تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ

____________________________________

الزائر يعمر المكان بزيارته ، والحج والعمرة عملان من أعمال الحج (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) أي يسعى بينهما ، وإنما عبر ب «لا جناح» لأن المسلمين تحرجوا من الطواف بهما ظنا منهم أنه من عمل المشركين ، حيث كان على الصفا صنم يسمى «أساف» وعلى المروة صنم يسمى «نائلة» فهو ترخيص في مقام توهم الحصر ، ومن المعلوم أن الإباحة في مقام توهم الحصر ، والنهي في مقام توهم الوجوب ، لا يدلان على مفادهما الأولية ، لأنه لإثبات أصل الطرف الآخر ، لا خصوصيته الإباحية والتمويمية (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) أي أتى بخير من الأعمال والأفعال تطوعا ، والتطوع التبرع بالشيء من الطوع بمعنى الانقياد (فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ) لعملهم ومعنى شكره تقديره وجزائه للعامل (عَلِيمٌ) بأعمالهم ، فلا يفوته شيء منها.

[١٦٠] لعل ارتباط هذه الآية بما ورد قبلها ، أن اليهود والنصارى لم يفعلوا مثل ما فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول الصفا والمروة ، فالرسول أبطل كل شيء حول الحج ، وأقام كل حق فيه ، فالصفا والمروة ، حيث كانا حقا أثبتهما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن ظن الناس أنهما من الباطل ، لكن أهل الكتاب حشروا كل ما أتى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مما عرفوه حقا ـ في زمرة الباطل ، ولذا صار الكلام السابق ، فاتحة للتعريض بهم ، فهو مثل أن يقول أحد أنا اعترفت بالحق ، لكنه لم يعترف بما علم من الحق ، والله أعلم بموارده (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) فيخفون الأدلة

٢٠١

وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)

____________________________________

الدالة على حقية الإسلام ، مما نزلت في الكتب السالفة (وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) أي يكتمون الهدى الذي يرونه ، وإن لم يكن منزلا وبيّنا (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يبعدهم عن الخير في الدنيا وفي الآخرة ، بتضييق الأمور عليهم هنا والعذاب هناك (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) الذين يأتي منهم اللعن من الناس والملائكة والجن.

[١٦١] (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) منهم واتبعوا الحق وأظهروه (وَأَصْلَحُوا) ما فسد من عقائدهم وأعمالهم (وَبَيَّنُوا) للناس ما أنزله الله من الهدى والبينات (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) فالتوبة معناها الرجوع ، ورجوع الله بمعنى إعادة الإحسان والرحمة عليهم بعد انقطاعها عنهم بسبب كفرهم وكتمانهم (وَأَنَا التَّوَّابُ) أي كثير الرجوع ، فإن العاصي إذا عصى ألف مرة ورجع ألف مرة قبلت توبته ، إذا تاب توبة نصوحا (الرَّحِيمُ) بالعباد.

[١٦٢] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يتوبوا (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) بالعقائد الصحيحة (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فإن الكل يلعنون الظالم ، والكافر ظالم ، فإنه وإن لم يقصده اللاعن

٢٠٢

خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ

____________________________________

بالذات ، لكنه داخل في عموم اللعن.

[١٦٣] (خالِدِينَ فِيها) أي في تلك اللعنة ، إذ لعنة الدنيا تتصل بلعنة الآخرة (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) إذ لا أمد لعذاب الله بالنسبة إلى الكافرين (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) فلا ينظر أحد إليهم نظرة رحمة وإحسان ، أو لا يمهلون للاعتذار ، أو لا يؤخر عنهم العذاب.

[١٦٤] ولما تقدم حال الكافر صار السياق لبيان التوحيد ، والأدلة على الوحدانية (وَإِلهُكُمْ) أيها الناس (إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الموصوف ب (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) لا كما يصور الإله بعض الكتب السماوية من أنه إله انتقام وغضب وعذاب.

