عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

(وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧))

(وَالْخامِسَةُ) أي الشهادة الخامسة (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) بتشديد «أن» ونصب الاسم ، وبتخفيفه ورفع الاسم (١) ، أي أن يلعن الزوج نفسه (إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [٧] فيما قذف زوجته به من الزنا ، فاذا لاعنها الزوج وجب عليها الحد.

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨))

(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) أي يدفع حد الزنا (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ) ف (أَنْ) مع ما بعدها فاعل (يَدْرَؤُا) ، وقوله (بِاللهِ) يتعلق ب (تَشْهَدَ) ، وقوله (إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [٨] فيما قذفها به نصب ب (تَشْهَدَ).

(وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩))

(وَالْخامِسَةَ) بالرفع وبالنصب (٢) ، أي الشهادة الخامسة من المرأة إن تشهد (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ) الزوج (مِنَ الصَّادِقِينَ) [٩] فيما قذفها به من الزنا ، وتخصيص عضب الله بالمرأة في الخامسة للتغليظ عليها ، لأنها منبعة الفجور ، وأصله كما مر من قبل ، قيل : قاذف أمرأته إذا كان مسلما حرا بالغا عاقلا غير محدود في القذف ، والمرأة بهذه الصفة صح اللعان بينهما إذا قذفها بصريح الزنا وهو أن يقول لها يا زانية أو زنيت أو نحو ذلك ولا يصح إلا عند الحاكم أو نائبه ، وينبغي للحاكم أن يلقن الرجل كلمات اللعان فيقول قل أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بالزنا ، ويقول الزوج كما يلقنه الحاكم ويقول في الخامسة على لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة ، وإذا أتى بكلمة منها بلا تلقين الحاكم لم يحسب ، فاذا فرغ من اللعان وقعت الفرقة بينهما وحرمت عليه أبدا وانتفى عنه النسب وسقط عنه حد القذف ووجب عليها الرجم إن كانت محصنة ، والجلد والتغريب إن لم يكن محصنة عند الشافعي رحمه‌الله وقال أبو حنيفة لا تقع الفرقة إلا بتفريق الإمام لا بنفس اللعان ويدرأ عنها الحد إذا لاعن الزوج بأن تشهد أربع شهادات بالله أن زوجي لمن الكاذبين فيما رماني به ، وتقول في الخامسة وغضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به ويكون ذلك بتلقين الحاكم ، وإذا لاعن الزوج وامتنعت الزوجة حبست حتى تلاعن أو تعترف ، ومن صحت يمينه صح لعانه حرا كان أو عبدا ، مسلما كان أو كافرا ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله لا لعان إلا بين مسلمين حرين غير محدودين ، ويقام الرجل قائما حتى يشهد ، والمرأة قاعدة وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد والفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة رحمه‌الله لا يتأبد حكمها فاذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحد جاز أن يتزوجها ، وعند الشافعي رحمه‌الله فرقة بغير طلاق يتأبد حكمها ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه (٣) ، قال المفسرون : نزلت هذه الآيات في هلال بن أمية وامرأته حين وجد معها رجلا (٤) ، وقيل : في أمية بن هلال حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فلاعن بينهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) أي لو لا تفضل الله ونعمته عليكم (وَ) لو لا (أَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [١٠] حكم بينكم بالملاعنة لعذبكم وهو جواب (لَوْ لا).

__________________

(١) «أن لعنت» : قرأ نافع ويعقوب باسكان النون مخففة ورفع التاء ، والباقون بتشديد النون ونصب التاء. البدور الزاهرة ، ٢٢٢.

(٢) «وَالْخامِسَةُ» : قرأ حفص بنصب التاء ، وغيره برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٢٢.

(٣) أخذه المفسر عن الكشاف باختصار ، ٤ / ١١٦ ـ ١١٧.

(٤) انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٢٧ ؛ والبغوي ، ٤ / ١٧١.

(٥) نقله المؤلف عن الكشاف باختصار ، ٤ / ١١٧.

١٦١

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) نزل في شأن قذفة عائشة رضي الله عنها بصفوان (١) ، الإفك الافتراء ، والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، وهي خبر (إِنَّ) و (مِنْكُمْ) صفته (لا تَحْسَبُوهُ) أي الإفك أيها المقذوفون (شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بأن تثابوا (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي من الآفكين وهم عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم (مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) أي العقوبة بقدر ما شرع فيه ، لأن بعضهم تكلم بالإفك وبعضهم ضحك وبعضهم سكت ولم ينههم (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي كبر الإفك والكبر بكسر الكاف وضمتها معظم الشيء (٢) ، أي الذي تحمل معظم الإفك (مِنْهُمْ) أي الآفكين وهو حسان أو ابن أبي (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) [١١] أما حسان فعمى بعد ذلك وأما ابن أبي فمات منافقا ، وكان رأس النفاق.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢))

(لَوْ لا) أي هلا (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي الإفك وهو قذف عائشة رضي الله عنها بصفوان ظننتم كما (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ) أي بأمهاتهم وأهل دينهم (خَيْراً) لأنهم كنفس واحدة ، يعني هلا ظننتم كظنهم وقلتم كقولهم ، فيه التفات ، والأصل أن يقال ظننتم بأنفسكم الخطاب ، وإنما عدل عنه ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات ويشير به إلى أن الإيمان يقتضي ذلك ، فاذا سمع مؤمن أو مؤمنة قالة في حق أخيه أو أخته يبني الأمر فيها على ظنه به الخير كما هو شأن المومنين (وَقالُوا) بملء الفم (هذا) أي هذا القذف (إِفْكٌ مُبِينٌ) [١٢] أي ظاهر.

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣))

ثم بين الحكم في القذف فقال (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ) بلفظ الماضي والمراد المستقبل ، أي هلا يجيئون على القذف (بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [١٣] في قولهم ، يعني اطلبوا منهم أربعة شهداء ، فان لم يأتوا بها فأقيموا عليهم الحد على ما بيناه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤))

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها الكاذبون بالإمهال لأن تتوبوا (وَرَحْمَتُهُ) بأن يترحم عليكم (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ) أي خضتم (فِيهِ) من حديث الإفك (عَذابٌ عَظِيمٌ) [١٤] أي دائم في الآخرة (وَلَوْ لا) هذه هي الامتناعية ، والأولى بمعنى «هلا».

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦))

قوله (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) ظرف ل (أَفَضْتُمْ) بأو لمسكم ، أي إذ يأخذ الإفك بعضكم من بعض (بِأَلْسِنَتِكُمْ) برواية البعض عن البعض (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ومعنى (بِأَفْواهِكُمْ) مع أن القول لا يكون إلا بالفم هو أن المعلوم من الشيء يكون علمه في القلب أولا ، ثم يجري على اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولا

__________________

(١) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٧٦ ـ ١٧٧ ؛ والكشاف ، ٤ / ١١٧.

(٢) «كبره» : ضم الكاف يعقوب وكسرها غيره ورقق الراء ورش. البدور الزاهرة ، ٢٢٢.

١٦٢

يجري على ألسنتكم من غير علم به في القلب (وَتَحْسَبُونَهُ) أي ذلك القول (هَيِّناً) أي صغيرة (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [١٥] كثير الوزر ، أي كبيرة.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) فصل بين (لَوْ لا) و (قُلْتُمْ) بالظرف اتساعا ، إذ الظروف تتنزل من الأشياء منزلة أنفسها ، لأنها محال لها لا ينفك عنها وإنما قدم الظرف للاهتمام بالتحامي عن التكلم بالإفك أول السماع (ما يَكُونُ) أي لا ينبغي (لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) الإفك (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) [١٦] فيه بيان فضل عائشة رضي الله عنها ، لأن الله نزهها بلفظ نزه نفسه وهو قوله (سُبْحانَكَ) ، أي سبحان الله أن يكون زوجة النبي عليه‌السلام زانية.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧))

(يَعِظُكُمُ اللهُ) أيها الخائضون في أمر عائشة ينهاكم الله عنه (أَنْ تَعُودُوا) أي كراهة أن تعودوا (لِمِثْلِهِ) أي الخوض (أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٧] بالله وبرسوله وباليوم الآخر.

