفهم ومنع الظالمين لهم من الخروج ، ولا لهم حول لدفع ظلم الظالمين عن أنفسهم (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) أي من عندك

٥٠٦

وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ

____________________________________

(وَلِيًّا) يلي أمورنا ويسير بنا بالعدل والإحسان (وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ) عندك (نَصِيراً) ينصرنا على الظالمين.

[٧٧] ثم شجع سبحانه المجاهدين بأنهم أقوى من أعدائهم فإن (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ولمرضاته وإعلاء كلمته (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) الذي هو طاغ متجاوز للحد ، فإن الذين كفروا لا يريدون بقتالهم إلا الظلم والطغيان وإبقاء الأنظمة الفاسدة والعادات والتقاليد الزائفة (فَقاتِلُوا) أيها المؤمنون (أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ) وأحبّاءه الذين يتولّونه (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ) ومكره وحيلته في سبيل إبقاء أمره وتقوية جيشه (كانَ ضَعِيفاً) فيغلبه نصر الله وولاية للمؤمنين. ولا مجال لأن يقال : فكيف نرى غلبة الكفار في كثير من الأحيان؟ فإن الجواب : إن ذلك لعدم توفر شروط المقاتلة في المؤمنين ، إذ أن الله سبحانه لم يعد النصر مطلقا بل مشروطا بأن يعدّوا لهم ما استطاعوا من قوة ، وأن يصدقوا في الجهاد والمثابرة إلى غير ذلك ، نعم مع توفر الشروط لا يفيد الأعداء جمعهم وكثرتهم ، كما دلت التجارب على ذلك وصدّق الخبر الخبر.

[٧٨] كان المسلمون وهم بمكة يطلبون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإذن لهم في قتال الكفار حينما كانوا يلاقون منهم الأذى ولما جاء دور القتال في المدينة تولى بعضهم ، كما هو العادة عند الناس غالبا حيث أنهم يحرّضون الرؤساء على الإقدام فلما أن أقدموا كانوا أول المنهزمين (أَلَمْ تَرَ)

٥٠٧

إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ

____________________________________

يا رسول الله استفهام تعجبي (إِلَى) المسلمين (الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ) بمكة ـ والقائل هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) أي أمسكوها واقبضوها عن القتال (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فإنه لا يجب عليكم الجهاد الآن ، وكان النهي عن الجهاد لقلّتهم وعدم تمكنهم من مقابلة العدو ، وأنهم إن قاتلوا أبيدوا واجتثّت جذور الإسلام ، بالإضافة إلى إرادة رسوخ الإيمان في قلوبهم ، فإن الإنسان مهما ابتلي بالمشقات والشدائد يصفو جوهره وتصقل نفسه (فَلَمَّا) أتوا إلى المدينة و (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) أي فرض عليهم (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء المسلمين الذين كانوا يطلبون الإذن بالقتال (يَخْشَوْنَ النَّاسَ) الكفار أن يقتلوهم إذا بارزوا (كَخَشْيَةِ اللهِ) كما يخافون من الله سبحانه أن يميتهم (أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) إذ خوف الإنسان من الموت غالبا أقل من خوفه من القتل ، إذ القتل يكتنف في الأغلب بالأهوال والمرعبات بخلاف الموت.

(وَقالُوا) أي قال هؤلاء الفريق : (رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) أي لأي علة فرضت علينا أن نقاتل فعلا؟! (لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي لماذا لم تؤخر الأمر بالقتال إلى زمان آخر قريب ، حتى نستعد للحرب. فقد ورد في بعض التفاسير : أنه كان بالنسبة إلى «حرب بدر» حيث كان بعض المسلمين يكرهون ذلك لأنهم لم

٥٠٨

قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ

____________________________________

يستعدوا ويطلبون التأخير إلى أجل قريب ليستعدوا.

