عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦))

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) أي العاصين (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) [٨٦] جمع وارد فيساقون إليها رجالة عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش ، وأصل الوارد من الورود إلى الماء والوارد على الماء يكون عطشان.

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨))

قوله (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) أي المؤمنون والمجرمون ، كلهم نصب على الحال (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ) في الدنيا (عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) [٨٧] أي عقدا موثقا بأن آمن وعمل صالحا فيستحق به دخول الجنة ، وقيل : هو الشهادتان (١) ، وقيل : من عهد الأمير بكذا إلى فلان إذا أمر به ، أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة من أهل الإيمان (٢) ، ومحل (مَنِ اتَّخَذَ) رفع بدل من واو (يَمْلِكُونَ (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) [٨٨] أي اليهود والنصارى.

(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩))

(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) [٨٩] أي منكرا ، وأصله بالكسر والفتح (٣) العجب ، يعني بل لهم يا محمد لقد قلتم قولا عظيما منكرا ، وقيل : كذبا وزورا (٤) لقولكم اتخذ الله ولدا.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠))

(تَكادُ) بالتاء والياء (٥) ، أي تقرب (السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي يتشققن (مِنْهُ) أي من قولهم ، قرئ بالتاء وبالنون (٦) من تفطر أو من انفطر (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي تتصدع أجزاؤها أو تنخسف (وَتَخِرُّ الْجِبالُ) أي تسقط أو تنطبق عليهم (هَدًّا) [٩٠] أي كسرا.

(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢))

قوله (أَنْ دَعَوْا) مفعول له ، أي لأن سموا (لِلرَّحْمنِ وَلَداً) [٩١] فالدعاء بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين ، حذف الثاني ليعم بكل ما دعى له ولدا أو من دعا بمعنى نسب ، أي لأجل أن نسبوا له ولدا ، وقيل : (أَنْ دَعَوْا) فاعل «هدا» ، أي هد الجبال دعاؤهم للرحمن ولدا (٧) ، ثم نفى عن نفسه الولد فقال (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [٩٢] انبغى مطاوع بغي إذا طلب ، أي لا يستقيم له تعالى اتخاذ الولد لعدم حاجته إليه وعدم مجانسته لشيء ما.

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣))

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما كل من فيهما (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [٩٣] ف (إِنْ) بمعنى النفي كما ، و (كُلُّ) مبتدأ ، خبره (آتِي) ، و (مَنْ) نكرة موصوفة لوقوعها بعد (كُلُّ) ، والمعنى : سيأتي جميع الخلائق يوم القيامة إلى الرحمن خاضعا ذليلا مقرا بالعبودية كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم ، يعني يلتجئون إلى ربوبيته منقادين كما يفعل العبيد للملوك فلا يليق به اتخاذ الولد منهم.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤))

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) [٩٤] أي لقد ضبط عليهم أعمالهم وعلم عددها وحفظها خيرهم وشرهم لا يفوته شيء من أحوالهم ليجازيهم بما استحقوا من الجزاء.

__________________

(١) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٢٢.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٢٢.

(٣) نقل المفسر هذه القراءة عن الكشاف ، ٤ / ٢٢.

(٤) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٣٤.

(٥) «تكاد» : قرأ نافع والكسائي بياء التذكير ، والباقون بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ٢٠١.

(٦) «ويتفطرن» : قرأ البصريان وخلف وحمزة وابن عامر وشعبة بنون ساكنة بعد الياء التحتية مع كسر الطاء مخففة ، والباقون بتاء فوقية مفتوحة بعد الياء مع فتح الطاء وتشديدها. البدور الزاهرة ، ٢٠١.

(٧) أخذ المصنف هذا الرأي نقلا عن الكشاف ، ٤ / ٢٣.

٨١

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ) أي كل واحد منهم يأتيه (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) [٩٥] أي منفردا ليس معه مال ولا ولد ولا أحد من المشركين وهو بريء منهم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ) أي سيحدث (لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [٩٦] أي مودة في القلوب لا بسبب من أسباب يكتسب بها الناس مودة في قلوبهم كقرابة وعطاء وصدقة وغير ذلك بل هو اختراع من الله ابتداءا اختصاصا منه لأوليائه بكرامة خاصة ، قيل : «معناه يحبهم الله ويحبهم إلى عباده في الدنيا» (١) ، وقيل : يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم في كتبهم (٢) ، روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي رضي الله عليه : «يا علي قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين مودة» (٣) ، فأنزل الله هذه الآية ، قيل : «ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه» (٤) حتى يرزقه مودتهم.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧))

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي سهلنا القرآن (بِلِسانِكَ) أي بلغتك وهو اللسان العربي (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي الموحدين الخائفين الراجين (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) [٩٧] أي شديد الخصومة ، جمع ألد كصم وأصم ، قال مجاهد : «الألد الظلم الذي لا يستقيم» (٥) ، وقيل : «هو الذي لا يقبل الحق ويدعي الباطل» (٦).

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي قبل قريش (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ) أي هل تجد (مِنْ أَحَدٍ) أو تري (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) [٩٨] أي صوتا خفيا ، والركز هو الصوت الخفي الذي لا يفهم ، ومنه الركاز وهو المال المدفون ، والاستفهام فيه بمعنى النفي ، أي لا تحس ولا تسمع بل أهلكوا جميعا وهو تخويف لأهل مكة بهلاك من قبلهم بالعذاب بسوء أعمالهم وترك التوحيد.

__________________

(١) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٣ / ٦٤١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٣٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ٢٤ (عن ابن عباس).

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٢٤.

(٣) وهذا منقول عن الكشاف ، ٤ / ٢٤.

(٤) عن قتادة ، انظر الكشاف ، ٤ / ٢٤.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٦٤١.

(٦) عن أبي عبيدة ، انظر البغوي ، ٣ / ٦٤١.

٨٢

سورة طه

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢))

قيل : لما نزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة اجتهد في الصلوة وأطال القيام فيها ، وكان يصلي الليل كله حتى شق عليه ذلك وقام على إحدى رجليه ورفع أخرى فنزل (١)(طه) [١] قرئ بفتح الطاء والهاء ، وبكسرهما وبين الفتح والكسر ، وبفتح الطاء وكسر الهاء (٢) ، أي يا محمد طئ الأرض بقدميك جميعا ، وقيل : «معناه يا رجل بلسان عك» (٣) خطابا للنبي عليه‌السلام ، وقيل : «طه قسم أقسم به الله تعالى» (٤) ، جوابه (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [٢] أي لتتعب به ، وقيل : إنه رد لقول المشركين إنك شقي تركت دين آبائك (٥) ، والشقاء يستعمل للتعب وضد السعادة ، أي أنت لست بسعيد ، فرده الله تعالى بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السبيل إلى نيل كل سعادة وما فيه الكفر هو الشقاوة بعينها.

(إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣))

قوله (إِلَّا تَذْكِرَةً) مفعول له ، أي ما أنزلناه عليك إلا عظة (لِمَنْ يَخْشى) [٣] أي لمن يسلم ويؤول أمره إلى الخشية من الله ولا يجوز أن يكون بدلا من (لِتَشْقى) لاختلاف الجنسين.

(تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤))

(تَنْزِيلاً) مصدر «أنزلنا» (٦) من غير لفظه ، أي أنزله تنزيلا (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) [٤] جمع العليا ، فيوصف (٧) به السماء للدلالة على عظم قدرة خالقها بعلوها.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦))

قوله (الرَّحْمنُ) رفع مبتدأ ، و (عَلَى الْعَرْشِ) متعلق بقوله (اسْتَوى) [٥] وهو خبر المبتدأ ، والجملة مسبوقة للمدح تعظيما لشأن المنزل ، أي هو استولى عليه وملكه ، لا شريك له فيه ، والعرش سرير الملك ، جعلوه كناية عن الملك ، يقال فلان على العرش يراد أنه ملك واستولى وإن لم يقعد على السرير البتة ، ثم بين بقوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من خلق أن كمال القدرة وتمام الملك مختص به تعالى ، قوله (وَما بَيْنَهُما) عطف على

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٣٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٥٥ (عن مقاتل) ؛ والبغوي ، ٤ / ٤ (عن الكلبي) ؛ والكشاف ، ٤ / ٢٥.

(٢) «طه» : سكت أبو جعفر على طا وها ، والباقون بلا سكت. البدور الزاهرة ، ٢٠١. لعله أخذ هذه القراءة عن السمرقندي ، ٢ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤.

(٣) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٢٥.

(٤) عن محمد بن كعب القرظي ، انظر البغوي ، ٤ / ٤.

(٥) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٦) أنزلنا ، و : أنزلناه ، ح ي.

(٧) فيوصف ، ح ي : فتوصف ، و.

٨٣

«ما» ، أي وله ما بينهما من جميع المخلوقات (وَ) له (ما تَحْتَ الثَّرى) [٦] وهو التراب الرطب مقدار خمسمائة عام تحت الأرض ، ولو لا ذلك لأحرقت النار الدنيا وما فيها ، وقيل : «هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة ، وهي صخرة خضراء فيها كتب الكفار اسمها سجين» (١) ، وقيل : «إن الأرض على الماء وهو على الحوت وهو على الصخرة وهي على قرني الثور وهو على الثرى ، ولا يعلم ما تحته إلا الله تعالى» (٢).

