تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ

____________________________________

كان مالهم بيده ، والمراد عدم أكل أموالهم ، و «الإتيان» في حال صغرهم الصرف عليهم ، وفي حال كبرهم إعطاؤهم إياها (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي لا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد كأن تأخذوا أراضيهم الجيدة وتعطوهم أراضي رديئة وهكذا (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) أي بضمها إلى أموالكم بأن تخلطوا بعضها مع بعض وتأكلوها جميعا (إِنَّهُ) أي أن كل واحد من التبديل والأكل (كانَ حُوباً) أي إثما (كَبِيراً).

[٤] وقد كانت تحت وصاية الرجل يتيمة فيأخذها طمعا في مالها ، فنهى الله عن ذلك بقوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) أي لا تعدلوا (فِي الْيَتامى) أي لا تعملوا بالعدل في زواجهن فتظلموهن ـ بإبقائها معلقة ـ تريدون بذلك أكل أموالهم بحجة الزواج (فَانْكِحُوا) غيرهن من (ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) فإن اليتيمة لعدم كفيل لها معرضة للظلم والحيف أما غيرها فليست كذلك ، ثم بمناسبته حكم النكاح يمتد الكلام إلى موضوع تعدد الزوجات (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي انكحوا اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، والمراد تزويج نوع الرجل هكذا لا تزويج كل فرد لذلك العدد ، إذ لا يجوز تزويج ثلاثة وثلاثة ـ مثلا ـ في وقت واحد ، وذلك مثل : باع القوم أمتعتهم لأهل البلد ، يراد أن ذلك وقع في الجملة لا أن كل فرد فعل ذلك سواء في طرف البيع أو الشراء. ولا يخفى أن خوف عدم القسط لا يوجب حرمة النكاح وضعا بمعنى

٤٤١

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ

____________________________________

بطلانه إذا نكح بل النهي عنه تكليفا ، وهل هو حرام أو إرشاد احتمالان ، كما لا يخفى أن جواز النكاح مثنى وثلاث ورباع لمن أمن من نفسه وأنه يتمكن من أن يعدل فيما فرض الله لهن من الحقوق (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا) بينهن في ما فرض الله تعالى (فَواحِدَةً) وهذا من باب المثال وإلا فمن علم أنه يتمكن أن يعدل بين اثنتين فله أن ينكح اثنتين لا أزيد وهكذا بالنسبة إلى الثلاث.

وهذه الآية لا تنافي قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) (١) إذ المراد بها العدل في كل شيء حتى الميل القلبي (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي اقتصروا على الإماء فإنهن لا يحتجن إلى القسم ونحوه من الحقوق الواجبة على الرجال في مقابل الحرائر ، والملك نسب إلى اليمين لأن اليد هي الغالبة في العمل ، واليمنى من اليدين أكثر عملا من اليسرى (ذلِكَ) الزواج من الواحدة أو الاقتصار على ما ملكت اليمين (أَدْنى) أقرب (أَلَّا تَعُولُوا) أي لا تميلوا عن الحق ولا تجوروا.

[٥] (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ) أي مهورهن (نِحْلَةً) أي عطية فإن الله سبحانه أعطاها إياهن في مقابل الاستمتاع بهن لا على نحو الابتياع ونحوه ولعل في كلمة «نحلة» إشارة إلى تقدير المرأة ورفعها عن مستوى المعاملة (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ) أيها الأزواج (عَنْ

__________________

(١) النساء : ١٣٠.

٤٤٢

شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤) وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ

____________________________________

شَيْءٍ مِنْهُ) أي من المهر (نَفْساً) تمييز ل «طبن» أي أعطين عن طيب نفس لا بالجبر والإكراه (فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) الهنيء الطيب المستساغ ، والمريء المحمود العاقبة.

