تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)

____________________________________

[١٤٧] وما لكم أيها المسلمون وهنتم في غزوة أحد وفررتم؟ ألم يمكنكم الاقتداء بالمؤمنين السابقين الذين كانوا مع الأنبياء يصمدون في وجه الباطل؟ (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فإن كثيرا من الأنبياء عليه‌السلام قاتلوا ، وجاهد معهم وتحت لوائهم أناس من المؤمنين ربانيين منسوبون إلى الرب تعالى بالطاعة والعبادة والإيمان ، أو بمعنى أخيار فقهاء (فَما وَهَنُوا) أي ما فتروا (لِما أَصابَهُمْ) من القتل والسلب والجروح والقروح (فِي سَبِيلِ اللهِ) للتنبيه على شدائدهم التي كانت في سبيل الله سبحانه (وَما ضَعُفُوا) عن عدوهم (وَمَا اسْتَكانُوا) أي ما خضعوا ولا تضرعوا لعدوهم (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) الذين يصبرون في الشدائد وفي الحروب.

[١٤٨] (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) أي قول أولئك الربانيون عند الجهاد وملاقاة الأعداء (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) فكانوا يستغفرون عند اللقاء مما فات منهم من الذنوب استعدادا للقاء الله سبحانه طاهرين (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) أي تجاوزنا الحدود وتفريطنا وتقصيرنا (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) حتى لا تزل أمام الأعداء فننهزم (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فهم جاهدوا وجلين من ذنوبهم لم يطلبوا إلا العفو في تواضع وخشوع ، ولم يقصدوا إلا نصرة الدين على القوم الكافرين.

٤٠١

فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩)

____________________________________

[١٤٩] فجزاء على ما سلف منهم من الصبر والثبات والجهاد في خشوع وتواضع آتاهم (اللهُ) أي أعطاهم الله سبحانه (ثَوابَ الدُّنْيا) بالفتح والغلبة والعزة والرفاه (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) بجنات تجري من تحتها الأنهار ، أي ثواب الآخرة الحسن ، والإتيان بكلمة «حسن» هنا دون «ثواب الدنيا» لعله للإشارة إلى أن ثواب الآخرة هو الذي يوصف بالحسن ، أما الدنيا فإنها زائلة فلا قيمة لثوابها ، أو المراد «أحسن» أقسام ثواب الآخرة الذي لا يعطى إلا للمجاهدين ، بخلاف الدنيا فإن ثوابها عام للبرّ والفاجر (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ومحبة الله سبحانه فوق كل ثواب كما قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١).

[١٥٠] لما اشتد الأمر يوم أحد أخذ جماعة من المنافقين يدعون الناس إلى الارتداد عن دينهم حتى يستريحوا فأنزل الله فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) من المنافقين ، أو من اليهود والنصارى الذين أخذوا يشيعون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل فارجعوا إلى دينكم وعشائركم (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) كفارا كما كنتم (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) قد خسرتم الدنيا والدين ، فإن دنيا الجاهلية كانت فوضى وفقرا ورذيلة.

__________________

(١) آل عمران : ١٦.

٤٠٢

بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ

____________________________________

[١٥١] (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي هو أولى بكم من الكفار والمنافقين ، وهو ينصركم على أعدائكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لأن في نصرته خيرا للدارين بخلاف نصرة غيره.

[١٥٢] (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي نقذف الخوف والفزع في قلوبهم حتى تغلبوهم وهكذا ينصركم الله تعالى (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) أي بسبب شركهم (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي برهانا وحجة ، فإن شركهم كان تقليدا لا عن دليل وحجة (وَمَأْواهُمُ) أي محلهم ومستقرّهم (النَّارُ) في الآخرة (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) أي أن النار بئس مقام الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر. وقد ورد أن الآية نزلت حين همّ المشركون ـ يوم أحد ـ بالرجوع إلى المسلمين لاستئصالهم عن آخرهم فلما عزموا ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به ، ولا يخفى أن إلقاء الرعب في قلب الكافر أمر طبيعي فإن المسلم يستمد القوة من الله سبحانه أما الكافر فحيث لا يعتقد به سبحانه يكون قلبه هواء فيتسرب إليه الخوف.

