عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

العدم ، فانه لا يمتنع علينا جعل الروح فيها وأحياؤها ، وقيل : «المراد من الخلق الآخر الموت ، إذ ليس في نفس آدم شيء أكبر من الموت» (١) ، يعني لو كنتم حجارة يابسة أو حديدا صلبا أو موتا بعينه لأبعثنكم بايجاد الروح فيكم لا نعجز عنه (فَسَيَقُولُونَ) استبعادا (مَنْ يُعِيدُنا) أي من يبعثنا من بعد الموت (قُلِ) لهم يعيدكم (الَّذِي فَطَرَكُمْ) أي أنشأكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) لأن القادر على الإنشاء قادر على الإنشاء قادر على الإعادة (فَسَيُنْغِضُونَ) أي يحركون (إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بها (٢) أو متعجبين من قولك (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) أي البعث أو العذاب يوم القيامة (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ) البعث أو العذاب (قَرِيباً) [٥١] أي هو قريب بارادته ، و (عَسى) من الله للوجوب.

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

ثم قالوا يا محمد متى هذا القريب فنزل (٣)(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) أي يعيدكم يوم ينفخ إسرافيل في الصور لدعوتكم من قبوركم بالنفخة الأخيرة فتقومون (٤) للحساب (فَتَسْتَجِيبُونَ) أي فتجيبون (بِحَمْدِهِ) يعني تقصدون (٥) نحو الداعي بأمر الله تعالى أو تقرون بأنه خالقكم وباعثكم وتحمدونه حين لا ينفعكم الحمد أو الخطاب للمؤمنين ، فانهم يبعثون حامدين ، والأول أظهر (وَتَظُنُّونَ) أي تتيقنون (إِنْ لَبِثْتُمْ) في الدنيا أو في القبور (إِلَّا قَلِيلاً) [٥٢] أي يسيرا ، قيل : «يرفع العذاب عنهم فيما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة فينسون العذاب ، فيظنون أنهم لم يلبثوا إلا يسيرا» (٦) ، وهذا يدفع قول من قال إذا وضع الميت في قبره لا يعذب إلى البعث فيظن أنه مكث في القبر قليلا ، وقيل : «يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة» (٧).

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣))

قوله (وَقُلْ لِعِبادِي) المؤمنين (يَقُولُوا) الخصلة (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) للمشركين ولا يكافئوهم بسفههم ، نزل حين كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٨) ، فأمر الله أن يجيبهم بجواب حسن لين لا خشن ، قيل : هو رد السّلام بلا فحش سلام متاركة (٩) ، وقيل : هو كلمة الإخلاص ، يعني لا إله إلا الله (١٠) ، وقيل : «يهديكم الله» (١١) ، فنسخ بآية السيف (١٢)(إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ) أي يفسد (بَيْنَهُمْ) بالقاء العداوة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) [٥٣] أي ظاهر العداوة ، فاتخذوه عدوا.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤))

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) أي بأحوالكم يا كفار مكة (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) أي يوفقكم بالتوبة عليكم فتؤمنوا (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) أي يمتكم بالكفر فتعذبوا ، وقيل : هو خطاب للمسلمين (١٣) ، أي إن يشأ يرحمكم فينجكم (١٤) من أهل مكة إذا صبرتم وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم إن لم تصبروا (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) [٥٤] أي موكولا إليك أمرهم فتجبرهم على الإسلام فدارهم إلى الإذن بالقتال.

__________________

(١) عن مجاهد وعكرمة وأكثر المفسرين ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠١.

(٢) بها ، ب م : ـ س.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧٢.

(٤) فتقومون ، ب س : فيقومون ، م.

(٥) تقصدون ، ب س : نقصدون ، م.

(٦) عن الكلبي (وروي أيضا عن ابن عباس) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٧٢.

(٧) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠١.

(٨) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٧٢ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٤٣ (عن الكلبي) والبغوي ، ٣ / ٥٠٢ (عن الكلبي).

(٩) نقله المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧٢.