[٦] ولما تقدم الأمر بدفع أموال الأيتام ، عقب ذلك بعدم الدفع إلى السفيه (وَلا تُؤْتُوا) أي لا تعطوا (السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) وإنما أضاف المال إليهم لأن المال إنما هو للمجتمع بصورة عامة فإذا دفع إلى السفيه أتلفه وكان نقصا بالنتيجة لمال المجتمع. وليس المراد بكون المال للمجتمع عدم الملكية الفردية بل المراد أن هذا المجموع من الأموال لانتفاع المجموع فإذا تلف منه شيء كان نقصا على المجموع (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) فإن بالمال يقوم أمر البشر إذ لو لا المال لم تستقم أمور الناس ومعايشهم والمعاملة بينهم (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي في تلك الأموال ، ولعل عدم ذكر «منها» بدل «فيها» مع أنه الأنسب ، لإفادة لزوم أن لا يقتطع من المال قطعة ثم قطعة حتى تفنى بل يكون الرزق في المال بأن يبقى المال على أصله ، وذلك لا يكون إلا بتدبيره باتجار ونحوه حتى لا ينقص منه (وَاكْسُوهُمْ) وذكر هذين من باب المثال وإلا فاللازم القيام بجميع نفقاتهم (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) بأن تتلطفوا لهم في القول ، وذلك لأن اليتيم والسفيه معرضان للمخاشنة والنهر.

[٧] (وَابْتَلُوا) أي امتحنوا (الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي السنّ الذي يتمكنون من النكاح والمواقعة فيه وهو سن البلوغ الشرعي

٤٤٣

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦)

____________________________________

(فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي وجدتم (مِنْهُمْ رُشْداً) والرشد عبارة عن تمكّن الشخص من إصلاح أمواله بلا سرف ولا تبذير ولا سفه (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) المودعة عندكم (وَلا تَأْكُلُوها) أي لا تأكلوا أموال اليتامى (إِسْرافاً) أي زيادة على قدر أجرتكم في حفظها فإن الإسراف التعدي عن الحد (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) أي لا تأكلوا أموالهم سريعا من جهة خوف أن يكبروا فيأخذوها منكم فقد كان بعض الأولياء يتلف مال اليتيم قبل أن يكبر حتى إذا كبر قال له : أنفقته عليك (وَمَنْ كانَ) من الأولياء (غَنِيًّا) يجد مؤونة سنة كاملة (فَلْيَسْتَعْفِفْ) يقال : استعفف من الشيء إذا امتنع منه ، والمعنى : أن الولي الغني لا يأخذ شيئا لنفسه من مال اليتيم بعنوان الأجرة والعوض (وَمَنْ كانَ) من الأولياء (فَقِيراً) لا يملك مؤونته لا قوة ولا فعلا فله الحق في أن يأكل من مال اليتيم (بِالْمَعْرُوفِ) الذي هو قدر أجرته على حفظ أمواله لا أزيد من ذلك (فَإِذا دَفَعْتُمْ) أيها الأولياء (إِلَيْهِمْ) أي إلى الأيتام الذين بلغوا ورشدوا (أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) حتى لا ينكروا في المستقبل فإن الشهود حينئذ يكونون في جانبكم لدى الإنكار (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي محاسبا وشاهدا ، فارقبوه في أعمالكم ، فإنه يعلم ما تفعلونه بأموال الأيتام.

٤٤٤

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً

____________________________________

[٨] وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ، فكان الولي يدفع المال كله إلى أولاد الميت دون بناته فنهى الله عن ذلك بقوله : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) أي أقرباء الرجال ، فلا يعطى الرجل أكثر من حظه ونصيبه (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) فلا تحرم من نصيبها كما لا تعطى أكثر من حصتها (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ) أي مما ترك (أَوْ كَثُرَ) فالمهم أن يعطى كل واحد نصيبه على أن لا يكون ما يعطى كثيرا أو قليلا (نَصِيباً مَفْرُوضاً) فرضه الله سبحانه وأوجبه فلا يزاد عليه ولا ينقص منه.