[١٥٣] ثم بيّن سبحانه أن هزيمتهم يوم أحد لم تكن إلا بسبب مخالفتهم أوامر الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلا فالله سبحانه نصرهم كما وعد ، حتى هزموا المشركين (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) وفي لكم بما وعد من نصرتكم

٤٠٣

إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ

____________________________________

على الكفار (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) أي تقتلونهم ، فإن «حسّه» بمعنى قتله وأبطل حسّه وحياته ، ومعنى «بإذنه» : بأمره ، فإن الله أذن لهم في القتال كما قال : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (١) ، (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) جبنتم وكففتم وخالفتم أمر الرسول (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) هل يبقى الرماة الخمسون في الشعب كما أمرهم الرسول أم يخرجوا يجمعون الغنائم؟ ـ كما تقدم ـ (وَ) بالآخر (عَصَيْتُمْ) أمر الرسول في لزوم أماكنكم فتخليتم عن الشعب ، فقد تخلى من الخمسين سبع وثلاثون (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الله سبحانه (ما تُحِبُّونَ) من هزيمة الكفار ونصرة المسلمين (مِنْكُمْ) أيها المسلمون (مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) وهم الذين خالفوا الرسول طلبا للغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم : عبد الله رئيس الرماة في الشعب واثني عشر من أصحابه الذين ثبتوا في أماكنهم (ثُمَّ صَرَفَكُمْ) أيها المسلمون (عَنْهُمْ) أي عن الكفار ، بل توجهتم إلى الغنائم عوض أن تحتفظوا بأماكنكم ، فإن في حفظ المكان كان توجها نحو الكفار لئلا يرجعوا إلى المسلمين من ورائهم ، بخلاف التوجه نحو الغنيمة فإنه كان صرفا عن الكفار ، وإضافته إليه سبحانه كسائر الإضافات نحو «ومن يضلل» أو باعتبار أن الصرف كان عقوبة لهم على إرادتهم للدنيا

__________________

(١) الحج : ٤٠.

٤٠٤

لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ

____________________________________

(لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي يمتحنكم ويختبركم ، حتى يظهر ما أنتم عاملون (وَلَقَدْ عَفا) الله سبحانه (عَنْكُمْ) خطيئتكم بمخالفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ينصرهم على أعدائهم ويعفو عن ذنوبهم ، ومعنى الفضل : المن والنعمة ، فإنه يعطيهم فضلا أي فوق استحقاقهم.

[١٥٤] ولقد عفا عنكم (إِذْ تُصْعِدُونَ) أي تذهبون في وادي أحد للانهزام ، فإن الإصعاد الذهاب في الأرض (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) أي لا تلتفتون إلى أحد من ورائكم بل كل همكم السرعة في الفرار حتى لا يأتيكم الطلب (وَالرَّسُولُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَدْعُوكُمْ) يناديكم (فِي أُخْراكُمْ) أي من ورائكم ، يقال : جاء فلان في آخر الناس أي من ورائهم (فَأَثابَكُمْ) أي جازاكم الله على فراركم (غَمًّا) متصلا (بِغَمٍ) غمّ الهزيمة وغمّ القتلى الذين قتلوا منكم ـ ويحتمل في اللفظين أمور ـ (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الخير (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الضرر ، فإن الإنسان إذا وقع في الشدائد وجرّبها ومارسها تصلب نفسه وتقوى روحه فلا تتزحزح بمصيبة ولا تهتز بكارثة ، وهكذا كانت هزيمة أحد درسا وعبرة حتى يصغر في نفوس المسلمين كل ما يفوتهم من خيرات وكل ما يصيبهم من شرور وآلام (وَاللهُ خَبِيرٌ) ذو خبر واطلاع

٤٠٥

بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ

____________________________________

(بِما تَعْلَمُونَ) فيجازيكم على حسب أعمالكم.