(١٠) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥٠٢.

(١١) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٢.

(١٢) هذا الرأي مأخوذ عن البغوي ، ٣ / ٥٠٢.

(١٣) وهذا الرأي منقول عن القرطبي ، ١٠ / ٢٧٨.

(١٤) فينجكم ، ب س : فينجيكم ، م.

٢١

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي عالم بحالهم ، لأنه خلقهم مختلفين في صورهم وأخلاقهم ومللهم فيعلم من هو أهل للرسالة والإيمان ، ويعلم من لا يصلح لذلك ، وهو رد على أهل مكة في إنكارهم واستبعادهم أن يكون يتيم من قريش نبيا وبلال وصهيب وخباب وغيرهم من الفقراء رضي الله عنهم مؤمنين (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) ففضل إبراهيم عليه‌السلام بالخلة وموسى عليه‌السلام بالكلام وإدريس عليه‌السلام برفعه حيا إلى الجنة ومحمدا عليه‌السلام بجسمه بالمعراج (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) [٥٥] بفتح الزاء وضمها (١) ، اسم كتاب علمه الله داود ، يستعمل باللام وغيره كالفضل اسم رجل ، وهو مشتمل على مائة وخمسين سورة ، كلها دعاء وتحميد وتمجيد وثناء على الله تعالى ليس فيها حلال وحرام ولا فرائض وحدود ، المعنى : أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين ولا تنكروا (٢) زبور داود الذي فيه ذكر أن محمدا خاتم الأنبياء ، وأن أمته خير (٣) الأمم ، فكيف تنكرون فضل محمد عليه‌السلام وإعطاءه القرآن ، وهذا خطاب لمن يقر بتفضيل (٤) الأنبياء عليهم‌السلام من أهل الكتاب وغيرهم.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦))

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) نزل حين أصاب المشركين قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف ، واستغاثوا بالنبي عليه‌السلام ليدعو لهم بالكشف (٥) ، فقال تعالى للمشركين ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله وتعبدونهم مع عجزهم (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ) أي لا يقدرون صرف السوء (عَنْكُمْ) من البلايا والأمراض إذا نزل بكم (وَلا تَحْوِيلاً) [٥٦] أي ولا تبديل الحال من العسر إلى اليسر.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) بالياء والتاء (٦) ، مبتدأ بصفته ، أي هؤلاء الذين تعبدونهم وتزعمون أنهم آلهة كالملائكة وعيسى وعزير والشمس والقمر والنجوم ، والخبر (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون (إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) إلى القرية بالتضرع إليه في طلبها ، وقيل : هي الدرجة العليا (٧) ، وقيل : كل ما يتقرب بسببه إلى الله عزوجل (٨) ، وهو الأعمال الصالحة مع الإيمان ، و «أي» في (أَيُّهُمْ) بدل من واو (يَبْتَغُونَ) ، وهو اسم موصول ، والجملة بعده صلته ، أي يبتغي من هو أقرب ، فكيف بالأبعد أو الوسيلة المقربون عند الله ، ف «أي» اسم استفهام ، مبتدأ ، خبره (أَقْرَبُ) والجملة نصب ب (يَبْتَغُونَ) بتضمين (٩) الصلة ، فمعناه ينظرون أو يخرصون أيهم من هولاء المقربين أقرب إلى الله بالكرامة فيتوسلون به (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) أي جنته (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أي ناره كما يخاف ويرجو غيرهم من العباد فكيف يزعمون أنهم الهة (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [٥٧] أي يطلب منه الحذر ، وقيل : سبب نزول الآية أن نفرا من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن ، فأسلم الجنيون على يد النبي عليه‌السلام ، ولم يعلم الإنس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله بتنزيل هذه الآية (١٠).

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ

__________________

(١) «زبورا» : ضم الزاي حمزة وخلف وفتحها الباقون. البدور الزاهرة ، ١٨٦.

(٢) ولا تنكروا ، س م : ولا تنكرون ، ب.

(٣) خير ، ب م : خاتم ، س.

