تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٠

لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها

____________________________________

لِقَوْمِهِ) بني إسرائيل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) لإحياء القتيل (قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) أي أتسخر منا وتتخذنا سخرية ، فما الربط بين القتيل ، وبين ذبح البقرة ، أو كيف تكون البقرة الميتة سببا لإحياء القتيل (قالَ) موسى عليه‌السلام (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) الذين يستهزئون بالناس ، فإن السخرية من شأن الجهال والسفهاء.

[٦٩] (قالُوا ادْعُ لَنا) أي اطلب من أجلنا (رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) أي ما هي البقرة ، من حيث سنها وعمرها (قالَ) موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها) أي البقرة يلزم أن تكون (بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) الفارض الكبيرة الهرمة والبكر الصغيرة (عَوانٌ) أي وسط العمر (بَيْنَ ذلِكَ) أي المذكور بين الصغير والكبير (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) من ذبح هكذا بقرة.

[٧٠] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) أي اسأل من ربك لأجلنا (يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) أي ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها (قالَ) موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ) تعالى (يَقُولُ إِنَّها

١٤١

بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ

____________________________________

بَقَرَةٌ صَفْراءُ) اللون (فاقِعٌ لَوْنُها) أي حسنة الصفرة لا تضرب إلى السواد لشدتها ، ولا إلى البياض لقلتها (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) إليها إي تعجب الناظرين وتفرحهم بسبب حسن لونها.

[٧١] ولما بين سبحانه سن البقرة ، ولونها سألوا عن صفتها (قالُوا) يا موسى (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) البقرة ، أتكون من العوامل ، أو من السوائم التي لا تعمل ، ف (إِنَّ الْبَقَرَ) الذي أمرتنا بذبحه (تَشابَهَ) أي اشتبه (عَلَيْنا) وإنه كيف ينبغي أن يكون (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) إلى صفة البقرة بتعريف الله سبحانه لنا كيف يجب أن يكون ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنهم لما شددوا على أنفسهم ، شدد الله عليهم ، ولو لم يستثنوا ما بينت لهم إلى آخر الأبد (١).

[٧٢] (قالَ) موسى عليه‌السلام (إِنَّهُ) سبحانه (يَقُولُ إِنَّها) أي البقرة التي أمرتم بذبحها (بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) يذلها العمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي تعمل وتكرب لإثارة الأرض (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) الحرث الزرع ، فلا

__________________

(١) مستدرك الوسائل : ج ١٦ ص ٥٤ ، باب حكم الحلف على ترك الطيبات.

١٤٢

مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ

____________________________________

تسقيه بالناعور ، والدلاء ، والمعنى أن لا تكون عاملة (مُسَلَّمَةٌ) أي سالمة لا نقص فيها فهي بريئة من العيوب (لا شِيَةَ) من الوشي بمعنى اللون (فِيها) أي لا لون فيها يخالف لونها ، وهذا ليس تأكيد لما سبق ، إذ كونها صفراء ، لا تدل على عدم الوشي فيها (قالُوا) لموسى عليه‌السلام (الْآنَ) وبعد هذه التوضيحات لصفات البقرة (جِئْتَ بِالْحَقِ) الواضح ، أو بما هو حق الكلام مقابل الإجمال الذي قاله عليه‌السلام سابقا بقوله (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)(فَذَبَحُوها) أي ذبح اليهود تلك البقرة المأمور بذبحها (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي كاد ، أن لا يذبحوا تلك البقرة لغلاء ثمنها ، فإنها انحصرت في بقرة واحدة ، لم يعطها صاحبها إلا بثمن فاحش.

[٧٣] (وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) ادارأتم بمعنى اختلفتم ، وأصله تدارأتم (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من أمر القاتل ، وإنه من القاتل ، ولماذا قتل.

[٧٤] (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) أي اضربوا القتيل (بِبَعْضِها) أي ببعض البقرة المذبوحة التي أمروا بذبحها (كَذلِكَ) أي مثل هذا الإحياء (يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) في يوم القيامة ، فإن القتيل لما ضرب بالبقرة قام حيا وأوداجه تشخب دما ، وأخبر بسبب قتله ، وبالذي قتله (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) في

١٤٣

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ

____________________________________

الكون وفي أنفسكم ، أو بمعنى يريكم معجزاته (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي كي تستعملوا عقولكم ، ولعل وجه تأخير آية «وإذ قتلتم» على الآيات السالفة ، مع إن النظم يقتضي تقديمها ، أن السياق لبيان لجاجة اليهود ، وعدم إطاعتهم الأوامر ، فكان المقتضى تقديم ما يدل على ذلك.