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨))

(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي آيات الأمر والنهي (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم أحوال الخلق (حَكِيمٌ) [١٨] يحكم بينهم بالحق.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) نزل في ابن أبي وأصحابه الذين يريدون (١)(أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي الزنا (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) كعائشة وصفوان رضي الله عنهما (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهو (فِي الدُّنْيا) الجلد (وَ) في (الْآخِرَةِ) النار (وَاللهُ يَعْلَمُ) براءة عائشة وكذب الخائضين (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [١٩] ذلك.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠))

ونزل في مسطح من المهاجرين (٢)(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [٢٠] والجواب لعذبكم ، وفي تكرير (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) وحذف الجواب زيادة مبالغة يفي المنة عليكم والتوبيخ لهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) أي تزيينه في قذف عائشة وصفوان وسائر المؤمنين (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ) أي الشيطان (يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) أي بالقبيح بالإفراط (وَالْمُنْكَرِ) وهو ما لا يعرف شرعا وتنفر عنه النفوس ، قوله (فَإِنَّهُ) أقيم مقام الجواب ، أي وقع في الفحشاء والمنكر ، لأن الشيطان يأمر بهما (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (وَرَحْمَتُهُ) بكم في الدارين (ما زَكى) أي ما طهر من دنس إثم الإفك (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) و «من» زائدة و (أَحَدٍ) فاعل (زَكى (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي) أي يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا أخلصوها (مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ) لقولهم (عَلِيمٌ) [٢١] بضمائرهم.

__________________

(١) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٤٣٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٨٤.

(٢) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ١٨٤.

١٦٣

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))

قوله (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) نزل في أبي بكر رضي الله عنه حين حلف أن يقطع نفقته عن مسطح ابن خالته لخوضه في عائشة ، وكان فقيرا بدريا مهاجرا ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه (١) ، من الائتلاء وهو الحلف ، أي لا يحلف أولوا الفضل منكم (وَالسَّعَةِ) في المال (أَنْ يُؤْتُوا) أي على أن لا يعطوا (٢) ويحسنوا إلى المستحقين للإحسان لجناية اقترفوها ، ومفعول (يُؤْتُوا (أُولِي الْقُرْبى) أي ذوي القربى (وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا) أي ليتجاوزوا عن خطئهم (وَلْيَصْفَحُوا) أي ليعرضوا عن ذنوبهم ، فالمعنى : لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إليهم ولا يقصروا فيه فليعودوا عليهم بالعفو والصفح (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) إذا عفوتم فقال أبو بكر رضي الله عنه : «بلى أحب أن يغفر الله لي ورد إلي مسطح نفقته» (٣)(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٢٢] أي يغفر ذنوب المؤمنين ويرحمهم.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣))

قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) نزل في شأن قذف ابن أبي عائشة رضي الله عنها (٤) ، وإنما قال بالجمع لأنها أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحسان أو لأن من قذف واحدة من نساء النبي عليه‌السلام فكأنه قذف جميعها ، أي إن الذين يقذفون المحصنات وهي العفائف عن الفواحش (الْغافِلاتِ) عن الاهتمام بالفحشاء (الْمُؤْمِناتِ) أي السليمات القلوب التي ليس فيهن مكر النساء وحيلهن (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [٢٣] أي دائم في الآخرة أو ليس لهم توبة ، فالمراد من (الْمُحْصَناتِ) زوجات النبي عليه‌السلام ، أن من قذف مؤمنة غيرهم فقد جعل الله له توبة.

(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤))

(يَوْمَ) أي اذكر يوم (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [٢٤] من الإفك والزنا وغيرهما.

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥))

قوله (يَوْمَئِذٍ) نصب بقوله (يُوَفِّيهِمُ) أي يوفرهم (اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) بالنصب صفة الدين ، وبالرفع صفة (اللهُ)(٥) ، يعني يتمم جزاءهم الواجب الذي يجازون على أعدل الجزاء يوم القيامة (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [٢٥] أي لا يشكون في أنه هو العادل الظاهر لا ظلم في حكمه ومن هذا وصفه فحق مثله أن يتقي ويجتنب محارمه.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))

(الْخَبِيثاتُ) أي الأعمال الخبيثات تعد (لِلْخَبِيثِينَ) من الناس (وَالْخَبِيثُونَ) منهم (لِلْخَبِيثاتِ وَ) كذا تعد

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ٤ / ١٨٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٣٣ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٢٠.

(٢) أي على أن لا يعطوا ، و : أي على أن يعطوا ، ح ي ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٣٣.

(٣) انظر البغوي ، ٤ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٤) لعل المفسر اختصره من البغوي ، ٤ / ١٨٦.

(٥) أخذ المؤلف هذه القراءة عن السمرقندي ، ٢ / ٤٣٤. (الحق : قرأ مجاهد «الحق» بضم القاف فيكون «الحق» نعت الله ... وقراءة العامة بالنصب وإنما يكون نصبا لنزع الخافض).

١٦٤

(الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) وإنما كررت الصيغتان لقصد التأكيد والإيذان بأن كل واحد من أفرادهما لا يصلح إلا لصاحبه ، ويجوز أن يراد ب (الْخَبِيثاتُ) و (الطَّيِّباتُ) النساء ، أي الزناة يتزوجن (١) الزواني وبالعكس ، وكذلك أهل الطيب ، أي العفائف للعفيفين وبالعكس (أُولئِكَ) أي الطيبون والطيبات أو عائشة وصفوان ، لأن أقل الجمع اثنان (مُبَرَّؤُنَ) أي منزهون (مِمَّا يَقُولُونَ) أي الخبيثون والخبيثات فيهم من القذف (لَهُمْ) أي للطيبين والطيبات (مَغْفِرَةٌ) من ذنوبهم لأجل الافتراء عليهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [٢٦] أي الجنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧))

ثم قال الله تعالى تعليما للأدب ودفعا للتهمة عن أهل الإيمان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) أي لا تدخلوا غير بيوتكم (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) ف (حَتَّى) غاية لنهي الدخول ، أي حتى تستأذنوا من الاستئناس الذي هو الاستعلام ، ويجوز أن يكون من الاستئناس الذي هو ضد الاستيحاش ، لأن من يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا ، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فاذا أذن له استأنس ، وعن النبي عليه‌السلام في معنى الاستئناس حين سئل عنه فقال : «هو أن يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» (٢)(وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) والتسليم أن يقول : السّلام عليكم أأدخل ثلاث مرات ، فان أذن له وإلا رجع (ذلِكُمْ) أي الاستئذان والتسليم (خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه ومن تحية الجاهلية وهي حييتم صباحا وحييتم مساء ومن دخول البيت بلا إذن ، لأنه إذا دخل بلا إذن فربما صادف الرجل مع امرأته في ثوب واحد ، فنهوا عن ذلك بهذه الآية ، قال بعضهم : إن رأى إنسانا قدم التسليم وإن لم يره قدم الاستئذان ثم يسلم ، روي : «أن رجلا قال يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ قال : نعم ، فقال : ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ، قال : لا ، قال : فاستأذن» (٣)(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [٢٧] أي تتعظون.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨))

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها) أي في البيوت (أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) في الدخول (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ) عند الاستئذان للدخول (ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ولا تلحوا في الدخول (هُوَ) أي الرجوع (أَزْكى لَكُمْ) أي أطهر لقلوبكم من الريبة والدخول بغير إذن ، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين ، لأن هذا مما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس ، وإذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهية وجب الانتهاء عن مقدماته من قرع الباب بعنف والتصييح لصاحب الدار وغير ذلك من العادات مما يستكره عندهم ، فان عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره جاز الدخول بغير إذن ، لأنه مستثنى بالدليل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [٢٨] من خير وشر.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

ونزل في الخانات والبيوت على ظهر طريق لا يناكر فيها قوله (٤)(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ

__________________

(١) يتزوجن ، و : يتزوجون ، ح ي.

(٢) انظر الكشاف ، ٤ / ١٢٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٣) رواه مالك ، الاستئذان ، ١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٢٢.

(٤) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٣٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٩٠.