(٤) بتفضيل ، س : تفضيل ، م ، تفضل ، ب.

(٥) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٠٣.

(٦) أخذ المؤلف هذه القراءة عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٠٣ ـ ٥٠٤. وهذه القراءة ـ على ما روي ـ لابن مسعود.

(٧) اختصره من البغوي ، ٣ / ٥٠٣.

(٨) نقله عن البغوي ، ٣ / ٥٠٣.

(٩) بتضمين ، م : بتضمير ، ب س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٨٣.

(١٠) عن عبد الله بن مسعود ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٣.

٢٢

مَسْطُوراً (٥٨))

ثم أخبر تعالى أن سبب هلاك كل قرية ذنوب سكانها تهديدا لكفار مكة فقال (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي ليس قرية من القرى (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) أي مهلكو أهلها بالموت والاستئصال (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ) نحن (مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) بأنواع العذاب من السيف والزلزلة والغرق وغير ذلك إذا كفروا أو عصوا ، وقيل : «مهلكوها في حق المؤمنين بالإماتة» (١) ، وقوله (أَوْ مُعَذِّبُوها) في حق الكافرين بالقتل وأنواع العذاب ، قال عليه‌السلام : «هل تدرون ما يخرب القرى؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال عليه‌السلام : أعمال السوء فاجتنبوها» (٢)(كانَ ذلِكَ) أي الإهلاك والتعذيب قبل البعث (فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) [٥٨] أي مكتوبا في اللوح المحفوظ ، قال عليه‌السلام : «أول ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب! فقال : ما أكتب؟ قال : القدر وما هو كائن إلى الأبد» (٣) ، قيل : «أول أرض تصير خرابا الشام» (٤) ، «والبصرة أسرع الأرضين خرابا وأخبثهم ترابا» (٥).

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩))

قوله (وَما مَنَعَنا) أي ما صرفنا عن (أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) التي اقترحوا منك (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) ف (أَنْ) الأولى مع ما بعدها مفعول (مَنَعَنا) ، والثانية فاعله ، أي إلا تكذيب المتقدمين من المطبوع على قلوبهم كعاد وثمود ، فأهلكناهم ، لأن سنة الله فيمن تقدم أنه كان إذا أتى بآية مقترحة فلم يؤمن يهلكه ، وكان الله تعالى قد حكم بامهالهم لأن يتم أمرك يا محمد ، نزل حين سأل أهل مكة أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحى الجبال عنهم فيزرعوا في أراضيهم (٦) ، فقال : نحن نعلم أنهم لو أرسلت الآيات إليهم لكذبوا بها تكذيب الأولين فهلكوا ، لكنا أمهلناهم في العذاب لحكمة ، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ، ثم قال (وَآتَيْنا) أي أعطينا (ثَمُودَ النَّاقَةَ) بسؤالهم إياها (مُبْصِرَةً) أي آية موضحة لنبوة صالح عليه‌السلام (فَظَلَمُوا) أنفسهم (بِهَا) أي بتكذيبها ، يعني جحدوا أنها من عند الله فأهلكناهم ، ثم قال (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) أي بالمعجزات للعبرة أو آيات القرآن (إِلَّا تَخْوِيفاً) [٥٩] للعباد ليؤمنوا ، فان أبوا أتاهم العذاب وهو مفعول له ، قيل : «إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون» (٧).

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

(وَإِذْ قُلْنا) أي اذكر وقت قولنا (لَكَ) بالوحي (إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) وهم قريش علما وقدرة ، فهم في قبضته قادر عليهم فأمض لأمرك ولا تخش أحدا وهذا تبشير له بوقعة بدر وبالنصرة عليهم لتبليغ الرسالة (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) ليلة المعراج (إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) أي اختبارا لجميع الخلق أو لقريش ، لأن منهم مصدقا ومكذبا ، وهي رؤيا عين أريها النبي عليه‌السلام ليلة الإسراء من العجائب والآيات ، والرؤيا يستعمل للرؤية أيضا ، وقيل : هي رؤيا منام (٨) ، روي : «أنه عليه‌السلام رأى مصرع قريش في القتال ، فلما ورد ماء بدر قال هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان من قريش فتسامعت قريش بما أوحي إليه من أمر بدر ، فكانوا يضحكون ويستهزؤن» (٩) ، قوله (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) عطف على (الرُّؤْيَا) ، أي وما جعلنا الشجرة التي لعن آكلها ، أي كره

__________________

(١) عن مقاتل وغيره ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٤.

