تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)

____________________________________

الأطفال والمهد هو الموضع الذي يوضع فيه الطفل ويهز من خشب أو حديد أو ثوب أو نحوها (وَكَهْلاً) أي يكلمهم كهلا بالوحي والكهل ما بين الشاب والشيخ أو يراد الإخبار عن بقائه إلى ذلك الوقت (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) الذين فيهم الصلاح دون الفساد.

[٤٨] (قالَتْ) مريم لما سمعت هذا النبأ المدهش (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) أي كيف يمكن أن ألد ولدا (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي لم يقترب مني على نحو النكاح فإنها كانت دون زوج (قالَ) الملك في جواب مريم (كَذلِكِ) أي هكذا بدون المس والزوج (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فإنه ليس بخارج عن قدرة الله سبحانه (إِذا قَضى أَمْراً) أراد خلقه وتكوينه (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) قولا أو إرادة بدون تلفظ (فَيَكُونُ) في الخارج ، فإن الله يوجد الأشياء بصرف الإرادة.

[٤٩] (وَيُعَلِّمُهُ) أي يعلم الله سبحانه المسيح (الْكِتابَ) أي الكتابة أو مطلق الكتاب المنزل من السماء (وَالْحِكْمَةَ) حتى يكون حكيما يعرف مواضع الأشياء أو المراد بالحكمة علم الشرائع من الحلال والحرام وسائر الأحكام (وَالتَّوْراةَ) وهو كتاب موسى عليه‌السلام (وَالْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب الذي أنزل على المسيح بنفسه وقد ذكروا

٣٤١

وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ

____________________________________

أن معنى التوراة «التعليم والبشارة» ومعنى الإنجيل «البشارة والتعليم».

[٥٠] (وَ) نجعله (رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) لإرشادهم من الضلالة إلى الحق ، وانتقل السياق إلى كلام عيسى عليه‌السلام الذي كان يتكلم به بعد النبوة ، فكان يقول لبني إسرائيل (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بمعجزة وعلامة تدل على صدق دعواتي للنبوة وأني رسول إليكم (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) أي أصنع لأجلكم (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) أي على صورة الطائر (فَأَنْفُخُ فِيهِ) أي في الطائر المصنوع من الطين (فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) وإرادته وقدرته ، فصنع صورة خفاش من الطين ونفخ فيه فطار (وَأُبْرِئُ) أي أشفي (الْأَكْمَهَ) الذي ولد أعمى ، أو مطلق الأعمى (وَالْأَبْرَصَ) الذي أصيب بمرض البرص وهو الوضح (وَأُحْيِ الْمَوْتى) كل ذلك (بِإِذْنِ اللهِ) فكان يقف على القبر ويقول للميت قم بإذن الله فيقوم ينفض عن جسمه الغبار كأنه لم يمت أصلا (وَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِما تَأْكُلُونَ) إخبارا عن الغيب (وَما تَدَّخِرُونَ) من الادخار (فِي بُيُوتِكُمْ) فكان يقول

٣٤٢

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)

____________________________________

للشخص تغذيت بكذا أو حفظت لليل كذا (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي ذكرت من المعجزات (لَآيَةً) معجزة دالة على صدقي (لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وإنما يقيد بالإيمان لأن من لا يؤمن بالله سبحانه لا يمكن أن يفرق بين المعجزة والسحر.

[٥١] (وَ) ذلك في حال كونه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي ما تقدم علي وأنزل قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) فإنه من أسباب لزوم تصديقي حيث لا أبطل كتاب بني إسرائيل (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) يا بني إسرائيل (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) في شريعة موسى عليه‌السلام وهذا التحليل إنما كان لانقضاء ظرف التحريم (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بحجة تشهد بصدقي وأني من قبل الله سبحانه ، وهي إما إجمال لما فصل في الآية السابقة ، جمعا لأعماله عليه‌السلام في الأمور الثلاثة ، التصديق ، والتحليل ، والإعجاز ، وإما يراد به آية أخرى لم تذكر في القرآن (فَاتَّقُوا اللهَ) وصدقوا برسالتي (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه.