[٩] (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي شهد وقت قسمة التركة (أُولُوا الْقُرْبى) أقرباء الميت الذين لا يرثون (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) من غير أقربائه (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي أعطوهم شيئا من المال الموروث (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا غير خشن حتى يطيب خاطرهم ويجبر كسر عدم إرثهم وكسر يتمهم ومسكنتهم.

[١٠] ثم بيّن سبحانه أن من يأكل مال اليتيم أو يظلمه لا بد وأن يفعل ذلك بذريته اليتامى من بعده (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً

٤٤٥

ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)

____________________________________

ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) أي يجب أن يخاف ولي اليتيم من أكل ماله فإن الولي لو خلف يتيما من بعده كيف يخاف أولياء يتيمه أن يأكلوا أمواله كذلك فليجتنب هو عن ذلك ، والحاصل أن من كان في حجره يتيم فليفعل به ما يحب أن يفعل بذريته. ولا يرد على هذا المعنى أنه كيف يزر وازرة وزر أخرى ، إذ الجواب أن معنى ذلك أن الله سبحانه لا يرعى يتيمه حتى لا يقع في مخالب أولياء ظلمة ، بل يتركهم يفعلون به ما فعل أبوه بأيتام الناس ، وهكذا يفسّر ما ورد من عقوبة الأبناء بفعل الآباء ، و «ضعاف» جمع ضعيف (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) في أمر الأيتام فلا يأكلوا أموالهم ولا يؤذوهم (وَلْيَقُولُوا) للأيتام (قَوْلاً سَدِيداً) صحيحا موافقا للعدل والشرع ، فلا ينهروا الأيتام ولا يخشنوا معهم في الكلام كما جرت عادة كثير من الأولياء.

[١١] ثم هددهم سبحانه بعذاب الآخرة بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) بلا مبرّر واستحقاق والقيد توضيحي ، لإفادة أن أكل أموالهم ظلم وجور (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي يملئون بطونهم (ناراً) فإن مال اليتيم ينقلب نارا (وَسَيَصْلَوْنَ) يقال : صلي الأمر إذا قاسى شدته وحرّه (سَعِيراً) أي نارا مسعّرة مؤجّجة ، والأكل في الآية كناية عن التصرف في المال ولو كان مثل الدار واللباس فإن الأكل يستعمل بهذا المعنى كثيرا.

٤٤٦

يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ

____________________________________

[١٢] (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) والوصية منه سبحانه فرض ، كما قال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ) (١) ومعنى «في أولادكم» أي في ميراث أولادكم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فإن الابن يرث ضعف البنت وقد كان هذا التقدير دقيقا جدا حيث أن كلفة الرجل أكثر من كلفة البنت لوجوب نفقة المرأة على الرجل غالبا وفي كثير من الأحيان هو يقوم بالنفقة وإن لم تجب عليه (فَإِنْ كُنَ) المتروكات الوارثات للميت (نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) أي اثنتين فما فوقها ، فإن ذلك يعبر غالبا بمثل هذه العبارة ، يقال : من له فوق العشرة يؤخذ منه ومن له دونها لا يؤخذ منه ، يراد العشرة فما فوقها (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فإذا كان للميت بنتان فما فوقهما وكان هناك وارث آخر في طبقتهن كالأم والأب كان لهن الثلثان والبقية لسائر الورثة (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) أي أولاد الميت منحصرة في بنت واحدة (فَلَهَا النِّصْفُ) من التركة (وَلِأَبَوَيْهِ) أي الأب والأم للميت اللذين اجتمعا مع الأولاد (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) فنصيب كليهما الثلث (مِمَّا تَرَكَ) الميت (إِنْ كانَ لَهُ) أي للميت (وَلَدٌ) سواء كان الولد واحدا أو

__________________

(١) الأنعام : ١٥٢.