١٦٥

مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ) أي منفعة (لَكُمْ) كالاستكنان من الحر والبرد وحفظ الأمتعة (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) [٢٩] أي ما تظهرون وما تسرون.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا) أي يكفوا (مِنْ أَبْصارِهِمْ) «من» تبعيض ، لأن المراد المنع من النظر إلى ما لا يحل ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إليها ، وكذلك الجواري المستعرضات (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) عن الزنا ولم يدخل فيه من ، لأن أمر الفرج مضيق ، إذ لا رخصة للزنا فيه بوجه ما بخلاف أمر النظر ، فانه أوسع لجواز النظر إلى صدور المحارم وأيديها وأقدامها ، كذا الجواري الأخبية ، ويجوز أن يراد من حفظ الفرج سترها عن النظر إليها (ذلِكَ) أي غض البصر وحفظ الفرج (أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر لقلوبهم (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ [٣٠] وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) عن النظر إلى الحرام (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) عن الزنا ، وقدم «غض البصر» عليه ، لأن النظر يريد الزنا (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) أي لا يظهرن الأشياء التي من الزينة المستترة كالسوار والخلخال والقلادة لمن لا يحل له النظر إليها ونهيه عن كشف الزينة تحريض على الحفظ التام لمواضع الزينة (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي من الزينة التي لا تستر غالبا كالثياب والخاتم والكحل والخضاب ، فانه لا بأس باظهاره للإجابة لما في النهي عن النظر إليها حرج (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ) جمع خمار وهو ما يستر به كمقنعة ونقاب (عَلى جُيُوبِهِنَّ) أي صدورهن (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) أي أزواجهن (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) فيجوز النظر لهؤلاء كلهم من النسب والرضاع إلى الزينة الباطنة ولا ينظرون إلى ما بين السرة والركبة إلا الزوج ، ويكره له النظر إلى ذات الفرج ، قيل : ولم يذكر الأعمام والأخوال لئلا يصفها العم عند ابنه وكذا الخال (١)(أَوْ نِسائِهِنَّ) أي نساء دينهن ، يعني لا يبدين زينتهن إلا للنساء الحرائر والإماء المسلمات ، فيجوز نظر المسلمة إلى المسلمة سوى ما بين السرة والركبة ، ولا يجوز للمسلمة أن تنكشف للكافرة ، لأنها ليست من نسائهن (٢) ، ويجوز كشف بدنها إلى أمة مشركة لها (أَوْ ما) أي إلا الذي (مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) من العبيد إذا كان عفيفا ، فيجوز له النظر إلى بدن مولاته سوى ما بين السرة والركبة لظاهر الآية ، وقيل : المراد من الآية الصغار منهم (٣) ، وقيل : الإماء دون العبيد فحولا كانوا أو غيرهم (٤)(أَوِ التَّابِعِينَ) أي إلا للتابعين للخدمة (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) بالنصب استثناء من (التَّابِعِينَ) وهم الذين يتبعونكم لأجل طعامكم أو حال ، وبالجر (٥) صفة (التَّابِعِينَ) أو بدل منه ، والإرب والإربة الحاجة ، والمراد من (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) غير ذوي الحاجة إلى النساء بأن لا يطيق غشيانهن ولا يشتهيهن ولا يشتهينه ، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهن أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهن أو يكون

__________________

(١) أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف باختصار ، ٤ / ١٢٥.

(٢) نسائهن ، و : نسائها ، ح ي.

(٣) نقل المصنف هذا المعنى عن السمرقندي ، ٢ / ٤٣٧.

(٤) أخذ المفسر هذا المعنى عن البغوي ، ٤ / ١٩٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٢٤.

(٥) «غَيْرِ أُولِي» : قرأ الشامي وشعبة وأبو جعفر بنصب الراء ، والباقون بخفضها. البدور الزاهرة ، ٢٢٣.

١٦٦

بهم غنة (أَوِ الطِّفْلِ) أي الأطفال (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) أي لم يطلعوا (عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي لا يعرفون ما العورة كما يعرفها البالغ ، قوله (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ) نزل نهيا عن الإعلام بالخلخال إذا كانت المرأة تضرب إحدى رجليها بالأخرى (١)(لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ليعرف أنها ذات خلخالين ، قوله (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٣١] وصية لجميع المؤمنين بالتوبة ورجاء الفلاح بعدها من كل ما وقع التقصير منهم في الأمر والنهي باعتبار ضعف قدرة العبد على رعاية الأمر والنهي ، إذ لا يخلو عن تقصير ما ، قرئ بضم الهاء وفتحها (٢).

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢))

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) أي زوجوا من لا زوج له من الرجال والنساء بكرا كان أو ثيبا ، جمع أيم وأصلها أيائم فقلبت قلبا مكانيا فصار أيامى ، وهو أمر ندب لقوله عليه‌السلام : «من أحب فطرتي فليستن بسنتي» (٣) ، وهي النكاح وعنه عليه‌السلام : «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال» (٤) ، روي عن الشافعي أن التخلي للعبادة أفضل ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله النكاح أفضل (وَ) انكحوا (الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي ومن كان فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم ، وهو القيام بحقوق النكاح وإنما خص «الصالحين» بالإنكاح ليحصن دينهم به ويحفظ عليهم صلاحهم (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه ، وفيه دليل على أن للعبد ملكا ، عن النبي عليه‌السلام : «التمسوا الرزق بالنكاح» (٥)(وَاللهُ واسِعٌ) أي غني ذو سعة (عَلِيمٌ) [٣٢] يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣))

(وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي ليطلب العفة عن الزنا (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) أي قدرة النكاح أو سبب النكاح من مهر ونفقة (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي حتى يوسع عليهم من رزقه وهو وعد وترجية للمستعفين ليكون انتظاره ربطا على قلوبهم ولطفا لهم في استعفافهم إلى أن يرزقوا الوسعة فيه (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ) أي يطلبون (الْكِتابَ) أي المكاتبة (مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا درهما تؤدي ذلك في نجمين أو أكثر مؤجلا ، ولا يجيزه الشافعي رحمه‌الله حالا ولا على نجم واحد ، وجوزه أبو حنيفة رحمه‌الله حالا ومؤجلا منجما وغير منجم ، وإذا أديت إلى ذلك فأنت حر ، ويقبله العبد فاذا أداه عتق وملك كسبه ويتبعه أولاده الحاصلة في حال الكتابة في العتق وولاؤه لمولاه ، فان عجز عن الأداء فلمولاه فسخ الكتابة

__________________

(١) اختصره من البغوي ، ٤ / ١٩٥ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٢٥.

(٢) «أيه» : قرأ ابن عامر بضم الهاء وصلا وإسكانها وقفا ، ووقف الكسائي والبصريان عليها بالألف بعد الهاء ، والباقون على الهاء ، ولا خلاف في حذف الألف وصلا. البدور الزاهرة ، ٢٢٣.

(٣) انظر الكشاف ، ٤ / ١٢٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٤) انظر الكشاف ، ٤ / ١٢٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٥) انظر الكشاف ، ٤ / ١٣٦.

١٦٧

ورده إلى الرق ، قوله (فَكاتِبُوهُمْ) أمر ندب عند الأكثرين (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أي صدقا وأداء أمانة ، قوله (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أمر للمؤمنين على وجه الندب ، وقيل : على وجه الوجوب باعانة المكاتبين (١) ، وقيل : هو إيجاب على الموالي أن يحطوا لهم عن مال الكتابة ، وإن لم يفعلوا أجبروا عليه ، وهو مذهب الشافعي رحمه‌الله (٢) ، وعن علي رضي الله عنه : «يحط له الربع» (٣) ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «يرضخ له من كتابته شيئا» (٤)(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي جواريكم على الزنا (إِنْ أَرَدْنَ) أي إذا طلبن (تَحَصُّناً) أي امتناعا عن الزنا ، وإنما فسر (إِنْ) ب «إذا» لأن إكراههن على الزنا ، لا يجوز إن لم يردن التحصن ، وإنما أورد (إِنْ) موقع إذا ليؤذن أن الجواري الزانية كن يفلعن ذلك بطوع ورغبة غالبا ، وقيل : هو شرط مقحم ليحصل المبالغة في النهي عن الإكراه ، لأن الإكراه لا يتأتي إلا مع إرادة التحصن ، إذ آمر الطيعة للبغاء لا يسمى مكرها ولا آمره إكراها (٥) ، ويختار بعضهم الوقف على (الْبِغاءِ) ويبتدئ بالشرط بتقدير الجواب وهو (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) في الدين ، وقيل : الشرط يتعلق بقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى)(٦) ، واللام في (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتعلق بقوله (لا تُكْرِهُوا) ، أي لا تجبروهن على الزنا لتطلبوا أموالها بكسبهن وبيع أولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٣٣] لهن ولهم إن تابوا وأصلحوا ، قيل : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن لأن المكرهة على الزنا غير آثمة ، أجيب بأن المغفرة هنا بيان عدم الإثم لهن بالإكراه ، وأما الرجل فلا يحل له الزنا بالإكراه عليه ، لأن الفعل من جهته ولا يتأتى إلا برغبة منه فكان كالقتل بغير حق لا يبيحه الإكراه بحال (٧).