[٥٢] (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) فلست أنا ابنا له ، قال ذلك ردا على النصارى الذين اتخذوه إلها (فَاعْبُدُوهُ) وحده ولا تعبدوا من دونه الشركاء كما عبدت اليهود عزيرا ، وعبدت النصارى المسيح (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)

٣٤٣

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)

____________________________________

لا اعوجاج له ولا انحراف بخلاف سائر الطرائق التي هي طرق معوجة منحرفة زائغة.

[٥٣] وبعد هذه الحجج لم يزدد بني إسرائيل إلا عنادا واستكبارا (فَلَمَّا أَحَسَ) من الحس أي وجد (عِيسى) عليه‌السلام (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) وأنه لم تنفعهم الحجة والدليل (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) الذين ينصرون ديني للوصول إلى ثواب الله تعالى إذ المسلم يقطع طريق الوصول إلى الله لينتهي إلى ثوابه (قالَ الْحَوارِيُّونَ) هو جمع حواري من الحور بمعنى شدة البياض وسمي خاصة الإنسان بالحواري لنقاء قلبه وصفاء باطنه (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) الذين ننصر دينه ونتابعك على ما أنت عليه (آمَنَّا بِاللهِ) إيمانا لا يشوبه شرك (وَاشْهَدْ) يا عيسى (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) في أدياننا.

[٥٤] ثم توجهوا إلى الله سبحانه داعين قائلين (رَبَّنا) أي يا ربنا (آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) على رسولك عيسى عليه‌السلام (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) فيما أمر ونهى (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الذين يشهدون على الأمم كما قال سبحانه (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) فالرسل

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.

٣٤٤

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ

____________________________________

شهداء على أصحابهم وهم شهداء على سائر الناس.

[٥٥] ذلك كان قول أنصار عيسى والمؤمنين به أما الكفار الذين جحدوه وأنكروه فلم يؤمنوا (وَمَكَرُوا) لعيسى عليه‌السلام بأن يقتلوه (وَمَكَرَ اللهُ) بإنقاذه منهم وقتل كبيرهم عوضه ، والمكر لغة بمعنى تطلب العلاج لأمر ما والغالب يستعمل في الشر ، ولعل نسبة المكر هنا إلى الله سبحانه للمقابلة نحو قوله (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (١) مع أن الله سبحانه ليس له نفس (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) لأنه أعرف بطرق العلاج ، وفي بعض التفاسير أنه لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه‌السلام دخل خوخته وفيها كوة فرفعه جبرائيل من الكوة إلى السماء وقال الملك لرجل خبيث من الكفار ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى عليه‌السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه بظن أنه عيسى وكان قتله على نحو الصلب وكلما صاح أنه ليس بعيسى لم يفد.

[٥٦] واذكر يا رسول الله (إِذْ قالَ اللهُ) أو ذاك إذ قال ، أو ومكر الله إذ قال (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي آخذك وافيا فإن معنى توفاه أخذه وافيا ويقال توفى الله فلان حين يأخذ روحه وافية من الوفاء وهو في أخذ الروح والجسد أقرب إلى الحقيقة من أخذ الروح فقط فإنه

__________________

(١) المائدة : ١١٧.

٣٤٥

وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا

____________________________________

بعلاقة الكل والجزء أي آخذك (وَرافِعُكَ إِلَيَ) فإنه عليه‌السلام رفع إلى السماء الرابعة كما في بعض الأحاديث وقد يظن أن ذلك ينافي ما اشتهر في العلم الحديث من عدم وجود سماوات ذات حجوم لكنه ظن غير تام إذ السماء حتى لو كان يراد بها المدار ـ كما هو معناه لغة ـ تكون هناك سماوات وللتوضيح راجع «الهيئة والإسلام» تأليف «العلامة الشهرستاني» (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنهم أرجاس أنجاس فكما أن الجسم المحاط بالنجاسة إذا غسل يطهر عنها كذلك إن الإنسان الطيب في أناس كفرة عصاة إذا أخرج من بينهم كان تطهيرا له في المعنى عن لوثهم وكفرهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) من النصارى (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك من اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) وهذا من معاجز القرآن الحكيم فإن النصارى دائما فوق اليهود إلى يومنا هذا وسيكونون كذلك إلى يوم القيامة (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) جميعا أنت وأصحابك الكفار ، وذلك يوم القيامة (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والشرك ومن كونك نبيا وسائر الأصول والفروع التي كنت تنادي بها وتبشر من أجلها وكان اليهود يكفرون بها.