٤٤٧

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً

____________________________________

متعددا ، ذكرا أو أنثى ، أو بالاختلاف. وأما تفصيل ميراثهم فموكول إلى كتب الفقه (١) (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أي للميت (وَلَدٌ) لا صلبيا ولا حفيدا (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) الأب والأم للميت (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) والثلثان الباقيان للأب (فَإِنْ كانَ لَهُ) أي للميت الذي خلف الأبوين بدون الأولاد (إِخْوَةٌ) من الأبوين أو الأب ، والمراد بالأخوة اثنين فما فوق ، والأختان تقومان مقام الأخ ، فلو كان للميت أب وأم وأخوان أو أخ وأختان أو أربع أخوات ، فما فوق (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) وذلك لأن الأخوة يمنعون الأم عن السدس ويوفرونه للأب فلا ترث الأم الثلث مع وجود الأخوة. وتقسيم التركة هكذا إنما هو (مِنْ بَعْدِ) إنفاذ (وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها) الميت (أَوْ دَيْنٍ) على الميت ، فأولا يؤخذ الدين من التركة ثم تنفذ الوصية من التركة ـ إلى حد الثلث ـ ثم يقسم الباقي بين الورثة كما ذكر ، فلو كان للميت عشرة دنانير ، وكان عليه دين قدره أربعة دنانير ، ووصّى بالإنفاق في الخيرات ، مقدار ثلثه ، كان للوارث مقدار أربعة دنانير فقط ، لأن أربعة خرجت دينا ، ودينارين ثلثا ، فلم يبق إلا أربعة (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) فلا تميلوا إلى توريث الآباء أكثر من الأبناء بظن أنهم أحق من جهة الأبوة ولا إلى العكس بظن أنهم أحق من جهة الضعف الفطري الموجود في الأبناء

__________________

(١) موسوعة الفقه : ج ٨٢ و ٨٣.

٤٤٨

فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ

____________________________________

فإنكم لا تعلمون أيهم أقرب نفعا ، والله الذي هو يعلم الأشياء يقرر الحق كما تقدم فلا تخالفوا تحديده في أنصبة الميراث جريا وراء العاطفة والأوهام ، فإنكم لا تعلمون أنكم بأيهما أسعد في الدنيا والآخرة (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله هذه الأنصبة فريضة واجبة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) فهو عالم بالمصالح حكيم فيما يفعل ويقرر.

[١٣] (وَلَكُمْ) أيها الأزواج (نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ) أي زوجاتكم ، فإن ماتت زوجة أحدكم فللزوج النصف (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَ) أي للزوجات (وَلَدٌ) سواء كان من هذا الزوج أو من غيره (فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ) واحد أو متعدد (فَلَكُمُ) أيها الأزواج (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ) من ميراثهن (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) فأولا يخرج الدين ثم تخرج الوصية إلى حد الثلث ثم تقسّم التركة فللزوج الربع والبقية للأولاد (وَلَهُنَ) أي للزوجة التي بقيت بعد وفاة زوجها (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ) أيها الأزواج (وَلَدٌ) وقد دلت الشريعة أن الزوجة لا ترث من الأرض (فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ) واحد أو متعدد ،

٤٤٩

فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ

____________________________________

ذكر أو أنثى ، من تلك الزوجة الباقية أو من غيرها (فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ) من الميراث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها) أيها الأزواج (أَوْ دَيْنٍ) ولعل تقديم الوصية في الآيات ـ مع أن الدين مقدم في الإخراج ـ أن الغالب وجود الوصية بخلاف الدين. (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) الكلالة هم : الأخوة سواء كانوا من الأب أو الأبوين أو الأم ، والمعنى أنه إن كان الوارث كلالة بأن لم تكن المرتبة الأولى موجودة ، فإن الأبوين والأولاد في المرتبة الأولى ، والأخوة والأجداد في المرتبة الثانية ، والأعمام والأخوال والعمات والخالات في المرتبة الثالثة ، والزوجان يرثان مع كل مرتبة. و «كلالة» في الإعراب منصوب على الحالية ، فالمعنى إن وجد رجل يرثه قريب له في حال كون ذلك القريب كلالة له (أَوْ) إن كان (امْرَأَةٌ) تورث كلالة ، أي وجدت امرأة يرثها قريب لها في حال كون ذلك القريب كلالة لها ، والحاصل أنه لو مات رجل أو امرأة (وَلَهُ) أي لكل واحد من الرجل والمرأة الذين ماتا (أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) والمراد هنا كلالة الأمّي خاصة بأن كان الوارث شريكا مع الميت في الأم فقط ، بأن بقي أخوه أو أخته الأميان (فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) من تركة الميت (فَإِنْ كانُوا) أي كانت الكلالة (أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ) الواحد ، بأن كانت الكلالة اثنين فصاعدا (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) يقسمونه بينهم بالسوية فإن الكلالة الأمي يرثون متساوين ،