(٢) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٣) انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٤. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٤) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٧٤.

(٥) رواه ابن سيرين عن ابن عمر ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٧٤.

(٦) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٧٤ ؛ والواحدي ، ٢٤٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٥٠٤.

(٧) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٥.

(٨) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ١٨٤.

(٩) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ١٨٤.

٢٣

أو لعن أصحابها إلا فتنة لهم ، وهي شجرة الزقوم ، يقال لكل شيء كريه الطعم ملعون ، وهي مذكورة (فِي الْقُرْآنِ) حيث قال (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ)(١) ، والفتنة من الشجرة الملعونة من وجهين ، أحدهما أن أبا جهل ، قال إن ابن أبي كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم زعم أنها تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجرة ، وثانيهما أن عبد الله بن الزبعري قال : إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر ، فقال أبو جهل : يا جارية زقمينا فأتينا بالزبد والتمر ، فأتت بهما ، فقال : يا قوم تزقموا فان هذا مما يخوفكم به محمد ، فصار ذلك فتنة وبلية لهم ، ولو نظروا نظر الصحيح لما استبعدوا ذلك من قدرة الله تعالى كأكل النعامة النار والحديد المحمى (وَنُخَوِّفُهُمْ) أي نخوف أهل مكة بذكر الشجرة الملعونة ليؤمنوا (فَما يَزِيدُهُمْ) تخويفنا (إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) [٦٠] أي إلا تمردا عظيما وتماديا في المعصية فكيف يخاف قوم هذه صفتهم بارسال ما يسألون عنك من الآيات يا محمد.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢))

ثم قال إيماء لهم إلى أن التمرد من أمر الله لا ينفع صاحبه كما لم ينفع (٢) لإبليس (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) قالوا : الظاهر أنه تعالى قاله قبل أكل آدم من الشجرة (٣)(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) فانه أبى عن السجود لآدم تكبرا (قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) [٦١] نصبه حال من «من» ، والعامل فيه «اسجدوا» على تقدير (٤) أأسجد (٥) له وهو طين في الأصل أو من الضمير المحذوف العائد إليه على (أَأَسْجُدُ) لم كان في وقت خلقته طينا ، ولما أمر بالسجود لآدم (قالَ) إبليس متعظما عليه (أَرَأَيْتَكَ) أي أخبرني يا رب ، والكاف لتأكيد المخاطبة (٦)(هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ) أي فضلت ، يعني أخبرني عنه لم فضلته (عَلَيَّ) وأنا خير منه ، لأنه خلق من طين وأنا خلقت من نار ، وقد بين فساد قياسه في سورة الأعراف ، ثم ابتدأ فقال (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) أي أمهلتني (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ) أي لأستأصلن (ذُرِّيَّتَهُ) بالإضلال يقال احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله ، يعني لأستزلنهم عن طريقك المستقيم حيث شئت (إِلَّا قَلِيلاً) [٦٢] أي المعصومين منك ، قيل : من أين علم أن ذلك يتسهل له وهو من الغيب؟ أجيب بأنه علمه من قول الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ)(٧) ، وقيل : علمه من الملائكة الذين أخبرهم الله تعالى بأنه سيضله (٨) ، وقيل : أدركه من كونه خلقا شهوانيا بنظر الفراسة إليه (٩).