[١٦٥] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) بهذا النظام البديع والترتيب الرائع (وَالْأَرْضِ) بهذا الأسلوب المنظم المتكامل (وَ) في (اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) يأتي أحدهما عقب الأخر خليفة ، لتنظيم الحياة على الأرض بأجمل صورة (وَ) في (الْفُلْكِ) السفينة (الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) في أسفارهم وتجارتهم (وَ) في (ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) جهة العلو (مِنْ ماءٍ) ببيان «ما» (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ)

٢٠٣

بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ

____________________________________

بالإنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي جمودها وركودها (وَبَثَ) أي نشر وفرق (فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) تدب وتتحرك على وجه الأرض ، وكلمة «بث» عطف على «أحيا» أي كان المطر سببا لإحياء الأرض ، وانتشار الحيوانات فيها ، إذ لو لا المطر لم يكن للحيوان ماء ، ولا طعام فيهلك ، ولم يبق له نسل (وَ) في (تَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي صرفها ونقلها من مكان إلى مكان لتروح وتذهب بالأمراض والعفونات ، وتنقل السحاب من هنا إلى هناك ، ولو كانت الريح راكدة لم تنفع أي شيء (وَ) في (السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فإنه بما يكونه من أطنان من الماء ، يبقى معلقا بين الجهتين ، ويسير إلى كل ناحية (لَآياتٍ) وعلامات دالة على الله ، ووحدته وسائر صفاته (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ويعملون عقولهم في استفادة النتائج من المقدمات والمسبب عن الأسباب ، وينتقلون من العلم بالمعلول إلى العلم بالعلة.

[١٦٦] (وَمِنَ النَّاسِ) أي بعضهم (مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله (أَنْداداً) جمع ند ، بمعنى الأشباه ، والمراد بذلك آلهة يجعلها شبيهة لله في أنه يعبدها ، وهي الأوثان (يُحِبُّونَهُمْ) أي يحب هؤلاء الناس

٢٠٤

كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ

____________________________________

تلك الآلهة ، وإنما أتى بجمع العاقل لكونها ردفت مع الله سبحانه ، والقاعدة تغليب الرديف على رديفه كقوله تعالى (مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) (١) وقوله (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٢) (كَحُبِّ اللهِ) أي كحبهم لله ، أو حبا شبيها بما يستحق الله ، وعلى الأول ، فالمراد بهم المشركون الذين يعتقدون بالله (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) من حب هؤلاء لأوثانهم ، فالمؤمنين حيث يعرفون أن كل خير من الله يحبونه حبا بالغا (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) يعني لو يرون هؤلاء المشركين يوم القيامة كون القوة جميعا لرأوا مضرة فعلهم ، وسوء عاقبة شركهم ، وحذف جواب لو ، تهويلا للأمر ، كما تقول لعدوك : لو ظفرت بك (وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ) عطف على «أن القوة».

[١٦٧] إن الرؤية من الظالم للعذاب ، إنما يكون (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) من القادة (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم التابعون لهم (وَرَأَوُا) جميعا (الْعَذابَ

__________________

(١) النور : ٤٦.

(٢) آل عمران : ٤٤.

٢٠٥

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً

____________________________________

وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ) أي فيما بينهم (الْأَسْبابُ) فما كان في الدنيا يسبب وصلة بعضهم لبعض من المال والرئاسة والقرابة والحلف وأشباهها ، تنقطع هناك ، فلا داعي لنصرة الرؤساء أتباعهم الذين كانوا يتبعونهم في الدنيا.

[١٦٨] (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) إي التابعين لرؤسائهم (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي يا ليت لنا عودة إلى دار الدنيا (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الرؤساء (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) هنا في القيامة حال حاجتنا إلى العون (كَذلِكَ) أي هكذا (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أعمال كل من التابعين والمتبوعين (حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) فإن صلاتهم وأعمالهم ، كلها ذهبت أدراج الرياح ، فيتحسرون لماذا لم يعملوا بأوامر الله سبحانه (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) فإن المشرك يبقى في النار إلى الأبد ، إن تمت عليه الحجة وعاند.

[١٦٩] وإذ تم الكلام حول العقيدة ، توجه إلى الحياة التي هي مقصد الإنسان ، وإليها يرجع كثير من حركته وسكونه (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) من نباتها وحيوانها ومائها ومعدنها (حَلالاً طَيِّباً) أي في حال كون المأكول حلالا طيبا ، إلا ما حرم منه ، وفي قوله «طيبا»

٢٠٦

وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)

____________________________________

إشارة إلى أن كل حلال طيب ، وليس فيه خبث يوجب انحراف الصحة ، أو انحراف الخلق (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) فكأن الشيطان يخطو نحو الآثام ، ومن أثم كأنه تتبع خطواته إذ مشى خلفه (إِنَّهُ) أي الشيطان (لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي عدوا ظاهرا.

