تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤)

____________________________________

معناه الإيصال إلى المطلوب وهو ليس بواجب بالنسبة إلى الجميع وإما معناه إرائة الطريق ومعنى من يشاء إنه لو لم يشأ لا يهدي أحد ، إذ الهداية لا تكون إلا بإرسال الرسل ، والأول أنسب بالسياق.

[٢١٥] ثم يسأل الله المؤمنين الذين وقعوا في متاعب هذا الخلاف حيث يحاربونهم الكفار لأجل أنهم اهتدوا بهدي الله (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي بل حسبتم وظننتم أيها المسلمون (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) اعتباطا وبلا مشقة وحرج (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلِكُمْ) أي لم يأتكم بعد امتحان مثل امتحان الأمم المؤمنة السالفة الذين ثبتوا وصبروا تجاه الأحزان والكوارث وإنما قال «مثل» لأنهم صاروا مثلا للصبر وتحمل المكاره (مَسَّتْهُمُ) أي لمستهم (الْبَأْساءُ) الفقر (وَالضَّرَّاءُ) المرض والحرج وأشباههما (وَزُلْزِلُوا) أي حركوا بأنواع المحن والبلايا (حَتَّى) وصل الحال إلى أن (يَقُولَ الرَّسُولُ) لتلك الأمم (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) استعجالا للنصر الموعود وتمنيا للخلاص من الشدائد والمحن ، فاستدرك الأمر وأجيب سؤالهم بأنه (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) وهذا جواب طبيعي يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنون كلما رأوا البلاء والمحن ، وفي الآية تعبير المؤمنين وأنهم إنما يفوزون بسعادة الدنيا والآخرة بعد مثل هذه الكوارث والمتاعب.

[٢١٦] ويأتي هنا دور أسئلة وجهت إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجاب عنها القرآن

٢٤١

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى

____________________________________

الكريم يجمعها الإقلاع عن الملذات والصبر على الطاعة وبهذا يرتبط السياق بما قبله حيث كان الكلام في معرض التضحية في سبيل العقيدة والإيمان وما يأتي نوع من التضحية (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا يُنْفِقُونَ) في سبيل الله من أقسام الأموال (قُلْ) ليس لهم الإنفاق فإنه أي شيء كان يقبل إذا كان المنفق عليه أهلا كما أنه لا يقبل إذا كان المنفق عليه غير أهل فمعيار الإنفاق ليس ماهية المنفق وإنما شخص المنفق عليه ف (ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) فاللازم أن يكون للوالدين (وَالْأَقْرَبِينَ) أقربائكم (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وأشباه ذلك مما يقصد به وجه الله سبحانه (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ) إنفاق أو غيره (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بالخير خيرا. وروي أنها نزلت في عمرو ابن الجموح ، وكان شيخا كبيرا كثير المال فقال يا رسول الله بما ذا أتصدق؟ وعلى من أتصدق فأنزل الله هذه الآية (١).

[٢١٧] ثم رجع السياق إلى الآية السابقة التي فيها ذكر التضحية والزلزال (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) مع من تعدى عليكم أو على العقيدة الصحيحة أو على الناس (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) تكرهونه (وَعَسى)

__________________

(١) فقه القرآن : ج ١ ص ٢٣٩.

٢٤٢

أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ

____________________________________

بمعنى «قد» وما بعده فاعله (أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) والقتال من ذلك فإنه يوجب سيادتكم وسعادتكم (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) وترك القتال كذلك لما فيه من راحة الجسم وعدم اضطراب القلب لكنه شر لما فيه من زوال السيادة والعزة وتسلط الكفار والأجانب (وَاللهُ يَعْلَمُ) ما فيه خيركم وشركم (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

[٢١٨] بعث رسول الله بسرية فاتفق أن قاتلت في شهر رجب وهي تترد في أن اليوم الذي حاربت فيه من جمادى أو رجب ، وشهر رجب من الأشهر الحرم ، ولذا كثر صخب المشركين وإنه كيف يقاتل الرسول في شهر حرام وأتى وفدهم إلى المدينة يسألون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) بدل شهر أي يسألونك يا رسول الله عن القتال في الشهر الحرام (قُلْ قِتالٌ فِيهِ) أي في الشهر الحرام (كَبِيرٌ) في نفسه لا يجوز (وَ) لكن ليس كبر ذنبه مثل عظم ذنب ما تفعلونه أنتم أيها المشركون ف (صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي المنع عنه بأن لا يسلم أحد (وَكُفْرٌ بِهِ) أي بالله سبحانه (وَ) صد عن (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) لئلا يحج المسلمون (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ) أي أهل المسجد الحرام (مِنْهُ) كما فعل المشركون بالنبي والمسلمين (أَكْبَرُ