[٧٥] (ثُمَ) من بعد ما رأيتم هذه الآيات أيها اليهود (قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أي غلظت (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) المذكور من آيات الله تعالى ، أو من بعد ذبح البقرة ، وما رأيتم من إحياء الله الميت (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) في القسوة للمعقول بالمحسوس (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) وبين سبب أشديتها قسوة ، بقوله (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما) اللام للتأكيد ، و «ما» موصولة ، أي الحجر الذي (يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) فيكون مبعثا للخير نافعا ، بخلاف قلوبكم التي لا يأتي منها إلا الشر (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ) أصله تشقق (فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) فيكون عينا ، وإن لم يجر ، وبهذا يفترق عن السابق ، وهو ما يتفجر منه الأنهار (وَإِنَّ مِنْها) أي من الحجارة (لَما يَهْبِطُ) أي ينزل من الجبل ويسقط (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) فإن كل حجارة تسقط ، لا بد وأن تكون سقطتها بإذن الله ، ومن خشيته خشية واقعية

١٤٤

وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا

____________________________________

أو تشبيه ، كالذي يخشى كثيرا فيسقط على وجهه ، وقلوبكم أيها اليهود أقسى من تلك الحجارة ، إذ لا تخشى من الله سبحانه ، ولا تتواضع لعظمته (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أيها اليهود ، فيجازيكم بسيئات أعمالكم.

[٧٦] (أَفَتَطْمَعُونَ) أيها المسلمون (أَنْ يُؤْمِنُوا) أي يؤمن اليهود (لَكُمْ) أي لنفعكم ، إذ كل من آمن يكون في نفع المؤمنين السابقين ، أو بمعنى الإيمان بمبادئكم ، وهذا استفهام إنكاري ، أي لن يؤمن هؤلاء اليهود بالإسلام (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء ، وهم أسلافهم ، وإنما صحت النسبة إليهم ، لأن الأمة الواحدة ، والقبيلة الواحدة ، تكون متشابهة الأعمال والأفعال والأقوال (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) الذي يتلوه الأنبياء عليهم (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) بالزيادة والنقصان لفظا أو معنى ، كما هو المتعارف عند من يريد نقل كلام لا يرضيه ، فإنه إما أن ينقص فيه أو يزيد ـ لو وجد إلى ذلك سبيل ـ وإما أن يفسره بغير ما أراد المتكلم (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) وفهموه (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فكيف يؤمن هؤلاء الذين كانوا يعملون بكلام الله بعد تعقل هذا العمل.

[٧٧] (وَإِذا لَقُوا) من الملاقاة ، أي لقي اليهود وكانت هذه خصلة بعضهم نسبت إلى الجميع ، كما هو المتعارف من نسبة ما يقوم به البعض إلى

١٤٥

الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)

____________________________________

الجميع (الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا موجود في كتبنا بوصفه وحليته ، ولم يقصدوا الإيمان الحقيقي كسائر المسلمين ، ولا الإيمان الظاهري كالمنافقين ، وإنما أريد الإيمان بمعناه اللغوي ، وهذا ذم لهم ، حيث إنهم اتصفوا بصفات المنافقين (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) وجمع هؤلاء اليهود وغيرهم من سائر اليهود ، مجلس خال من المؤمنين (قالُوا) أي قال من لم يكن يظهر الإيمان لمن أظهره (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) أي لماذا تحدثون المسلمين (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي بما عرفكم الله في كتابكم ، بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حق ، يقال فتح عليه باب العلم إذا أرشده إليه وعلمه به (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي إذا أظهرتم أنتم أيها اليهود للمسلمين ، أن في كتابكم صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاجوكم يوم القيامة عند الله فيقول المسلمون لليهود المظهرين أنتم ذكرتم أن في كتابكم صفات النبي ، فلم لم تؤمنوا به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أيها اليهود المظهرون للمسلمين ، أن إظهاركم سبب لغلبة المسلمين عليكم في الحجة عند الله.