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧))

قوله (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) إشارة إلى كمال علمه بعد بيان كمال قدرته وملكه ، أي إن تعلن بالقرآن أو بذكر الله من دعاء أو غيره ، فاعلم أنه غني عن جهرك (فَإِنَّهُ) أي لأنه (يَعْلَمُ السِّرَّ) أي ما أسررته إلى غيرك (وَ) يعلم (أَخْفى) [٧] من ذلك وهو ما أخطرته ببالك أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها ، وهذا الكلام إما نهي عن الجهر كقوله (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ)(٣) ، وإما تعليم للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله تعالى بل لغرض آخر.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

ثم بين الله تعالى لخلقه أنه واحد في المعبودية لا شريك له فيها بقوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود في الأرض ولا في السماء إلا هو (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [٨] أي الصفات العلى التي يستحق بها الربوبية والعبادة لا غيره كالخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب ، و (الْحُسْنى) تأنيث الأحسن ، والسبب في فضل أسمائه في الحسن على سائر الأسماء دلالتها على معاني التقديس والتحميد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩))

ثم عقب آية «طه» بحديث موسى عليه‌السلام بقوله (وَهَلْ أَتاكَ) استفهام بمعنى التقرير ، أي قد أتاك (حَدِيثُ مُوسى) [٩] أي خبره لتقتدي به في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الشدائد لنيل الفوز العظيم عند الله والمقام المحمود ، يعني تأس بموسى يا محمد في تحمل شدائد الرسالة.

(إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠))

قوله (إِذْ رَأى) ظرف ل (حَدِيثُ مُوسى) وبيان له ، وقيل : تقديره اذكر إذ رأى (٤)(ناراً) من بعيد (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن معها ، قرئ «لأهله» بكسر الهاء وبضمها (٥)(امْكُثُوا) أي أقيموا مكانكم وقفوا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرتها (٦) ، وذلك حين رجع من مدين إلى مصر بعد أن استأذن شعيبا عليه‌السلام في الخروج إلى زيارة أمه وأخيه هرون ، فخرج بأهله وماله ، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة ذات ثلج ، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ، ولا ماء عنده ، وقدح زنده فصلد ورأى نارا عند ذلك ، وقيل : إنه أخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي (٧) ، فقال قفوا هنا فاني رأيت نارا (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) وهو قطعة نار في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) [١٠] أي هاديا يدلنا على الطريق.

__________________

(١) عن السدي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٣٦ ؛ والكشاف ، ٤ / ٢٦.

(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٣٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤. وقال أبو إسحاك إبراهيم اطفيش ـ وهو محقق «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ـ : «هذه الرواية وما شاكلها رواها عن ابن عباس رواة كثيرة غير ثقات ، وقد تكلم العلماء في هذه الرواية وأمثالها». انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، ١١ / ١٦٩ (في ملاحظة هامشية ثانية). وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن روى نحو هذه الرواية : «هذا حديث غريب جدا ، ورفعه فيه نظر». انظر تفسير القرآن العظيم ، ٥ / ٢٦٨ ، ٦ / ٣٤٠.

(٣) الأعراف (٧) ، ٢٠٥.

(٤) لعله اختصره من الكشاف ، ٤ / ٢٧.

(٥) «لأهله» : قرأ حمزة وصلا بضم الهاء والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٢٠١.

(٦) أبصرتها ، و : أبصرت ، ح ي.

(٧) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

٨٤

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢))

(فَلَمَّا أَتاها) أي انتهى إلى النار (نُودِيَ يا مُوسى [١١] إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) قرئ بفتح «أن» ، أي بأني وبكسرها على الاستئاف (١) ، قيل : رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فلا ضوء النار يغير خضرة الشجرة ولا خضرة الشجرة تغير ضوء النار (٢) ، قيل : إنها كانت شجرة العناب كلما طلبها بعدت عنه فاذا تركها قربت منه وتعجب منها وبهت أكثر المفسرين على أنها نور الرب تعالى (٣) ، وقيل : «هي النار بعينها» (٤) كما قال النبي عليه‌السلام عليه : «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (٥) ، ثم سمع تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة ، ثم سمع النداء من الشجرة يا موسى ، فقال من المتكلم؟ فقال الله إني أنا ربك ، ووسوس الشيطان إليه لعلك تسمع كلام شيطان ، فقال أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع الجهات الست وأسمعه بجيمع أعضائي ، وكرر الضمير في (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) لتحقيق المعرفة ونفي الشبهة ، فأجاب موسى سريعا أني أسمع صوتك ولا أرى مكانك ، فأين أنت؟ فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي ألقهما ، فألقاهما من وراء الوادي ، لأنهما كانا من جلد حمار ميت غير مدبوغين ، وقيل : أمر بخلعهما لتناله بركة الأرض المقدسة وتنالها بركتها (٦)(إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي الأرض الطاهرة الطيبة (طُوىً) [١٢] بالتنوين وغيره (٧) ، اسم الوادي ، عطف بيان له منصرف بتأويل المكان وغير منصرف بتأويل البقعة المعروفة.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣))

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي أصطفيتك يا موسى للرسالة ، مفردا في الكلمتين وجمعا فيهما مع كسر «إن» تعظيما لله تعالى (٨)(فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) [١٣] إليك ، أي اعمل بما تؤمر وتنهي.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤))

ثم بين له توحيده فقال (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي لا معبود للخلق إلا أنا (فَاعْبُدْنِي) أي أطعني واستقم على توحيدي (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [١٤] أي لتذكرني ، فان ذكري أن أعبد ويصلى (٩) لي أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلوة على الأذكار ، وقيل : صل الصلوة إذا ذكرتها بعد النسيان (١٠) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نسي صلوة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» (١١).

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥))

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) أي كائنة البتة (أَكادُ أُخْفِيها) أي أقرب أن أستر الساعة عن العباد ، ولا أقول هي آتية لفرط إرادتي أخفاءها ليكونوا علي وجل منها في كل وقت ، وقيل : معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف أطلعكم

__________________

(١) «إني» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح همزة «إني» ، والباقون بكسرها ، وفتح الياء المدنيان والمكي والبصري وأسكنها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٠١.

(٢) أخذه المفسر عن البغوي ، ٤ / ٦.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٣٧ ؛ والبغوي ، ٤ / ٦.

(٤) عن سعيد جبير ، انظر البغوي ، ٤ / ٦.

(٥) أخرجه مسلم ، الإيمان ، ٢٩٣ (الحديث : حجابه النور ... وفي رواية أبي بكر : النار) ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٦.

(٦) اختصره من البغوي ، ٤ / ٦.

(٧) «طوى» : قرأ الشامي والكوفيون بتنوين الواو ، والباقون بلا تنوين. البدور الزاهرة ، ٢٠٢.

(٨) «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» : قرأ حمزة بتشديد نون «أنا» و «أخترناك» بنون بعد الراء وبعد النون ألف ، والباقون بتخفيف نون «وأنا» و «أخترتك» بتاء مضمومة في مكان النون من غير ألف. البدور الزاهرة ، ٢٠٢.

(٩) ويصلى ، ح : وتصلي ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٢٨.

(١٠) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٣٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٧.

(١١) رواه مسلم ، المساجد ، ٣١٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٣٨ ؛ والبغوي ، ٤ / ٧.

٨٥

عليها (١) ، وقيل : «أكاد» صلة (٢) ، وقيل : «إنه بمعنى أريد» (٣) ، قوله (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ) علة للإخفاء ، أي أخفيها لتجزي كل نفس (بِما تَسْعى) [١٥] أي بعملها من خير وشر.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧))

(فَلا يَصُدَّنَّكَ) يا موسى (عَنْها) أي عن الإيمان بها (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) من الكفار (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في عبادة غير الله تعالى ومخالفة أمره (فَتَرْدى) [١٦] أي فتهلك إن صددت عنها ، قيل : الردي الموت والهلاك (٤) ، والمراد بهذا النهي الأمر بالاستقامة في الدين ، وهو خطاب له والمراد غيره ، ثم سأل الله عما في يده من العصا لإزالة الوحشة عن موسى لأنه كان خائفا فاستأنس (٥) بسؤاله ولتنبيهه على منافعها وللتقرير أنه عصا حتى لا يخاف إذا صارت ثعبانا ويعلم أنها معجزة عظيمة فقال (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) [١٧] أي أي شيء (٦) هذه أو التي بيدك وكان عالما بما في يده ولكن الحكمة في سؤاله ما ذكرنا.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨))

(قالَ) موسى (هِيَ عَصايَ) فقال (٧) : ما تصنع بها مريدا أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه قال (أَتَوَكَّؤُا) أي أعتمد (عَلَيْها) إذا عييت أو عند الوثبة (وَأَهُشُّ) أي وأخبط (٨)(بِها) ورق الشجر (عَلى غَنَمِي) لتأكله (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) [١٨] جمع مأربة وهي الحاجة وهي أنه يحمل عليها زاده وسقاءه وتماشيه وتحدثه ويضرب بها الأرض ، وكان لها (٩) شعبتان وفي أسفلها سنان فيخرج ما يأكل يومه ويخرج الماء ويركزها فتورق وتحمل أي ثمرة أحب وربما يدليها في البئر وتصير (١٠) شعبتاها كالدلو فيخرج الماء وتضيء بالليل كالشمس وتحارب عنه وتطرد الهوام ويستظل بها إذا قعد ، وكان عصا موسى اثني عشر ذراعا بذراعه من عود آس من شجر الجنة استودعها عند شعيب ملك من الملائكة في صورة إنسان.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١))

(قالَ) الله تعالى (أَلْقِها) أي عصاك من يدك (يا مُوسى [١٩] فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ) عظيمة صفراء من أعظم ما يكون من الحيات وهي جنس تعم الذكر والأنثى والصغير والكبير ، فربما تكون جانا وهو الخفيف من الحيات وتكون (١١) ثعبانا وهو عظيمها (تَسْعى) [٢٠] أي تسرع وتنسل على بطنها رافعة رأسها وراءها وعيناها تتقدان كالنار تبتلع كل حجر وشجر تمر به ويسمع لأنيابها صريفا شديدا ، فهرب موسى منها خائفا فثم (قالَ) تعالى لموسى (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) [٢١] أي سنجعلها عصا كما كانت أول مرة والسيرة الطريقة التي يكون عليها الإنسان غريزية كانت أو مكتسبة ، فكشف عن يده بأمر الله تعالى ولف كم مدرعته على يده وأدخلها في فمها فصارت عصا وهي ظرف لقوله (سَنُعِيدُها) ، وأراه هذه الآية لئلا (١٢) يخاف عند فرعون إذا انقلبت حية.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

ثم أراه آية أخرى فقال (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي إلى جنبك (١٣) تحت العضد (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ

__________________

(١) اختصره المؤلف من البغوي ، ٤ / ٧.