(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣))

(قالَ) الله تعالى تهديدا له وتحذيرا منه (اذْهَبْ) أي امض لشأنك الذي اخترته خذلانا (فَمَنْ تَبِعَكَ) أي أطاعك (مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) أي جزاؤك وجزاء أتباعك ، وفيه تغليب المخاطب على الغائب وتنصب على المصدر أو على الحال ، قوله (جَزاءً مَوْفُوراً) [٦٣] أي تجزون (١٠) جزاء وافرا مكملا لا يفتر عنكم.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤))

(وَاسْتَفْزِزْ) أي حرك واستزل (مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) أي من ذرية آدم (بِصَوْتِكَ) أي بدعائك إلى معصية الله ، فكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس (وَأَجْلِبْ) أي صح بصيحتك (عَلَيْهِمْ) من الجلبة وهي الصياح

__________________

(١) الدخان (٤٤) ، ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) لم ينفع ، ب س : لا ينفع ، م.

(٣) قالوا الظاهر أنه تعالى قاله قبل أكل آدم من الشجرة ، ب س : ـ م.

(٤) تقدير ، م : ـ ب س ؛ س ، + معنى.

(٥) أأسجد ، ب م : أسجد ، س.

(٦) المخاطبة ، ب : المحافظة ، س م ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٠٧.

(٧) البقرة (٢) ، ٣٠. وهذا مأخوذ عن الكشاف ، ٣ / ١٨٥.

(٨) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٨٥.

(٩) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ١٨٥.

(١٠) تجزون ، ب س : يجزون ، م.

٢٤

(بِخَيْلِكَ) أي بجماعة من فرسانك ، ومنه قول النبي عليه‌السلام : «يا خيل الله اركبي» (١)(وَرَجِلِكَ) بكسر الجيم وسكونها (٢) ، أي وبمشاتك وهو اسم جمع للراجل ، يعني أجمع عليهم مكرك وحيلك ما أمكنك فلن أعجز عن منعك ومنعهم إذا شئت أنا (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ) المحرمة كالربا والغصوب أو ما جعلوا من الحرث والأنعام نصيبا لشركائهم ، قيل : كل طعام لم يذكر اسم الله تعالى عليه فللشيطان شركة فيه وفي (وَالْأَوْلادِ) من الزنا أو بتسميتهم عبد الحارث وعبد العزى (٣) ، وقيل : «هو تهويدهم وتمجيسهم وتنصيرهم» (٤) ، وقيل : كل معصية بسبب الولد (٥) ، قيل : «إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل عند الجماع فان لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل فرجها كما ينزل الرجل» (٦) ، وقال رجل لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار ، قال : «ذلك من وطئ الجن» (٧)(وَعِدْهُمْ) أي قل لهم بأن لا جنة ولا نار أوعدهم بالوعد الجميل في طاعتك من الأكاذيب (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [٦٤] وهو تزيين الباطل في صورة الحق ، قيل : كيف جاز ذكر الله هذه الأشياء ، فان أمره تعالى إبليس ذلك ، فهذا (٨) تسليط على عباده بالإغواء ، وهو يقول : إن الله لا يأمر بالفحشاء ، أجيب عنه بأن ذكره إياها على طريق التهديد والخذلان والتخلية كقوله تعالى للعصاة (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(٩).

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي حجة وتولية ، يعني لا تقدر على إغواء عبادي الصالحين المعصومين (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [٦٥] أي حافظا لهم إذا اعتمدوا عليه وتوكلوا به في كل أمر كالاستعاذة منك ومن شرك.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦))

ثم ذكر ما يحملهم على إطاعة الرحمن واجتناب إطاعة الشيطان فقال (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي) أي يسوق (لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا) أي لتطلبوا (مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [٦٦] بالحفظ عن الهلاك والضلال.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧))

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) أي الخوف من الغرق (فِي الْبَحْرِ ضَلَّ) أي غاب (مَنْ تَدْعُونَ) أي تعبدونه من الآلهة (إِلَّا إِيَّاهُ) استثناء متصل ، أي ذهب عن قلوبكم كل ما يستغاث به إلا الله وحده أو منفصل ومعناه : ضل كل الأصنام التي هن آلهتكم لكن الله هو الذي ترجونه لصرف النوائب عنكم فتخلصون بالدعاء له (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ) أي أهوال البحر (أَعْرَضْتُمْ) عن الإيمان بالله تعالى وترك التضرع إليه ورجعتم إلى عبادة الأصنام (وَكانَ الْإِنْسانُ) أي الكافر (كَفُوراً) [٦٧] أي جحودا لأنعم ربه ، والعاقل من يستوي خوفه في البر والبحر كما يستوي قدرة ربه فيهما.