[١٧٠] (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) أي الأعمال السيئة (وَالْفَحْشاءِ) وهي الأعمال السيئة للغاية ، فهو مشتق من الفحش ، بمعنى التعدي (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ) أي تنسبوا إلى الله (ما لا تَعْلَمُونَ) من العقائد والأحكام ، وعدم العلم هنا أعم من العلم بالعدم ، كما قال سبحانه (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ) (١).

[١٧١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من الأحكام وسائر الوحي (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) أي وجدنا عليه آباءنا من التقاليد ، فأنكر الله ذلك عليهم بالاستفهام الإنكاري ، بقوله (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) من أمور الدين والدنيا (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى الحق فإذا

__________________

(١) الرعد : ٣٤.

٢٠٧

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ

____________________________________

ظهر لكم أن آباءكم لا يعلمون ، فكيف تتبعونهم.

[١٧٢] ثم بين الله سبحانه ، أن هؤلاء الكفار لعنادهم وتعصبهم ، قد غلقت منافذ السمع والبصر عنهم ، فلا يفيد فيهم وعظ ولا تذكير (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد ما يروا الآيات ، ويسمعوا نداءك يا رسول الله (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) أي يرفع صوته (بِما) أي بالحيوان الذي (لا يَسْمَعُ) ولا يفهم الكلام ، وإنما يسمع (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) فالحيوان ، إذا صحت به ، لا يفهم من كلامك إلا مجرد الدعوة والنداء ، فهؤلاء الكفار كذلك ، إذ لا ينتفعون بكلامك أبدا ، فهم (صُمٌ) جمع أصم (بُكْمٌ) جمع أبكم (عُمْيٌ) جمع أعمى ، فإنهم ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون ، لكنها كالمعطلة ، لأنها لا تؤدي وظيفتها (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ)

[١٧٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) تكرارا لما تقدم لإلحاق مسألتي الشكر والمحرمات به (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ولا تشكروا سائر الآلهة ، كالمشركين الذين يزعمون أنهم يمطرون بالأنواء ، ويرزقون بالآلهة المزعومة.

[١٧٤] (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وهي التي لم تذبح على النحو الشرعي

٢٠٨

وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ

____________________________________

(وَالدَّمَ) وهو وإن كان مطلقا ، إلا إنه مقيد بالمسفوح لقوله سبحانه (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) (١) (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) وخص اللحم بالكلام ، وإن كانت جملته محرمة ، لأن اللحم هو المعظم المقصود في الغالب (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) الإهلال في الذبيحة رفع الصوت بالتسمية ، وقد كان المشركون عند ذبحهم ، يرفعون أصواتهم بتسمية الأوثان ، فنهى الله سبحانه عن أكل ذبيحة ذكر غير اسم الله عليها (فَمَنِ اضْطُرَّ) بصيغة المجهول ، فإن «اضطر» متعد من باب الافتعال ، وحيث لم يكن المقصود ، سبب الاضطرار ، ذكر مجهولا (غَيْرَ باغٍ) أي لم يكن باغيا وطالبا للذة في أكله وشربه (وَلا عادٍ) أي متعد في الأكل والشرب ، عن حد الضرورة ، أو غير باغ على إمام المسلمين ، ولا عاد بالمعصية طريق المحقين (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في تناول هذه المحرمات (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر العصيان إذا اضطر إليه ، فغفر بمعنى ستر ، وستر العصيان ، عدم المؤاخذة به (رَحِيمٌ) بكم ، ولذا جاز تناول المحرم في حال الاضطرار.

[١٧٥] (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) وهم اليهود والنصارى الذين كانوا يكتمون العقائد الحقة الموجودة في كتابهم ، وينسبون إلى

__________________

(١) الأنعام : ١٤٦.