[٥٧] (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بك وبما جئت به (فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا)

٣٤٦

وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)

____________________________________

بضرب الذلة والمسكنة عليهم وإنهم دائما تحت حكم أصحابك وأنه لا تقوم لهم دولة إلا بحبل من الله وحبل من الناس وإنهم مكروهون منفورون أبد الآبدين (وَالْآخِرَةِ) بإدخالهم نارا أحاطت بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من بأس الله وعذابه.

[٥٨] (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بك وبما بشرت به (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مما أمرناهم به واجتنبوا عن المحرمات ، فإنه لا يقال يعمل فلان الصالحات إلا إذا اجتنب الآثام إلى جنب إتيانه بالواجبات (فَيُوَفِّيهِمْ) أي يعطيهم الله (أُجُورَهُمْ) كاملة غير منقوصة فإن الوفاء إعطاء المطلوب كاملا (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا بالكفر أو بعدم العمل الصالح.

[٥٩] (ذلِكَ) المذكور هنا من أخبار زكريا وعيسى ويحيى ومريم عليهم‌السلام (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) أي نقرأه عليك بسبب الوحي (مِنَ الْآياتِ) أي من جملة الآيات والحجج الدالة على صدقك وأنك نبي يوحى إليه (وَ) من (الذِّكْرِ) إي القرآن (الْحَكِيمِ) المحكم الذي لا يتطرق إليه بطلان أو زيغ.

٣٤٧

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ

____________________________________

[٦٠] وهنا تتهيأ النفوس لإدراك حقيقة عيسى هل كان بشرا وكيف ولد من غير أب فقال سبحانه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) فليس ولادة عيسى من غير أب عجيبا وبدعا ولا يدل ذلك على أنه رب ، فآدم أعجب منه أليس الله سبحانه (خَلَقَهُ) أي خلق آدم (مِنْ تُرابٍ) صنعه وجسده (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ) إنسانا حيا (فَيَكُونُ) كما قال ومقتضى القاعدة أن يقال «فكان» إلا أن هذه الجملة أخذت صيغة المثالية نحو الصيف ضيعت اللبن ، ولذا يؤتى بها على لفظها وقد تقدم أن كلمة «كن» تعبر عن الإرادة الأزلية لا أن في اللفظ خصوصية.

[٦١] (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله أي أن قصة عيسى هكذا أو خلقه كذلك حق من ربك (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكين فإن امترى بمعنى شك والخطاب وإن كان للرسول لكنه عام لكل أحد ، ومن المعلوم أن توجيه الخطاب لا يلازم احتمال وجود الصفة ، وإنما أكد البيان بجملة «فلا تكن» لكثرة الشك والتشكيك لدى الناس في مختلف شؤون عيسى عليه‌السلام.

[٦٢] (فَمَنْ حَاجَّكَ) وجادلك يا رسول الله (فِيهِ) أي في عيسى قائلا أنه ليس بشرا وإنما هو رب انفصل عن الرب ، ونزلت الآية في وفد نجران من المسيحيين الذين جاءوا للمجادلة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تنفعهم الحجة والدليل فقرر الطرفان أن يخرجوا إلى الصحراء ليدعو

٣٤٨

مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ

____________________________________

كل من الطرفين على الكاذب فخرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الموعد مع علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام فلما رأتهم النصارى أحجموا وقال كبيرهم : إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم الوادي عليهم نارا ، ولما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) حول قصة عيسى عليه‌السلام (فَقُلْ) لهم يا رسول الله (تَعالَوْا) أي هلموا إلى حجة أخرى ليست محل نقاش وجدال (نَدْعُ) أي يدعو كل طائفة منا (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا) أي من هو بمنزلة أنفسنا (وَأَنْفُسَكُمْ) أي من هو بمنزلة أنفسكم ، والمراد دعوة كل طرف خواصه ومن يقترب إليه من الأبناء والنساء ومن هو بمنزلة نفسه (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) الابتهال طلب اللعنة من الله سبحانه أي تدعو كل طائفة على الأخرى قائلين : لعن الكاذب ، وقد يستعمل الابتهال بمعنى مطلق الدعاء خيرا كان أو شرا (فَنَجْعَلْ) في ابتهالنا (لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) وقد أجمع المفسرون أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج معه إلا ابنيه الحسن والحسين وبنته فاطمة وابن عمه عليا عليهم‌السلام.