[١٥٥] (ثُمَّ أَنْزَلَ) الله (عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِ) الذي غشيكم لهزيمتكم (أَمَنَةً) أي أمنا (نُعاساً) أي نوما ، وهو بدل اشتمال ل «أمنة» فإنهم ناموا من شدة التعب والنصب بعد ما ذهب خوفهم وذهب الكفار ، و «أمنة» مصدر كالعظمة والغلبة. لكن هذا النعاس كان (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) فقط الذين كانوا يعلمون أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق وأن الله لا يتركه وأن ما أصابهم يوجب الثواب والفائدة لهم (وَ) هناك (طائِفَةً) ثانية كانوا مع النبي منافقين (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) يفكّرون في هزيمتهم لا ينامون من الحزن والخوف حين انتشر بينهم أن الكفار عازمون على الرجوع وكانوا يشكّون في نصرة الله ولذا لم يتمكنوا أن يناموا خوفا (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) وأنه لا ينصر نبيه (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) من الكفار المكذبين بوعد الله سبحانه (يَقُولُونَ) ما في نفوسهم من ظنون الجاهلية : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أمر الغلبة والنصرة (مِنْ شَيْءٍ) في مقام الاستنكار والتعجب أن ينتصروا على الكفار إذا رجعوا (قُلْ) لهم يا رسول الله : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) ينصر من يشاء ، فللمسلمين النصر والغلبة بإعطاء الله لهم إياها (يُخْفُونَ) هؤلاء المنافقين (فِي أَنْفُسِهِمْ) النفاق والكفر (ما لا يُبْدُونَ لَكَ)

٤٠٦

يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ

____________________________________

أي لا يتجرءون على إظهاره (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) أي من النصرة والغلبة (شَيْءٍ) وكنا حقيقة منصورين (ما قُتِلْنا) أي ما قتل أصحابنا (هاهُنا) في غزوة أحد (قُلْ) يا رسول الله في جوابهم : إن كون الأمر لنا لا يلازم أن لا يقتل منا أحد فإن الإنسان يموت إذا جاء أجله ولو كان في داره ومنزله (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي خرج الذين كتب عليهم القتل ـ بأن رقم موتهم في اللوح المحفوظ ـ إلى مصارعهم. و «مضاجع» جمع مضجع بمعنى محل النوم (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) يختبر الله ما في صدوركم ، فإن ما في الصدور من الإخلاص والنفاق ، والثبات والوهن ، إنما يظهر عند الشدائد والمحن ، وهذا عطف على قوله : «ليبتليكم» أو مستأنفة ، أي فعل الله سبحانه ما فعل ليبتلي (وَلِيُمَحِّصَ) أي يخلص (ما فِي قُلُوبِكُمْ) بأن يكشفه للناس ولكم ، حيث أن الإنسان يظن أشياء فإذا حدث الحادث يظهر له خلاف ما كان يظن بنفسه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فليس الامتحان لأن يعلم هو تعالى ، بل لأن يظهر ما يعلمه.

[١٥٦] (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا) أدبروا وانهزموا (مِنْكُمْ) أيها المسلمون

٤٠٧

يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا

____________________________________

(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) يوم أحد الذي التقى فيه جمع المسلمين بقيادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجمع المشركين بقيادة أبي سفيان (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) طلب زلتهم وعصيانهم (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) أي بسبب بعض المعاصي التي كانوا يعملونها فأخذتهم عاقبتها وشؤمها (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) بعد ما ندموا ورجعوا (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر للمذنب إذا تاب (حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة بل يمهل المذنب كي يتوب ويئوب.