(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : إن كان خوفكم من الحرب لأجل احتمال القتل فما فائدة البقاء في الدنيا؟ إذ (مَتاعُ الدُّنْيا) أي ما يستمتع به في الدنيا (قَلِيلٌ) الأمد يفنى بعد مدة (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) المعاصي وعمل بالواجبات (وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي مقدار فتيل ، وهو ما في شق النواة فإذا قتلتم ، لا تهدر أتعابكم وأعمالكم.

[٧٩] ثم لماذا الفرار من القتال ، الخوف الموت؟ فإن الموت لا محالة يدرك الإنسان (أَيْنَما تَكُونُوا) من الأماكن (يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) أي يلحقكم وينزل بكم (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) البروج جمع برج ، وهو القصر أو البناء المستحكم الذي يرصد فيه للأعداء ويشرف منه على القادم والذاهب ، وال «مشيدة» هي التي شيدت وبنيت بإحكام ، أي أن الموت لا يهاب البروج والقلاع والحصون والمراصد.

ثم وصف سبحانه حالة هؤلاء الضعاف الإيمان من المسلمين الذين قالوا : (لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ) فإن دخائل نفوسهم تتلوّن ولا تبقى في جهة واحدة وإيمان راسخ (وَ) ذلك لأنه (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) من نماء وزرع وبركة وتقدم في الحرب وصحة وما أشبه (يَقُولُوا هذِهِ) الحسنة (مِنْ عِنْدِ اللهِ) فإنه المتفضل المحسن (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) من غلاء وقحط وتأخر ومرض وما أشبه

٥٠٩

يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً

____________________________________

(يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) يا رسول الله ، فإنه أصابنا بسببك ، كما حكى الله سبحانه عن قدم ذلك ، حيث قال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) (١).

(قُلْ) يا رسول الله لهم : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فهو الذي يجدب وهو الذي يخصب وهو الذي يمرض وهو الذي يشفي ... وهكذا ، فليس مصدر الكوارث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) أي ما شأن هؤلاء الضعاف الإيمان؟ (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي بعداء عن فهم ما نحدّثهم به من القرآن الحكيم.

[٨٠] وحيث تبين أن مصدر الخير والشر هو الله سبحانه يبقى السؤال : ما هو سبب الشر؟ ولماذا يبتلي الله تعالى الإنسان بالشر ، والحال أنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير؟ ويأتي الجواب : (ما أَصابَكَ) أيها الإنسان (مِنْ حَسَنَةٍ) كالزرع والرّخص والصحة والغنى (فَمِنَ اللهِ) إنه يتفضل عليك بلا سبب ، وإن كان قسم منها أيضا بسبب الأعمال الصالحة (وَما أَصابَكَ) أيها الإنسان (مِنْ سَيِّئَةٍ) قحط وغلاء ومرض وما أشبه (فَمِنْ نَفْسِكَ) فإن أعمالك الشريرة هي التي سببت ابتلاءك بالسيئات والمصائب (وَأَرْسَلْناكَ) يا رسول الله (لِلنَّاسِ رَسُولاً) فمهمتك تخصّ التبليغ ولا يرتبط وجودك بالمصائب والآفات ـ كما

__________________

(١) الأعراف : ١٣٢.

٥١٠

وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا

____________________________________

يزعم هؤلاء ـ بل العكس ، إنك منبع الخير ومبعث الهداية والصلاح (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي يكفي كون الله شاهدا على رسالتك وأنك لا ترتبط بالشرور ، لا يقال : كيف يمكن إثبات أن الله يشهد على رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحال أن أحدا لم يسمع من الله ذلك؟ الجواب : لأنا نقول : إن الشهادة التكوينية بإجراء المعجزة على يديه الكريمتين من أكبر أقسام الشهادة.

[٨١] (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ) في أوامره وزواجره ، التي منها أمره بالجهاد ـ كما سبق في بعض الآيات ـ (فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) لأن أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمر الله سبحانه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) (وَمَنْ تَوَلَّى) وأعرض عن أوامر الرسول ، فلا يهمك ذلك يا رسول الله ولا تذهب نفسك عليهم حسرات (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تحفظهم عن المخالفة والتولي ، كما قال تعالى في آية أخرى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢).