[٧٨] (أَوَلا يَعْلَمُونَ) يعني اليهود المنافقون (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) يسر بعضهم إلى بعض (وَما يُعْلِنُونَ) وما الفائدة في أن لا يظهروا صفات

١٤٦

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ

____________________________________

النبي ، فإن الله يعلم أنهم يعلمون صفاته ، ولا يؤمنون به عنادا.

[٧٩] (وَمِنْهُمْ) أي من اليهود (أُمِّيُّونَ) منسوب إلى الأم ، بمعنى من لا يقرأ ولا يكتب كأنه نشأ تحت تربية أمه ، لا تحت تربية المعلم (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) الأماني جمع أمنية ، كالأغاني جمع أغنية ، والأماني الأحاديث المختلفة ، أي أنهم لا يعرفون ما في التوراة من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيرها ، وإنما هم جهلاء ، يأخذون أمور الكتاب عن علمائهم محرفة مختلفة ، فلا يميزون بين الحق والباطل (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَظُنُّونَ) بصحة ما يسمعون ، ولا يتيقنون لأنهم لم يطالعوا الكتاب بأنفسهم ، حتى يعرفون ما فيه.

[٨٠] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ) أي لعلمائهم الذين (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) أي التوراة (بِأَيْدِيهِمْ) كناية عن أنها غير منزلة ، وإنما مكتوبة مبعثها الأيدي لا الوحي والإلهام (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا) المكتوب (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وإنه منزل منه (لِيَشْتَرُوا بِهِ) أي بما يكتبونه (ثَمَناً قَلِيلاً) لأنهم لو كانوا يظهرون ما في التوراة حقيقة رجع مقلدوهم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يكونوا يبذلون لهم الأموال والاحترام (فَوَيْلٌ لَهُمْ) أي للذين يكتبون الكتاب بأيديهم (مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) فإنه يوجب عذابا ، لأنه تحريف

١٤٧

وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)

____________________________________

لكلام الله تعالى (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الأموال إزاء تحريفاتهم ، فإن ثمن الحرام حرام آخر ، وذلك موجب للعذاب فإنه أكل للأموال بالباطل ، والويل أصله الهلاك والعذاب ، ثم استعمل في كل واقع في الهلكة.

[٨١] (وَقالُوا) أي قال قسم من اليهود (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) فلن نعذب في جهنم إلا سبعة أيام أو ما أشبه ، على تقدير كفرنا وعصياننا ، فلما ذا نترك رئاسة الدنيا خوفا من عذاب قليل (قُلْ) يا رسول الله لهم (أَتَّخَذْتُمْ) أي هل اتخذتم (عِنْدَ اللهِ عَهْداً) بذلك (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ) كذبا وزورا (ما لا تَعْلَمُونَ) ومن أدراكم أن العذاب أيام معدودة.

[٨٢] (بَلى) ليس الأمر كما قالوا ولكن (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ) لم ينقلع عنها بل (أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) كالإنسان الذي يقع في دخان حيث يحيط به الدخان ، حتى لا يتنفس ولا يبصر ولا يسمع إلا في الدخان ، وكذلك المشرك المنحرف في الخطيئة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) إلى الأبد.

١٤٨

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)

____________________________________

[٨٣] (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بقلوبهم وألسنتهم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) التي أمر بها الإسلام (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) بها لا انقطاع لها ولا زوال.

[٨٤] (وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) عهدهم الأكيد على لسان أنبيائهم ، بأن (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) وحده (وَ) بأن أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ولا تسيئوا إليهما (وَ) أحسنوا إلى (ذِي الْقُرْبى) أقربائهم (وَالْيَتامى) الذين مات والدهم (وَالْمَساكِينِ) الفقراء (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) وذلك يشمل جميع أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإرشاد ورد الاعتداء بالحسن (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وهما في سائر الأمم ، لم يكونا بهذا الشكل الموجود فعلا في هذه الأمة (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) الذين عملوا بأوامرنا (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) تأكيدا لقوله «توليتم».

١٤٩

وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ

____________________________________

[٨٥] (وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) عهدكم الأكيد على لسان الأنبياء (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) أي لا يسفك بعضكم دماء بعض (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي لا يخرج بعضكم بعضا من الديار ، بأن يسفرهم ويبعدهم (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بذلك الميثاق ، بأن أعطيتمونا العهود بذلك (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) أيها اليهود ، بوقوع هذا الميثاق بيننا.