(٢) نقله المفسر عن البغوي ، ٤ / ٧.

(٣) عن الأخفش ، انظر البغوي ، ٤ / ٧.

(٤) قد أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٣٨.

(٥) فاستأنس ، و : فآنس ، ح ي ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٣٨.

(٦) شيء ، ح ، ي : ـ و.

(٧) و ، + ح ي.

(٨) أي وأخبط ، و : أي أخبط ، ح ي.

(٩) لها ، ح ي : له ، و.

(١٠) وتصير ، و : ويصير ، ح ي ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٨.

(١١) وتكون ، وي : ويكون ، ح.

(١٢) لئلا ، و : كيلا ، ح ي ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٩.

(١٣) أي إلى جنبك ، ح : أي جنبك ، وي.

٨٦

سُوءٍ) أي برص ، لأن يده كانت ذات نور تضيء كشعاع الشمس (آيَةً أُخْرى) [٢٢] أي حال كونها آية أخرى مع العصا ، وقيل : «آية» منصوبة (١) بمضمر (٢) ، أي خذها (٣) آية أخرى (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا) الآية (الْكُبْرى) [٢٣] أي العظمى وكانت هذه أكبر آياته أو المعنى : فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))

ثم قال تعالى (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [٢٤] أي علا وتكبر وجاوز الحد في الكفر والعصيان ، فادعه إلى عبادتي فلما سمع موسى هذا الأمر منه علم أنه حمل أمرا عظيما فدعا ربه أن يسهل ذلك عليه ليبلغه إلى فرعون كما أمره.

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦))

(قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [٢٥] أي وسع قلبي لتحمل الحق والمشاق وردي أخلاق فرعون وأتباعه ، وفي ذكر (لِي) قبل (صَدْرِي) تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل ، لأنه لما قيل (اشْرَحْ لِي) علم أنه ثمه (٤) مشروحا مبهما ثم قيل (صَدْرِي) فقد بين ورفع الإبهام ، فكان آكد لطلب الشرح وكذا في قوله (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) [٢٦] أي سهله لي لأبلغ الرسالة إليه.

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨))

(وَاحْلُلْ عُقْدَةً) أي لكنة (مِنْ لِسانِي) [٢٧] وهي الرتة التي حصلت من إلقاء الجمرة في فيه عند فرعون وآسية (يَفْقَهُوا قَوْلِي) [٢٨] أي يفهم هو وقومه (٥) كلامي عند تبليغ الرسالة ، وذلك أن موسى في صغره أخذ بلحية فرعون فأراد قتله ، فقالت آسية زوجته : صبي لا يعقل جربه إن شئت فجعلت في طستا جمرا وفي آخر جوهرا ووضعتهما لدى موسى فقصد إلى أخذ الجوهر ، وأخذ جبرائيل يده فوضعها على الجمر فرفعها إلى فيه ، فاحترق لسانه فكانت له منه لكنة.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠))

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً) أي معينا أعتمد عليه ، من الموازرة وهي المعاونة (مِنْ أَهْلِي [٢٩] هارُونَ) عطف بيان ل (وَزِيراً) ، و (أَخِي) [٣٠] بدل من (هارُونَ).

(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١))

(اشْدُدْ بِهِ) بفتح الهمزة وجزم الدال (٦) خبر في جواب الطلب أي أقو به (أَزْرِي) [٣١] أي ظهري ، وقيل : الأزر القوة (٧) ، وقرئ بضم الهمزة وهو دعاء من موسى ، المعنى : افعل أنت اللهم ذلك به.

(وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥))

(وَأَشْرِكْهُ) بضم الهمزة خبر من موسى عطف على (اشْدُدْ) الجواب ، أي اجعله شريكا لي (٨) ، وبفتحها (٩) دعاء من موسى ، أي افعل أنت ذلك به (فِي أَمْرِي) [٣٢] الذي حملتني وهو تبليغ الرسالة (كَيْ نُسَبِّحَكَ) تسبيحا (كَثِيراً [٣٣] وَنَذْكُرَكَ) ذكرا (كَثِيراً) [٣٤] أي على كل حال (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) [٣٥] أي عالما بنا في الأحوال

__________________

(١) منصوبة ، ح ي : منصوب ، و.

(٢) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٤ / ٣٠.

(٣) أي خذها ، ح ي : أي خذ هذا ، و.

(٤) ثمه ، ح ي : ـ و.

(٥) يفهم هو وقومه ، ح ي : يفهموا ، و.

(٦) «أشدد» : قرأ الشامي بقطع همزة «أشدد» مع فتحها وصلا ووقفا ، والباقون بهمزة وصل تحذف في الدرج وتثبت في الابتداء مضمومة. البدور الزاهرة ، ٢٠٢.

(٧) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٣٩.

(٨) أي اجعله شريكا لي ، و : ـ ح ي.

(٩) «وأشركه» : قرأ الشامي بضم همزة «وأشركه» ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٠٢.

٨٧

كلها وبأن التعاضد مما يصلحنا وإن هرون نعم الوزير ، فانه أكبر مني سنا وأفصح لسنا.

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨))

(قالَ) الله (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [٣٦] أي أعطيناك مطلوبك منا منة عليك (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) [٣٧] أي أكرمناك بكرامات قبل هذه المرة من غير أن تسألنا ، ثم بين ذلك بقوله (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) [٣٨] مناحا أو إلهاما في قلبها أو بارسال ملك إليها لا على وجه النبوة.

(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩))

(أَنِ اقْذِفِيهِ) تفسير لما يوحى بمعنى القول ، أي قلنا ألقي موسى (فِي التَّابُوتِ) فأخذت قطنا محلوجا ووضعته في التابوت وألقت فيه موسى وسددت عليه وأحكمته بالقير لئلا يدخل فيه الماء ، وكان يدخل نهر من النيل إلى دار فرعون (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أي اقذفي التابوت في النيل (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) جانب البحر وجعل اليم كأنه ذو تمييز ، فأسند الإلقاء إليه ، لأن جريه بأمره تعالى ، والساحل من السحل ، لأنه يسحله الماء ، أي يقشره ويسحله (يَأْخُذْهُ) بالجزم جواب الأمر وهو فليلقه ، قيل : الأولى أن يرجع الضمائر كلها إلى موسى من رجوع بعضها إليه التابوت لما فيه قبح من تنافر النظم (١) الذي هو أم إعجاز القرآن ، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر ، أي يأخذ موسى (عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهو فرعون فدخل التابوت من النيل في نهر كبير يجري منه إلى دار فرعون ، وكان جالسا مع امرأته على رأس البركة ، فاذا بتابوت يجيء به الماء نحو داره فأمر باخراجه ففتح التابوت ، فاذا فيه صبي أحسن الناس وجها ، فأخذه فرون وأحبه هو وامرأته حبا شديدا بحيث لا يصبران عنه ، ويصدقه قوله (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قوله (مِنِّي) يجوز أن يتعلق ب (أَلْقَيْتُ) ، فالمعنى : أني أحببتك ومن أحببته أحبته القلوب ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، أي محبة حاصلة مني بأن زرعتها في القلوب ، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك ، وقيل : «كان في عينيه ملاحة ما رآها أحد إلا أحبه» (٢) ، قوله (وَلِتُصْنَعَ) عطف على مقدر ، أي لتحب ولتصنع ، يعني لتربي (عَلى عَيْنِي) [٣٩] أي على حفظي إياك في الأحوال كلها.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠))

قوله (إِذْ تَمْشِي) بدل من (إِذْ أَوْحَيْنا) ولا يمنعه اختلاف الوقتين وتباعدهما لا تساع الوقت ، وقيل : عامله (أَلْقَيْتُ) أو «تصنع» (٣)(أُخْتُكَ) أي مريم خرجت لتعرف خبره فجاءت إلى آل فرعون وكان لا يقبل ثدي مرضعة (فَتَقُولُ) أي فقالت لهم (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) من المراضع بأن تضمه إليها ويقبل ثديها ، قالوا : نعم ، من هي؟ قالت أمي ، قالوا لها لبن ، قالت نعم لبن أخي هرون فجاءت بها وقبل ثديها (فَرَجَعْناكَ) أي رددناك (إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) أي تطيب نفسها بلقائك (وَلا تَحْزَنَ) أي ليزول حزنها (وَقَتَلْتَ نَفْساً) وهي نفس القبطي فاغتممت خوفا من الله أو من اقتصاص فرعون (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ) بأن غفرنا لك أو من غضبه وشره (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي ابتليناك واختبرناك ببلاء بعد بلاء وتخليصك منه ، الفتنة المحنة وكل ما شق على الإنسان وكل ما يبتلى (٤) الله به عباده فتنة ، والفتون مصدر كذلك وهو وقوع موسى في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، روي : أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون الواقع على موسى ، قال ولد في عام يقتل فيه الولدان فهذه فتنة يا ابن جبير وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله وقد قتل قبطيا وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٣٢.