٢٤٣

عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا

____________________________________

عِنْدَ اللهِ) فكيف تؤاخذون المسلمين بذنب مهما عظم وتنسون ذنوبكم التي هي أعظم منه (وَالْفِتْنَةُ) التي أنتم تقيمون عليها من تفتين المسلمين عن دينهم وإغرائهم بالكفر بعد الإسلام (أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) الذي صدر من المسلمين ، فالقتل يفسد دنيا المقتول والفتنة تفسد دين المفتتن وأخراه (وَلا يَزالُونَ) أي لا يزال الكفار (يُقاتِلُونَكُمْ) أيها المسلمون (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) إلى الكفر (إِنِ اسْتَطاعُوا) أن يردوكم (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ) أيها المسلمون (عَنْ دِينِهِ) إلى الكفر (فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ) في مقابل من ارتد ورجع حتى مات مؤمنا (فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) والحبط هو الإبطال والإفناء فلا حسنة لهم ولم ينتفعوا بإيمانهم السابق على الكفر (فِي الدُّنْيا) فليس لهم احترام المسلم وحقوقه (وَالْآخِرَةِ) فلا يجزى بالجنة والثواب (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد.

[٢١٩] وهناك ظن أناس أن القاتل في رجب إن سلم من الإثم لم يكن له أجر لأنه انتهك حرمة الشهر الحرام فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا) بأن قطعوا ديارهم وأهليهم وخلفوا أموالهم لأجل أن يكونوا

٢٤٤

وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ

____________________________________

مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَجاهَدُوا) أي أوقعوا أنفسهم بالجهد والتعب ، وأوضح أفراده المقاتلة (فِي سَبِيلِ اللهِ) لكسب مراضيه (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) يأملونها في الدنيا والآخرة (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر لمن زل و (رَحِيمٌ) بعباده المؤمنين فلا ينقص أجورهم وإنما قال : «يرجون» لأن الإنسان لا يدري ما حاله في المستقبل وإنه هل يبقى على الإيمان والصلاح حتى يثاب أم يفتن في دينه حتى يحبط عمله.

[٢٢٠] (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْخَمْرِ) وهي كل مسكر وأظهر أفراده المسكر المتخذ من العنب (وَالْمَيْسِرِ) وهو القمار بجميع أصنافه والسؤال كان عن حكمهما (قُلْ) يا محمد (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أي وزر عظيم لما فيهما من الفساد الكبير (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) فإن الخمر تفيد اللذة والطرب وفي الاتجار بها ثمن وربح والقمار فيه لذة للاعب وربح للفائز (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) إذ الفساد الذي يسببانه في البدن والعقل والمال أكبر من اللذة والربح الذي يحصل بسببهما بالإضافة إلى العقوبة الأخروية التي تصيب الإنسان من جرائها.

(وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (ما ذا يُنْفِقُونَ) وهنا جاء الجواب طبق السؤال وإنه «ماذا» لا إنه «لمن» فقال (قُلْ) يا محمد (الْعَفْوَ) أي الزائد من المال على النفقة فإن ما بقدر نفقة النفس والأهل لا ينفق تقديما

٢٤٥

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ

____________________________________

لواجبي النفقة على غيره وهذا الإنفاق مستحب لما دل على حصر الحقوق الواجبة في أمور معدودة (كَذلِكَ) أي هكذا يا رسول الله فإن كذا تشبيه وإشارة والكاف الملحق بها اللام للخطاب (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الأدلة المرتبطة بالتشريعات (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي لكي تتفكروا.