٤٥٠

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣)

____________________________________

للذكر مثل حظ الأنثى (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها) من قبل الميت (أَوْ دَيْنٍ) فإن الدين والوصية يخرجان من المال ثم يعطى للواحد من الكلالة السدس وللاثنين فصاعدا الثلث (غَيْرَ مُضَارٍّ) أي لا يضار الكلالة بأن يحرموه من الثلث ، أو يكون المعنى : إنما تنفذ الوصية إذا كان الموصي غير مضار بأن لم يوصي بأكثر من الثلث وإلا لم تنفذ الوصية فيما زاد على الثلث (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) أي هذه الأنصبة يوصيكم الله بها وصية (وَاللهُ عَلِيمٌ) فيقدر الأنصبة حسب ما يعلم من المصالح (حَلِيمٌ) لا يعاجل العصاة بالعقوبة فمن خالفه في الإرث ولم ير عقوبة عاجلة فذلك لحلمه سبحانه فلا يغرّه ذلك.

[١٤] (تِلْكَ) التي بيّنت في أمر الإرث (حُدُودُ اللهِ) أي الحدود التي جعلها الله سبحانه لمقادير الإرث فلا يجوز التجاوز عنها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بتطبيق أوامرهما والاجتناب عن مخالفتهما (يُدْخِلْهُ) الله سبحانه (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت قصورها وأشجارها (خالِدِينَ فِيها) فلا زوال لهم عنها بالموت أو الإخراج أو ما أشبه (وَذلِكَ) أي نيل الجنة والخلود فيها (الْفَوْزُ) والفلاح (الْعَظِيمُ) الذي لا يماثله شيء فلا يحسب أحد أن الفوز ببعض التركة

٤٥١

وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ

____________________________________

ظلما شيء يعتدّ به فإنه لا فوز كفوز الجنة الدائمة.

[١٥] (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بمخالفة أوامرهما وارتكاب نواهيهما (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) فيتجاوز ما حدّ له من الطاعات (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) أي دائما. ومن المعلوم أن ذلك لمن خالف جميع الأوامر لا بعضها التي دل الدليل على عدم خلوده ، ولعل عموم «حدوده» حيث أنه جمع مضاف ، يدل على ذلك (وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) فيهان في العذاب حتى يجتمع عليه عذاب الروح وعذاب الجسد.

[١٦] وحيث بيّن سبحانه حكم الرجال والنساء في باب النكاح والميراث بيّن حكم الحدود فيهن إذا ارتكبن الحرام فقال سبحانه : (وَاللَّاتِي) جمع «التي» أي النساء اللاتي (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) أي الزنا ، وإنما سميت بالفاحشة لأنه أمر يفحش ويتجاوز الحد (مِنْ نِسائِكُمْ) سواء كنّ ذوات أزواج أو لا (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) أي اطلبوا شهادة أربعة رجال رأوا الزنا كالميل في المكحلة (فَإِنْ شَهِدُوا) أربعة عدول على ذلك (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) أي فاحبسوهن فيها. وقد كان ذلك حكم الإسلام بالنسبة إلى الزانية ابتداء (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ)

٤٥٢

أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ

____________________________________

أي حتى تموت (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) أي يجعل لهن أمرا آخر غير الحبس. وقد نزلت آية الحدود وهي قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (١) فارتفع حكم الحبس في البيت. وما ورد في الأخبار من أن آية الحد ناسخة لآية الحبس ، يراد به أن حكم الحبس ارتفع لانقضاء أمده ، لأنه كان مؤقتا بجعل السبيل.