[١٥٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) اعتقادا ، وهم الكفار الذين لا يدينون بما وراء الغيب ، أو كفروا عملا وهم المنافقون ومن أشبههم (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في العقيدة ، أو في الإنسانية ، حتى يشمل قول الكافرين للمؤمنين وقوله : «لإخوانهم» أي قالوا بالنسبة إلى الإخوان الذين سافروا فماتوا ، أو حاربوا فقتلوا (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي ذهبوا لأجل التجارة ونحوها ، يقال : ضرب فلان في الأرض إذا سافر ، وتخصيص الأرض بالذكر ، لكون السفر غالبا عن طريق البر (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع «غاز» ، أي حاربوا الأعداء : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مقيمين في أوطانهم (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) فقد حسبوا أن الموت والقتل إنما هما

٤٠٨

لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦)

____________________________________

بالأسباب الطبيعية بما وراء المادة والإحساس. مع أن الموت والقتل لا يكونان إلا بتقدير وقضاء وليس يفيد في ذلك البقاء ، وفي هذا رد لإرجاف المنافقين الذين كانوا يلقون تبعة قتل المؤمنين في أحد على النبي وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرجهم فقتلوا ، ومعنى القضاء والقدر في الأمور التكوينية : التخطيط وتهيئة الأسباب ، فكما أن المهندس الذي يريد بناء دار يخطط شكل الدار المراد بنائها ثم يحضر مواد البناء من آجر وجص وحديد وخشب ، كذلك ما في العالم من الأمور التكوينية خططت وعلمها الله سبحانه وأحضرت موادها. لكن ليس معنى ذلك أن الأمور خارجة عن أيدي البشر وإنما جعل الدعاء والصدقة والأسباب الظاهرة مستثنيات للتخطيط والآلات والأسباب وكل ذلك أيضا بعلمه سبحانه ، وعلى كلّ فليس الموت والقتل مما يكون سببهما السفر والغزو كما زعمه الكفار بل هناك أسباب خفية تدير هذين الأمرين إلى جنب الأسباب الظاهرية ، فليس كل سفر وغزو موجبا للموت كما ليس كل إقامة موجبا للبقاء ، والكفار إنما قالوا ذلك يريدون تثبيط الناس عن الجهاد (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) الاعتقاد ـ المفهوم من الكلام ـ (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) لما حصل لهم من الخيبة حيث رأوا رجوع إخوانهم من السفر والجهاد بالربح والظفر ، ومن الطبيعي أن يحزن ويخسر الشخص الجامد لما ناله الشخص المتحرك من الخير والتقدم المحتومين ، واللام في «ليجعل» إما لام الأمر ، لبيان التأكيد ، أو لام العاقبة ، أي كانت عاقبة هذا الاعتقاد الحسرة والحزن (وَاللهُ يُحْيِي) الأرض والجماد والإنسان (وَيُمِيتُ) فليس السفر والغزو تمام سبب الموت (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فارغبوا في الطاعة

٤٠٩

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ

____________________________________

والجهاد ، واحذروا من المخالفة والفرار ، فإن الله سبحانه يعلم أعمالكم ، ويبصر صنعكم.

[١٥٨] ثم لنفرض أن السفر والغزو سبب الموت فهل الموت مع المغفرة خير أم الحياة لجمع الأموال التي يحياها الكافر الذي يبقى في بلده (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) أيها المؤمنون (فِي سَبِيلِ اللهِ) وجهاد أعدائه (أَوْ مُتُّمْ) في سبيل اكتساب الرزق والتجارة والضرب في الأرض (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) حيث يغفر لكم ويرحمكم حيث كنتم مطيعين له ممتثلين أمره (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي يجمع هؤلاء الكفار الباقون في بلدهم خوفا من الخروج ، فإن من يبقى يكتسب ويجمع مالا.

[١٥٩] ثم أن الموت والقتل لا يسببان انقطاع الحياة حتى يخشاهما الإنسان ويرفع اليد عن مقاصده العالية من خشيتهما (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) فيجازيكم على أعمالكم فخير لكم أن تطيعوه حتى تكونوا مرادا لثوابه وفضله.