[٢٢١] (فِي) أمر (الدُّنْيا وَ) أمر (الْآخِرَةِ) فتجمعوهما في التفكير ثم ترون جمال الأحكام إذ التفكير في الدنيا فقط يوجب شلل قسم من الأحكام فلما ذا ينفق الإنسان ـ مثلا ـ وهو بحاجة إلى المال ، كما إن التفكير في الآخرة فقط يوجب شلل قسم آخر من الأحكام فلما ذا لا ينفق الإنسان جميع أمواله لتحصيل أجر الآخرة وهكذا سائر الأحكام فلا يعرف جمالها إلا إذا افتكر الإنسان في كلتا الحياتين وعرف المصلحتين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) كيف يعاشروهم فقد ورد أنه لما نزل (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١) ذهب كل من عنده يتيم ليعزل اليتيم في مأكله ومشربه عن نفسه لئلا يبتلي بماله واشتد ذلك عليهم فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنزلت (قُلْ) يا رسول الله (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) بأن يصلح الإنسان أموال اليتيم ويعاشره معاشرة المصلحين بدون أجرة وعوض خير من عزلهم وطردهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) بأن تخلطوا أموالهم

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

٢٤٦

فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ

____________________________________

بأموالكم وتشاركون معهم بالنسبة وحفظ المقدار فهم إخوانكم في الإيمان والأخ يعاشر الأخ بالإصلاح والغبطة (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فهو عارف بنية المخالطين للأيتام وإنهم يريدون بالمخالطة الإفساد وأكل مال اليتيم أو الإصلاح والتحفظ على اليتيم حتى يبلغ ويرشد (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) أي أوقعكم في العنت والمشقة بالنسبة إلى اليتيم بأن يوجب الاجتناب عن أموالهم واعتزال أموالكم عن أموالهم فحيث أنه لم يفعل ذلك رحمة بكم فلا تأكلوا أموالهم فسادا وطمعا (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) فهو يقدر ـ بعزته ـ من إعناتكم (حَكِيمٌ) لا يفعل إلا الصلاح وما تقتضيه الحكمة.

[٢٢٢] ثم انتقل السياق إلى فئة من أحكام الأسرة في النكاح والطلاق وشؤونها ولعل الارتباط العام بين هذه الآيات والآيات السابقة أنها انتهت إلى حكم اليتيم ، فاللازم بيان العش الذي يتربى فيه فراخ الإنسان ، وإنه كيف يلزم أن يكون لينشأ الأولاد صالحين أصحاء جسما وعقلا وعاطفة (وَلا تَنْكِحُوا) أيها الرجال المسلمون النساء (الْمُشْرِكاتِ) سواء كن أهل كتاب أم لا فأهل الكتاب أيضا مشركون كما قال سبحانه (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) (حَتَّى يُؤْمِنَ) ويدخلن في الإسلام (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) تلك

__________________

(١) النمل : ٦٤.

٢٤٧

وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ

____________________________________

المشركة لجمالها أو مالها أو حسبها أو نسبها (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) بناتكم أيها المسلمون (حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ) تزوجوه بنتكم (خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ذلك المشرك (أُولئِكَ) المشركات والمشركون (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) إما بالتبليغ إلى الشرك وإما بحكم دينهم فإن جليس الإنسان إذا كان غير متدين لا بد وأن يسري إلى جليسه (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) أي غفران الذنوب (بِإِذْنِهِ) فالمسلمات والمسلمون حين أخذوا مبادئهم عن الله سبحانه لا بد وأن يدعون بلسانهم أو بحكم دينهم إلى الجنة (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) أحكامه ودلائله (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي لكي يتذكروا ويتعظوا ويرشدوا.

[٢٢٣] (وَيَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْمَحِيضِ) الحيض والمحيض بمعنى واحد وأنه هل يجوز مقاربة النساء في حالة الحيض أم لا (قُلْ) يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (هُوَ) أي المحيض (أَذىً) قذر نجس أو مشقة (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) والاعتزال هو الابتعاد عنهن (وَلا تَقْرَبُوهُنَ) بالجماع (حَتَّى يَطْهُرْنَ) وينظفن عن الدم (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) عن الدم (فَأْتُوهُنَ) جامعوهن

٢٤٨

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)

____________________________________

(مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) بمقاربتهن من الفرج الذي هو محل الدم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) الذين يرجعون كثيرا عن ذنوبهم إلى الندم والاستغفار بمعنى أنهم كلما أذنبوا تابوا ورجعوا واستغفروا ولعل ذكر التواب بمناسبة أن من زل فقارب في المحيض يقبل الله توبته وإن تكرر منه إذا ندم ندما حقيقيا وتاب توبة نصوحا (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) بالماء عن الأقذار الباطنية والظاهرية أو بالاستغفار عن الذنوب.