٢٠٩

وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى

____________________________________

الكتاب أحكاما لم توجد فيه ، كما قال سبحانه (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) ولعل ارتباط هذه الآية بما قبلها من جهة الأمور التي كانوا يحرمونها ، ولم يكن في كتبهم تحريم لها (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) أي بهذا الكتاب (ثَمَناً قَلِيلاً) من رئاسة الدنيا وأموالها ، فإنها قليل بالنسبة إلى الآخرة (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) أي لا يجرون إلى بطونهم ولعل ذكر في بطونهم للاحتراز عن الأكل في بطن الغير ، فإن العرب تقول شبع فلان في بطنه ، إذا أكله بنفسه ، وتقول شبع فلان في بطن غيره ، إذا أكله من يتعلق به (إِلَّا النَّارَ) فإن ما أكلوه ينقلب نارا تحرق بطونهم في جهنم (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فيهملهم ليذوقوا الهوان جزاء ما فعلوا (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يطهرهم عن الآثام ، فإن البطن إذا مليء حراما يقسو ، فلا يهتدي حتى يتزكى الإنسان ويتطهر (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم.

[١٧٦] (أُولئِكَ) الذين يكتمون ما أنزل الله هم (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي عوض الهداية ، فكأن نفس الإنسان ثمن لأحد أمرين الضلالة والهداية ، فهم أعطوا أنفسهم ، واشتروا الضلالة عوض أن

__________________

(١) آل عمران : ٩٤.

٢١٠

وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

يشتروا الهداية (وَ) اشتروا (الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) فعوض أن يشتروا المغفرة لأنفسهم اشتروا العذاب (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجب عن صبرهم على النار التي هي عاقبة عملهم ، أي كيف أنهم يصبرون على النار حينما فعلوا ما عاقبته النار.

[١٧٧] (ذلِكَ) العذاب ، إنما توجه إليهم بسبب أن (اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) أي التوراة (بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) بكتمان بعضه وإظهار بعض (لَفِي شِقاقٍ) وخلاف عن الحق (بَعِيدٍ) فهم إنما استحقوا العذاب ، لأنهم خالفوا الحق ، وكتموا ما لزم إظهاره ، ومن المحتمل أن يكون المراد بالكتاب «القرآن» أي أن عذابهم بسبب كتمانهم كون القرآن حقا واختلافهم فيه ، بأنه سحر وكهانة أو كلام بشر.

[١٧٨] (لَيْسَ الْبِرَّ) كل البر أيها اليهود المجادلون حول تحويل القبلة الصارفون أوقاتكم في هذه البحوث العقيمة (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) فإن ذلك أمر فرعي مرتبط بتكليف الله سبحانه ، وقد كلفنا أن نصرف الوجوه إلى الكعبة (وَلكِنَّ الْبِرَّ) فعل ، أي ولكن ذا البر (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فذلك هو الأصل الذي

٢١١

وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ

____________________________________

يتفرع عليه أحكام الصلاة وغيرها (وَ) آمن ب (الْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ) المنزل من عند الله على أنبيائه (وَ) آمن ب (النَّبِيِّينَ) كلهم أولهم وأوسطهم وأخرهم (وَآتَى الْمالَ) أي أعطاه وأنفقه (عَلى حُبِّهِ) أي مع أنه يحبه ، أو على حب الله تعالى (ذَوِي الْقُرْبى) أي قراباته وأرحامه (وَالْيَتامى) الذين مات أبوهم (وَالْمَساكِينَ) الذين لا يجدون النفقة لأنفسهم وأهليهم (وَابْنَ السَّبِيلِ) الذي انقطع في سفره ، فلا مال له يوصله إلى أهله ومقصده ، وسمي ابن السبيل ، لعدم معرفة أبيه وعشيرته (وَالسَّائِلِينَ) من الفقراء الذين يسألون الناس (وَ) آتى المال (فِي) فك (الرِّقابِ) أي اشتراء العبيد أو إعتاقهم ، حتى يتحرروا عن ربق العبودية (وَأَقامَ الصَّلاةَ) أي أداها على حدودها (وَآتَى الزَّكاةَ) الواجبة والمستحبة (وَالْمُوفُونَ) الذين يفون (بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) سواء كان عهدا مع الله كالنذر والبيعة ، أو مع الناس كالعقود ، وهذا عطف على قوله «من آمن» (وَالصَّابِرِينَ) عطف على من آمن على طريق القطع بتقدير المدح ، كما قال ابن مالك :