(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨))

(أَفَأَمِنْتُمْ) الهمزة فيه للإنكار ، أي أنجوتم من الخوف فآمنتم (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) أي يغور بكم إلى الأرض السفلي كقارون وأصحابه ، ويجوز أن يكون جانب البر منصوبا بأنه مفعول به ، و (بِكُمْ) نصب

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٣ / ١٨٥. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٢) «ورجلك» : قرأ حفص بكسر الحجيم ، وغيره باسكانها. البدور الزاهرة ، ١٨٧.

(٣) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٧٦.

(٤) عن الحسن وقتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٨.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٢٧٦.

(٦) عن جعفر بن محمد ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٨.

(٧) انظر البغوي ، ٣ / ٥٠٨.

(٨) فهذا ، س : ـ ب م.

(٩) فصلت (٤١) ، ٤٠ ؛ أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٨٥ ـ ١٨٦.

٢٥

على الحال ، أي يقلب (١) جانب البر وأنتم عليه ، والمراد من (جانِبَ الْبَرِّ) جميع الجهات الست ، إذ لا اختصاص لقدرته تعالى بمكان دون مكان (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهي الريح التي تحصب أي ترمي الحصاء ، يعني يمطر (٢) حجارة من السماء كما أمطر على قوم لوط (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) [٦٨] أي مانعا يمنعكم من عذابه.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ) أي في البحر (تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) وهو الريح الشديدة التي تتقصف أي تتكسر في هبوبها ولا تمر بشيء إلا بقصفه ، يعني تدق كل شيء وتحطمه (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) بالله تعالى وبنعمته (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ) أي بما فعلنا (تَبِيعاً) [٦٩] أي تابعا لنا يطلب من ثأركم انتصارا لكم ، قرئ في الأفعال الخمسة «يخسف» و «يرسل» و «يعيدكم» و «فيرسل» و «فيغرق» بالنون لقوله (عَلَيْنا) وبالياء لقوله (إِلَّا إِيَّاهُ)(٣).

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١))

ثم ذكر ما يدل على وجوب شكر الله تعالى بقوله (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) من التكريم وهو أبلغ من الإكرام لاقتضاء ذلك التكرير دون هذا ، وفي ذكر (كَرَّمْنا) تغليب للبر على الفاجر ، أي كرمناهم كافرين كانوا أو مؤمنين على البهائم وهو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض ، وقيل : «بالعقل» (٤) ، وقيل : «بالنطق» (٥) ، وقيل : بحسن الصورة (٦) ، وقيل : كرم الله الرجال باللحي والنساء بالذوائب (٧) ، وقيل : «بتعديل القامة وامتدادها ، لأن الدواب خلقت منكبة على وجوهها» (٨) ، وقيل : بتدبير أمر المعاش والمعاد (٩) ، وقيل : بتسليطهم على ما في الأرض وتسخيره لهم (١٠)(وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ) على الدواب (وَالْبَحْرِ) على السفن (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من لذيذ المطاعم والمشارب ، وقيل : «من السمن والعسل والزبد والتمر» (١١) ، وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى كالتبن والشعير (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [٧٠] ظاهر الآية يدل على أنهم فضلوا على كثير من خلقه لا على الكل ، وإنهم فضلوا على غيرهم من ذوي العقل أيضا ، لأن من لمن يعقل ، وأجمعوا على أنهم مفضلون على جميع المخلوقات سوى الملائكة ، وفي تفضيلهم على الملائكة اختلاف ، قال قوم : هم مفضلون عليهم أيضا ، فوضع «الأكثر» موضع الكل ، واستدلوا بقوله عليه‌السلام : «لما خلق آدم وذريته قالت الملائكة : يا ربنا خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة ، فقال تعالى : وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» (١٢) ، وبعضهم فضل الملائكة كلهم على بني آدم ، والأولى : أن يقال عوام الملائكة أفضل من عوام

__________________

(١) يقلب ، ب س : تقلب ، م.