[٢٢٤] (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) أي مزرعة ومحترث فكما يحرث الحارث البذر في الأرض كذلك يحرث الرجل في زوجته (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) وزرعكم (أَنَّى شِئْتُمْ) «أنى» إما زمانية بمعنى أي وقت شئتم ، باستثناء أيام الحيض التي سبق أنها لا يجوز وسائر ما استثنى من حال الصوم والإحرام وشبههما ، وإما مكانية أي إتيانها في قبلها من خلفها أو قدامها أو جانبيها ، أو بمعنى الكيفية باركة ونائمة وقائمة ، أما أن يراد سياق السبيلان فبعيد عن سياق الآية (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) بالولد فإنه يبقى ذخرا لكم ، أو قدموا لأنفسكم بالطاعة حيث ذكرت أوامر ونواهي (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) والملاقاة هنا بمعنى أنه عليكم حساب الملاقي لملاقيه (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بأنهم

٢٤٩

وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)

____________________________________

يفوزون بكل كرامة.

[٢٢٥] وناسب قصة النساء حلف بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته فكان يقول : إني حلفت بهذا فلا يحل لي أن أفعله ، فنزلت الآية مما ناسب قصة العائلة والنساء التي سبقت ، وتأتي ، فقال سبحانه : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً) أي معرضا (لِأَيْمانِكُمْ) بأن تحلفوا به (أَنْ تَبَرُّوا) أي لئلا تبروا ، أي تريدون بالحلف عدم البر (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) أي وعدم التقوى وعدم الإصلاح ، فإن هذه اليمين فاسدة لا تنعقد (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأيمانكم وأقوالكم (عَلِيمٌ) بأحوالكم ونياتكم.

[٢٢٦] (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ) ولا يعاقبكم (بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) جمع يمين ، ويمين اللغو هو ما يجري على عادة الناس من قول : لا والله وبلى والله من غير عقد على يمين يقتطع بها مال ولا يظلم بها أحد (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي بحنث يمين نويتم اليمين الحقيقية حين إجرائها (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر الذنب (حَلِيمٌ) يحلم عن العصاة لعلهم يتوبوا ، وتكرار كلمة غفور في كثير من الآيات لفتح باب التوبة أمام العصاة الذين هم كثيرا ما يعصون عن شهوة ونزوات وهوى ، فإن

٢٥٠

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ

____________________________________

الله سبحانه لا يسد عليهم باب التوبة وإن تكررت منهم المعاصي والذنوب.

[٢٢٧] ثم يرجع السياق إلى أحكام الأسرة مع مناسبة للحكم مع الحلف فيقول سبحانه : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) والإيلاء هو الحلف على ترك وطي المرأة على وجه الإضرار بهن (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) مبتدأ لقوله «للذين» أي توقف أربعة أشهر جائز للذين يؤلون من نسائهم وذلك لأن للرجل أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر وبعد ما تم أربعة أشهر خيره الحاكم بين الوطي والكفارة وبين الطلاق وإن امتنع عن الأمرين حبسه (فَإِنْ فاؤُ) ورجعوا إلى زوجاتهم بالوطي بعد الأشهر الأربعة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لهم بهذا الحلف (رَحِيمٌ) بهم.

[٢٢٨] (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) فطلقوا (فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) للطلاق (عَلِيمٌ) بالضمائر والنيات.

[٢٢٩] (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) أي يصبرن (بِأَنْفُسِهِنَ) أي يحفظنها عن الزواج ونحوه (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) جمع قرء وهو من ألفاظ الضد يطلق على الحيض وعلى الطهر والمراد هنا الطهر فإذا طلقت المرأة في طهر لم يواقعها فيه الرجل كان هذا الطهر وطهران آخران بينهما حيض موجبا لانتظار العدة فإذا رأت الدم الثالث انقضت عدتها (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ

٢٥١

يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ (٢٢٨)