[٨٢] ثم حكى سبحانه حال المنافقين الذين تقدم بعض أحوالهم من أنهم يبطّئون عن الجهاد ، ويقولون : لو لا أخرتنا إلى أجل قريب ، وما أصابتهم من سيئة يطيروا بالرسول (وَيَقُولُونَ) هؤلاء : أمرك (طاعَةٌ) إنا مستعدون لتنفيذه ومستسلمون له (فَإِذا بَرَزُوا) أي خرجوا (مِنْ

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

(٢) الغاشية : ٢٢ و ٢٣.

٥١١

عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)

____________________________________

عِنْدِكَ بَيَّتَ) أي قدّر ليلا (طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْهُمْ) أي من هؤلاء المنافقين (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) فيتشاورون بينهم بالليل ليخالفوك وينقضوا أمرك (وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ) أي ما يتواطئون عليه ليلا ، من نقض أمرك ، فيجازيهم على المخالفة والعصيان (فَأَعْرِضْ) يا رسول الله (عَنْهُمْ) فلا تؤاخذهم بأعمالهم حتى تنشق صفوف المسلمين ، فإنهم إن ظهرت خباياهم شقوا الصفوف وخالفوا (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فهو الذي ينصرك ويعينك في جهادك الأعداء (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) فمن وكل إليه سبحانه أمره أنجزه أحسن إنجاز وأكمله أحسن إكمال.

[٨٣] فهل يظن هؤلاء العصاة الذين يخالفون الرسول ويبيتون غير ما يقول ، أن الرسول يأمر وينهى عن نفسه ، دون أن يكون كلامه من الوحي ، وأن القرآن من كلامه لا من كلام الله سبحانه ، ولذا يسهل مخالفته؟ فإن كان هذا ظنهم فهو خطأ محض ، إذ القرآن الذي يقرأه الرسول إنما هو من عند الله ، لا من كلام الرسول (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) تدبرا عميقا حتى يعرفوا أنه فوق كلام البشر ولا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ) حتى لو كان من عند الرسول ـ على عظمته ـ (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) لأن البشر مهما أوتوا من الموهبة لا بد وأن تختلف تعبيراتهم وتتفاوت أفكارهم حسب الأزمان

٥١٢

وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ

____________________________________

والظروف ، فعدم الاختلاف في القرآن من جهة من الجهات ، أدل دليل على أنه ليس من كلام البشر وإنما هو من عند إله حكيم.

[٨٤] ويعود السياق إلى حالة هؤلاء المنافقين الذين تقدمت بعض صفاتهم ، فقال سبحانه : (وَإِذا جاءَهُمْ) أي جاء هؤلاء (أَمْرٌ) أي شيء (مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ) من ظهور المؤمنين على عددهم الموجب للأمن ، أو انهزام المسلمين الموجب للخوف ، ونحو ذلك من كل شيء يوجب أمنا أو خوفا (أَذاعُوا بِهِ) أي أفشوه في الأوساط ، فقد كانت الأخبار المختلفة تذاع وتنشر في المدينة لغرض الدعاية للمسلمين أو عليهم ، فكان هؤلاء الضعاف الإيمان يتلقفونها فورا ويأخذون في إشاعتها ، من دون نظر إلى عاقبة الأمر ، وإلى أن الخبر هل هو صحيح أو لا. ومن الأمور الضرورية بالنسبة إلى الحركات أن تكون أخبارها طي الدرس عند القادة ، ليروا هل من الصلاح إشاعتها أم لا إذ كثيرا ما يكون الخبر مكذوبا وكثيرا ما تكون إشاعة خبر الأمن ، ضد المصلحة ـ ولو كان صحيحا ـ حينما يقتضي الحال الحذر والاستعداد ، وكثيرا ما تكون إشاعة خبر الخوف ضد الصلاح ـ ولو كان صادقا ـ حينما يقتضي الحال الأمن والأمان ، لئلّا يجبن الناس عن الاستعداد والحركة.