(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ١٢.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٤ / ٣٣.

(٤) يبتلى ، وي : يبتل ، ح.

٨٨

وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، وكان ابن عباس يقول في كل واحد : «فهذه فتنة يا ابن جبير» (١)(فَلَبِثْتَ سِنِينَ) أي فخرجت من مصر هاربا من فرعون ومكث سنين لرعي الأغنام (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي عند شعيب ، قيل : «مكث ثماني وعشرين ، منها مهر ابنته وأقام عنده ثماني عشرة حتى ولد له» (٢)(ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) [٤٠] أي موعد مقدر في علمي ووهبت لك نبوة وكان مجيئه على رأس أربعين سنة يوحى فيها إلى الأنبياء.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))

(وَاصْطَنَعْتُكَ) أي اصطفيتك (لِنَفْسِي) [٤١] أي لوحيي بأن جعلتك رسولا لي فقال موسى يا رب حسبي حسبي فقد تمت كرامتي.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢))

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) وهي التسع (وَلا تَنِيا) أي لا تفترا (فِي ذِكْرِي) [٤٢] أي في تسبيحي (٣) وتقديسي والالتجاء إلي وذلك ينجيكما (٤) ، وقيل : لا تعجزا عن أداء رسالتي (٥).

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤))

(اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [٤٣] أي تكبر وعلا بادعاء الربوبية (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي كلاما سهلا بالرفق واللطف ولا تعنفاه ولا تزجراه ، وقيل : كنياه بأن تقولا يا أبا الوليد أو يا أبا العباس (٦)(لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) أي يتأمل فيتعظ (أَوْ يَخْشى) [٤٤] الله فيؤمن ، لأن الرؤساء بكلام اللين أقرب إلى الانقياد من كلام العنف ، قيل : قد سبق في علمه أنه لا يتذكر ولا يسلم فكيف يستقيم قوله لعله يتذكر أو يخشى ، أجيب بأن الترجي في «لعل» لهما ، أي اذهبا على رجائكما لا يخيب سعيكما (٧) ، قيل : تذكر فرعون وخشي حين ألجمه الغرق فلم ينفعه (٨) ، وقيل : منعه هامان من الإيمان بموسى لما روي أن موسى وعده على قبول الإيمان شبابا لا يهرم وملكا لا ينزع منه إلا بالموت ويبقى عليه لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته ، وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك ، وكان هامان غائبا لا يقطع أمرا بدونه ، فلما قدم أخبره بما قال له موسى وقال أردت أن أقبل منه يا همان ، فقال له هامان كنت أرى أن لك عقلا ورأيا ، أنت الآن رب تريد أن تكون مربوبا فأبى من الإيمان بموسى (٩) ، قيل : كان هرون يومئذ بمصر فأمر الله موسى أن يأتي هرون وأوحي إلى هرون وهو بمصر يجاوز أن يتلقى موسى فتلقاه إلى مرحلة ، فأخبره موسى بما أوحي إليه فدعوا الله حينئذ (١٠).

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧))

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي أن يعجل بالعقوبة لنا ، و «فرط» بموسى سبق (أَوْ أَنْ يَطْغى) [٤٥] أي يجاوز الحد في الإساءة إلينا فنعجز عن تبليغ الرسالة إليه (قالَ لا تَخافا) منه (إِنَّنِي مَعَكُما) بنصرتي (أَسْمَعُ) ما يقول لكما (وَأَرى) [٤٦] ما يفعل بكما ، يعني لست بغافل عنكما فلا تهتما (فَأْتِياهُ) أي اذهباه (فَقُولا) له (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) إليك (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) إلى الشام وقال في موضع آخر (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١١) ،

__________________

(١) انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٤٠ ؛ والبغوي ، ٤ / ١٢ ـ ١٣.

(٢) عن وهب ، انظر البغوي ، ٤ / ١٣.

(٣) أي في تسبيحي ، ح : أي تسبيحي ، وي.

(٤) ينجيكما ، و : ينجيك ، ح ، تنجيكما ، ي.

(٥) قد أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٤٤.

(٦) اختصره المؤلف من البغوي ، ٤ / ١٤.

(٧) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ١٤.

(٨) أخذه عن البغوي ، ٤ / ١٤.

(٩) هذا منقول عن البغوي ، ٤ / ١٤.

(١٠) قد أخذه عن البغوي ، ٤ / ١٤.

(١١) الشعراء (٢٦) ، ١٦.

٨٩

قالوا فيه دليل على جواز رواية الأخبار بالمعنى ، إذ العبرة للمعنى دون اللفظ ، لأن الله تعالى حكى معنى واحدا بألفاظ مختلفة (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بالأشغال الشاقة ، ثم فسر رسالتهما بقوله (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ) أي حجة على صدقنا وهي اليد والعصا (مِنْ رَبِّكَ) فلا تدع الربوبية برؤية الحجة ، إذ الرسالة لا تثبت إلا بحجة ظاهرة ، وإنما وحد «آية» وإن جاءا بآيتين ، لأنهما في حكم المفرد ، لأن الحجة انما تقوم بهما (وَالسَّلامُ) المنجي من سخط الله (عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) [٤٧] أي التوحيد.

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠))

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ) أي عذاب الآخرة على الدوام (عَلى مَنْ كَذَّبَ) بالتوحيد وبما جئنا به (وَتَوَلَّى) [٤٨] أي أعرض عنه (قالَ) فرعون (فَمَنْ رَبُّكُما) الذي أرسلكما إلي (يا مُوسى) [٤٩] خاطبهما أولا ثم خص موسى بالنداء ، لأنه هو الأصل في الرسالة وهرون تعابعه (قالَ) موسى (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) أي شكله الذي اقتضاه حكمته وطابق منفعته لا يشاركه فيه غيره كما أعطي العين الهيئة التي يطابق الأبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الأسماع ، وكذلك كل عضو من أعضاء كل حيوان يطابق بما علق به من المنفعة (ثُمَّ هَدى) [٥٠] أي ألهم كل شيء مصلحته كالأكل والشرب والجماع وغير ذلك مع كيفياتها وهو إيماء من موسى إلى الاستدلال على معرفة الله وربوبيته.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢))

ثم قال موسى عن حال من مات من القرون الماضية بأن (قالَ فَما بالُ) أي حال (الْقُرُونِ الْأُولى) [٥١] أي الأمم الماضية مثل قوم نوح وعاد وثمود وهم كانوا عبدة الأوثان وجحدة البعث ، فأجاب بأن هذا سؤال عن الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله ، وذلك قوله (قالَ عِلْمُها) أي علم أحوال القرون (عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) أي مكتوب عنده في اللوح المحفوظ (لا يَضِلُّ رَبِّي) عن شيء ، أي لا يخطأه ولا يغيب عنه (وَلا يَنْسى) [٥٢] شيئا ما كالإنسان وغيره فيجازيهم بأعمالهم ، وقيل : إنما رد موسى علم ذلك إلى الله لأنه لم يعلم ذلك قبل نزول التورية ونزولها بعد هلاك فرعون وقومه (١).

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣))

ثم قال تعالى لمشركي المكة الرب الذي ذكره موسى لفرعون (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي ذا مهد لكم ولمصالحكم كالمهد للصبي ، ويجوز أن يكون الذي صفة «ربي» ، فيكون الوصف تعريفا لفرعون وقومه ، يعني ربي الذي جعل لكم الأرض قرارا ، أي موضع القرار والسكون ، قرئ «مهادا» (٢) ، أي فراشا (وَسَلَكَ) أي والذي سهل (لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي طرقا لتسلكوها (وَأَنْزَلَ) أي والذي أنزل (مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَأَخْرَجْنا بِهِ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب للإيذان بأنه ملك مطاع يفعل ما يشاء لا أحدا ينازعه في فعله وحكمه ، أي نحن أنبتنا بالمطر (أَزْواجاً) أي أصنافا (مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [٥٣] أي مختلفة جمع شتيت ، والنبات يعم الواحد والجمع ولذا قال «شتى» ، واختلاف النبات بالنفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للإنسان وبعضها يصلح لغيره من البهائم.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤))

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي قائلين (كُلُوا) حال من ضمير «أخرجنا» ، والمعنى أخرجنا أصنافا من النبات

__________________

(١) أخذه المصنف عن البغوي ، ٤ / ١٦.

(٢) «مهدا» : قرأ الكوفيون بفتح الميم وإسكان الهاء ، والباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ٢٠٢.

٩٠

آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في اختلاف النبات (لَآياتٍ) أي لعبرات (لِأُولِي النُّهى) [٥٤] أي لذوي العقول من الناس ، جمع نهية ، لأنها تنهى صاحبها (١) عن القبح.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))

(مِنْها) أي من الأرض (خَلَقْناكُمْ) أي أصلكم وهو آدم وأنتم منه (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) أي بعد موتكم بالدفن فيها (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ) أي نحييكم عند البعث (تارَةً أُخْرى) [٥٥] أي كابتداء خلقكم وإحيائكم من التراب.

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨))

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا) أي أرينا فرعون آياتنا التسع (كُلَّها فَكَذَّبَ) بها (وَأَبى) [٥٦] من لإسلام (قالَ) فرعون مع أتباعه (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا) أرض مصر (بِسِحْرِكَ يا مُوسى [٥٧] فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ) أي يماثله فلا تغلب علينا (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ) لإظهار السحر (مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ) أي مكان موعد وهو مصدر لا نتخلف عن الحضور فيه (نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) [٥٨] أي يستوي طرفاه على الفريقين من حيث المكان (٢).