[١٦٠] وهنا يلتفت السياق ليثير في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاطفته الكامنة نحو المؤمنين حتى يعفو عن خطأهم في أحد ، حيث أخلوا الشعب حتى سيطر المشركون على المعركة ، وفعلوا تلك الأفاعيل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه من جرح وقتل وتمثيل (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) «ما» زائدة أي بسبب رحمة من الله سبحانه على المؤمنين (لِنْتَ لَهُمْ) أي كنت لينا رحيما بهم فقد

٤١٠

وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ

____________________________________

جعله الله سبحانه رحيما بهم لينا عليهم (وَلَوْ كُنْتَ) يا رسول الله (فَظًّا) جافي اللسان قاسي القلب (غَلِيظَ الْقَلْبِ) غلظا معنويا وهو الذي لا يلين ولا يحنو (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي تفرقوا عنك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) إذا أخطئوا (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) أي اطلب لهم من الله الغفران لما صدر من ذنوبهم ، والله سبحانه وإن كان أرحم بهم لكن ذلك لزيادة عطف النبي ، فإن من يطلب المغفرة لأحد لا بد وأن يزول من قلبه ما علق به من الكراهية ، ولتكثير محبة المؤمنين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يعلمون بأنه يستغفر لهم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) لتأليف قلوبهم ولتعليمهم المشورة في أمورهم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في غنى عنهم بما كان يسدّده الله سبحانه بالوحي (فَإِذا عَزَمْتَ) بعد المشورة على فعل (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تهتم بمن يخالف رأيه رأيك يا رسول الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) الواثقين به المعتمدين عليه الذين يوكلون أمورهم إليه.

[١٦١] (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) أيها المؤمنون ، وذلك إذا استحققتم ذلك بإيجاد أسباب النصر وإطاعة أوامره سبحانه (فَلا غالِبَ لَكُمْ) أي لا يقدر أحد على أن يغلبكم (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) وخذلان الله سبحانه أن يكلهم إلى أنفسهم ولا يعينهم في أمورهم (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) استفهام استنكاري ، أي لا يكون ناصر لكم ينصركم من بعده سبحانه

٤١١

وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢)

____________________________________

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) يثقون به ويعتمدون عليه.

[١٦٢] لقد كان من أسباب تخلّي المسلمين عن مكانهم من الجبل ـ يوم أحد ـ خوفهم ألا يقسّم لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الغنائم ، وقد تكلم بعض المنافقين في وقعة بدر حول قطيفة حمراء فقدت فقالوا بأن الرسول أخذها ، ولذا نزلت الآية نافية أن يغلّ الأنبياء ويخونوا (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي لا يجوز للأنبياء الغلول أي الخيانة ، والخيانة محرمة مطلقا لكن المورد أتى خاصا حيث أن الكلام كان حوله (وَمَنْ يَغْلُلْ) شريفا كان أو وضيعا قليلا كان غلوله أو كثيرا (يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وفي الحديث : «يأتي به على ظهره» (١). (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي تعطى جزاء كسبها كاملا غير منقوص (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فلا ينقص من أجورهم شيء ولا يعذبون فوق استحقاقهم.

[١٦٣] (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) باتباع أوامره واجتناب نواهيه (كَمَنْ باءَ) أي رجع (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) فكأنه رجع إلى أعماله الدنيئة بعد أن ذهب إلى الله سبحانه فعلم ماذا يريد ، فقد رجع مع السخط بينما رجع غيره مع الرضوان (وَمَأْواهُ) أي مرجعه ومصيره (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧ ص ٦٨.

٤١٢

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ

____________________________________

أن المحل الذي صار إليه محل سيئ ، فعلى الإنسان أن لا يفرّ من الحرب ولا يتخلف عن أمر الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى يبوء بالغضب والسخط ويكون مصيره النار.

[١٦٤] (هُمْ) أي هؤلاء الذين باءوا بالسخط والذين اتبعوا رضوان الله ، ذوو (دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) فللمؤمنين درجات رفيعة ولغيرهم درجات بذيئة ، أو أن لكل فريق درجات من حيث القرب والبعد ، وحذف كلمة «ذوو» لما تعارف من المجاز في هذه التعبيرات بعلاقة الحال والمحل فيقال عند العد : زيد الدرجة الأولى ، عمرو الدرجة الثانية ، وهكذا (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيجازيهم حسب أعمالهم فلا يزهد الإنسان في الإحسان لأنه لا يقدّر ، ولا يجري العاصي في المعصية لأنه لا يرى.