[٦٣] (إِنَّ هذا) الذي أوحينا إليك في أمر عيسى وغيره (لَهُوَ الْقَصَصُ)

٣٤٩

الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ

____________________________________

جمع قصة (الْحَقُ) الذي لا كذب فيه ولا زيغ (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) فليس عيسى إلها كما يزعم النصارى (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) في سلطانه (الْحَكِيمُ) في أفعاله فلا يتخذ البشر ابنا له كما يقول اليهود والنصارى.

[٦٤] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا مصرين على عقائدهم الفاسدة (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون عقائد الناس وأعمالهم فإنهم لا يفوتونه سبحانه بل هم بعلمه وسيجازيهم بأعمالهم وأفعالهم.

[٦٥] وحيث انتهى السياق من قصص عيسى عليه‌السلام تناول الحديث حول أهل الكتاب وانحرافاتهم للعلاقة الوثيقة بين الموضوعين فقال سبحانه (قُلْ) يا رسول الله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) والمراد بهم اليهود والنصارى (تَعالَوْا) أي هلموا نجتمع جميعا (إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي إلى كلام عدل لا ميل له ونحن جميعا نعترف به وندع ما سوى ذلك ما لم يدل عليه دليل (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) فإن العبادة لا تجوز إلا له إذ هو الذي خلق الكون (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) من إنسان أو حيوان أو جماد كما يصفه المشركون (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً) أي بعض البشر (أَرْباباً) وآلهة (مِنْ دُونِ اللهِ) كاتخاذ النصارى المسيح إلها أو المراد

٣٥٠

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ

____________________________________

اتخاذ الأحبار والرهبان آلهة في الإطاعة فيما خالف الله سبحانه كما قال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) (١) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن ذلك (فَقُولُوا) لهم (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) لله وحده نتبع طريقه ولا نبتغي غير الإسلام دينا.

[٦٦] وقد كان أهل الكتاب يقولون أن إبراهيم كان على ديننا فاليهود منهم كانوا يقولون أنه عليه‌السلام كان يهوديا والنصارى منهم كانوا يقولون أنه عليه‌السلام كان مسيحيا فقال سبحانه في ردهم (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ) أي لماذا (تُحَاجُّونَ) وتجادلون (فِي إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام وتنسبوه إلى اليهودية والنصرانية (وَ) الحال أنه متقدم زمانا على كلا الدينين ، فإبراهيم جد موسى وعيسى وهو سابق عليهما بقرون فإنه (ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) على موسى (وَالْإِنْجِيلُ) على عيسى (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد إبراهيم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أليس لكم عقل حتى تعرفون التاريخ.

[٦٧] (ها) تفيد التنبيه (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يا معشر أهل الكتاب (حاجَجْتُمْ) وجادلتم (فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مما تعلمون كالقبلة

__________________

(١) التوبة : ٣١.

٣٥١

فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ

____________________________________

ونحوها (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) إذ لا تعلمون تاريخ إبراهيم وتجادلون في أنه كان يهوديا أو نصرانيا (وَاللهُ يَعْلَمُ) تاريخ إبراهيم ودينه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فما هذه المخاصمة والمجادلة.

[٦٨] (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا) فإنهما طريقتان متأخرتان انحرفتا عن سنن الأنبياء حتى أن المسيح وموسى عليهما‌السلام لم يكونا متصفين بهاتين الملتين (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مستقيما في دينه لا منحرفا (مُسْلِماً) لما تقدم من أن الإسلام دين الأنبياء جميعا (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) كشرك اليهود الذين جعلوا عزير ابن الله وشرك النصارى الذين جعلوا المسيح إلها أو ابن الله.