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي موضحات الحلال والحرام أو مفصلات بهما من الأحكام والحدود ، قرئ بالكسر والفتح في جميع القرآن (٨)(وَمَثَلاً) أي أنزلنا مثلا (مِنَ) أمثال (الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلِكُمْ) يعني قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم فقصة عائشة منها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [٣٤] أي وأنزلنا ما وعظ به المتقون من الآيات نحو (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ)(٩) ، وقوله (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ)(١٠) الآيتين.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥))

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي الله ناشر الحق فيهما وهو كالنور في بيانه وظهوره أو هو منورهما بنور الشمس ونور القمر أو الله هادي من فيهما بنوره (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة نور الله الحق في الإضاءة في قلب النبي أو المؤمن (كَمِشْكاةٍ) أي كصفة مشكوة ، وهي االكوة في الجدار غير النافذة (فِيها مِصْباحٌ) أي سراج ثاقب (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي في قنديل من زجاج ، لأن الضوء في الزجاج أظهر ، ثم شبهه بالكوكب في

__________________

(١) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف ، ٤ / ١٢٦.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ١٢٧.

(٣) انظر الكشاف ، ٤ / ١٢٧.

(٤) انظر الكشاف ، ٤ / ١٢٧.

(٥) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ١٢٧.

(٦) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

(٧) نقل المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ١٢٧.

(٨) «مبينات» : فتح الياء الشامي وحفص والأخوان وخلف ، وكسرها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٢٣.

(٩) النور (٢٤) ، ٢.

(١٠) النور (٢٤) ، ١٢.

١٦٨

زهرته فقال (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) بضم الدال بلا همز ومع همز ، وبكسر الدال مع همز (١) ، وهو من الكواكب الدراري وهي الكواكب المشهورة كالمشتري والزهرة والمريخ ، ونسب الكوكب إلى الدر بالضم لفرط ضيائه ، أي أبيض متلألئ ، فوزنه فعلى ، وهو مع المد والهمز من الدرء وهو الدفع ، لأن الكوكب يدفع الظلمة بضيائه ، فوزنه فعيل ، وكذلك مع كسر الدال فيهما (يُوقَدُ) أي الزجاجة أو المصباح إذا قرئ بالتاء أو الياء مخففا مجهولا ، وقرئ بفتح التاء والقاف مشددا مع ضم الدال (٢) ، أصله تتوقد معلوما بلفظ التأنيث ، أي تتوقد الزوجاجة (مِنْ شَجَرَةٍ) أي من زيت شجرة (مُبارَكَةٍ) كثيرة الخير والنفع ، لأن زيتها إدام وفاكهة ومصحة للباسور وهي الدمل في المقعد وحواليه ، قوله (زَيْتُونَةٍ) بدل من (شَجَرَةٍ) متصفة بقوله (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) لأنها بين الشجر لا يصيبها الشمس فهي ناعمة غضة أو هي في خط الاستواء بين المشرق والمغرب ، فلا يوصف بأحد منهما فلا يصل لها حر ولا برد مضرين ، قوله (يَكادُ زَيْتُها) صفة ل «زيتونة» ، أي يقرب زيتها لصفائه (يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) فكأنه لفرط ضيائه (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي نور المصباح على نور الزجاجة ، يعني هو نور متضاعف تناصر فيه المشكوة والمصباح والزجاجة والزيت ، لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع للضوء بخلاف الواسع ، لأنه ينتشر فيه والقنديل أعون على زيادة الإنارة ، وكذا الزيت بصفائه وتلألئه.

وهذا تمثيل للحق مع النبي عليه‌السلام الذي هو ضد الباطل ، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ)(٣) ، فالمشكوة صدر النبي عليه‌السلام والزجاجة قلبه والمصباح نور النبوة فيه ، ومن شجرة مباركة شجرة النبوة يكاد زيتها يضيء ، أي يكاد أمر النبي عليه‌السلام يتبين للناس أنه نبي ولو لم يتكلم بالحق كما يكاد ذلك الزيت ، يضيء ولو لم تمسسه نار أو هو تمثيل لنور المعرفة في قلب المؤمن المخلص ، فالمشكوة صدره والزجاجة قلبه والمصباح نور المعرفة والشجرة المباركة كلمة الإخلاص الثابتة فيه التي ليس بقدرية ولا جبرية ، وقيل : تمثيل للقرآن ، فالمصباح القرآن والزجاجة قلب المؤمن والمشكوة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضيء ، أي حجة القرآن تظهر وإن لم يقرأ نور على نور ، أي نور من الله على خلقه مع ما أتاهم من الدلائل قبل نزول القرآن فبذلك ازدادوا نورا (٤)(يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) أي لهذا النور الثاقب (مَنْ يَشاءُ) من عباده ، أي يوفقه لإصابة الحق بنور البصيرة (وَيَضْرِبُ اللهُ) أي يبين (الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) منة عليهم ليفهموا فيؤمنوا ، لأن المثل كالمرآة يظهر عنده الحق (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٣٥] أي لا يخفى عليه شيء ما من ضرب الأمثال وغيره.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))

(فِي بُيُوتٍ) يتعلق بمحذوف ، أي سبحوا فيها أو يتعلق ب (يُسَبِّحُ) بعده أو بما قبله من قوله (يُوقَدُ) ، أي مثل نوره كما يرى يتوقد في بيوت هي المساجد من نور القناديل أو ب (كَمِشْكاةٍ) أو ب (الْمِصْباحُ) ، أي كمشكوة في بيوت أو المصباح في بيوت (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي تعظم أو تبنى والمراد بال (أَذِنَ) الأمر (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وهو

__________________

(١) «دري» : قرأ أبو جعفر والكسائي بكسر الدال وبعد الراء ياء ساكنة مدية بعدها همزة ، وكذلك شعبة وحمزة غير أنهما يضمان الدال ، والباقون بضم الدال وبعد الراء ياء مشددة مع عدم الهمز ، ولحمزة في الوقف عليه الإبدال مع الإدغام ، وعليه السكون المحض والإشمام والروم. البدور الزاهرة ، ٢٢٤.

(٢) «يوقد» : قرأ المكي وأبو جعفر والبصريان بتاء مفتوحة وواو مفتوحة مع تشديد القاف وفتح الدال ، وقرأ نافع والشامي وحفص بياء تحتية مضمومة وواو ساكنة بعدها مع تخفيف القاف ورفع الدال ، والباقون بتاء فوقية وواو ساكنة مدية بعدها مع تخفيف القاف ورفع الدال. البدور الزاهرة ، ٢٢٤.

(٣) البقرة (٢) ، ٢٥٧.

(٤) أخذ المؤلف هذا المعنى عن البغوي ، ٤ / ٢٠٦.

١٦٩

عام في كل ذكر ، وقيل : «يتلى فيها كتابه» (١) ، وقيل : يوحد فيها ذاته تعالى (٢) ، قيل : هي المساجد كلها لقول ابن عباس رضي الله عنه : «المساجد بيوت الله في الأرض يضيء لأهل السماء كما يضيء النجوم لأهل الأرض» (٣) ، وقيل : «هي أربعة ، مكة بناها إبراهيم ، والمقدس بناه سليمان وداود ، ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما نبينا محمد عليه وعليهم الصلوة والسّلام أجمعين» (٤)(يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [٣٦] على البناء للمفعول وله القائم مقام الفاعل ، و (رِجالٌ) مرفوع بما دل عليه المجهول وهو (يُسَبِّحُ) المعلوم ، وقرئ «يسبح» معلوما (٥) و (رِجالٌ) فاعله ، و (الْآصالِ) جمع أصل وهو العشي ، أي يسبحه بالبكر والعشايا ، وقيل : التسبيح هنا الصلوات المفروضة (٦) ، فالمراد ب «الغدو» الصبح وب (الْآصالِ) الظهر والعصر والعشاءان (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) أي بيع وشراء كما هو وصف التاجر الرابح أو التجارة الشراء لقوله (وَلا بَيْعٌ) بعده ، يعني لا يشتغلون بشيء (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) حقيقة أو عن الصلوة المكتوبة (وَ) لا عن (إِقامِ الصَّلاةِ) لوقتها (وَ) لا عن (إِيتاءِ) أي إعطاء (الزَّكاةِ) لمستحقها عند وجوبها (يَخافُونَ يَوْماً) وهو يوم القيامة (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) [٣٧] أي تنتقل عن أماكنها لهول ذلك اليوم (لِيَجْزِيَهُمُ) يتعلق ب (يُسَبِّحُ) أو ب (يَخافُونَ) ، المعنى : كان تسبيحهم أو خوفهم ليثيبهم (اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي أحسن الثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على الثواب وهو العطاء الخاص لا لعمل (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) ما يتفضل به (بِغَيْرِ حِسابٍ) [٣٨] وأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) وهو ما يخيل للإنسان من بعيد أنه ماء جار (بِقِيعَةٍ) وهي المنبسطة من الأرض (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ) أي السراب (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي ماء فيزداد عطشه فكذا الكافر يحسب أن عمله ينفعه يوم البعث فيغلبه الرجاء إليه ، فاذا جاءه لم يجد ما رجاه فيزداد انقطاعه (وَوَجَدَ اللهَ) أي قدرته (عِنْدَهُ) أي عند السراب (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي جزاء كفره فيأخذه الزبانية فيلقونه في النار ، شبه الأعمال الصالحة التي يحسبها الكافر تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه بسراب يراه العاطش بالمفازة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ، فغلبه العطش ولم ينفعه سعيه إليه (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) [٣٩] أي إنه تعالى قادر إذا حاسب ، فحسابه سريع لا يحتاج إلى كتب يد ولا حفظ صدر ، قيل : إذا حاسب الخلق يوم القيامة يحاسبهم جميعا دفعة فيظن كل واحد أنه يحاسبه خاصة (٧).