____________________________________

يَكْتُمْنَ) أي يخفين (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) من الولد ودم الحيض حتى يبطلن حق الرجعة في الطلاق الرجعي أو يستعجلن العدة (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يوم القيامة ، فمن آمن بهما لا بد وأن تستقيم حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله ، لأنه يعلم أن الله مطلع عليه وأنه سوف يحاسبه (وَبُعُولَتُهُنَ) أي أزواج المطلقات الرجعيات (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) إلى أنفسهم (فِي ذلِكَ) أي زمان التربص (إِنْ أَرادُوا) أي البعولة بردهن (إِصْلاحاً) لا إضرارا ، وذلك أن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة وتركها ، حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها وتركها مدة ثم طلقها أخرى وتركها مدة كما فعل في الأولى ثم راجعها وتركها مدة ثم طلقها أخرى ، وهذا العمل حرام وإن كان يثبت حكم الرجعة به (وَلَهُنَ) أي حق النساء على أزواجهن (مِثْلُ الَّذِي) للأزواج (عَلَيْهِنَ) فلكل على الآخر حقوق تتكافأ (بِالْمَعْرُوفِ) من العشرة وسائر الأمور (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَ) زيادة (دَرَجَةٌ) فإن بيده الطلاق وله عليها الطاعة (وَاللهُ عَزِيزٌ) ينفذ أوامره (حَكِيمٌ) جعل أحكامه على طبق المصلحة والصلاح ، ومن المحتمل أن يكون قوله تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) بيان حال العدة أي أن لكل من الزوج والزوجة حقا على الآخر في حال العدة مع أن الرجل له فضيلة على المرأة بأن الاختيار إلى الزوج فقط.

٢٥٢

الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)

____________________________________

[٢٣٠] (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فإن للرجل أن يطلق زوجته تطليقتين فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك وحفظ لها في حبالته (بِمَعْرُوفٍ) بالعشرة الحسنة (أَوْ تَسْرِيحٌ) وطلاق ثالث (بِإِحْسانٍ) بإعطائها حقوقها وعدم التعدي ، وفوق ذلك إنه يحسن إليها جبرا لخاطرها المكسور.

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ) أيها الأزواج (أَنْ تَأْخُذُوا) في حال الطلاق والاستبدال (مِمَّا) أي من الذي (آتَيْتُمُوهُنَ) وأعطيتموهن من المهور (شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا) أي الزوجان (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) من حقوق الزوجية (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيها الحكام (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) من حقوق الزوجية (فَلا جُناحَ) ولا حرج (عَلَيْهِما) أي على الزوجة في البذل وعلى الزوج في قبول البذل (فِيمَا) أي في الذي (افْتَدَتْ) الزوجة (بِهِ) من المال (تِلْكَ) الأحكام المذكورة هي (حُدُودَ اللهِ) وأوامره ونواهيه (فَلا تَعْتَدُوها) ولا تجاوزوها بالمخالفة (وَمَنْ يَتَعَدَّ) منكم ويتجاوز (حُدُودَ اللهِ) ويخالف أوامره ونواهيه (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

٢٥٣

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ

____________________________________

[٢٣١] (فَإِنْ طَلَّقَها) طلاقا ثلاثا (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) الطلاق الثالث فإنها تحرم عليه (حَتَّى تَنْكِحَ) المرأة المطلقة ثلاثا (زَوْجاً غَيْرَهُ) ويسمى هذا الزوج محللا (فَإِنْ طَلَّقَها) أي طلق المرأة الزوج الثاني وانقضت عدتها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الزوجة والزوج الأول الذي طلقها ثلاث طلقات (أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا) أي الزوجان (أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ) في حسن الصحبة والمعاشرة وإن لم يظنا صح الرجوع لكنه سبب للمعصية ، والحاصل أن الحكم الوضعي الصحة وإن كان الحكم التكليفي الحرمة كمن يغسل يده النجسة بالماء المغصوب الذي يوجب طهارة يده لكنه فعل حراما (وَتِلْكَ) المذكورات في باب الطلاق والنكاح (حُدُودَ اللهِ) أوامره ونواهيه (يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأمور فإنهم هم الذين ينتفعون بهذه الأحكام.

[٢٣٢] (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي قاربن تمام العدة وإنما عبر بهذا التعبير لأن انقضاء العدة يعبر عنه بانقضاء الأجل فما يقابله بلوغ الأجل إذا قاربه ، إذ البلوغ الدقي خارج عن محاورة العرف (فَأَمْسِكُوهُنَ) أي احفظوهن في حبالتكم بالرجوع إليهن في عدة الرجعة (بِمَعْرُوفٍ) الذي يعرفه العقلاء والمشرعون من القيام بحقوق