[١٦٥] إن النعمة التي أنعم الله بها على المسلمين مما يوجب شكرها والتضحية في سبيلها فهي نعمة كبيرة جدا لا تماثلها نعمة ولا يبلغ شأنها إحسان ومنّة (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أي أنعم الله ، فإن المنّ القطع ، وتسمى النعمة منّة لأنها تقطع الإنسان عن البلية والفاقة (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) إنما خصوا بالذكر مع أن المنة عامة لأنهم هم الذين استفادوا منها دون سواهم (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) فإنه أعظم النعم ، ولذا لم يمن الله على الإنسان بأية نعمة سواها ، فإن في الإرسال صلاح الدين والدنيا والآخرة وإكمال البشر حسب قابلياتهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تذكير بنعمة أخرى ، إذ كون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جنس البشر ـ

٤١٣

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا

____________________________________

لا الملائكة والجن ـ تشريف لهم وإظهار لفضل هذا النوع ، وحيث أن السياق حول مؤمن الأنس لا يستشكل بأن المؤمنين أعم من الجن وليس الرسول من أنفسهم (يَتْلُوا) الرسول (عَلَيْهِمْ آياتِهِ) تلاوة ، كما يتلو المعلم الدرس على التلميذ (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهرهم من الأدناس الظاهرية بأوامر النظافة وما أشبه ، والأقذار الخلقية والاعتقادية بإرشادهم إلى الحق والفضيلة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) يفهمهم معانيه ، وهو غير التلاوة (وَالْحِكْمَةَ) وهو علم الشريعة ، أو مطلقا ، بمعنى أنه يعلمهم مواضع الأشياء خيرها وشرها فإن الحكمة كما قالوا : «وضع الشيء موضعه». (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يأتيهم الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي انحراف واضح في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ، فعلى المؤمنين أن يضحوا في سبيل هذه النعمة بكل غال ورخيص ، فما فعلوا يوم أحد كان خلاف الشكر ، وما ضحوا فيه لم يكن كثيرا مقابل هذه النعمة العظمى.

[١٦٦] (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) أي هل أنتم بحيث لما أصابتكم مصيبة في أحد والحال أنكم في بدر (قَدْ أَصَبْتُمْ) من الكفار (مِثْلَيْها) فإنه قتل منكم في أحد سبعين ، وقد أصبتم من الكفار مائة وأربعين إذ قتلتم منهم سبعين وأسرتم منهم سبعين في واقعة بدر (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) أي من أي وجه أصابنا هذا ونحن مسلمون ، وهذه الجملة «أو لما ..» استنكارية أي كيف تستنكرون إصابتكم بأحد والحال أنكم قد أصبتم

٤١٤

قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ

____________________________________

في بدر مثلي ما أصابكم ، ثم أن هذه الإصابة كانت لضعف نفوسكم حيث أغراكم المال وأخليتم أماكنكم في الجبل (قُلْ) يا رسول الله : (هُوَ) أي ما أصابكم (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) الجشعة إلى حب الغنيمة والمال (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر أن ينصركم على أعدائكم كما يقدر أن يخذلكم حين تتركون أوامره ، وفي بعض الأحاديث : أنهم في بدر خيروا بين أخذ الفدية من الأسرى على أن يقتل منهم في العام القابل سبعون بعدد الأسرى ، وبين أن يقتلوا الأسرى ولا يأخذون الفدية. فطلبهم للمال أوجب اختيار الأول ، وعلى هذا كان ما أصابهم في أحد «من عند أنفسهم».

[١٦٧] (وَما أَصابَكُمْ) أيها المسلمون (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي حين تلاقى المسلمون والكفار في يوم أحد (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي بعلمه ، أو بأنه لم يحل بين الكفار وبينكم حتى أصابوا منكم. وهذا كالإذن تكوينا ، وقد أذن سبحانه لفائدة التمييز بين المؤمن والمنافق (وَلِيَعْلَمَ) أي يتحصّل علمه في الخارج (الْمُؤْمِنِينَ) الذين جاهدوا.