(٢) يمطر ، ب م : تمطر ، س.

(٣) «أن يخسف» ، «أو يرسل» ، «أن يعيدكم» ، «فيرسل» ، «فيغرقكم» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنون في الأفعال الخمسة ، وقرأ أبو جعفر ورويس بالياء في الأفعال الأربعة وبتاء التأنيث في الخامس ، والباقون بالياء التحتية في الأفعال الخمسة. البدور الزاهرة ، ١٨٧.

(٤) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥١٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٧٧ (عن الضحاك).

(٥) عن الضحاك ، انظر البغوي ، ٣ / ٥١٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٨٦.

(٦) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥١٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٨٦.

(٧) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥١٠.

(٨) عن عطاء ، انظر البغوي ، ٣ / ٥١٠.

(٩) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٣ / ١٨٦.

(١٠) نقله عن الكشاف ، ٣ / ١٨٦.

(١١) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٣ / ٥١٠.

(١٢) انظر البغوي ، ٣ / ٥١١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

٢٦

المؤمنين ، وخواص المؤمنين أفضل من خواص الملائكة ، والتفضيل حقيقة لا يعلمه إلا الله تعالى ، ومن شاء من خلقه وهو لا يظهر إلا في الآخرة بدليل قوله (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ) نصب بقوله (تَفْضِيلاً) ، وقيل : بدل من (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ)(١) ، وقيل : مفعول لفعل مقدر (٢) ، أي اذكر يوم ندعوا كل أمة (بِإِمامِهِمْ) أي بما يأتمون به من نبي أو كتاب أنزل عليهم أو كتاب في أعمالهم من الخير والشر ، فيقال يا أصحاب الخير ويا أصحاب الشر أو بمقدم يجتمع الناس إليه في الخير والشر وهو رئيسهم (فَمَنْ أُوتِيَ) أي أعطي (كِتابَهُ) أي كتاب أعماله (بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) أي ما فيه من الحسنات ويعطون ثوابها (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) [٧١] أي لا ينقص من حقهم قدر فتيل وهو كناية على أدنى شيء ، وفي الأصل وسخ يفتل بين الإصبعين أو قشر في شق النواة وهي طائفة السعداء ، ولم يذكر الأشقياء وإن كانوا يقرؤون كتبهم أيضا ، لأنهم إذا نظروا فيه يأخذهم حبسة اللسان من الخوف والحياء ، فلا يظهرون قراءتهم ، فقراءتهم كلا قراءة بخلاف السعداء فانهم يظهرون قراءتهم بأحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بذلك وحده حتى يقول القارئ منهم لأهل المحشر : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(٣).

(وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

ثم قال الله تعالى حثا على التوحيد والعمل الصالح (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) الدنيا أو في النعم التي قد عاينها ولم يشكر ربها (أَعْمى) أي أعمى القلب عن رؤية قدرة الله تعالى وعن رؤية الحق أو عن الهداية (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) كذلك عن إثبات الحجة أو هو بمعنى أفعل التفضيل ومن أي أشد عمى في حال الآخرة من الأعمى ، لأنه غائب عنها لم يرها ، فشك فيها بخلاف ما عاين من نعم الله أو أشد عمى من كونه أعمى في الدنيا ، أما الدنيا فلفقد النظر العقلي الموصل إلى المعرفة ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه أبدا لا بالتوبة ولا بالشفاعة ، فلذلك قال (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [٧٢] من الأعمى ، لأنه في الدنيا يقبل توبته وفي الآخرة لا يقبل توبته ، قرئ «أعمى» في الموضعين بالإمالة لكون الألف فيها طرفا ، لأنه بمعنى عام من عمي القلب وبفتحهما على الأصل وبين بين تخفيفا وبامالة الأول وفتح الثاني عند من جعله أفعل التفضيل ومن لكون ألفه وسطا بتقدير «من» ، لأنه كالجزء منه فأشبه بألف أعمالكم ، فلا يمال ، لأن الإمالة من لواحق الطرف بخلاف الأول ، فانه لم يتعلق به شيء فيكون ألفه في الطرف (٤).