٢٥٤

أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ

____________________________________

الزوجة (أَوْ سَرِّحُوهُنَ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن (بِمَعْرُوفٍ) بإعطاء حقوقهن كاملة من غير إيذاء لهن (وَلا تُمْسِكُوهُنَ) بأن ترجعوا إليهن (ضِراراً) بقصد الإضرار بهن لتطويل العدة أو التضييق في النفقة ـ كما تقدم ـ (لِتَعْتَدُوا) عليهن وتظلموهن (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) الإمساك بقصد الإضرار (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) لأنه أساء بسمعته عند الناس وعرض نفسه لعذاب الله وسخطه (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) أحكامه وأوامره ونواهيه (هُزُواً) سخرية بأن تستخفوا بها (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) حيث أنعم عليكم بكل نعمه ، التي منها نعمة الزوجة التي تسكنون إليها وتقضون مآربكم بسببها (وَ) اذكروا (ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) فشرفكم بتعلمكم الأحكام وإرشادكم إلى ما يصلحكم ويهيئ لكم حياة سعيدة (يَعِظُكُمْ بِهِ) أي بذلك الكتاب ، وهذا إما صفة للكتاب أو جملة مستأنفة (وَاتَّقُوا اللهَ) في أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يفوته عملكم ونيتكم فلا تتعرضوا لسخطه وغضبه.

[٢٣٣] (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي انقضت عدتهن ـ وذلك

٢٥٥

فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ

____________________________________

بقرينة : أن ينكحن ـ (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي لا تمنعوهن ظلما (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) إلى الزوج السابق أو من تريد الزواج به فعلا وسمى زوجا للأول وربما قيل في وجه النزول أن معقل بن يسار عضل أخته جملاء أن ترجع إلى الزوج الأول وهو عاصم بن عدي حين طلقها وخرجت من العدة ثم أراد أن يجتمعا بنكاح جديد فمنعهما من ذلك ، ولو كان كذلك كان المراد بأزواجهن بالمعنى الأول فإنه لا يحق لأحد أن يمنع المرأة الثيبة في الرجوع إلى زوجها بنكاح جديد (إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) مما أباحه شرع الإسلام من شروط النكاح وآداب العشرة (ذلِكَ) المذكور من تحريم العضل (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فإن المؤمن يجتنب سخط الله ويبتغي رضاه (ذلِكُمْ) الذي ذكرنا في باب الزواج (أَزْكى لَكُمْ) أنمى لكم (وَأَطْهَرُ) لنفوسكم فإن في الزواج النسل والتحصن وسير الحياة إلى الأمام (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فاتبعوا أوامره وانتهوا عن زواجره.

[٢٣٤] (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فإن الأم ترضع ولدها سنتين تامتين أربعة وعشرين شهرا (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) التي

٢٥٦

وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ

____________________________________

ندب إليها الإسلام ومن العلماء من أوجب ذلك (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) أي الأب ، وإنما عبر بهذا التعبير إثارة للعاطفة ، له فإن الأب قد ولد له الولد فاللازم أن يحنو عليه (رِزْقُهُنَ) الإدام والطعام (وَكِسْوَتُهُنَ) اللباس (بِالْمَعْرُوفِ) لدى الشرع والعرف من اللائق بحالها فإن على الأب أن يقوم بهذه الشؤون ما دامت الأم في الرضاع ، وقد استفاد أكثر المفسرين من هذه الجملة كون الكلام حول الأم المطلقة وإلا فالرزق والكسوة على الزوج لأجل النكاح لا لأجل الرضاع (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) فكل من الأب والأم يؤدي واجبه في حدود طاقته فلا تتحمل الأم الرضاع بلا بدل ولا ينتفع الأب بولده في المستقبل مجانا فسعة هذه أن ترضع ببدل ، وسعة ذاك أن يدفع الأجر لما يعود نفعه إليه (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) بأن ترضع مجانا وبلا عوض باستغلال الأب عاطفة الأم للولد فلا ينفق عليها ، أو بمعنى أن الوالدة لا يؤخذ منها الولد ليعطي للأجنبية غيظا من الأب عليها فتضر بفراق ولدها (وَلا) يضار (مَوْلُودٌ لَهُ) أي الأب (بِوَلَدِهِ) بأن تستغل الأم عاطفة الأب نحو الولد فتكلفه أكثر من الكسوة والرزق قبال رضاعها ، أو لا يضر الأب بولده بأن يأخذه من الأم ويعطيه للأجنبية ، فإن لبن الأم أوفق بالولد ، والأول أقرب إلى السياق (وَعَلَى الْوارِثِ) للأب إذا مات الأب (مِثْلُ ذلِكَ) الرزق والكسوة للأم في حال رضاعها للولد ،