[٦٩] كانت اليهود تقول نحن أولى بإبراهيم لأنه على ديننا وكانت النصارى تقول مثل ذلك فنزلت (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الذي يحق أن يفتخر به ويقول أنا على طريقته وأنه رئيس الملة لي (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه وبعده إذ التابع يحق له أن يفتخر برئيسه ومتبوعه لا من يتبع غيره كاليهود والنصارى الذين خالفوا إبراهيم (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) عطف على «الذين اتبعوه» فإن هذا النبي والمؤمنين هم الذين اتبعوا إبراهيم وهم على ملته فإن ملته التوحيد وخلع الأنداد (وَاللهُ وَلِيُّ

٣٥٢

الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ

____________________________________

الْمُؤْمِنِينَ) يلي أمورهم وينصرهم على عدوهم.

[٧٠] (وَدَّتْ) أي أحبت ورغبت (طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي جماعة منهم فإن كثيرا من أهل الكتاب لم يكن يعنيهم هذه الأمور (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) عن دينكم حتى تدخلوا في دينهم أو ترجعوا كفارا (وَما يُضِلُّونَ) هؤلاء (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فإنهم بتركهم الإسلام والتزامهم أديانهم المنحرفة سببوا ضلالا لأنفسهم ، أو المراد أنه لا يرجع وبال إضلالهم إلا على أنفسهم حيث يوجب ذلك لهم خزيا في الدنيا وعذابا في الآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي ما يعلمون أنهم أضلوا أنفسهم أو ما شعروا بأنه رجع وبال إضلالهم إلى أنفسهم.

[٧١] (يا أَهْلَ الْكِتابِ) هم اليهود والنصارى ، والمجوس وإن كانوا أهل الكتاب إلا أن هذه المباحثات كانت مع الطائفتين فقط كما يستفاد من سياق الآيات (لِمَ) أي لماذا (تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) بدلائله وحججه التي أقامها على التوحيد والرسالة وسائر الأمور (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) بلزوم الإقرار بها شهادة فيما بينكم ، أو شهادة حسب كتبكم الدالة على التوحيد ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأمور المختلف فيها.

[٧٢] (يا أَهْلَ الْكِتابِ) وخطابهم بهذا الخطاب إشعار بأنهم ينبغي أن

٣٥٣

لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)

____________________________________

لا يكونوا كذلك إذ هم أهل العلم والدراية وفيهم نزل كتاب الله سبحانه (لِمَ) أي لماذا (تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي تخلطون الحق بالباطل ففي أعمالكم قسم من الحق وقسم من الباطل فالإيمان بموسى وعيسى حق والكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باطل وهكذا بعض كتابهم حق وبعضه الذي حرفوه باطل (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تعلمون أنه حق فقد كان علماؤهم يكتمون صفات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى لا يميلوا نحوه وتذهب رئاستهم.

[٧٣] وقد صدرت مكيدة من أهل الكتاب لتضليل الناس وأن لا يتعلقوا بدين الإسلام ، حيث يظهرون عملا يصورهم عند الناس في صورة المنصف وأنهم إنما لم يتبعوا الإسلام لأنهم لم يجدوه حقا (وَقالَتْ طائِفَةٌ) أي جماعة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بعضهم لبعض (آمِنُوا) أي أظهروا الإيمان (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي بالقرآن (وَجْهَ النَّهارِ) أي أول الصبح ، فقولوا إنا آمنا بمحمد وكتابه لأنا وجدناه في كتبنا (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) أي آخر النهار فقولوا بعد أن آمنا رجعنا إلى صفات محمد ثانيا فوجدناها ليست كما ذكر في كتابنا ، فإن هذا العمل يريكم في أعين الناس منصفين حيث آمنتم بمحمد بمجرد علمكم بحقيقته ، وإنما رجعتم حيث ظهر لكم عدم الحقيقة ، فتوهمون الناس أنكم منصفون صادقون تريدون الحق (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لعل هذا

٣٥٤

وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)

____________________________________

العمل الخداعي يسبب رجوع المسلمين عن إسلامهم حيث يوجب ذلك تشكيكا لهم.