[١٧] (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) لعل المراد ب «اللذان» اللائط والملوط به فالضمير يرجع إلى الفاحشة لا بمعناها الأول بل بالمعنى المنطبق ، أما تفسيره بالزانيين ـ فإن لم يرد بذلك حديث عن المعصوم عليه‌السلام ـ فبعيد. (فَآذُوهُما) الأذية أعم من الحد فلا حاجة إلى القول بنسخ الحكم ـ إن لم يرد بذلك حديث معتبر ـ (فَإِنْ تابا) من فعلهما (وَأَصْلَحا) والمراد بالإصلاح الإتيان بالأعمال الصالحة (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) ولا تتعرضوا لهما بسوء (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

[١٨] ثم بيّن سبحانه ممن تقبل التوبة وممن لا تقبل؟ لمناسبة قوله : «فإن تابا» فقال : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) أي أن قبول التوبة حق عليه سبحانه ـ جعله على نفسه ـ أو المراد توبة الله أي رجوعه عن المعاصي ، فإن كلّا من الله والعبد توّاب بمعنى راجع إلى الآخر ، فإن رجوع العبد بمعنى إقلاعه عن الذنب ورجوع الله بمعنى لطفه وإحسانه

__________________

(١) النور : ٣.

٤٥٣

لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ

____________________________________

وإعادة نظره إلى العبد (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) العمل المحرّم (بِجَهالَةٍ) الظاهر أنه ليس المراد بالجهالة الجهل مقابل العلم ، بل المراد مطلق العصيان ، فإنها وإن صدرت عن عمد ، لكن حيث أنها يدعو إليها الجهل بما يترتب عليه الذنب ، يصح أن يقال : أنها عن جهل ، وليس القيد احترازيا حتى يقال : فما هو السوء بغير جهالة؟ بل فائدته أن السوء لا يصدر إلا عن جهل (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قبل أن يروا علائم الموت (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) يرجع عليهم بمحو ذنوبهم وإعادة لطفه عليهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بمصالح العباد فيحكم بمقتضى علمه (حَكِيماً) يضع الأشياء في مواضعها حسب ما تقتضيه الحكمة.

[١٩] (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ) المقبولة النافعة (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) المعاصي ، وإنما سميت سيئة لأنها تسيء إلى صاحبها (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) بأن رأى آثاره من مشاهدة ملك الموت ونحوه (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) فإنها توبة المضطر الذي يريد الخلاص من العقاب لا توبة النادم المطيع ، كما قال سبحانه في قصة فرعون : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (١) (وَلَا الَّذِينَ

__________________

(١) يونس : ٩٢.

٤٥٤

يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

____________________________________

يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فقد انقطعت الحياة التي هي محل العمل وجاءت دار الحساب التي فيها حساب ولا عمل (أُولئِكَ) الطائفتان (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي هيّأنا لهم عذابا يؤلمهم بسبب ما فعلوا من المعصية ، ولا يخفى أنه بالنسبة إلى من عمل السيئات حتى جاءه الموت لا يكون العصيان سببا موجبا للعقاب ، فإن ذلك معلق بعدم الشفاعة والعفو.