[٨٦] (ثُمَ) بعد ذلك الميثاق (أَنْتُمْ هؤُلاءِ) الذين (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) مخالفة لأوامرنا (تَظاهَرُونَ) أنتم أي يتعاون بعضكم مع بعض في إخراجكم لهم تظاهرا (عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) لا إخراجا بالحق (وَ) الحال (إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) أي كيف يخرج بعضكم بعضا ، ويقتل بعضكم بعضا ، مع أنكم إذا وجدتم بعضكم أسيرا في أيدي غيرهم ، تعطون الفدية لخلاصهم ، فإن كان بينكم عداء ، فما هذه الفدية ، وإن كان بينكم وداد فما هذا القتل والإخراج. روي عن ابن عباس : أن قريظة والنضير ، كانا أخوين ، كالأوس والخزرج ، فافترقوا فكانت

١٥٠

أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا

____________________________________

النضير مع الخزرج ، وكانت قريظة مع الأوس ، فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها ، فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة (١) ، وروي عن آخر أن اليهود كانوا إذا استضعفوا جماعة آخرين أخرجوهم من ديارهم (أَفَتُؤْمِنُونَ) أيها اليهود (بِبَعْضِ الْكِتابِ) أي التوراة القائل بوجوب إعطاء الفدية لأسراكم (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) القائل بحرمة القتل والإخراج والتظاهر بالإثم والعدوان (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) احكموا أنتم بأنفسكم (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالتفرقة والضعف والمهانة عند سائر الأمم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) بمخالفتهم أوامر الله سبحانه (وَمَا اللهُ) أي ليس الله (بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فإنه يعلم أعمالكم ، فيجازيكم عليها.

[٨٧] (أُولئِكَ) اليهود الذين خالفوا الأوامر بتلك الأفعال (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) فباعوا الآخرة ، وأخذوا الدنيا بدلها (فَلا

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٦٦.

١٥١

يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ

____________________________________

يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) يوم القيامة (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) هناك.

[٨٨] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أعطينا التوراة إياه (وَقَفَّيْنا) أي أردفنا وأتبعنا بعضهم خلف بعض (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد موسى (بِالرُّسُلِ) رسول يتبع رسولا (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) جمع بينة ، أي الدلالة الواضحة ، وهي المعجزات التي أعطيت لعيسى عليه‌السلام من إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) التأييد التقوية ، وروح القدس ، إما جبرئيل عليه‌السلام ، أو روح قوية من الله سبحانه فيه تقوية على التبليغ والإرشاد مع كثرة أعدائه (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ) أيها اليهود (رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) ولا يمثل إليه من الأحكام (اسْتَكْبَرْتُمْ) وتكبرتم عن قبول أحكام الله سبحانه (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) كعيسى ومحمد صلوات الله عليهما (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) كزكريا ويحيى عليها‌السلام؟ وهذا استفهام إنكاري عليهم.

[٨٩] (وَقالُوا) أي قالت اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف ، بمعنى إنها في غطاء وغلاف عن هدايتكم ، فلا تصل الهداية إليها ،

١٥٢

بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ

____________________________________

كما في آية أخرى (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (١) (بَلْ) ليس كذلك ، وإنما (لَعَنَهُمُ اللهُ) وأبعدهم عن الخير بسبب كفرهم فإنهم لما كفروا ولم يمتثلوا أوامر الله ، أبعدهم الله عن الخير ، كمن لا يسمع شخصا أمره فيتركه ولا يعتني به (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) لما ران على قلوبهم ، وأظلمت نفوسهم بالكفر.

[٩٠] (وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي اليهود (كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) هو القرآن (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) أي الكتاب الذي مع اليهود ، وهو التوراة ، فإن القرآن يصدق التوراة الحقيقي المنزل على موسى عليه‌السلام (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (٢) (وَكانُوا) أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يأتي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ينزل القرآن (يَسْتَفْتِحُونَ) أي يطلبون الفتح من الله (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) فإنهم كانوا يدعون الله ، أن يبعث الرسول ، حتى يكونوا أرجح كفة من الكفار (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي عرفوه بصفاته ومزاياه (كَفَرُوا بِهِ) وأخذوا يحاربوه ، بل فوق ذلك أنهم كانوا يرجحون الكافرين على

__________________

(١) فصلت : ٦.

(٢) المائدة : ٤٥.

١٥٣

فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

____________________________________

الرسول والمؤمنين قائلين (هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (١) (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى) اليهود (الْكافِرِينَ) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالقرآن ، وهم يعرفون ذلك.