و (مَكاناً) بدل من «مكان» المضاف إلى «الموعد» تقديرا ، و (سُوىً) بضم السين وكسرها (٣) صفة ل (مَكاناً) ، أي مكانا يستوي مسافته علينا وعليكم.

(قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩))

(قالَ) موسى (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) فأجاب بالزمان ، لأن الحضور في الزمان يتضمن المكان ، وكان الزمان أهم من المكان و (يَوْمُ الزِّينَةِ) عيد لهم كانوا يتزينون ويجتمعون فيه كل سنة ، وقيل : يوم النيروز (٤)(وَأَنْ يُحْشَرَ) أي ويوم أن يجمع (النَّاسُ ضُحًى) [٥٩] أي ضحوة ليكون أبعد من الريبة ، وهو عطف على (الزِّينَةِ).

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١))

(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) أي رجع إلى أهله (فَجَمَعَ كَيْدَهُ) أي سحرته مع كل واحد حبل وعصا وكانوا اثنين وسبعين في رواية (ثُمَّ أَتى) [٦٠] الموعد فرعون مع أتباعه (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ) أي ألزمكم الله ويلا ، يعني عذابا (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ) أي لا تختلقوا عليه (كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ) بالنصب جواب النهي ، أي لا تكذبوا عليه فيهلككم (بِعَذابٍ) عظيم سحت وأسحت بمعنى أعدم ، قرئ بضم الياء وكسر الحاء وبفتحهما (٥)(وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) [٦١] أي قد خسر من اختلق الكذب.

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣))

(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي اختلفوا فيما بينهم سرا من فرعون وهم السحرة ، قالوا إن كان موسى ساحرا سنغلبه وإن كان نبيا وما يأتي به سماوي فله أمره وعلينا اتباعه (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) [٦٢] أي المناجاة ، يعني أضمروا نجويهم التي كانوا يناجوها (٦) خوفا من فرعون (قالُوا) أي السحرة (إِنْ هذانِ) أي موسى وهرون (لَساحِرانِ) وقيل : كانت نجويهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره بعد علمهم أنهما على الحق خوفا من غلبتهما

__________________

(١) صاحبها ، و : صاحبه ، ح ي.

(٢) المكان ، ح ي : المسافة ، و.

(٣) «سوى» : قرأ الشامي وعاصم وخلف ويعقوب وحمزة بضم السين وغيرهم بكسرها. البدور الزاهرة ، ٢٠٤.

(٤) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ١٨.

(٥) «فيسحتكم» : قرأ حفص والأخوان ورويس وخلف بضم الياء التحتية وكسر الحاء ، والباقون بفتح الياء والحاء. البدور الزاهرة ، ٢٠٥.

(٦) يناجوها ، وي : تناجوها ، ح.

٩١

وتثبيطا للناس عن اتباعهما (١) ، قرئ «إن» بالتخفيف ، فهي إما خفيفة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين النافية أو نافية واللام بمعنى «إلا» ، وقرئ بالتشديد ف «إن» بمعنى نعم و «ساحران» خبر مبتدأ محذوف ، أي لهما ساحران ليكون اللام داخالة على الجملة ، وقرئ «هذان» بتشديد النون مع سكون «إن» (٢) ، قوله (يُرِيدانِ) أي موسى وهرون ، خبر بعد خبر (أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) [٦٣] أي بسنتكم وشريعتكم الفضلى ، و (الْمُثْلى) تأنيث الأمثل وهو الأشرف.

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥))

(فَأَجْمِعُوا) من الإجماع ، أي أحكموا (كَيْدَكُمْ) أي مكيدكم ، يعني ما تكيدون به موسى أو أعزموا على هلاك موسى ، وقرئ «فاجمعوا» (٣) من الجمع ، أي جيئوا بكل كيد تقدرون عليه (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي مصطفين في الموعد ومجتمعين ليكون أشد لهيبتكم وأنظم لأمركم فجاؤا في سبعين صفا كل صف ألف (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) [٦٤] قيل : هذا اعتراض من قول فرعون للسحرة للترغيب في غلب موسى (٤) ، أي قد فاز ونجا اليوم ، من علا بالغلبة ، ثم جمع فرعون السحرة مع موسى في الموعد و (قالُوا) أي السحرة مع تأدبهم له بالهام الله لهم ذلك (يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) أي تطرح عصاك على الأرض (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) [٦٥] عصاه على الأرض.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧))

(قالَ) لهم موسى بوحيه تعالى إليه الاختيار مع مقابلة الأدب بالأدب (بَلْ أَلْقُوا) ما معكم احتقارا بهم وليظهر الحق من الباطل ، لأن الحق يدمغ الباطل ويمحوه (فَإِذا حِبالُهُمْ) أي ألقوا ما معهم فاذا حبالهم (وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي إلى موسى (٥)(مِنْ سِحْرِهِمْ) أي يرى له ظاهرا (أَنَّها تَسْعى) [٦٦] ومحله رفع بدل اشتمال من ضمير (يُخَيَّلُ) على قراءته بالياء مذكرا وهو عائد للسحر أو نائب فاعل له ، وقرئ «تخيل» بتاء مضمومة مع فتح الياء لتأنيث جماعة الحبال والعصي (٦) ، أي خيلت آلاتهم إلى موسى أنها تسعى وتضطرب محنة وإظهارا للمعجز فهو بدل أيضا ، قيل : رأى موسى كأن الأرض امتلأت حيات أخذت ميلا من كل جنانب (٧)(فَأَوْجَسَ) أي أضمر (فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) [٦٧] أي ظنا منه أنها تقصده كعادة البشر لدلالة قوله (فِي نَفْسِهِ) ، لأنه من خطرات النفس لا من القلب ، ف (مُوسى) فاعل «أوجس» و «خفية» مفعوله ، وقيل : خيفة تفرق الناس بعد مشاهدة الحيات وقبل أن يؤمر بالقاء العصا فيضلوا ولا يثبت (٨) معجزة (٩).

(قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ

__________________

(١) قد نقله المصنف عن الكشاف ، ٤ / ٣٧.

(٢) «إن هذان» : قرأ ابن كثير باسكان نون «إن» و «هذان» بالألف مع تشديد النون والمد المشبع للساكنين وصلا ووقفا وقرأ أبو عمرو بتشديد نون «إن» وفتحها و «هذين» بالياء مع تخفيف النون وحفص باسكان نون «إن» و «هذان» بالألف مع تخفيف النون ، والباقون بتشديد نون «إن» وفتحها و «هذان» بالألف مع تخفيف النون. البدور الزاهرة ، ٢٠٥.

(٣) «فأجمعوا» : قرأ أبو عمرو بهمزة وصل بعد الفاء وفتح الميم وغيره بهمزة قطع مفتوحة مع كسر الميم. البدور الزاهرة ، ٢٠٥.

(٤) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٤ / ٣٨.

(٥) (فَإِذا حِبالُهُمْ) أي ألقوا ما معهم فاذا حبالهم (وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي إلى موسى ، ح و : فألقى السحرة ما معهم (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) أي إلى موسى ، ي.

(٦) «يخيل» : قرأ ابن ذكوان وروح بتاء التأنيث وغيرهما بياء التذكير. البدور الزاهرة ، ٢٠٥.

(٧) أخذه المفسر عن البغوي ، ٤ / ٢١.

(٨) يثبت ، وي : تثبت ، ح.

(٩) لعل المفسر اختصره من القرطبي ، ١١ / ٢٢٢.

٩٢

آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١))

(قُلْنا) مقول قول مقدر ، أي قال الله قلنا لموسى (لا تَخَفْ إِنَّكَ) أي لأنك (أَنْتَ الْأَعْلى) [٦٨] أي الغالب القاهر لهم (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ) بالجزم جواب الأمر (١) مشددا ومخففا ، وقرئ بالرفع والتخفيف (٢) حالا مقدرة من «ما» أو من «موسى» ، لأنه سبب التلقف ، أي تلقم (ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) بالتنكير والإفراد ، لأن القصد فيه معنى الجنسية لا العدد وبالألف ، أي عمله ومكره ، وبغير الألف (٣) ، يعني كيد سحر (٤) باضافة الجنس إلى النوع تبيينا كعلم فقه ، و «ما» في (إِنَّما) موصلوة بمعنى الذي صنعوه كيد سحر الساحر (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [٦٩] من الأرض وعمل السحر فيها ، فألقى موسى عصاه فوقع الحق وبطل عملهم ، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) أي من سرعة سجودهم كأنهم ألقوا شكرا لله تعالى على الهداية ، روي : أنهم رأوا الجنة ومنازلهم التي يصيرون إليها فيها في سجودهم (٥) ، ثم رفعوا رؤوسهم وهم (قالُوا آمَنَّا) أي صدقنا (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى [٧٠] قالَ) لهم فرعون (آمَنْتُمْ لَهُ) أي بموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) أي آمركم به (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ) أي لمعلمكم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) وإنما أراد به (٦) التلبيس على قومه ، لأنه عالم أن موسى ما علمهم السحر ، ثم هددهم بقوله (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) والقطع من خلاف ، أي يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى ، و (مِنْ) فيه لابتداء الغاية ، أي ابتدأ القطع من مخالفة العضو العضو (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) أي على أصول النخل في شاطئ النيل ، وجاء ب (فِي) ليفيد تمكن المصلوب بالخشبة تمكن المظروف بالظرف (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) [٧١] أي أدوم أنا على أيمانكم بموسى أم رب موسى على ترك الإيمان به من جهة العذاب.