[١٦٨] (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أظهروا الإسلام وأبطنوا النفاق وهم ابن أبي سلول وجماعته حيث أنهم انخذلوا يوم أحد نحوا من ثلاثمائة رجل قالوا : علام نقتل أنفسنا؟! (وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فإن عمرو بن حزام الأنصاري قال لهم هذه المقالة

٤١٥

أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا

____________________________________

(أَوِ ادْفَعُوا) عن حريمكم وأنفسكم فإن الكفار إذا غلبوا نكّلوا بكم (قالُوا) أي قال أولئك المنافقون في جواب المؤمنين : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) فإن هذا الذي تخوضونه ليس بقتال إذ لو كان قتالا لأخذتم برأينا فيه ، أو تريدون إلقاء النفس في التهلكة فليس هذا قتالا يتكافأ فيه الجانبان ، (هُمْ) أي هؤلاء المنافقون (لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) فكلما عمل المنافق بالخلاف كان أقرب إلى الكفر وكلما عمل بالوفاق كان أقرب إلى الإيمان (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فأفواههم تنطق بالإيمان وقلوبهم تضمر الكفر والعصيان (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) في قلوبهم فيجازيهم حسب نفاقهم المضمر.

أقول : الظاهر أن قوله : «وليعلم» إلى آخره ، ليس عطفا على «بإذن الله» إذ يكون المعنى حينئذ أن الإصابة علة للتمييز ، والحال أن إعلان الجهاد كان علة ذلك ، فقوله : «ليعلم» جملة مستأنفة ، أي أن حرب أحد كانت لأجل التمييز بين المؤمن والمنافق ، في جملة فوائدها الأخرى.

[١٦٩] ثم ذكر سبحانه صفة أخرى للذين نافقوا بأنهم هم (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي قالوا حول إخوانهم الذين ذهبوا إلى ساحات الجهاد فقتلوا (وَقَعَدُوا) أي قعد هؤلاء المنافقون عن القتال (لَوْ أَطاعُونا)

٤١٦

ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ

____________________________________

في تركهم الخروج (ما قُتِلُوا) جملة (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) مقول قولهم. (قُلْ) لهم يا رسول الله : (فَادْرَؤُا) أي ادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في مقالكم أن البقاء في البيت موجب لعدم موت الإنسان ، فمن أين لكم أن من يبقى في بيته لا يموت ، فكم من الذين بقوا في بيوتهم وماتوا وكم خرجوا في القتال ورجعوا سالمين؟!

[١٧٠] ولو فرضنا أن الخارج إلى الجهاد قتل ، فما يضره ذلك ، فإن من استشهد في سبيل الله لا تنتهي حياته بل يبقى حيا يرزق (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) فكما أن هذه الحياة المادية ذات مراتب ، فمرتبة منها كاملة فيمن كان سعيدا فرحا ، ومرتبة منها ناقصة فيمن كان شقيا حزينا. كذلك من مات يكون على قسمين ـ بعد بقاء كليهما في حياة من لون آخر ـ قسم يكون حيا هناك أي سعيدا فرحا ، وقسم يكون ميتا هناك أي شقيا حزينا ، فليس للآية الكريمة مفهوم أن غير المقتول لا حياة له هناك (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) حياة غير مادية بل حياة عند ربهم ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا.

[١٧١] في حال كونهم (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الحياة الباقية والسعادة والخير (وَيَسْتَبْشِرُونَ) أي يسرّ هؤلاء المقتولون في سبيل

٤١٧

بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)

____________________________________

الله (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) من المؤمنين الذين بقوا في الحياة وبقوا (مِنْ خَلْفِهِمْ) واستبشارهم بهؤلاء من جهة (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) إذ الله سبحانه يتولى أمورهم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بالنسبة إلى من خلفهم ، فهؤلاء المقتولون جمعوا بين خيرين خير أنفسهم حيث تنعموا بنعمة الله سبحانه وخير إخوانهم الذين من خلفهم حيث علموا بأنهم لا خوف عليهم ، وذلك بخلاف من بقي ولم يجاهد فإنهم جمعوا بين شرين مشاكل حياة أنفسهم ومشاكل حياة إخوانهم ، حيث لا يعلمون ماذا تكون عاقبة أمر أنفسهم وأمر إخوانهم.