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

ثم ضرب للكافر مثلا آخر بقوله (أَوْ كَظُلُماتٍ) أي أو أعمال الكفار مشبهة بأعمال أصحاب الظلمات (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ) أي عميق ، واللج معظم الماء ، والياء للنسبة (يَغْشاهُ) أي يعلو بالبحر (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) آخر يركب بعضه بعضا لكثرته (مِنْ فَوْقِهِ) أي من فوق الموج (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي هي ظلمات (٨)(بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) أي ظلمة الموج على ظلمة البحر وظلمة الموج على الموج وظلمة السحاب على الموج ، فشبهت أعمال الكفار واغترارهم بها بسراب يغتر به من طلبه ، ثم شبهت ثانيا في ظلماتها

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٧ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٢٨.

(٢) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٤١.

(٣) انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٦.

(٤) عن ابن بريدة ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧.

(٥) «يسبح» : فتح الباء الشامي وشعبة ، وكسرها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢٢٤.

(٦) ذكره أهل التفسير ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٠٧.

(٧) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٤٢.

(٨) ظلمات ، ي : الظلمات ، ح ، ـ و.

١٧٠

وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الحق بظلمات متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب ، وشبه قلب الكافر بالبحر وما يغشى قلبه من الشرك بالموج والختم على قلبه بالسحاب ، وقرئ «ظلمات» بالجر (١) بدل من (كَظُلُماتٍ) ، أو لإضافة (سَحابٌ) إليها إذا لم ينون (إِذا أَخْرَجَ) الرجل من البحر (يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فيه مبالغة حيث لم يقل لم يرها ، أي لم يقارب أن يراها فضلا عن أن يراها ، لأن «كاد» بمعنى قرب هنا ، وإذا نفي القرب كان هو لنفي الرؤية أنفى ، وقيل : «كاد» بمعنى النفي وإذا دخل عليه نفي وقع الفعل ، لأن نفي النفي إيجاب ، وإذا لم يدخل لم يقع ، وهذا هو المشهور ، فحينئذ يجوز أن يراها بعد بطؤ لشدة الظلمة (٢)(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [٤٠] أي من لم يهده الله إيمانا في الدنيا لم يهتد في الآخرة إلى الجنة ، وقيل : من لم يعطه نور توفيقه فهو في ظلمة الباطل ، هذا من باب الكناية عن الأول ، لأن إعطاء نور التوفيق من لوازم الإيمان والعمل الصالح (٣) ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة كان يطلب الدين ويتعبد ويلبس المسوح فلما جاءه الإسلام كفر (٤).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ) تسبيحا حقيقة يعلمه الله تعالى (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على (مَنْ) قوله (صَافَّاتٍ) حال من الطير ، أي باسطات أجنحتهن في الهواء يصففن بها وهو تسبيحها عند البعض (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) أي كل من المسبحين والمصلين علم عبادته ، ويجوز أن يكون الضمير في (عَلِمَ) و (صَلاتَهُ) و (تَسْبِيحَهُ) لله تعالى ، ويجوز أن يراد بالصلوة الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمه سائر مصالحه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ [٤١] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [٤٢] أي المرجع في الآخرة (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم بطريق الوحي (أَنَّ اللهَ يُزْجِي) أي يسوق (سَحاباً) أي غيما (ثُمَّ يُؤَلِّفُ) أي يضم (بَيْنَهُ) أي بين أجزاء الغيم فيصل بعضه إلى بعض (٥)(ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي متراكما بعضه فوق بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من فتوقه ومخارجه ، جمع خلل كجبال في جبل (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) «من» الأولى ابتداء والثانية تبعيض والثالثة بيان أو زائدة بمعنى ينزل البرد من السحاب من جبال فيها ، فعلى هذا مفعول «ينزل من برد» ، وعلى تقدير عدم الزيادة مفعول «ينزل من جبال» ، فيجوز أن يكون في السماء جبال برد كما في الأرض جبال حجر أو يكون الثانية زائدة والهاء في (فِيها) للأرض ، و «في» بمعنى على ، لأن الإنزال على الأرض غالبا ، فيكون تقديره : ينزل من السماء بردا كالجبال على الأرض فبذكر الجبال يريد كثرة البرد كما يقال فلان يملك جبالا من ذهب ، وقد يراد السحاب من السماء (فَيُصِيبُ بِهِ) أي فيهلك بالبرد (مَنْ يَشاءُ) من عباده إذا كان في مفازة كاهلاك ماله من الزرع وغيره (وَيَصْرِفُهُ) عمن (يَشاءُ) فلا يضره (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي ضوءه (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [٤٣] أي يختطفها من شدة نوره.

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يذهب بأحدهما ويجيء بالآخر أو ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر (إِنَ

__________________

(١) «سَحابٌ ظُلُماتٌ» : قرأ البزي بترك تنوين «سحاب مع جر «ظلمات» ، وقنبل بتنوين «سحاب» مع جر «ظلمات» كذلك ، وغيرهما بتنوين «سحاب» ورفع «ظلمات». البدور الزاهرة ، ٢٢٤.

(٢) ولم أجد له مأخذا في كتب المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٣) اختصره من الكشاف ، ٤ / ١٣٠.

(٤) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٢١٠.

(٥) بعض ، و : بعضه ، ح ي.

١٧١

فِي ذلِكَ) أي في التقليب (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [٤٤] أي لأصحاب العقول.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) وقرئ «خالق كل دابة» بالإضافة (١) ، أي الله خلق كل ذي روح سوى الملك والجن (مِنْ ماءٍ) مختص بها وهو النطفة وهي تعم العقلاء وغيرهم ، لكنه غلب العقلاء فكأن الدواب كلهم مميزون ، فلذلك جاء ب (مِنْ) للعقلاء في قوله (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات ويسمى الزحف على البطن مشيا للاتساع ، لأنه يقوم مقام المشي أو للمشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) كالأناسي والطير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالبهائم ولم يذكر الماشي على أكثر منها ، لأنه كالماشي على أربع في رأي العين أو هو يمشي على أربع منها في الحقيقة ، وقدم من هذه الأجناس الثلاثة ما هو أعرف في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي ، ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع ، وفي خلقه من الماء تعجيب للناس وإظهار لقدرته بالباهرة ليعرفوه ويوحدوه ، لأن الخلق من الماء أعجب من كل فعل بينهم لشدة طوعه للفاعل ، ثم قال (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) من ألوان الخلق (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٤٥] فهو المستحق للعبادة والإطاعة له.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي يبين للناس دينهم (وَاللهُ يَهْدِي) أي يرشد (مَنْ يَشاءُ) أي من كان أهلا لدينه (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٤٦] أي إلى دين الإسلام.

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

قوله (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) أمر الرسول (ثُمَّ يَتَوَلَّى) أي يعرض عن طاعتهما (فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد قولهم آمنا بالله وبالرسول ، نزل في بشر المنافق ويهودي كان بينهما حكومة في أرض ، فطلب بشر الحكومة إلى كعب ابن الأشرف وطلب اليهودي إلى النبي عليه‌السلام ، فقال بشر : أن محمدا يحيف علينا (٢)(وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) [٤٧] حقيقة بدليل الإعراض عن حكمه.

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨))

(وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إلى حكمهما (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) بالقرآن (إِذا فَرِيقٌ) أي طائفة (مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) [٤٨] عن الاتيان خوفا أن يحكم عليهم.

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩))

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ) أي إن يعلموا أن الحكم لهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [٤٩] أي منقادين بسرعة ، والإذعان الإسراع بالطاعة.

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))

(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي كفر (أَمِ ارْتابُوا) أي شكوا في نبوته ، يعني هم كذلك فالاستفهام للتقرير (أَمْ يَخافُونَ) أي بل يخافون (أَنْ يَحِيفَ) أي يجور (اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في الحكم ، ثم أبطل ذلك بقوله (بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [٥٠] باعراضهم عن الحق وطلبهم ما ليس لهم لا النبي عليه‌السلام.