(وَلَوْ رَدُّوهُ) أي أرجعوا ذلك الخبر الذي سمعوه (إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ) والمراد به الأئمة عليهم‌السلام ، والذين هم معيّنون من قبل الرسول والأئمة ، فإنه لا أولي أمر إلا هؤلاء كما تقدم ذلك (لَعَلِمَهُ) أي : لعلم ذلك الأمر صدقه وكذبه وكون الصلاح في نشره أو

٥١٣

الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ

____________________________________

كتمانه (الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) أي يستخرجونه (مِنْهُمْ) أي من أولي الأمر فلا يبقى الخبر مردّدا بين الصدق والكذب ، ولا بين الصلاح في إشاعته وعدمه ، ولم يكن محل للظنون والأوهام ولم ترج ـ بعد ـ الأكاذيب لأنها تحت الرقابة. ولم يقل «لعلموه» للإشارة إلى علة علمهم وأنهم بسبب استنباطهم يعلمونه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أيها المسلمون ، حيث يرشدكم إلى مواقع الزلل ومهاوي الخطأ (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) في ما يلقيه عليكم مما يوجب بلبلة صفوفكم وانشطار كلمتكم (إِلَّا قَلِيلاً) من الذين قويت عقولهم فلا يتبعون خطوات الشيطان ، حتى إذا لم يكن رسول ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية حيث أن بعضهم لم يكن يتبع الشيطان بما أوتي من قوة في العقل وسداد في الرأي فليس المراد ـ لو لا فضل الله إطلاقا ـ بل المراد الفضل الخاص.

[٨٥] وعند ما بيّن القرآن سلوك القوم في الجهاد وأن الله هو الذي يتفضل على المؤمنين ، يتوجه السياق إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : (فَقاتِلْ) يا أيها الرسول (فِي سَبِيلِ اللهِ) ولإعلاء كلمته وتنفيذ حكمه (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) فإنك لا تضرّر بفعل المنافقين وإرجافهم وما يبدو منهم ، فإنك لست مكلفا بأفعالهم وأعمالهم كما أنك لست مسئولا عن المؤمنين إلا بقدر نطاق التبليغ والإرشاد (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي حثّهم على القتال (عَسَى اللهُ) أي لعلّ الله (أَنْ يَكُفَ) ويمنع بسبب قتالك (بَأْسَ

٥١٤

الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ

____________________________________

الَّذِينَ كَفَرُوا) أي شدة الكفار وقوتهم بأن يغلّبك عليهم فيعودوا خائبين (وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً) فأنتم بقوة الله وشدته تتقدمون وهو أشد من الكفار قوة (وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً) أي أشد من حيث العقوبة والنكال.

[٨٦] وحيث تقدم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكلّف إلا نفسه ، استدرك الأمر بأن ليس المراد بذلك أن الإنسان الوسيط لا يكون له شيء بالنسبة إلى ما توسط فيه بل (مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً) أي يكون قد شفع صاحبه في الأمور الخيرية ، وذلك إما بالتوسط ، أو بالتحريض أو بالإرشاد (يَكُنْ لَهُ) أي للشفيع (نَصِيبٌ) وحصة (مِنْها) أي من تلك الحسنة فإن الدال على الخير كفاعله (وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً) بأن توسط في الأمر السيئ أو حرّض أو دلّ على ذلك (يَكُنْ لَهُ) أي للشفيع (كِفْلٌ) أي نصيب (مِنْها) لأنه قد تعاون على الإثم والعدوان (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أي مقتدرا فهو القادر في أن يعطي الشفيع نصيبا من الحسنة أو كفلا من السيئة. أو معنى المقيت : المجازي ، أي يجازي على الأمرين.