[٢٠] ثم انتقل السياق إلى حكم آخر من الأحكام المرتبطة بالعائلة ، وهو حكم المهر ، فقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) والحكم وإن كان عاما للمؤمن وغير المؤمن لكن الإصغاء حيث كان خاصا بالمؤمنين توجه الخطاب إليهم (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فقد كان أهل الجاهلية إذا مات بعض ذويهم حبسوا زوجته حتى تموت عندهم ويرثونها أي يأخذون ميراثها ولم تكن المرأة تريد ذلك بل تريد الزواج من رجل آخر فيمنعونها عن ذلك (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) العضل : هو إمساك المرأة في البيت دون تزويج ، فإنه لغة بمعنى المنع (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) فقد كان أهل الجاهلية إذا لم يرغبوا في زوجاتهم لم يطلقوهن وتركوهن ومنعوهن عن الزواج حتى تفتدي ببعض مهرها أو سائر أموالها (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي بمعصية ظاهرة من زنا

٤٥٥

وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠)

____________________________________

أو غيره فإنه يحق حينئذ لكم أن تضيقوا عليهن حتى يفتدين ببعض ما آتيتموهن (وَعاشِرُوهُنَ) أي عاشروا النساء ـ مطلقا ـ (بِالْمَعْرُوفِ) الذي يعرفه أهل العقل والدين (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) فلا تعجلوا بالطلاق (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) من ائتلاف وحب في المستقبل ، أو أولاد صالحين ، أو نحو ذلك. فإنه كثيرا ما تقع نفرة بين الزوجين وتنتهي بوئام وسلام ووداد وحب وألفة.

[٢١] (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) بأن أردتم طلاق امرأة وأخذ امرأة أخرى مكانها (وَآتَيْتُمْ) أي أعطيتم من باب المهر (إِحْداهُنَ) وهي المرأة السابقة (قِنْطاراً) ملء جلد ثور ذهبا (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) أي من ذلك المعطى لها مهرا ، فقد كان الرجل في الجاهلية إذا أراد طلاق امرأة وأخذ أخرى مكانها ضيّق على زوجته الأولى أو بهتها بفاحشة حتى يجبرها أن تفتدي نفسها فيجعل فداءها مهرا للزوجة الثانية (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) هو مصدر في مكان الحال ، وهذا استفهام استنكاري ، أي هل تأخذون بعض مالها بالبهتان؟! (وَإِثْماً مُبِيناً) أي بالإثم الواضح.

٤٥٦

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)

____________________________________

[٢٢] (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) تعجّب من أخذ بعض مهر المرأة بهذا النحو المشين (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) هو كناية عن الجماع ، أي والحال أنكم اقتربتم منهن فذهب المهر لما حصلتم عليه من البضع ، والإفضاء هو الوصول إلى شيء بالملامسة (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) والميثاق هو العهد الذي أخذته الزوجة من الزوج بالعقد لأن العقد معناه مقابلة المهر بما تستحل من نفسها له ، وقد كان لازم العقد الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان.

[٢٣] (وَلا تَنْكِحُوا) أيها المؤمنون (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) فقد كان أهل الجاهلية ينكحون زوجات آبائهم بعد وفاتهم ، فنهى الله سبحانه عن ذلك سواء دخل الأب بها أم لا (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قبل إسلامكم فلا تؤاخذون بذلك الذنب ، فإن الإسلام يجبّ ما قبله ، يعني أن ذنب أخذكم نساء آبائكم قبل الإسلام معفوّ عنه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) أي زنا فإن زوجة الأب من محارم الابن فمقاربتها زنا (وَمَقْتاً) أي موجبا لمقت الله وغضبه (وَساءَ سَبِيلاً) فإنه سبيل الكفار والعصاة.

[٢٤] ثم ذكر سبحانه سائر أصناف المحرمات من النساء ، ومن المعلوم أن التحريم يقوم بالطرفين فكما تحرم المرأة على الرجل كذلك يحرم الرجل على المرأة ، وقد كانت هذه المحرمات ، محللات عند بعض