__________________

(١) «خَلَقَ كُلَّ» : قرأ الأخوان وخلف «خالق» بألف بعد الخاء وكسر اللام ورفع القاف وخفض لام «كل» ، والباقون «خلق» بترك الألف وفتح اللام والقاف ونصب لام «كل». البدور الزاهرة ، ٢٢٤.

(٢) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٤٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢١٣.

١٧٢

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١))

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) بنصب (قَوْلَ) خبر (كانَ (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) واسمها (أَنْ يَقُولُوا) وقرئ برفع «قول» اسم (كانَ) و (أَنْ يَقُولُوا) خبرها (١) ، أي إنما كان قولهم وقت دعائهم إلى الله ورسوله أن يقولوا (سَمِعْنا) قولك (وَأَطَعْنا) أمرك (وَأُولئِكَ) أي القائلون هذا القول (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٥١].

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

قوله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) بكسر الهاء وسكون القاف تخفيف تشبيها لتقه بكتف ، وبكسر القاف والهاء مع وصل يائها وبغير وصلها بسكون الهاء شرط (٢) ، أي ومن يطع الله في فرائضه ورسوله في سننه ويخش الله على ما اقترف من الذنوب ويتقه فيما يستقبل جزاؤه (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [٥٢] أي الذين فازوا بالجنة لجمعهم أسباب الفوز.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣))

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) نصب على الحال ، أي جاهدين أيمانهم وهو أن يقسم الرجل بالله ، قال ابن عباس رضه الله عنه : «من قال أقسم بالله فقد جهد يمينه» (٣) ، المعنى : أقسم اليهود بالله (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يا محمد بالخروج إلى الغزو أو من أموالهم (لَيَخْرُجُنَّ) فلم يصدقوا فأنت (قُلْ) لهم (لا تُقْسِمُوا) بالله بأفواهكم وقلوبكم على خلافها (٤) ما أمرتم به (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) شرعا بنية خالصة أو طاعة معروفة بنية خالصة خير لكم من قسمكم باللسان لعدم صدقكم في القسم ، ف (طاعَةٌ) خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ) أي عالم بما في ضمائركم و (بِما تَعْمَلُونَ) [٥٣] في الظاهر فيجازيكم به.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) في الفرائض (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في السنن ، ثم قال تعالى (٥)(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تتولوا خطاب ملتفت من الغيبة لقصد المبالغة في التبكيت على معنى فان تعرضوا عن طاعة الرسول فما ضررتموه بل ضررتم أنفسكم (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) أي ما كلفه الله من أداء الرسالة وقد أداه (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) أي ما كلفكم من الطاعة والقبول (وَإِنْ تُطِيعُوهُ) أي الرسول (تَهْتَدُوا) أي تحرزوا نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهداية ، وإن لم تطيعوه فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه ، فالنفع والضر لكم (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [٥٤] أي التبليغ الظاهر بالحجة ، ووصفه ب (الْمُبِينُ) لكونه مقرونا بالآيات والمعجزات.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي

__________________

(١) أخذ المؤلف هذه القراءة عن الكشاف ، ٤ / ١٣٢.

(٢) «وَيَتَّقْهِ» : قرأ قالون ويعقوب بكسر القاف والهاء من غير إشباع ، ولهشام وجهان : أحدهما كقالون والثاني بكسر القاف والهاء مع الإشباع ، وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع ، وأبو عمرو وشعبة وابن وردان بكسر القاف وإسكان الهاء ، وورش والمكي وابن ذكوان وخلف عن حمزة وفي اختياره والكسائي بكسر القاف والهاء مع الإشباع ، ولخلاد وجهان : أحدهما كشعبة والثاني كورش ، وأما ابن جماز فليس له من طريق التحبير إلا الإشباع. البدور الزاهرة ، ٢٢٤.

(٣) انظر الكشاف ، ٤ / ١٣٢.

(٤) خلافها ، ح و : خلافه ، ي.

(٥) ثم قال تعالى ، ح ي : ـ و.

١٧٣

شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥))

قوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) نزل حين اشتد خوف الصحابة واستبطؤا النصر (١) ، فخاطب الرسول عليه‌السلام و (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) للبيان تسلية لهم كأنه قال وعدهم الله وأقسم (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي أرض مكة بأن يجعلهم خلفاء يسكنون فيها بعدهم بنصر الإسلام على الشرك وتورثهم أرضهم وهم الخلفاء الراشدون (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) معلوما ، أي الله تعالى استخلف داود وسليمان بني إسرائيل في أرض الجبارين بعد إهلاكهم ، وقرئ مجهولا (٢)(وَلَيُمَكِّنَنَّ) أي وليظهرن (لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو دين الإسلام بأن يظهره على جميع الأديان ، وتمكينه تثبيته (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ) الذي كانوا عليه (أَمْناً) في نفوسهم ، قوله (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من ضمير الفاعل في (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) ، فأظهر الله تعالى دينهم ونصرهم وبدل لهم من بعد خوفهم أمنا ، قيل : مكث الرسول عليه‌السلام وأصحابه رضي الله عنهم بمكة عشر سنين خائفين ولما هاجروا إلى المدينة يصبحون ويمسون في السلاح حتى قال رجل منهم ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تغبرون إلا زمانا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة» (٣) ، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب كلها (٤)(وَمَنْ كَفَرَ) أي كفران النعمة (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الأمن والتمكين (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [٥٥] أي الكاملون في الفسق.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦))

قوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [٥٦] عطف على قوله (وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) قبل وكررت طاعة الرسول تأكيدا لوجوبها.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

قوله (لا تَحْسَبَنَّ) بالتاء خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبالياء (٥) والفاعل ضميره أو (الَّذِينَ كَفَرُوا) والمفعول الأول محذوف ، أي أنفسهم والثاني (مُعْجِزِينَ) أي لا يحسبن الكافرون أنفسهم فائتين الله (فِي الْأَرْضِ) بأن لا يقدر عليهم فيها (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) لا محالة ، والمراد منهم هم المقسمون جهد أيمانهم (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [٥٧] أي بئس المرجع النار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨))

قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) نزل حين أرسل الرسول عليه‌السلام مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا وقت الظهر إلى عمر رضي الله عنه ليدعوه ، فدخل عليه وهو نائم ، وقد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر رضي الله عنه لوددت أن الله ينهى أباءنا وأبناءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا هذه الساعات ،

__________________

(١) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٢١٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٣٣.

(٢) «استخلف» : قرأ شعبة بضم التاء وكسر اللام ويبتدئ بهمزة الوصل مضمومة ، والباقون بفتح التاء واللام والابتداء بهمزة مكسورة. البدور الزاهرة ، ٢٢٥.

(٣) انظر الكشاف ، ٤ / ١٣٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٤) نقله المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٣٣.

(٥) «لا تَحْسَبَنَّ» : قرأ ابن عامر وحمزة بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب وفتح السين الشامي وعاصم وحمزة وأبو جعفر وكسرها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٢٥.

١٧٤

ثم انطلق معه إلى النبي عليه‌السلام فوجده (١) ، وقد أنزلت عليه هذه الآية ، فأمر بأن يستأذن العبيد والإماء (وَ) الأطفال (الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) من الأحرار في الدخول عليهم (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي في ثلاثة أوقات في اليوم والليلة ، قوله (مِنْ قَبْلِ) بيان ل (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أو بدل منه ، أي ليستأذنوا قبل (صَلاةِ الْفَجْرِ) لأنه وقت القيام من المضاجع (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) أي وقت الظهر للقيلولة (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) لأن وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم ، فالاستئذان مشروع لهؤلاء في هذه الأوقات الثلاث ولغيرهم في جميع الأوقات (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) بالنصب بدل من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) ، أي أوقات ثلاث عورات ، وبالرفع (٢) ، أي هذه أوقات ثلاث عورات ، والعورة الخلل ، ويسمى هذه الأوقات بها ، لأنه يختل تستر الناس وتحفظهم فيها (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ) محله رفع إذا رفع (ثَلاثُ عَوْراتٍ) صفة له ، وإذا نصب فلا محل له ، بل هو كلام مقرر للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة (بَعْدَهُنَّ) أي بعد هذه الأوقات ، يعني بعد الاستئذان فيها ، أي لا إثم عليكم ولا على المذكورين في الدخول بغير استئذان ، ثم عذرهم في ترك الاستئذان عدا هذه الأوقات ، فقال هم (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) للخدمة وهو وجه العذر ، يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المداخلة بينكم لأنكم تطوفون عليهم للاستخدام وهم عليكم للخدمة ، فلو أوجب الاستئذان في كل وقت لأدى إلى الحرج ، قوله (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ، أي بعضكم طائفة على بعض ، دل عليه السياق ، وهذه الجملة مؤكدة مبينة لما قبلها ، قيل : هذه الآية منسوخة (٣) ، وقيل : محكمة (٤) حتى أوجب الاستئذان على الأم والأخت (كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي أحكام القرآن (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [٥٨] أي يعلم بصلاح الناس ويحكم بالاستئذان ليدخل بعضهم على بعض بغير إذن.