[٩١] (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي بئس الشيء الذي باع اليهود بذلك أنفسهم ، فأعطوا أنفسهم للعذاب الأبدي ، واشتروا الكفر (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) بدل «ما» أي بئس الكفر الذي أخذوه مقابل أنفسهم ، وذلك تشبيه ، فكأن الكفر والإسلام ، سلعتان فمن أختار أحدهما باع نفسه بذلك الشيء ، إذ يصرف نفسه في سبيل ذلك ، فإذا باع نفسه مقابل الإسلام كان نعم ما اشترى به نفسه ، وإذا باع نفسه مقابل الكفر كان بئسما اشترى به نفسه ، واشترى هنا بمعنى البيع ، كما قال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (٢) (بَغْياً) أي حسدا ، وهو علة لاشترائهم السيئ ، أي كان سبب شرائهم الكفر الحسد ، الذي كان فيهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنه من ولد إسماعيل ، لا من ولد جدهم إسحاق عليهما‌السلام (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) الدين (مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وأن ينزل ، متعلق ب «بغيا» أي أن الحسد من جهة نزول القرآن

__________________

(١) النساء : ٥٢.

(٢) البقرة : ٢٠٨.

١٥٤

فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)

____________________________________

على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره (فَباؤُ) أي رجع اليهود (بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) فإنهم كانوا مغضوب عليهم من جهة تعدياتهم في زمان موسى وعيسى ، وسائر الأنبياء عليهم‌السلام ، فغضب الله عليهم مرة أخرى من جهة كفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلِلْكافِرِينَ) الذين من أظهر مصاديقهم اليهود (عَذابٌ مُهِينٌ) وهو العذاب الذي يذل صاحبه ويهينه.

[٩٢] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لليهود (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) من التوراة (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) أي وراء ما نزل عليه من كتاب عيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهُوَ) أي ما وراء كتابهم (الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) والجملة حالية (قُلْ) إنكم تكذبون في قولكم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) فإنكم لستم بمؤمنين ، حتى بالتوراة وإلا (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) في السابق (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالتوراة ، فإن كتابكم حرم قتل الأنبياء ، فأنتم لستم بمؤمنين ، لا بكتابكم ، ولا بما بعد كتابكم من الإنجيل والقرآن.

١٥٥

وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ

____________________________________

[٩٣] (وَ) كيف تقولون (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وعملكم ، يدل على خلاف ذلك ، ف (لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحة (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) إلها لكم (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد رواحة إلى الطور (وَ) الحال (أَنْتُمْ ظالِمُونَ) لأنفسكم في عبادة العجل ، فلو كنتم مؤمنين بما نزل عليكم ، لم تتخذوا العجل إلها؟.

[٩٤] (وَ) اذكروا يا بني إسرائيل (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) عهدكم الشديد ، بالعمل بالتوراة (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي قطعة من جبل الطور ـ كما تقدم ـ وقلنا لكم (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي بشدة ، بمعنى العمل ، بكل ما في الكتاب عملا مستمرا قويا (وَاسْمَعُوا) أوامر الله سبحانه (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) حكاية حالهم ، ويحتمل أنهم قالوه بلفظهم استهزاء (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) فكما أن من شرب الماء يدخل الماء في جوفه ، كذلك اليهود ، دخل العجل ـ أي حبه ـ في قلوبهم بسبب كفرهم بالله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) الذي قلتم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) فإن الإيمان الذي يأمر باتباع العجل ، ليس إيمانا ، وإنما هو كفر.

١٥٦

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥)

____________________________________

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا استهزاء لهم ، ثم إنه إنما كرر «رفع الطور» للدلالة ، على أنهم عكسوا الميثاق الذي أخذ منهم ، حال الرفع ، بل اتخذوا العجل إلها.

[٩٥] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء اليهود ، الذين يقولون أن الآخرة هي لهم وحدهم لا يشركون فيها غيرهم من النصارى والمسلمين وغيرهما (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ) عند الله صفة للدار الآخرة ، أي الدار التي هي عند الله ، ومن دون الناس صفة لخالصته ، أو لقوله «لكم» (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) لأن من يدري أن مصيره الجنة ، لا بد وأن يتمنى الموت ، حتى يخلص من آلام الدنيا وأتعابها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في مقالكم وكنتم تعتقدون ما تقولونه بألسنتكم.