[٨٧] وقد ناسب الكلام الذي هو حول القتال والجهاد ، الكلام حول السلام والكف عن القتال ، لتقابل الضدين بين الأمر ، ويأتي الجو عاما لا يخص سلام الحرب ، بل السلام المطلق ، فقال سبحانه : (وَإِذا حُيِّيتُمْ) أيها المسلمون (بِتَحِيَّةٍ) والتحية : السلام ، يقال : «حيّ

٥١٥

فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧)

____________________________________

يحيي» إذا سلم (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها) أي من تلك التحية. والآية عامة تشمل كل تحية. قال في «المجمع» : «فلما أمر سبحانه بقتال المشركين عقبه بأن قال : من مال إلى السلم وأعطى ذاك من نفسه وحيّ المؤمنين بتحية فاقبلوا منه» (١). (أَوْ رُدُّوها) بمقدارها فإذا قال أحد لك : «السلام عليكم» فالرد الأحسن أن تقول : «السلام عليكم ورحمة الله» والرد المساوي أن تقول : «السلام عليكم» (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) أي حفيظا محاسبا ، فيحسب ردّكم إن كان بالأحسن أو بالمساوي ليجازيكم عليه.

[٨٨] (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فهو المالك المطلق ذو الصفات الكمالية (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ببعثكم بعد الممات ويحشرنكم (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي إلى موقف الحساب ليجازيكم بأعمالكم فما عملتم في دنياكم من حرب وسلم أو غيرهما لا بد وأن تجازوا عليه هناك (لا رَيْبَ فِيهِ) أي ليس محلا للريب وإن ارتاب فيه المبطلون ، أو أنه بالنظر إلى الواقع ليس فيه ريب وشك ، فهو أمر واقع لا محالة منه (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) فحديثه صادق لا خلف فيه ، وليأتينكم يوم القيامة وتجازون بما عملتم في الدنيا.

[٨٩] ثم يرتد السياق إلى الجهاد وما يتخلله من الاختلاف والانشقاق ويذكّر

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٤٨.

٥١٦

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨)

____________________________________

الله سبحانه المؤمنين بأنه لا ينبغي لهم أن يختلفوا في جهاد الكفار والمنافقين لأعذار واهية ، فقال سبحانه : (فَما لَكُمْ) أيها المسلمون صرتم (فِي الْمُنافِقِينَ) أمر المنافقين (فِئَتَيْنِ) فئة تؤيد محاربتهم لأنهم كفار واقعا ، وفئة لا تؤيد لأنهم أظهروا الإسلام في يوم ما (وَ) الحال أن (اللهُ أَرْكَسَهُمْ) أي ردّهم إلى حكم الكفر (بِما كَسَبُوا) أي بسبب كسبهم للنفاق والشقاق (أَتُرِيدُونَ) أي هل تريدون أيها المسلمون (أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ)؟ أي : أتطمعون في هداية هؤلاء المرتدين ، وقد أضلهم الله؟ وقد تقدم أن معنى إضلال الله تركهم وضلالهم ، بعد أن عرفوا الحق فأعرضوا عنه (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) فيتركه على كفره وضلاله (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) لإنقاذه ، وكيف يمكن إنقاذه وهو معاند يتعامى عن الحق عمدا.

وقد روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «أن هذه الآية نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة ، لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة ، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا فقال بعضهم : لا نفعل فإنهم مؤمنون ، وقال آخرون : إنهم مشركون. فأنزل الله فيهم هذه الآية» (١).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٤٣.

٥١٧

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ

____________________________________

وهذا الأمر عام دائما في كثير من الحركات فإن قسما من الذين يؤمنون لا بد وأن ينقلبوا ثم يختلف فيهم الباقون ، هل أنهم خارجون حقيقة أم لا ، والآية تبين وجوب وحدة الصف أمام هؤلاء بعد ما ظهر منهم الارتداد. ثم لا يخفى أن تعبير الآية بالمنافقين لا يدل على أنهم لم يكفروا إذ النفاق أعم من الكفر ، ومن المحتمل أن الآية تريد بيان وجوب وحدة الصف أمام المنافقين ، حتى يكون التجنب عنهم عاما وليقروا بالعزلة ، وهذا أقرب إلى ظاهر الآية بمناسبة ما سبق من أحكام المنافقين كما أن صريح الرواية وظاهر الآية اللاحقة (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) يدل على المعنى الأول ، وأنه أريد بالنفاق الكفر.