٤٥٧

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ

____________________________________

الناس كالمجوس ، ولذا صرح القرآن الكريم بتحريمها ، فقال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) وهي كل امرأة يرجع نسبك إليها بالولادة كالأم والجدة من الطرفين (وَبَناتُكُمْ) وهي كل امرأة يرجع نسبها إليك بالولادة بنتا أو بنت أولادك الذكور أو الإناث (وَأَخَواتُكُمْ) وهن اللاتي جمعك وإياهن رحم أمّ أو صلب ذكر (وَعَمَّاتُكُمْ) وهن أخوات لذكر يرجع نسبك إليه من طرف الأب ، كأخت الأب وأخت الجد الأبي ، أو من طرف الأم كعمة الأم التي هي أخت لأب الأم (وَخالاتُكُمْ) وهنّ اللاتي يكن أخوات لأنثى يرجع نسبك إليها من طرف الأم كأخت الأم وأخت الجدة الأمية ، أو من طرف الأب كأخت أم الأب التي هي خالة أبيك (وَبَناتُ الْأَخِ) بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخ (وَبَناتُ الْأُخْتِ) بلا واسطة أو مع الواسطة كحفيدة الأخت. وهذه السبعة هي أصناف المحرمات بالنسب.

ثم بين سبحانه المحرمات بالسبب فقال : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) بلا واسطة كأمك بالرضاع ، أو مع الواسطة كالأم بالرضاع للأب ، والأم بالرضاع للأم وهكذا (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) ولم يذكر الأصناف الأخرى من المحرمات بالرضاع كالعمة والخالة ، إما لفهم ذلك من السياق أو لدخولهن في «أخواتكم» فإن العمة أخت الأب والخالة أخت الأم ، وإذا تحققت حرمة الأخت تحققت حرمة بنت الأخ وبنت الأخت.

٤٥٨

وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ

____________________________________

(وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) أم الزوجة مباشرة كانت أو لا ، كأم أب الزوجة ، وأم أم الزوجة ، وحيث أطلق سبحانه ، تبيّن أنه بمجرد العقد على المرأة تحرم أمها سواء دخل بالزوجة أو لا (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) الربائب : جمع «ربيبة» وهي بنت زوجة الرجل من غيره سواء كانت قبل هذا الزوج أم بعد هذا الزوج ، وقيد «اللاتي» للغلبة فإن الغالب أن الرجل إذا تزوج بامرأة لها بنت رباها في حجره ، والحجور جمع حجر. ثم إنه لا فرق في الربيبة بين أن تكون بلا واسطة كبنت الزوجة ، أم مع الواسطة كبنت الربيبة ، أو بنت ابنها ، أو أخت بنتها (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) أي حصل منكم جماع لهن ، فإن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على أمها ، وإنما تحرم لو دخل بأمها ، فلو تزوج بامرأة ولم يدخل بها ، ثم فارقها بطلاق أو فسخ أو انقضاء مدة في العدة أو نحو ذلك ، حل له أن يأخذ ربيبتها. وهذا هو الفارق بين «أم المرأة» وبين «بنت المرأة» (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) في نكاح بناتهن ، بعد خروج الأمهات عن حبالتكم (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) حلائل : جمع حليلة ، وهي الزوجة ، أي زوجات أبنائكم ، سواء كان الابن بلا واسطة ، أو مع الواسطة كابن الابن ، وابن البنت (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وذلك مقابل «الدعي» وهو من يتبناه الإنسان ،

٤٥٩

وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)

____________________________________

فإنه لا يحرم على الأب المتبني زوجة الابن الذي تبناه ، لقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) (١) أما الابن الرضاعي فإنه بمنزلة الابن النسبي لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الرضاع لحمة كلحمة النسب» (٢).

(وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي يحرم الجمع بين الأختين بأن تكونا في حبالته معا ، ويجوز أخذ واحدة ثم إخراجها عن حبالته ونكاح الأخرى (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) فإن أعمالكم في الجاهلية بالنسبة إلى نكاح المحرمات غير مؤاخذين عليها في الإسلام ، لأن الإسلام يجبّ ما قبله (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً) يغفر ذنوبكم السابقة (رَحِيماً) يرحم بكم فلا يجازيكم بسيئاتكم.

__________________

(١) الأحزاب : ٥.

(٢) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ص ٣٠١.

٤٦٠