[٩٦] ثم أخبر سبحانه بأنهم ليسوا صادقين (وَ) الدليل على ذلك أنهم (لَنْ يَتَمَنَّوْهُ) أي الموت (أَبَداً) في حين من الأحيان بسبب ما (قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من المعاصي والمنكرات والكفر ، وإنما نسب التقديم إلى اليد لأنها الآلة الظاهرة في تقديم الأشياء المحسوسة غالبا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فلا يغترون بمقالهم ، أن لهم الآخرة ، وأنهم أحباء الله دون سواهم.

١٥٧

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا

____________________________________

[٩٧] (وَ) كيف يتمنون الموت ، والحال أنك يا رسول الله (لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) فإنهم أشد حرصا من سائر الناس على البقاء في الدنيا ، لأنهم يعلمون أن آخرتهم إلى النار والعذاب (وَ) حتى أنهم أحرص (مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) إذ المشرك ، يزعم أنه لا شيء وراءه ، فيكون حريصا على البقاء لئلا يفنى ، وهؤلاء حيث يعلمون العقاب ، فهم أحرص من المشركين (يَوَدُّ) أي يحب (أَحَدُهُمْ) أي كل واحد منهم (لَوْ يُعَمَّرُ) ويطول عمره (أَلْفَ سَنَةٍ) حتى لا يذوق العذاب عاجلا (وَ) الحال (ما هُوَ) أي ليس التعمير ألف سنة (بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ) زحزحه أي نحاه ، وقوله (أَنْ يُعَمَّرَ) بدل «هو» أي ما التعمير بمزحزحه من العذاب ، فما الفائدة في البقاء ألف سنة لمن عاقبته النار (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) من الكفر والسيئات ، فيجازيهم عليها يوم القيامة بالنار والعذاب.

[٩٨] (قُلْ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لليهود الذين جاءوك وقالوا لك لو أن الملك الذي يأتيك ميكائيل لآمنّا بك فإنه ملك الرحمة يأتي بالسرور والرخاء وهو صديقنا وجبرائيل ملك العذاب ينزل بالقتل والشدة والحرب وهو عدونا فإن كان ينزل عليك جبرائيل لا نؤمن بك (مَنْ كانَ عَدُوًّا

١٥٨

لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)

____________________________________

لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ) ليس سببا فيما يعمل حتى تتخذونه عدوا بل إنه (نَزَّلَهُ) أي القرآن (عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) لا من عند نفسه (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي للكتاب الذي قبله وهو التوراة (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) فأي ذنب لجبريل عليه‌السلام حتى تتخذونه عدوا ولا تؤمنون بالكتاب الذي يأتي به.

[٩٩] (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) أي يفعل فعل المعادي من الإتيان بما يكرهه سبحانه (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وإنما خصهما بالذكر لأنهما موضع البحث مع اليهود (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) إذ كل من يعادي أحد هؤلاء يكون كافرا والله عدو لمن كفر أي يفعل معه فعل المعادي من الإهانة والتعذيب والعقاب.

[١٠٠] (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) الفاسق هو الخارج عن طاعة الله سبحانه.

١٥٩

أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ

____________________________________

[١٠١] (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) أي اليهود (عَهْداً نَبَذَهُ) أي نقضه (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) أي جماعة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهذا إنكار عليهم في نقضهم عهود الأنبياء السابقين بإطاعتهم ونقضهم عهود رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قصة نضير وقريضة والمراد بالإيمان : إما الإيمان بالعهود وإما الإيمان بالله ورسله وإما الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما قال أكثرهم لأن بعضهم آمن كعبد الله بن سلام.

[١٠٢] (وَلَمَّا جاءَهُمْ) أي اليهود (رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) كعيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التوراة (نَبَذَ فَرِيقٌ) أي جماعة (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود الذين آتاهم الله التوراة (كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) وتركوا أوامره باتباع الأنبياء عليهم‌السلام من بعد موسى عليه‌السلام (كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي من أحكام التوراة الإيمان بالأنبياء واتباع الرسل.

[١٠٣] (وَاتَّبَعُوا) عوض الكتاب ـ السحر ـ فنبذوا الكتاب وراء ظهورهم وراحوا يتعلقون ب (ما تَتْلُوا) وتقر (الشَّياطِينُ) والسحرة (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) بن داود عليهم‌السلام حيث أن الشياطين على لسان السحرة على

١٦٠