واقطع أو اتبع أن يكن معينا

بدونها أو بعضها اقطع معلنا

٢١٢

فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى

____________________________________

وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا

مبتدءا أو ناصبا لن يظهرا

فإن عادة العربي أن يتفنن بالقطع رفعا ونصبا إذا طالت الصفات تقليلا للكلل وتنشيطا للذهن بالتلون في الكلام (فِي الْبَأْساءِ) البؤس الفقر (وَالضَّرَّاءِ) والمضر الموجع والعلة وكل ضرر (وَحِينَ الْبَأْسِ) أي الصابرين حين القتال (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات هم (الَّذِينَ صَدَقُوا) في نياتهم وأعمالهم ، لا من يجادل في أمر كتحويل القبلة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الخائفون من الله سبحانه ، وفي هذه الآية الكريمة إلماح إلى حال كثير من الناس حيث يتركون المهام ويناقشون في أمر غير مهم عنادا وعصبية.

[١٧٩] وحيث ذكر سبحانه ما هو البر عقبه ببعض الأحكام التي ينبغي لأهل البر المؤمنين بالله واليوم الآخر المتصفين بتلك الصفات أن يلتزموا بها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) ومعنى كتابته تشريعه إذ الشرائع تكتب (فِي الْقَتْلى) جمع قتيل ، فقد ورد أنها نزلت في حيين من العرب لأحدهما طول على الأخر ، وكانوا يتزوجون نساء بغير حلال ، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وجعلوا جراحاتهم على الضعف من جراح أولئك ، حتى جاء الإسلام ، وأبطل تلك الأحكام ، فـ

٢١٣

الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ

____________________________________

الحر بـ مقابل الحر يقتل لا مقابل العبد (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى) تقتل بمقابل الأنثى لا الذكر يقتل في قبال الأنثى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ) قبل (أَخِيهِ شَيْءٌ) بأن عفى الأخ الولي للمقتول عن قتل القاتل ، وبدله بالدية ، أو عفى عن بعض الدية ، وبقي بعضها الأخر فالواجب على الطرفين ، مراقبة الله في الأخذ والإعطاء ، فمن طرف الولي للمقتول (فَاتِّباعٌ) للقاتل (بِالْمَعْرُوفِ) بأن لا يشدد في طلب الدية ، ومن طرف القاتل (وَأَداءٌ إِلَيْهِ) أي إلى العافي (بِإِحْسانٍ) من غير مطل وتصعيب (ذلِكَ) الحكم في باب القتيل بالمماثلة ، أولا ، والتخيير بين القتل والدية والعفو ثانيا (تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) عليكم (وَرَحْمَةٌ) منه بكم ، وفي المجمع أنه كان لأهل التوراة القصاص أو العفو ، ولأهل الإنجيل العفو والدية (فَمَنِ اعْتَدى) عن الحكم المقرر (بَعْدَ ذلِكَ) الذي قررناه من الأحكام (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم في الدنيا والآخرة.

[١٨٠] (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ) في باب القتل ، بأن يقتل القاتل عمدا (حَياةٌ) للمجموع ، لأن كل من افتكر إنه لو قتل قتل ارتدع إلا النادر ، وأيضا إن القصاص يوجب عدم تعدي أولياء المقتول على

٢١٤

يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)

____________________________________

أقرباء القاتل ، بأن يقتلوا منهم عددا كثيرا ، كما كان هو المتعارف في زمان الجاهلية ، حتى ربما فنيت القبيلة لأجل قتيل واحد (يا أُولِي الْأَلْبابِ) جمع لب ، بمعنى العقل ، أي يا أصحاب العقول (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) القتل ، أي شرع القصاص ، حتى تتقون من القتل.

[١٨١] وحيث ألمح القرآن الحكيم إلى حكم القتل ، أشار إلى ما يرتبط به من الوصية ، فقال (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) كتابة راجحة ، فإن الكتابة تشمل الواجب والمندوب ، والوصية مندوبة ، إلا إذا وجبت بالعارض (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) بأن رأى مقدماته من مرض وهرم ونحوهما (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا فإذا لم يترك الخير ، لا داعي للوصية وإن كانت مستحبة أيضا ، لكنها ليست مثل تأكيد من ترك الخير (الْوَصِيَّةُ) نائب فاعل «كتب» (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي الأقرباء (بِالْمَعْرُوفِ) بأن يوصي لوالديه وأقربائه ، ولو كانوا وراثا ، شيئا من الثلث ، وهذا يوجب نشر الألفة والمحبة أكثر فأكثر ، وإنما قيده بالمعروف ، حتى لا يوصي بما يوجب إثارة الشحناء ، كأن يترك الأقرب ، ويوصي للأبعد ، أو يفضل بعضا على بعض بما يورث البغضاء ، والمراد بالمعروف ، الذي يعرف أهل التميز ، إنه لا جور فيه ولا حيف ، وهذه الوصية تكون (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) الذين يؤثرون التقوى.