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢))

(قالُوا) أي السحرة (لَنْ نُؤْثِرَكَ) أي لن نختارك وطاعتك (عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) أي على الله ودينه بعد ما جاءنا من الحجج الدالة على صدق موسى وهي اليد البيضاء والعصا ، وكان استدلالهم أنهم قالوا لو كان هذا سحرا فأين حبالك وعصينا؟ قوله (وَالَّذِي فَطَرَنا) أي خلقنا يجوز أن يكون قسما وأن يكون معطوفا على محل (ما جاءَنا (فَاقْضِ) أي احكم فينا (ما أَنْتَ قاضٍ) أي الذي (٧) أنت فيه حاكم من القطع والصلب (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) [٧٢] أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا فلا جزع.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤))

(إِنَّا) أي لأنا (آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) وهي ما علمنا من الشرك (وَما أَكْرَهْتَنا) أي ويغفر الذي أكرهتنا (عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) روي : «أن فرعون أكرههم على تعلم السحر وعمله» (٨) ، وروي : أنهم رأوا موسى

__________________

(١) الأمر ، ح ي : للأمر ، و.

(٢) «تلقف» : قرأ ابن ذكوان بفتح اللام وتشديد القاف ورفع الفاء ، وقرأ حفص باسكان اللام وتخفيف القاف وجزم الفاء ، والباقون بفتح اللام وتشديد القاف وجزم الفاء ، وشدد البزي التاء وصلا. البدور الزاهرة ، ٢٠٥.

(٣) «ساحر» : قرأ الأخوان وخلف بكسر السين وإسكان الحاء من غير ألف ، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء. البدور الزاهرة ، ٢٠٥.

(٤) الساحر ، + ح.

(٥) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٣٩.

(٦) وإنما أراد به ، ح : وأراد به ، وي.

(٧) الذي ، ح ي : ـ و.

(٨) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٥٠ ؛ والكشاف ، ٤ / ٤٠.

٩٣

نائما وعصاه تحرسه ، قالوا إنه ليس بساحر ، لأن الساحر إذا نام بطل سحره فلا نعارضه وأبى فرعون إلا أن يعارضوه (١)(وَاللهُ خَيْرٌ) لنا منك ثوابا إذا أطعناه (وَأَبْقى) [٧٣] أي أدوم عقابا منك إن عصيناه (إِنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً) أي مشركا وعاصيا يوم القيامة (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العذاب (وَلا يَحْيى) [٧٤] حيوة تنفعه ، قيل : هذا من قول الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، وقيل : من تمام قول السحرة (٣).

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))

(وَمَنْ يَأْتِهِ) يوم القيامة (مُؤْمِناً) أي مصدقا (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) [٧٥] أي الفضائل في الجنة ، وهي جمع العليا تأنيث الأعلى (جَنَّاتُ عَدْنٍ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هي أو بدل من (الدَّرَجاتُ (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ) أي المذكور من الفضائل (جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) [٧٦] أي ثواب من تطهر من الذنوب بالتوبة عن الشرك ووحد ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الدرجات العلى ليريهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» (٤).

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧))

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ) أي اجعل (طَرِيقاً) لبني إسرائيل (فِي الْبَحْرِ) وبينه (يَبَساً) أي يابسا (لا تَخافُ دَرَكاً) أي من إدراك (٥) فرعون ، والفعل المنفي حال مقدرة ، وقرئ «لا تخف» (٦) نهيا (وَلا تَخْشى) [٧٧] الغرق ، أي أنت آمن منه وهو عطف على (لا تَخافُ) أو على «لا تخف» زيدت الألف للفاصلة.

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩))

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) أي لحقهم بجموعه (فَغَشِيَهُمْ) أي فغطاهم (مِنَ الْيَمِّ) أي البحر (ما غَشِيَهُمْ) [٧٨] أي الذي علاهم وهو الغرق حتى التقى البحر عليهم ، وقيل : هو غضب الله تعالى عليهم (٧)(وَأَضَلَّ) أي أهلك بالإغواء (فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [٧٩] إلى الرشاد وهو رد لقوله اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد فكذب في دعواه وأنجاه الله موسى وقومه من عذاب فرعون.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١))

ثم ذكر الله منته على بني إسرائيل (٨) بقوله (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) فرعون (وَواعَدْناكُمْ) المناجاة (جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي في جانبه من يمين موسى مع كتب التورية في الألواح ، وأضاف المواعد إليهم لملابسة نبوة موسى إياهم حيث نفعوا بها (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [٨٠] حيث كانوا في التيه فقال لهم (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ) أي من حلالات (ما رَزَقْناكُمْ) وقرئ بتوحيد المتكلم في الثلاثة «أنجيتكم» و «واعدتكم»

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ٤ / ٢٢.

(٢) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥٠.

(٣) أخذه المصنف عن البغوي ، ٤ / ٢٣.

(٤) رواه أحمد بن حنبل ، ٣ / ٥٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٣.

(٥) إدراك ، ح ي : إدراكك ، و.

(٦) «لا تَخافُ» : قرأ حمزة بحذف الألف وجزم الفاء وغيره باثبات الألف ورفع الفاء. البدور الزاهرة ، ٢٠٦.

(٧) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٨) ان أحسن بذلك ، + و.

٩٤

و «رزقتكم» (١)(وَلا تَطْغَوْا) أي لا تكفروا تلك النعمة (فِيهِ) أي في إحساني إليكم ، وقيل : لا ترفعوا منها لغد شيئا (٢)(فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي أن (٣) ينحل عليكم عذابي (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) [٨١] أي هلك وسقط في النار ، قرئ «فيحل» بضم الحاء وبضم اللام الأولى من يحلل من الحلول وهو النزول ، وبكسرهما (٤) بمعنى الوجوب.

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣))

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ) أي صدق بالله ورسوله (وَعَمِلَ صالِحاً) أي أدى الفرائض خالصا بينه وبين ربه (ثُمَّ اهْتَدى) [٨٢] أي استقام على ذلك ولزمه حتى الموت (وَما أَعْجَلَكَ) قاله الله تعالى مستفهما على سبيل الإنكار على موسى عجلته حين سار لمناجاة ربه إلى الطور بسبعين رجلا وللاتيان بالتورية ، فلما دنى إلى الطور أمرهم أن يتبعوه إلى الجبل وأسرع هو في سيره إليه شوقا إلى مناجاة ربه ، أي أي شيء أعجلك (عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) [٨٣] وتركتهم خلفك.

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥))

(قالَ) مجيبا لربه (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) أي عقيب مجيئي ولم أتقدمهم إلا تقدما يسيرا لا يعتد بمثله هذا جواب بطريق التأدب مع ربه لا جواب سؤاله تعالى ، لأنه سأل (٥) عن السبب ولم يجب عنه بل أجاب بالعذر فيما أنكر عليه لأن السؤال عن السبب من الله العالم بكل شيء يستدعي السؤال عن العذر ، فقدم العذر اعترافا منه بالنقص عنده تعالى وليكون (آنَسَ) في محل الخطاب ، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ) يا (رَبِّ لِتَرْضى) [٨٤] أي لتزداد عني رضا ، فيه دليل على جواز الاجتهاد عند الأعلم ، ثم عقب الله الأخبار بابتلائه قوم موسى من بعد ذهابه عنهم وإن لم يقع عنده ، لأنه أخبر على عادته بلفظ الموجود لصدق وعده تعالى و (قالَ) يا موسى قد انطلقت عنهم (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ) أي ابتليناهم في إيمانهم بخلق العجل ، وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا به غير اثني عشر ألفا (مِنْ بَعْدِكَ) أي بعد انطلاقك عنهم إلى الجبل (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) [٨٥] بعمله ، لأنه كان السبب لذلك حيث عمل صورة العجل وأمرهم بعبادته.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦))

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) مع الألواح المكتوب فيها التورية (غَضْبانَ أَسِفاً) أي شديد الغضب أو حزينا لما فاته من المناجاة وإيمان قومه به ، قيل : إنها كانت ألف سورة ، كل سورة ألف آية ، يحمل أسفارها سبعين جملا (٦) ، فلما جاءهم موسى ورأى ما يصنعون حول العجل من العبادة له (قالَ) لهم (يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) أي صادقا وهو أن يدفع الكتاب إلى موسى ليقرأ عليهم ويهتدوا به ، وقيل : هو أربعون ليلة من ذي القعدة وعشرون ذي الحجة (٧) ، فرجع موسى إليهم بعد ما استوفى هذه المدة ، وقال (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي المدة الموعودة مني لكم (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) [٨٦] أي تركتم

__________________

(١) «أنجيناكم» ، «وواعدناكم» ، «ما رزقناكم» : قرأ الأخوان وخلف بتاء مضمومة بعد الياء في الأول والدال في الثاني والقاف في الثالث وبلا ألف فيها ، والباقون بالنون بعد الياء والدال والقاف وإثبات الألف بعد النون في الجميع ، وقرأ أبو جعفر والبصريان بحذف الألف التي بعد واو «وواعدناكم» والباقون باثباتها. البدور الزاهرة ، ٢٠٦.

(٢) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥١.

(٣) أن ، ح : ـ وي.

(٤) «فيحل» قرأ الكسائي بضم الحاء ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٢٠٦.

(٥) سأل ، وي : يسأل ، ح.

(٦) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٤٢.

(٧) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٤٢.

٩٥

عهدي بترك عبادة الله.