[٧٤] (وَلا تُؤْمِنُوا) أي لا تظهروا الإيمان (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) فإيمانكم وجه النهار يكون عند أهل الكتاب لا عند المسلمين ، أو لا تؤمنوا إيمانا صادقا من قلوبكم إلا لأهل الكتاب ، فلا تؤمنوا للمسلمين ، ومعنى الإيمان لمن تبع دينهم أنهم يؤمنون بمثل ما آمن أهل الكتاب (قُلْ) لهم يا رسول الله (إِنَّ الْهُدى) الحقيقي (هُدَى اللهِ) لا هذا الهدى الاصطناعي الذين تريدون به خداع أصحابكم والمسلمين فلسنا في حاجة إلى هداكم كما لا نخاف من إضلالكم فإن الله إذا هدى شخصا لا يرجع بخداعكم ، ثم يرجع السياق إلى كلام اليهود بعضهم لبعض ، ولا تؤمنوا (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) فإنما أوتيتم أيها اليهود هو خير مما أوتي غيركم فلا يكن إيمانكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيمانا عن قلب أو صدق (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لا تؤمنوا أن يحاجكم المسلمون عند ربكم بمعنى أنه لا يمكن أن يكون ذلك إذ المحاجة لا تكون من المبطل ـ والمسلم مبطل بزعمهم ـ (قُلْ) يا رسول الله ردا على قولهم (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) فأي مانع من أن يعطي المسلمين مثل ما أعطى اليهود وأفضل منه (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) الفضل لا ينفد فضله بإعطائه لأحد (عَلِيمٌ) بمصالح الخلق

٣٥٥

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ

____________________________________

يعلم حيث يجعل رسالته.

[٧٥] (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) من عباده (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فإن فضله يبتدئ بالخلق وينتهي إلى حيث لا قابلية فوقه.

[٧٦] وقد جمع بعض أهل الكتاب إلى تلك الرذائل السابقة رذيلة الخيانة (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي بعض أهل الكتاب ـ والمراد به من آمن منهم كعبد الله بن سلام ـ (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي تجعله أمينا على قنطار من مال لا يخونه بل يؤديه إليك عند المطالبة ، وقد ورد أن عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه فمدحه الله بهذه الآية (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) أي تجعله أمينا على مال قليل كدينار (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عند المطالبة فإن رجلا من قريش استودع «فخاص» دينارا فخانه ولم يرده إليه (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) بالضغط والإلحاح والمراقبة (ذلِكَ) الاستحلال والخيانة منهم لأموال الناس بسبب أنهم أي الخائن من أهل الكتاب (قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) أي لا سبيل ولا غضاضة علينا في استحلالنا أموال الأميين أي العرب حيث أنهم خرجوا عن دينهم أي غير الشرك وقد أودعونا حال شركهم فإذا رفضوا طريقتهم إلى الإسلام سقط

٣٥٦

وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ

____________________________________

حقهم كذا كانوا يقولون وينسبونه إلى كتبهم (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) فإنه ليس ذلك في كتبهم ، بل اللازم أداء الأمانة إلى البر والفاجر (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم يكذبون على الله وأن عدم الأداء خيانة ورذيلة.

[٧٧] (بَلى) فيه نفي لما قبله وإثبات لما بعده أي لم يجز الله الخيانة بل أوجب الأداء ف (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) وأدى الأمانة التي عنده (وَاتَّقى) من عذاب الله في الخيانة وغيرها (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) لا الخائنين الكاذبين.

[٧٨] (إِنَ) من يأكل الأمانة ويكذب على الله فقد باع دينه بثمن قليل و (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) بمقابل عهد (اللهِ) الذي هو الكتاب والدين (وَ) ب (أَيْمانِهِمْ) أي أقسامهم الكاذبة التي يحلفون بها لأجل الباطل (ثَمَناً قَلِيلاً) وقد تقدم أن الأمور الدنيوية مهما عظمت فإنها قليلة بالنسبة إلى الآخرة (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي لا نصيب لهم من رحمة الله وجنته في الآخرة (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) كلام لطف وحنان وهو كناية عن غضب الله عليهم كما أن من غضب على شخص لا يكلمه (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) أي لا يعمهم بلطفه وإحسانه وهو كناية أخرى عن

٣٥٧

يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)

____________________________________

الغضب كالذي يغضب على شخص فلا ينظر إليه (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ذلك اليوم الذي يحتاج كل أحد إلى فضله وإحسانه تعالى (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم من الدنس فإن قلب الخائن الكاذب أقذر ما يكون فلا يشمله الله سبحانه بلطفه الخاص الذي يلطف به على المؤمنين (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي مؤلم موجع.