[٩٠] (وَدُّوا) أي أحبّ هؤلاء المنافقين الذين ارتدوا عن الإسلام وأظهروا الشرك (لَوْ تَكْفُرُونَ) أنتم أيها المسلمون (كَما كَفَرُوا) هم (فَتَكُونُونَ سَواءً) في الكفر ومثل هؤلاء لا ينبغي أن ينقسم المسلمون بالنسبة إليهم قسمين (فَلا تَتَّخِذُوا) أيها المسلمون (مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) أحبّاء وأخلاء ، فإن المسلم لا يصادق الكافر كما قال سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) (١) (حَتَّى يُهاجِرُوا) من دار الكفر إلى دار السلام (فِي سَبِيلِ اللهِ) وذلك يلازم الإيمان ، إذ الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن الإيمان الملازم للهجرة (فَخُذُوهُمْ

__________________

(١) المجادلة : ٢٣.

٥١٨

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ

____________________________________

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي أينما أصبتموهم من حلّ أو حرم ، ولا إشكال في محاربة الجاني في الحرم ، أو المراد أينما كانوا من الأرض (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا) أي صديقا خليلا (وَلا نَصِيراً) أي ناصرا ينصركم على أعدائكم ، فإن الكافر لا ينصر المسلم ولو نصره في الظاهر فإنه لا يؤمن شره.

[٩١] ثم استثنى سبحانه عن وجوب مقاتلة هؤلاء من كان داخلا في حلف قوم بينهم وبين المسلمين معاهدة ، فإن دخوله في ذلك الحلف يحقن دمه ، ومن لا يريد محاربة المسلمين وإنما يريد معاهدتهم ، فقال سبحانه ـ مستثنيا من قوله «فخذوهم ..» ـ : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ) أي لهم مواصلة وأحلاف مع قوم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ) أي بين أولئك القوم (مِيثاقٌ). وفي الحديث : «أن هلال بن عويمر السلمي واثق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يتعرض هو لأحد أتاه من المسلمين ، ولا يتعرض الرسول لمن أتى هلال بن عويمر. فأنزل الله هذه الآية ناهيا أن يمس من يأتي هلال من الكفار بسوء» (١).

(أَوْ) الذين (جاؤُكُمْ) أي أتوا إليكم أيها المسلمون (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت صدورهم ـ والسبب أن من يهمه أمر تنتفخ رئته لتجلب أكبر قدر من الهواء ، ليرفّه على القلب الذي حمي بواسطة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٤٥.

٥١٩

أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ

____________________________________

غليان الدم ، فيضيق الصدر لتوسع الرئة ـ (أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ) أي تضيق صدورهم من قتالكم وقتال قومهم فلا يكونون لكم ولا عليكم.

وفي «المجمع» ، قال : «إنما عنى به بني أشجع ، فإنهم قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن دخيلة فأخرج إليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحمال التمر ضيافة ، وقال : نعم الشيء الهدية أمام الحاجة وقال لهم : ما جاء بكم؟ قالوا : لقرب ديارنا منك ، وكرهنا حربك وحرب قومنا ـ يعنون بني حمزة الذين بينهم وبينهم عهد ـ لقلّتنا فيهم ، فجئنا لنوادعك ، فقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك منهم ووادعهم فرجعوا إلى بلادهم» (١).

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ) أي سلط هؤلاء الكفار (عَلَيْكُمْ) بأن لم يلق في قلوبهم رعبكم أيها المسلمون حتى يخافوكم فيسالموكم ، فقد كان هذا من فضل الله سبحانه أن يجعلكم محل هيبة ومنعة ، مع أن عددكم وعددكم لا يقتضيان ذلك ، ولو لم يلطف بكم (فَلَقاتَلُوكُمْ) لكن حيث أنعم الله عليكم بذلك فلا تمدوا إليهم يد المحاربة (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ) هؤلاء الذين ذكروا وهم (الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ ..) أو (جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ..) (فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ) أيها المسلمون (السَّلَمَ) يعني صالحوكم واستسلموا لكم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٥٣.

٥٢٠