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧))

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي ما تعمدنا ترك عهدك باختيارنا ولكن غلبنا من كيد السامري ، والملك القدرة ، وقرئ بالحركات الثلاث (١)(وَلكِنَّا حُمِّلْنا) مجهولا بالتشديد ، أي حملنا غيرنا ، وبالتخفيف معلوما (٢) ، أي (٣) حملنا نحن (أَوْزاراً) أي حليا ، وقيل : أثقالا (٤) ، وقيل : آثاما (٥)(مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) أي قوم فرعون وكانوا استعاروها منهم بعلة عرس فبقيت عندهم ، ويجوز أن يكون المراد من ال (أَوْزارِ) الآثام (٦) ، وهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أخذ مال الحربي على أن الغنائم لم تكن (٧) تحل حينئذ فحفروا حفيرة بأمر هرون ليتركوها فيها إلى عود موسى فيرى فيها رأيه (فَقَذَفْناها) أي طرحنا الحلي في الحفيرة (فَكَذلِكَ) أي فمثل إلقائنا في الحفيرة (أَلْقَى السَّامِرِيُّ) [٨٧] قيل : رمى السامري فيها ما معه من الحلي والتراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبرائيل مع الحلي ، وكان لا يخالط شيئا إلا غيره وهو من الكرامة التي خصها الله تعالى بروح القدس وعند إلقائه التراب قال كن عجلا جسدا له خوار وكان من أهل القرية يعبدون البقر ، وحين دخل في بني إسرائيل أسلم معهم ، وفي قلبه حب عبادة البقر (٨) ، فابتلى الله به بني إسرائيل فكشف له عن بصره فرأى أثر فرس جبرائيل وأخذ من ترابه فقذفه في الحفرة بوحي الشيطان إليه.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨))

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ) بسبب ذلك التراب (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) أي مجسدا (٩) له صوت مسموع ولا شك أن الله خلقه وأنشأه محنة محن الله بها عباده ليثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة ، ويضل الله الظالمين (١٠) وأعجب من خلق الله العجل خلقه إبليس محنة لهم ولغيرهم (فَقالُوا) أي السامري وأتباعه (هذا) أي العجل (إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) [٨٨] أي موسى ربه هنا وذهب يطلبه أو نسي أن يخبركم بأن هذا إلهه ، فقال تعالى منبها لهم أنه لا يصلح أن يكون إلها.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) أي ليس (١١) لهم عقل يعقلون به أن العجل لا يصلح للآلهة ، يعني أيعبدونه فلا ينظرون أن العجل عاجز عن الخطاب ، إذ لا يرجع إليهم قولا ، يعني لا يكلمهم ولا يجيبهم إذا دعوه (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [٨٩] أي لا يقدر أن يدفع مضرة عنهم وأن يجلب نفعا لهم ، ف «أن» خفيفة من الثقيلة في (أَلَّا يَرْجِعُ) على تقدير رفع (يَرْجِعُ).

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣))

__________________

(١) «بملكنا» : قرأ المدنيان وعاصم بفتح الميم والأخوان وخلف بضمها ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.

(٢) «حملنا» : قرأ المدنيان والمكي والشامي وحفص ورويس بضم الحاء وكسر الميم مشددة ، والباقون بفتح الحاء والميم مخففة. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.

(٣) معلوما أي ، ح ي ، ـ و.

(٤) هذا المعنى منقول عن القرطبي ، ١١ / ٢٣٥.

(٥) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٤٢.

(٦) ويجوز أن يكون المراد من الأوزار الآثام ، ح و : ـ ي.

(٧) لم تكن ، وي : لم يكن ، ح.

(٨) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٥٢.

(٩) مجسدا ، وي : مجسد ، ح.

(١٠) الآية ، + و.

(١١) أي ليس ، ح ي : أي أليس ، و.

٩٦

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ) أي قبل أن يعود إليهم موسى (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي ابتليتم بعبادة العجل من الله فلا تعبدوه (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) يقينا (فَاتَّبِعُونِي) أي اتبعوا ديني (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [٩٠] الذي آمركم به (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ) أي لن نزال (عَلَيْهِ) أي على عبادته (عاكِفِينَ) أي مقيمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) [٩١] فاعتزلهم هرون في اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل ، ولما جاءهم موسى (قالَ يا هارُونُ ما) أي أي شيء (مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) [٩٢] بعبادة العجل من (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) «لا» مزيدة فيه ، أي من أن تتبع أمري الذي أمرتك به من القيام بمصالحهم فتقاتلهم وتمنعهم من أن يضلوا عن سبيل الله وتلحق بي إذا عجزت عنهم (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [٩٣] أي خالفت وصيتي لك فأخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله يجره إليه.

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦))

(قالَ) هرون لموسى (يَا بْنَ أُمَّ) بكسر الميم بنية الإضافة إلى الياء وبفتحها وحذف الألف (١)(لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) أي بشعر رأسي (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ) إذا ألقيت بينهم الحرب (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وتغضب علي ، أي جعلتهم فرقتين (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [٩٤] أي لم تنظر في أمري أو لم تنتظر قدومي ثم أقبل على السامري و (قالَ) لم عملته (فَما خَطْبُكَ) أي فما شأنك هذا وما كان مطلوبك منه أو ما الذي حملك على عمله (يا سامِرِيُّ [٩٥] قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بتاء الخطاب وعلمت ما لم تعلموا ، وقرئ بالياء (٢) ، يعني بني إسرائيل ، قال موسى : ما الذي رأيت؟ قال رأيت رسولا إليك على فرس الحيوة (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) أي المرسل إليك وهو جبرائيل ليذهب بك إلى الطور عند تمام موعد الذهاب إليه للمناجاة ، وإنما لم يقل جبرائيل لأنه لم يعرف أن الرسول اسمه جبرائيل ، يعني أخذت من تراب أثر فرس المرسل إليك حين رأيته راكب فرس الحيوة ، وقلت أن له شأنا عظيما أقبض من تربة موطئه ، (فَقَبَضْتُ) «قبضة» بالفتح والضم اسم للمقبوض بالكف ، وبالصاد المهملة (٣) الأخذ بأطراف الأصابع (فَنَبَذْتُها) أي طرحتها في العجل المصاغ فحيي (وَكَذلِكَ) أي كما حدثتك (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) [٩٦] أي زينت فلا تلمني بفعلي ولمهم بعبادتهم العجل ، قيل : كيف رأي هو جبرائيل من بين سائر الناس؟ أجيب بأن أمه لما ولدته في السنة التي يقتل فيها البنون وضعته في كهف حذرا عليه فبعث الله جبرائيل ليربيه لأجل هذه الفتنة فعرفه حين رآه (٤).

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧))

(قالَ) موسى له (فَاذْهَبْ) من بيننا مطرودا (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ) أي في عمرك (أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي لا يمسني أحد ولا أمس أحدا فكان يهيم في البرية لا يخالط الناس وكان إذا رأى أحدا قال لا تقربني وفر منه ، لأنه إذا مس أحدا أو مسه أحد حما كلاهما ، وروي : أن ذلك موجود في أولاده إلى الآن (٥) ، فكان ذلك أشد عقوبة له في الدنيا (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً) لعذابك (لَنْ تُخْلَفَهُ) بضم التاء وكسر اللام من أخلف الموعد إذا غاب عنه ، وبفتح اللام (٦) ، أي تبعث إليه البتة ، المعنى : أن هذا لك في الدنيا ولك في الآخرة موعد لن تغيب عنه أو لن تؤخر عنه ، يعني يكافيك الله على ما فعلته ثمه ، والله لا يخلف الميعاد (وَانْظُرْ) يا سامري (إِلى إِلهِكَ) بزعمك (الَّذِي ظَلْتَ)

__________________

(١) «يبنؤم» : قرأ الشامي وشعبة والأخوان وخلف بكسر الميم ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.

(٢) «يبصروا» : قرأ الأخوان وخلف بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، البدور الزاهرة ، ٢٠٧.

(٣) قد أخذ المؤلف هذه القراءة عن الكشاف ، ٤ / ٤٤.

(٤) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) «تخلفه» : قرأ المكي والبصريان بكسر اللام ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.

٩٧

أي إلى معبودك الذي صرت (عَلَيْهِ عاكِفاً) أي مقيما على عبادته (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالنار مرة بعد مرة (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) أي لنذرينه (فِي الْيَمِّ) أي في البحر (نَسْفاً) [٩٧] أي ذروا يبطل سعيك ، وأصل «ظلت» ظللت ، حذفت اللام الأولى ونقل حركتها إلى الظاء ومنهم من لم ينقل ولم يحذف ، روي : «أن موسى أخذ العجل فذبحه ثم حرقه بالنار ثم ذراه في اليم» (١).