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩))

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي الاحتلام ، والمراد الأحرار من الغلمان (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم من بلغ قبلهم من الأحرار ، أي كالرجال واعتبار البلوغ بالسن بثماني عشرة سنة للغلام ، وسبع عشرة سنة للجارية عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، وبخمس عشرة سنة فيهما عند الأكثرين (٥)(كَذلِكَ) أي كهذا البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي أحكامه من الأمر والنهي (وَاللهُ عَلِيمٌ) بصلاح الخلق (حَكِيمٌ) [٥٩] يحكم بالاستئذان وعدمه بالحكمة.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

قوله (وَالْقَواعِدُ) مبتدأ ، جمع القاعد بلا هاء ، و (مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) بيان للقاعد ، وهي التي قعدت ، أي آيست عن الحيض والولد لكبر السن ، وخبر المبتدأ (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ) أي بوضعهن (ثِيابَهُنَّ) من الجلباب والإزار فوق الثياب والقناع فوق الخمار ، ودخل الفاء في (فَلَيْسَ) لكون الألف واللام في (الْقَواعِدُ) بمعنى «التي» ، وفيه معنى الشرط (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) نصب على الحال من فاعل (يَضَعْنَ) ، أي غير مظهرات زينة خفية كالسوار والخلخال والقلادة ، لكن لطلب التخفيف جاز الوضع لهن ، قوله (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) مبتدأ وخبر ، أي طلبهن العفة عن التبرج ووضع الثياب خير لهن من تركه (وَاللهُ

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٤٨ ؛ والواحدي ، ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) ثَلاثُ عَوْراتٍ» : قرأ شعبة والأخوان وخلف بنصب الثاء وغيرهم بالرفع. البدور الزاهرة ، ٢٢٥.

(٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢١٨ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٩٧ ـ ١٩٩ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٧٠.

(٤) وهذا قول الشعبي وسعيد بن جبير ، انظر البغوي ، ٤ / ٢١٨.

(٥) الأكثرين ، ح ي : الأكثر ، و.

١٧٥

سَمِيعٌ) لما تقول (١) العجائز إذا وضعن جلبابهن وتطهرن زينتهن من قول من يرغب فينا (عَلِيمٌ) [٦٠] بنياتهن وأفعالهن.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) نزل حين طلب ذوو العاهات الجهاد أو كرهوا مواكلة الأصحاء لئلا ينغصوا عليهم طعامهم أو كان الأصحاء يذهبون إلى الجهاد ويتركون مفاتحهم عند ذوي العاهات مع الإذن لهم في الأكل من بيوتهم فيتحرجون (٢) ، فقال تعالى : ليس على الأعمى حرج (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) أي بيوت أولادكم لقوله عليه‌السلام : «أنت ومالك لأبيك» (٣) أو بيوت الزوجات ، لأنها كبيوتهم (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) أي لا بأس لكم أن تأكلوا من بيوت هؤلاء بغير إذنهم (أَوْ) من بيوت (ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي خزائنه التي في أيديكم وحفظكم ، فالمراد من (آبائِكَ)(٤) قيم الرجل أو وكيله الذي يحفظ أمواله ، فله أن يأكل من زرعه وضرعه إن احتاج ولا يدخر ، أو المراد من (ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) العبيد ، لأن السيد يملك بيوت عبيده (أَوْ) من بيوت (صَدِيقِكُمْ) وهو من صدقكم في مودته ، فان الأكل من بيته وماله من غير إذنه جائز عند الحسن وقتادة رضي الله عنهما إذا كان بينهما انبساط كما بين الأب والابن والأخوين (٥) ، والصديق يستعمل للواحد والجمع كالعدو والخليط ، قوله (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) نزل في بني ليث بن عمرو بن كنانة وكل من تحرج عن الأكل وحده (٦) ، أي ليس عليكم إثم في الأكل مجتمعين أو متفرقين بعد قوله عليه‌السلام : «شر الناس من أكل وحده» (٧) ، وكان الرجل قعد ينتظر نهاره إلى الليل ، فان لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً) من هذه البيوت للأكل وغيره (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي فابدءوا بالسلام على من فيها من دينكم ، وقيل : المراد بيوتكم حقيقة (٨) ، فقيل : «إذا دخلت على أهلك وعيالك فسلم عليهم ، فهم أحق بذلك وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه أو المسجد فقل السّلام علينا من ربنا وعلى عباد الله الصالحين» (٩) أو المراد المساجد من البيوت ، قوله (تَحِيَّةً) مصدر (فَسَلِّمُوا) من غير لفظه ، أي تحية مشروعة (مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً) كثيرة الخير (طَيِّبَةً) أي ذات رزق حلال ، وإنما وصفت بهما لأن التحية دعاء مؤمن لمؤمن يرجا بها من الله زيادة الخير والطيب لما فيها من الأجر والثواب ، روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «كنت قائما عند النبي عليه‌السلام أصب الماء على يديه فرفع رأسه ، فقال : ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها ، فقلت : بلى بأبي وأمي يا رسول الله ، قال : متى لقيت من أمتي أحدا فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير

__________________

(١) تقول ، و : يقول ، ح ي.

(٢) اختصر المؤلف هذه الأقوال من البغوي ، ٤ / ٢٢٠ ، ٢٢١ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٣٦ ؛ والواحدي ، ٢٧٦ ـ ٢٧٧.

(٣) رواه ابن ماجة ، التجارات ، ٦٤.

(٤) آبائك ، و : المالك ، ح ي.

(٥) انظر البغوي ، ٤ / ٢٢٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٥٠.

(٦) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢٢٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٣٦.

(٧) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٨) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٢٢٢.

(٩) ذكر قتادة نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٢٢.

١٧٦

بيتك ، وصل صلوة الضحى ، فانها صلوة الأوابين» (١)(كَذلِكَ) أي مثل هذا البيان (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي آيات الأمر والنهي في الطعام والشراب وغيرهما (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [٦١] أي تفهمونها وتعملون (٢) بها.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢))

قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) نزل حين جمع النبي عليه‌السلام المسلمين يوم الجمعة ليستشيرهم في أمر الغزو ، وكان يثقل المقام على البعض عنده فيخرج بغير إذنه ، فجعل الله عدم الخروج من عنده بغير إذنه ثالث الإيمان بالله وبرسوله تغليظا عليهم واستعظاما لجنايتهم لئلا يخالفوا أمره (٣) ، فقال إنما المصدقون حقيقة هم الذين صدقوا بالله في أمره وبرسوله في سنته (وَإِذا كانُوا مَعَهُ) أي مع النبي عليه‌السلام (عَلى أَمْرٍ جامِعٍ) أي على أمر جمعهم له وعليه كغزو وصلوة أو خطب جليل ، لا بد لرسول الله فيه من اجتماع ذوي الآراء والقوى (لَمْ يَذْهَبُوا) أي لم يتفرقوا عنه عليه‌السلام (حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) في الانصراف ، وقيل : قوله (وَإِذا كانُوا مَعَهُ) تأكيد لحصر الإيمان بالله ورسوله ، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) زيادة تأكيد وتشديد ، حيث أعاده على أسلوب آخر وجعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين وعرض بحال المنافقين وتسللهم لواذا (٤) ، وقيل : نزلت هذه الآية في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن (٥) ، فيها بيان حفظ الأدب بأن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور الإسلام لا يرجعوا عنه إلا باذنه ، قوله (أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) خبر (إِنَّ (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ) في الانصراف (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) أي لبعض حوائجهم (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) لا اعتراض عليك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) إن خرجوا باذنك لخروجهم عنك (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٦٢] لمن تاب وأطاع ولا تأذن لمن شئت منهم إذا لم يكن لهم حاجة في الانصراف كالمنافقين.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣))

قوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) بيان توقير النبي عليه‌السلام وتعظيمه ، لأنه كان معلم الخير (٦) ، ففيه إيذان لمعرفة (٧) حق كل معلم العلم والخير ، أي لا تجعلوا أيها المؤمنون دعاءه إياهم إلى الإيمان (كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) لا تلتفتون إليه (٨) ، بل آمنوا مسرعين أو دعاءه لأمر مهم عنده كذلك ، فأجيبوه بالتفخيم والتعظيم ولا تتفرقوا إلا باذنه أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعائكم على إخوانكم بل احذروه ، فانه مستجاب الدعوة أو لا تجعلوا نداءه بينكم ، وتسميته كما يسمي بعضكم بعضا باسمه الذي سماه أبواه ، فلا تقولوا يا محمد ولكن يا نبي الله يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والصوت المخفوض والتواضع (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ) أي يخرجون بخفية قليلا قليلا ، قوله (لِواذاً) نصب على الحال وهو أن يستتر الشخص بغيره أي ملاوذين ، و (قَدْ) فيه للتحقيق وتأكيد علمه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ) أي يميلون معرضين (عَنْ أَمْرِهِ) أي عن أمر الله تعالى أو أمر محمد عليه‌السلام ، وقيل : «عن» زائدة (٩) ، قوله (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) مفعول «يحذر» ، والفتنة المحنة

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٤ / ١٣٦. ولم أجد له مأخذا في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٢) وتعملون ، وي : وتعلمون ، ح.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٥١ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٣٧.

(٤) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ١٣٧.

(٥) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٤٥١.

(٦) معلم الخير ، ح ي : منهم أخير ، و.

(٧) لمعرفة ، ح ي : بمعرفة ، و.

(٨) تلتفتون ، ح : يلتفتون ، وي.

(٩) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٥١.

١٧٧

في الدنيا (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [٦٣] في الآخرة ، وقيل : ال (فِتْنَةٌ) القتل (١) أو زلازل أو مصائب (٢).

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي جميعه له يختص به خلقا وملكا وعلما فلا يخفى عليه حال من ينافق رسوله وإن اجتهد في الستر (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من أحوال الإيمان والنفاق والأعمال من الخير والشر ، و (قَدْ) فيه كما مر ، وقيل : للتكثير في الموضعين (٣) ، والخطاب في قوله (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) عام (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) للمنافقين ، وقيل : يجوز أن يكونا جميعا للمنافقين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة (٤) ، والعامل فيه (فَيُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم يوم يرجعون إلى الله في الآخرة (بِما عَمِلُوا) أي بما أبطنوا من سوء أعمالهم ويجازيهم حق جزائهم (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٦٤] أي علمه محيط بجميع الأشياء ، فكيف يخفى عليه أحوال الناس وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها.

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٤ / ١٣٧.

(٢) ذكر عطاء نحوه ، انظر الكشاف ، ٤ / ١٣٧.

(٣) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٤ / ١٣٨.

(٤) أخذ المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ١٣٨.

١٧٨

سورة الفرقان

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١))

(تَبارَكَ) أي تزايد خيره أو تعظم وتقدس في صفاته وأفعاله (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أي القرآن بجرائيل ، مصدر ، فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما ، والقرآن يفصل بين الحق والباطل (عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَكُونَ) الله أو عبده (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [١] أي منذرا ، يعني مخوفا للعالمين من الإنس والجن في زمانهم.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢))

قوله (الَّذِي) بدل من (الَّذِي) قبل ولم يمنعه الفصل لكون (لِيَكُونَ) تعليلا لصلة الموصول المبدل منه فيكون من تمامها (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لله جزائنهما ونفاذ الأمر فيهما (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) ليرث ملكه ، لأنه حي لا يموت (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) لينازعه فيه (وَخَلَقَ) أي أحدث (كُلَّ شَيْءٍ) ينبغي أن يوحد (فَقَدَّرَهُ) أي فسواه وهيأه لما يصلح له في بابي الدين والدنيا (تَقْدِيراً) [٢] أي تسوية محكمة للبقاء إلى أمد معلوم مقسوم عنده تعالى.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

ثم أخبر أن الذين خلقهم لعابدته آثروا عبادة غيره على عبادته بقوله (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) تعالى (آلِهَةً) يعبدونهم من الأصنام وغيرها كعيسى (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء لأنهم عجزة (وَلا يَمْلِكُونَ) أي لا يستطيعون (لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا) أي دفع ضر منها (وَلا نَفْعاً) أي جلب نفع إليها (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [٣] أي لا يقدرون على إمامة أحد ولا على إحيائه ولا على بعث الأموات ، لأنهم أعجز فكيف يعبدونهم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي كفار مكة (إِنْ هَذا) أي ما القرآن (إِلَّا إِفْكٌ) أي كذب (افْتَراهُ) محمد (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ) أي على اختلاقه (قَوْمٌ آخَرُونَ) أي اليهود ، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى وجبر ويسار وهم كانوا بمكة (١)(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً) أي كفرا (وَزُوراً) [٤] أي كذبا بينا لنسبتهم القرآن إلى غير قائله.

__________________

(١) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ١٤٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٢٥.

١٧٩

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥))

(وَقالُوا) أي المشركون القرآن (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي ما سطره المتقدمون من نحو أحاديث رستم وإسفنديار ، جمع أسطورة كأحدوثة (اكْتَتَبَها) أي انتسخها محمد من جبر وأصحابه وأخذها لنفسه ، وهو حال ب «قد» مقدرة ، أي أساطير مكتتبة ، قيل : أصل النظم أن يقال أمليت عليه فهو يكتبها ، أجيب بأن المعنى أنه طلب من يكتبها له (١) ، لأنه لم يكن يحسن الكتابة (فَهِيَ تُمْلى) أي تقرأ (عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [٥] أي غدوة وعشيا ، يعني دائما.

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

(قُلْ) يا محمد (أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي كل سر خفي (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلو تقوله عليه لعلمه فيعاقبه بأشد العقاب ومن جملته ما تسرون من الكيد لرسوله مع أن قولكم باطل وزور في حقه ، فيجازيكم عليه (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [٦] يمهل ولا يعاجل مع استحقاقكم أن يصب عليكم العذاب صبا ، وقيل : معناه ارجعوا عن القول بالباطل وتوبوا فانه يعلم السر ويغفر لمن تاب ويرجم لمن أطاع ويقدر على العقوبة ، إذ لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر عليها (٢).

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧))

(وَقالُوا) أي الكافرون سخرية (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) مثلنا لطلب المعاش والرسالة تنافيه ، فالاستفهام بمعنى الإنكار يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، وهو جهل ، أما أكله الطعام فلأنه بشر وأما مشيه في الأسواق فلقضاء حاجته تواضعا ، وهما لا ينافيان الرسالة ، ثم نزلوا عن اقتراحهم كونه ملكا إلى كونه إنسانا معه ملك فقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [٧] يصدقه بنصب (فَيَكُونَ) جواب حرف التحضيض وهو (لَوْ لا) بمعنى هلا.

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ) بالرفع عطف على (أُنْزِلَ) ، أي لو لا يلقى عليه (كَنْزٌ) لينفقه في مصالحه (أَوْ) لو لا (تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) أي بستان (يَأْكُلُ مِنْها) بالتاء والنون (٣) ، المعنى : أنه ليس ملكا ولا ملكا ولا غنيا نتبعه فهو دوننا فكيف نتبعه (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي المشركون (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تطيعون يا أصحاب محمد (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [٨] أي مغلوب العقل أو ذا سحر وهي (٤) الرئة أو مخدوعا ، فقال تعالى يا محمد (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا فيك تلك الأقوال والصفات النادرة كالأمثال (فَضَلُّوا) أي بقوا متحيرين ضلالا عن الهدى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [٩] إليه.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

(تَبارَكَ) أي تكاثر خير (الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ) أي وهب لك في الدنيا (خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي مما قالوا وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة من (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) [١٠] في الدنيا أو في الآخرة ، بالجزم عطف على جواب الشرط ، وبالرفع عطف على «جعل» (٥) ، لأن الشرط ماض فجاز الوجهان في جزائه الجزم والرفع ، عن النبي عليه‌السلام : «عرض لي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا ،

__________________

(١) هذا المعنى مأخوذ عن الكشاف باختصار ، ٤ / ١٤٠.

(٢) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٥٣ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٤٠.

(٣) «يأكل» قرأ الأخوان وخلف بالنون ، والباقون بالياء. البدور الزاهرة ، ٢٢٦.

(٤) وهي ، وي : وهو ، ح.

(٥) «وَيَجْعَلْ» : قرأ المكي والشامي وشعبة برفع اللام ، والباقون بجزمها. البدور الزاهرة ، ٢٢٦.

١٨٠