٢١٥

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ

____________________________________

[١٨٢] (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي بدل الإيصاء وغيّره وزوّره (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي علمه ، فالسماع يستعمل بمعنى العلم (فَإِنَّما إِثْمُهُ) أي إثم التبديل (عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) وليس إثم على الذي يأكل المال إرثا بغير علم ، والذي يأكله زيادة على حصته ، من غير علم فإن الغالب ، أن يبدل الجيل الأول ، ويتصرف سائر الأجيال ، بلا علم منهم بالتبديل (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لوصاياكم وأقوالكم (عَلِيمٌ) بنواياكم وتبديلكم ، أو تنفيذكم للوصية ، ولعل هناك نكتة أخرى في قوله (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) هي أن كثيرا من الناس لا يوصون خوفا من أن يلحقهم إثم التبديل من بعدهم ، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدل ومهدوا الطريق له ، كما رأيت ذلك متعارفا في كلام كثير من الناس ، حيث يقولون من أوصى ألقى ورثته في المعصية ، فيكف بعضهم عن الوصية ، فأشار سبحانه إلى كون هذا الحكم غلطا ، فإن الموصي فعل خيرا ، وإنما المغير هو الذي يتحمل الإثم.

[١٨٣] ثم استثنى سبحانه عن حرمة تبديل الوصية ، بأنه إنما يكون حراما ، إذا كان تغيرا من حق إلى باطل ، أما إذا كان من باطل إلى حق ، فلا إثم في التغيير (فَمَنْ خافَ) وخشي (مِنْ مُوصٍ) أي الذي يوصي (جَنَفاً) أي ميلا عن الحق إلى الباطل ، بأن أوصى أزيد مما يحق له الإيصاء به (أَوْ إِثْماً) بأن حرم ورثته بإيصائه ، وفي الحديث أن الإثم الخطأ عن عمد ، والجنف الخطأ لا عن عمد (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي بين الورثة والموصي ، والموصى له ، بأن رد الزائد إلى الورثة ، وأبطل ما

٢١٦

فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً

____________________________________

فيه الإثم (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي على المبدل للوصية (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بمن يأثم ، فكيف بمن لا يأثم ، وقد ثبت في الشريعة إن الوصية بما زاد على الثلث لا تنفذ إلا برضى الورثة (١).

[١٨٤] ثم انتقل السياق إلى حكم آخر من أحكام الإسلام ـ لما ذكرنا من أن القرآن الحكيم ، بعد بيان أصول التوحيد ، ذكر جملة من الأحكام ـ فقال سبحانه ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) فإنه مفروض عليكم ، فيجب عليكم أن تصوموا (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فلستم أنتم وحدكم أمرتم بالصيام ، بل كان الصوم شريعة في الأديان السابقة أيضا (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) النار بصيامكم ، فالصائم حيث يحس بالجوع والعطش والضعف يتذكر الله سبحانه فيخبت قلبه وتضعف فيه قوى الشر ، وترق نفسه وتصفو روحه ، وكل ذلك سبب للتقوى وترك المعاصي.

[١٨٥] (أَيَّاماً) أي إن الصيام في أيام (مَعْدُوداتٍ) أي محصورات ، فليست أيام كثيرة لا تعد ، وإنما هي ثلاثون يوما فقط ـ وفيه تسلية للصائم ـ وليس الصيام على كل أحد (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا

__________________

(١) راجع موسوعة الفقه : ج ٨٢ و ٨٣.