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩))

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي العجل ليس بالهكم وإنما إلهكم الله الذي لا معبود للخلق سواه (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [٩٨] أي وسع علمه وأحاط بكل شيء ، أي بما كان وما يكون (كَذلِكَ) أي قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل ما ذكرنا لك من أخبار بني إسرائيل (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ) أي من أخبار (٢)(ما قَدْ سَبَقَ) من الأمم الماضية (وَقَدْ آتَيْناكَ) أي أعطيناك (مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) [٩٩] أي قرآنا كرامة لك من عندنا وزيادة في معجزاتك ليعتبر السامع ويزداد بصيرته في دينه ، وفيه النجاة والسعادة لمن أقبل عليه.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١))

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن القرآن فلم يعتبر ولم يعمل به لجحده إياه (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) [١٠٠] أي إثما ثقيلا (خالِدِينَ) حال من ضمير (يَحْمِلُ) وجمع نظرا إلى معنى «من» ، أي ماكثين (فِيهِ) أي في عقاب الوزر (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) [١٠١] تمييز لما أبهم في (ساءَ) بمعنى بئس من الضمير ، أي ساء الحمل حملا وزرهم ، يعني بئس ما يحملون من الذنوب ، قيل : نصب (حِمْلاً) على التمييز يمنع من أن يكون في (ساءَ) ضمير ال «وزر» (٣) ، واللام في (لَهُمْ) للبيان وهو يدل على أن (ساءَ) بمعنى بئس لا بمعنى أحزن ، إذ لا يقال أحزن له بل يقال أحزنه.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢))

قوله (يَوْمَ يُنْفَخُ) بالنون إخبارا عن المتكلم تعظيما ، وبالياء مجهولا (٤) ، يجوز أن يكون بدلا من «يوم القيامة» ، ويجوز أن يكون عامله محذوفا ، تقديره : حذرهم يوم ينفخ إسرافيل (فِي الصُّورِ) الذي التقمه للنفخ (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين (يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) [١٠٢] أي زرق الأعين من شدة العطش وهو (٥) شدة الخضرة في سواد العين ، وقيل : عميا (٦) لأن العين إذا زال نورها ازرقت أو الزرقة علامة أهل النار.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))

(يَتَخافَتُونَ) حال من ضمير (زُرْقاً) ، من الخفوت وهو السكوت ، أي يتسارون (بَيْنَهُمْ) لهول ذلك اليوم قائلين (إِنْ لَبِثْتُمْ) في الدنيا استقصارا لمدة لبثهم فيها أو بين النفختين وهو أربعون سنة ، لأنهم لا يعذبون فيها أو في القبور بعد الموت ، يعني يقولون ما مكثتم (إِلَّا عَشْراً) [١٠٣] أي عشرة أيام ، وقيل : عشر ساعات (٧) ، قال الله تعالى (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أوفاهم عقلا وأوفرهم رأيا وقولا (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [١٠٤] لقصره عندهم ، لأن أيام الراحة قليلة ، وقيل : نسوا مقدار لبثهم لشدة ما دهمهم (٨).

__________________

(١) عن السدي ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٩.

(٢) أي من أخبار ، و : أي أخبار ، ح ي.

(٣) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف باختصار ، ٤ / ٤٥.

(٤) «ينفخ» : قرأ أبو عمرو بنون مفتوحة مع ضم الفاء ، والباقون بياء مضمومة في مكان النون مع فتح الفاء. البدور الزاهرة ، ٢٠٧.

(٥) وهو ، ح و : وهي ، ي.

(٦) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٣٠.

(٧) وقد نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٣٥٤.

(٨) قد أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٣٠.

٩٨

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧))

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ) أي يسأل بعض أهل مكة وهم بنو ثقيف يا رسول الله : ما يصنع الله بالجبال يوم القيامة (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [١٠٥] أي يقلعها عن أماكنها بأن يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الريح فتذروها (١) فتصير كالهباء المنثور (فَيَذَرُها) أي يترك أماكنها أو الأرض (قاعاً) أي أرضا منبسطة (صَفْصَفاً) [١٠٦] أي ملساء مستوية (لا تَرى فِيها عِوَجاً) أي إنخفاضا (وَلا أَمْتاً) [١٠٧] أي ارتفاعا ، وإنما قال «عوجا» بالكسر في الأرض ، ولا يستعمل ذلك إلا في المعاني ، لأنه اعتبر الاستواء ونفي الاعوجاج عنها فيها ، فالتحقت بالمعاني.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨))

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) أي الناس يقصدون نحو الداعي ، يعني صوته وهو إسرافيل حين ينادي قائما على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية (٢) والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة ، هلمي إلى عرض الرحمن فيأتون سعيا من كل ناحية إلى صوته (لا عِوَجَ لَهُ) أي لا يعوج له مدعو من الناس بل يتبعه من غير عدول عنه (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) أي خفضت وذلت (لِلرَّحْمنِ) من شدة الفزع ، والمراد أصحابها (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [١٠٨] أي صوتا من مشي الأقدام بخفاء إلى المحشر خوفا وهيبة ، وقيل : «الهمس تحريك الشفاه (٣) بلا نطق» (٤).

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩))

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أحدا من الناس عنده (إِلَّا) شفاعة (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) أن يشفع فيشفع (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [١٠٩] أي رضي قوله بأن قال لا إله إلا الله خالصا في الدنيا ، ويجوز أن يكون (مَنْ)(٥) مفعولا ، فالمعنى على هذا : لا ينفع شفاعة الشافع إلا من أذن الله لأجله أن يشفع ورضي له قوله ، وهذا يدل على أن لا شفاعة لغير المؤمنين.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠))

(يَعْلَمُ) الله تعالى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي يعلم جميع أحوالهم المتقدمة والمستقبلة فأخباره عن علم (وَ) هم (لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [١١٠] أي لا يعلمون بما بين أيديهم من الآخرة وما خلفهم من الأعمال ، وقيل :

الضمير لله (٦) ، أي بمعلوماته.

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١))

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) أي خضعت وجوه العصاة (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وذلك عند معاينة سوء الحساب والشقوة والخيبة (وَقَدْ خابَ) أي خسر (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [١١١] أي شركا.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي مصدق بالله ورسوله (فَلا يَخافُ ظُلْماً) وهو أن يأخذ رجل من صاحبه فوق حقه ، وقرئ «فلا يخف» (٧) على معنى النهي (وَلا هَضْماً) [١١٢] وهو أن يكسر من حق أخيه ، ومنه عضم الطعام ، أي لا يخاف عذابا من غير جرم ولا نقص شيء من حسناته.

__________________

(١) فتذروها ، وي : فتذرها ، ح.

(٢) البالية ، وي : البلية ، ح.

(٣) الشفاه ، و : الشفة ، ح ي ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٣١.

(٤) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٣١.

(٥) من ، و : ـ ح ي.

(٦) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٣٢.

(٧) «فلا يخاف» : قرأ المكي بحذف الألف بعد الخاء وجزم الفاء ، وغيره باثبات الألف ورفع الفاء. البدور الزاهرة ، ٢٠٨.

٩٩

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣))

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) عطف على (كَذلِكَ نَقُصُّ) ، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المتضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة بلسان العرب مكررين فيه آيات الوعيد بالبيان من أخبار الأمم الماضية وما أصابهم من المصائب بذنوبهم ، وهو معنى قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ) أي بينا وكررنا في القرآن (مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الشرك (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ) الوعيد أو القرآن (ذِكْراً) [١١٣] أي عظة بهلاك من قبلهم فيزجرهم عن المعاصي.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي ارتفع وتعظم عن الشريك والولد وعن أن لا يعدل بين الخلق ، فانه الملك الحق لا يظلم أحدا منهم ، قوله (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) نهي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العجلة بقراءة القرآن وكان يعجل بها قبل أن يستتم جبرائيل قراءته خوف النسيان والانفلات ، أي لا تعجل بقراءته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى) أي يؤدي (إِلَيْكَ وَحْيُهُ) أي قراءته ، المعنى : تثبت حتى يفرغ جبرائيل من قراءته ثم أقرأه (١)(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [١١٤] أي إلى علمي بالقرآن علما ، يعني زدني فهما في معناه إشارة له إلى التواضع وإلى أن لا إحاطة لأحد بجميع العلوم إلا لله (٢).

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))

قد (عَهِدْنا) عطف على قوله (وَصَرَّفْنا فِيهِ) الآية ، واللام فيه لجواب القسم ، أي أقسم قسما لقد عهدنا (إِلى آدَمَ) أي أمرنا أباهم آدم من قبلهم كما أمرناهم ووصيناه أن لا يأكل من الشجرة وتوعدناه بكونه من الظالمين أن يأكل منها (مِنْ قَبْلُ) أي قبل أكله أو قبل توعدنا إياه (فَنَسِيَ) عهدنا ، أي فخالفه وتركه فعصانا ولم يلتفت إلى توعدنا كما أنهم لا يلتفتون إلى أمرنا ووعيدنا (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ) أي لآدم (عَزْماً) [١١٥] أي حزما وصبرا عما نهي عنه أو حفظا لما أمر به ، والعزم في اللغة توطين النفس على الفعل ، فأشار بذلك إلى أن أساس بني آدم على أمر آدم ، لأنهم منه فاتبعوا أمر الشيطان في نقض العهد وترك الإيمان كما اتبع آدم إبليس عدوه فأغواه ، قيل : لم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعا عن الإنسان فكان مؤاخذا به وإنما رفع عنا (٣) ، وقيل : ظن آدم أن نهي أكل الشجرة نهي تنزيه فنسي لذلك عقوبة الله (٤).

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦))

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) أي اذكر وقت قولنا لهم (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) [١١٦] أي تعظم عن السجود لآدم وصح استثناؤه وهو جني عن الملائكة على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم وعليه ، لأنه كان في صحبتهم وكان يعبد كعبادتهم.

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧))

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) حواء فاحذروا منه (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) [١١٧] أي فتتعب في الدنيا بتحصيل حاجتك من المأكل والمشرب والملبس ، وخص آدم بالشقاء ، لأن طلب الكسب غالبا يكون بالرجال.

(إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨))

قوله (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها) بدل من قوله «إن هذا» ، أي قلنا له إن حالك ما دمت في الجنة أن لا تجوع (وَلا تَعْرى) [١١٨] من الثياب.

__________________

(١) أقرأه ، ح و : أقرأ ، ي.

(٢) إلا لله ، ح و : إلا الله ، ي.

(٣) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٣٤.

(٤) قد أخذه عن البغوي ، ٤ / ٣٤.

١٠٠