[٧٩] (وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي بعض أهل الكتاب (لَفَرِيقاً) أي جماعة (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) أي يطوون ألسنتهم عند قراءة الكتابة وطي لسانهم إنما هو بالزيادة والنقيصة فكما أن ليّ الشيء يخرجه عن الاستقامة بالزيادة في جانب والنقيصة في جانب كذلك ليّ اللسان بالكتاب ، فإنهم أضافوا على التوراة والإنجيل في مواضع ونقصوا منهما في مواضع (لِتَحْسَبُوهُ) أيها المسلمون (مِنَ الْكِتابِ) فيكون شاهدا لأباطيلهم المخترعة (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) بل من إضافاتهم وتحريفاتهم (وَيَقُولُونَ هُوَ) ما يتلونه باسم الكتاب (مِنْ عِنْدِ اللهِ) تعالى (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بل من مخترعاتهم الكاذبة (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في نسبتهم ذلك التحريف إليه سبحانه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنه ليس من الكتاب وأنهم كاذبون.

٣٥٨

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)

____________________________________

[٨٠] وحيث أنه كان من أظهر تلك التحريفات تحريفهم حول المسيح عليه‌السلام وادعائهم أنه شريك مع الله وأن ذلك موجود في كتابهم ، ردهم الله سبحانه بأن ذلك مستحيل في حق المسيح ، لأن الله سبحانه لا يعطي النبوة لرجل كاذب يدعي لنفسه الربوبية فإنه (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) أي يعطيه (الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) بين الناس (وَالنُّبُوَّةَ) والرسالة (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) أي اعبدوني دونه سبحانه ، أو المراد اعبدوني معه ، فإن عبادة الشريك عبادة لمن دون الله ، ولأن الشرك معناه عدم عبادة الله إطلاقا إذ الله لا شريك له ، فمن له شريك ليس هو بإله ، وفي بعض التفاسير أن سبب نزول هذه الآية أن يهوديا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ونزلت الآية (وَلكِنْ) اللازم على الرسول أن يقول للناس (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) منسوبين إلى الرب ترشدون الناس إلى التوحيد وتعبدون إلها واحدا بسبب ما (كُنْتُمْ) أي كونكم (تُعَلِّمُونَ) للناس (الْكِتابَ) الذي أخذتموه من نبيكم (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي بسبب درسكم إياه يعني أن الرسول يقول للناس إنكم بسبب كونكم علماء معلمين مدرسين يجب أن تكونوا ربانيين منسوبين إلى الرب فقط لا إلى غيره من الأنداد والشركاء.

٣٥٩

وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ

____________________________________

[٨١] (وَلا) يكون للنبي أن (يَأْمُرَكُمْ) عطف على (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ)(أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) فإن ذلك محال إذ من يختاره الله للرسالة لا يأمر بالكفر (أَيَأْمُرُكُمْ) أي هل يأمركم النبي (بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أسلمتم بإيمانكم بالنبي ، وهذا استفهام إنكاري أي لا يكون ذلك أبدا فقد أخرجكم النبي من الكفر إلى الإسلام فكيف يأمركم بالكفر ثانيا بأن تتخذوه شريكا لله.

[٨٢] وإذ تم الكلام حول عيسى وأنه ليس بشريك لله سبحانه رجع السياق إلى نبي الإسلام وأنه النبي بعد عيسى عليه‌السلام ، (وَ) اذكر يا رسول الله (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) عهدهم المؤكد (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) «ما» بمعنى «مهما» أي أخذ الله عهد النبيين أنه مهما أعطاه الله الكتاب والحكمة والرسالة (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) يراد به نبي الإسلام ، أو كل نبي يأتي بعدهم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) هذا جواب «مهما» فالله سبحانه كان يأخذ من النبيين الميثاق أنه مهما أعطى أحدهم الرسالة فإن عليه أن يؤمن برسول الإسلام ، أو عليه أن يؤمن بالرسول الذي يتلوه وأن يناصره ويعاضده ، وفي الوجه الأول إفادة أن الأنبياء جميعا أقروا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعترفوا به وآمنوا به وفي الوجه الثاني إفادة أن كل رسول كان يؤمن بالرسول الذي يأتي

٣٦٠