٢١٧

أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)

____________________________________

يضره الصوم (أَوْ عَلى سَفَرٍ) فقد شبه السفر بمركوب لغلبة الركوب فيه ، وحد السفر معين في الشريعة (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي فليصم في أيام أخر غير شهر رمضان ، قضاء لما فاته بالمرض أو السفر (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي يطيقون الصيام ، بأن يكون آخر طاقاتهم وذلك موجب للعسر ، كما لا يخفى ، إذ آخر الطاقة عسر ، أو أن الذي يطيق الصوم كان في أول الشريعة مخيرا بين الصيام والإطعام ، ثم وجب الصوم وحده ، وذلك للتدرج بالأمة (فِدْيَةٌ) أي الواجب عليهم الفداء بدل الصوم (طَعامُ مِسْكِينٍ) واحد وهو مد من الطعام (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) بأن زاد على طعام المسكين (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) أيها المطيقون ، الذي يبلغ الصوم طاقتكم (خَيْرٌ لَكُمْ) من الإطعام ، فالإنسان إما أن يضره الصوم ضررا بالغا ، وهو الذي تقدم أن يفطر ويأتي بعدة من أيام أخر ، وإما أن يشق عليه إلى حد العسر ، وهو الذي يبلغ منتهى طاقته ، وهذا يخير بين الصيام والإطعام وإن كان الصيام خير ، وإما أن لا يشق عليه وهو الذي يجب عليه الصيام معينا مما بين في الآية التالية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في الإطعام ، وليس مفهومه ، إن لم تكونوا تعلمون ، فليس الصوم خير ، بل المفهوم إن لم تكونوا تعلمون ، لم تعلموا إن الصوم خير.

٢١٨

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى

____________________________________

[١٨٦] الأيام المعدودات المفروض فيها الصيام هي (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) مما زاد في عظمته وحرمته ، إذ صار زمانا للنزول أعظم دستور للبشرية إلى الأبد في حال كون القرآن (هُدىً لِلنَّاسِ) يهديهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم (وَبَيِّناتٍ) أي أمور واضحات (مِنَ) جنس (الْهُدى) فليس هدى غامضا يحتاج إلى إثبات ودليل ، بل واضح لائح ، ومن الهدى بيان لبينات ، إذ يمكن أن يكون شيئا بينا من حيث الشهادة ، أو المعاملة أو نحوها (وَ) من (الْفُرْقانِ) أي يفرق بين الحق والباطل والضلال والرشاد (فَمَنْ شَهِدَ) أي حضر ولم يغب بالسفر (مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي شهر رمضان (فَلْيَصُمْهُ) إيجابا ، ولما كان الحكم عاما استثنى منه بقوله (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وإنما كرر تمهيدا لقوله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ولذا أمركم بالإفطار في السفر والمرض (وَ) إنما شرع عدة من أيام أخر (لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي عدة الشهر ، فإن في صيامه فوائد لا يدركها إلا من أكملها ، فإن لم يتمكن من إكمالها في نفس شهر رمضان أكملها خارجه (وَ) إنما شرع الصوم (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى

٢١٩

ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)

____________________________________

ما هَداكُمْ) أي تعظموه بسبب هدايته لكم إلى دينه وشريعته ، فالصيام سبب قرب النفس إلى الله سبحانه ، فيأتي منها التكبير عفوا ، وفي التأويل ، المراد به تكبير ليلة الفطر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فالصوم نعمة تستحق الشكر لما فيه من صلاح الدنيا والدين.

[١٨٧] وحيث أن من عادة القرآن الحكيم أن يخلل الأحكام نفحة موجهة نحو الله تعالى ، ليرتبط الحكم بالخالق ، وليشع في النفس النشاط والعزيمة ، أتت أية استجابة الدعاء هنا ، بعد طول من بيان الأحكام ، ثم يأتي بعدة آيات ترتبط بالأحكام ثانية ، بالإضافة إلى أن استجابة الدعاء تناسب شهر رمضان ، فإنه شهر دعاء وضراعة ، وقد ورد أن سائلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف ندعوا ، فنزلت (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) إليهم ، قرب العلم والإحاطة والسمع والبصر ، لا قرب الزمان والمكان والجهة ، فإنه سبحانه منزه عن كل ذلك (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) الذي يدعوني (إِذا دَعانِ) ولعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة فإن «إذا» ظرف ، ويفيد تكرار كلمة «دعا» لتتركز في الذهن تركيزا (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي يطيعوني في أوامري ونواهي ، إذ من يجيب الدعاء ، يستحق أن يستجيب له الإنسان (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) إيمانا بذاتي وصفاتي (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي لكي يصيبوا الحق ويهتدوا إليه.

٢٢٠