٢٥٧

فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ

____________________________________

ولا يخفى أن أجر رضاع الصبي مما يرثه الصبي من أبيه لدى موت الأب (فَإِنْ أَرادا) أي الأب والأم (فِصالاً) للولد عن الرضاع بأن يفطماه قبل الحولين (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ) بأن تشاور الأبوان وتراضيا في فطام الولد قبل العامين وذلك لئلا يتضرر الصبي إذا استقل أحدهما بالفطام فإن الرضا المتعقب للمشورة لا يكون إلا إذا كان الانفصال صلاحا (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) أي على الأبوين في هذا الفطام (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) أيها الآباء (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) بأن تستأجروا لهم مرضعات غير أمهاتهم (فَلا جُناحَ) ولا حرج (عَلَيْكُمْ) في ذلك (إِذا سَلَّمْتُمْ) إلى المرضعات (ما آتَيْتُمْ) ووعدتم لهن من الأجر (بِالْمَعْرُوفِ) أي تسليما بالمعروف بدون نقصان ومطل ومن ، وهذا شرط تكليفي لا وضعي ، كما هو كثير في القرآن الحكيم ، لغاية الإلفات إلى لزوم كون الأعمال عن صدق وإخلاص وتقوى (وَاتَّقُوا اللهَ) في أعمالكم التي منها الأحكام السالفة حول الرضاع (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يغيب شيء عنه ولا تخفى عليه خافية ، فلتكن أعمالكم حسب مراضيه وأوامره.

[٢٣٥] (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) أي الرجال الذين يموتون (وَيَذَرُونَ

٢٥٨

أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ

____________________________________

أَزْواجاً) أي يخلفون زوجاتهم (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) أي يحفظن أنفسهن عن الزواج ولعل في قوله إشارة إلى أن النفس ولو كانت تطمح نحو الزواج لكن الواجب اصطبارها والتحفظ عليها (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) ففي هذه المدة يجب عليها الحداد بترك الزينة والخطبة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) وانقضت المدة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها المسلمون (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من الزينة أو الخطبة أو النكاح فإنها ترجع إلى نفسها والناس مسلطون على أنفسهم (بِالْمَعْرُوفِ) بأن لا تعمل منكرا ينافي الإسلام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فيطلع على أعمالهم ، ولا يفوته شيء من إطاعتكم ومخالفتكم.

[٢٣٦] (وَ) إذا كانت المرأة في العدة ف (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أيها الراغبون في الزواج منهن (فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) بأن تلمحوا إلى رغبتكم في الزواج منهن وتعرضوا على ذلك تعريضا وإشارة من طرف خفي ، لا تصريحا فإن ذلك خلاف الجو الذي يحيط بالمرأة المعتدة من الربط الباقي بينها وبين زوجها الأول (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) بأن أضمرتم إرادة زواجهن بدون أن تصرحوا أو تلمحوا بذلك فإن الكناية

٢٥٩

عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)

____________________________________

اللفظية والإضمار القلبي لا جناح فيهما (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ) أيها الرجال (سَتَذْكُرُونَهُنَ) وهن في العدة إرادة للزواج بهن (وَلكِنْ) لا تصرحوا بالخطبة و (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) في الخلوة فتبدوا رغبتكم في الزواج بهن في منأى من الناس (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) بالكناية والتلميح لا بالتصريح وذكر ما يقبح ذكره كما كانت عادة بعض الناس.

(وَلا تَعْزِمُوا) أي لا تقصدوا (عُقْدَةَ النِّكاحِ) أي إجراء الصيغة التي هي كعقدة تعقد النكاح بين الجانبين ، وقد نهى عن العزم على ذلك مبالغة ، كقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) (١) (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ) الذي كتبناه في باب العدة من أربعة أشهر وعشرا (٢) (أَجَلَهُ) أي أمده ، بأن تنقضي العدة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من عزم النكاح فكيف بما تسرون به من نكاح المعتدة سرا (فَاحْذَرُوهُ) أن تخالفوه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر عاجلا فلا يغرنكم ستره (حَلِيمٌ) عليم فلا يعجل بالعقوبة فلا يسبب ذلك جرأتكم على انتهاك حرماته.

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

(٢) راجع موسوعة الفقه : ج ٧٠.

٢٦٠