[١٧٢] (يَسْتَبْشِرُونَ) أي هؤلاء المقتولون يسرّون ويفرحون (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ينعمها عليهم في الآخرة (وَفَضْلٍ) أي الزيادة على قدر استحقاقهم أو على ما يترقبون (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) فإن من علم أن حقه وأجره مضمون فرح واستبشر ، فهؤلاء يرون عيانا أن حقهم محفوظ بخلاف الإنسان في الدنيا فإنه يعلم ذلك دون أن يراه. وفي تكرار المطلب زيادة تمكين المعنى في النفس ، ومثله كثير في التحذيرات والترغيبات المستقبلة وبالأخص إذا لم يشاهد الإنسان أمثاله بل كان غيبا محضا فإن في التكرار تركيز المطلب في النفس حتى تعمل تلقائيا كالذي شاهد وحضر.

[١٧٣] لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من «أحد» وبلغوا «الروحاء» ندموا

٤١٨

الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ

____________________________________

على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فيما بينهم قائلين بعضهم لبعض : لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم ، قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد وتركتموهم ، فارجعوا فاستأصلوهم. فبلغ ذلك الخبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فأراد إرهابهم فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه من به جرح من أحد حتى بلغ «حمراء الأسد» وبلغ الخبر المشركين فخافوا خوفا شديدا وولوا منهزمين.

ووجه اتصال الآية أنه سبحانه بعد ما بين أجر الشهداء وأنهم يستبشرون بالأحياء ذكر وصف الأحياء الذين يستبشر بهم المقتولون أنهم أولئك الذين لم تزلزلهم المحنة ولم تقعدهم الجراحات عن مواصلة الكفاح ولم يرهبهم تجمع الأعداء وإرجافهم بهذا التجمع وهم مثخنون بهذه الجراحات (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أطاعوهما في أمرهما ، وقد ذكرنا سابقا أن ذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتشريف وأن بيان أمره أمر الله سبحانه وإلا فالأمر واحد (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي نالتهم الجراحات يوم أحد (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) بعد الاستجابة (وَاتَّقَوْا) معاصي الله سبحانه (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لأنهم أطاعوا في ثلاث دفعات حضورهم في أحد واستجابتهم ثانيا وإحسانهم وتقواهم ثالثا.

[١٧٤] ثم وصفهم سبحانه بوصف آخر أنهم هم (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) فقد قال الناس لأصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد

٤١٩

فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)

____________________________________

رجوعهم من أحد : إن «الناس» وهم أبو سفيان والمشركون قد جمعوا لكم ، أي جمعوا المشركين لأجل محاربتكم (فَاخْشَوْهُمْ) أي خافوا منهم لأنهم إذا رجعوا إليكم وأنتم ـ أيها المسلمون ـ مثخنون بالجراح من أحد لن يبقوا منكم باقية (فَزادَهُمْ) تجمع الناس عليهم (إِيماناً) فإن عند كل كارثة يتذكر المؤمن الله سبحانه فتقوى نفسه بمعونته وتشتد عزيمته بنصره (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) أي كافينا الله يكفينا شر أعدائنا (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فإنه خير من جعله الإنسان وكيلا لعلمه بمواقع النفع والضرر وقدرته على جلب النفع ودفع الضرر عن الموكل.

[١٧٥] (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي رجع هؤلاء المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تصحبهم نعمة الله وفضله (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) فهم بعد ما خرجوا في طلب أبي سفيان ، هرب أبو سفيان فرجع المسلمون وهم مرهوبو الجانب أشداء النفوس (وَ) قد (اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) باتباع أمره في تعقب المشركين (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) على من اتبع أمره فهو يسعده في الدنيا والآخرة.

روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) فإني سمعت الله يقول بعقبها : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٣٩٢.

٤٢٠