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) نزل حين طلب المشركون ، وهم ثقيف من رسول الله عليه‌السلام أن يطرد الفقراء عنه ، وأطعموه في إسلامهم وأن يستلم آلهتهم وأن يجعل آية رحمة مكان آية عذاب ، فمال إلى بعض ذلك بخطور قلب لا بعزم منه (٥) ، فقال تعالى وإن الشأن قاربوا أن يخدعوك ويصرفوك (عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي عن القرآن (لِتَفْتَرِيَ) أي لتخلق (عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي غير القرآن بالتبديل كما طلبوا منك (وَإِذاً) أي ولو اتبعت مرادهم (لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) [٧٣] أي وليا وصفيا وحينئذ خرجت من ولايتي ودخلت في عداوتي.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤))

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ) على الحق بالعصمة والحفظ (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ) أي لقاربت بأن تميل (إِلَيْهِمْ) أي إلى مرادهم (شَيْئاً قَلِيلاً) [٧٤] وفيه دليل على أن النبي عليه‌السلام قد عصم ولم يمل إليهم في شيء ما بالقلب ، وهذا الكلام تهييج من الله له وفضل تثبيت على الحق وعدم الميل إليهم.

__________________

(١) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٣) الحاقة (٦٩) ، ١٩.

(٤) «أعمى» : الأول بالإمالة للأصحاب وشعبة والبصري ويعقوب وبالتقليل لورش بخلف عنه ، و «أعمى» الثاني للأصحاب وشعبة بالإمالة ، ولورش بالتقليل بخلف عنه. البدور الزاهرة ، ١٨٩.

(٥) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٨٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٢ ـ ٥١٣.

٢٧

(إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥))

(إِذاً) أي لو ركنت إليهم (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ) أي ضعف عذاب الحيوة الدنيا (وَضِعْفَ الْمَماتِ) أي وضعف عذاب الممات من عذاب القبر وعذاب النار بتقدير المضاف فيهما ، وقيل : يستعمل ال «ضعف» بمعنى العذاب (١) ، والمعنى : لضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) [٧٥] أي مانعا يمنع عذابنا عنك ، روي أن النبي عليه‌السلام كان يقول بعد نزوله : «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» (٢).

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦))

(وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أي ليزعجونك (مِنَ الْأَرْضِ) الآية مدنية إن كان المراد من ضمير (كادُوا) اليهود لما روي : «أن النبي عليه‌السلام لما قدم المدينة كره اليهود إقامته بها حسدا ، فقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بدار الأنبياء ، وإن أرض الأنبياء هي أرض الشام ، لأن فيها الأرض المقدسة ، وبها كان إبراهيم والأنبياء عليهم‌السلام ، فان كنت نبيا مثلهم فأت الشام» (٣) ، وقيل : مكية إن كان المراد منه المشركين ، لأنهم قصدوا أن يخرجوه من مكة ، فكفهم الله منه حتى أمره بالهجرة فخرج بنفسه ، وهذا أصح ، لأن ما قبله خبر عن أهل مكة ، والسورة مكية (٤) ، وقيل : هم الكفار كلهم لأنهم أرادوا أن يخرجوه من أرض العرب باجتماعهم ، وتظاهرهم عليه فمنع الله عن رسوله عليه‌السلام ، ولم ينالوا منه ما أرادوا (٥) ، فأخبر تعالى عنهم فقال : وإن الكفار قد قاربوا ليزعجوك بسرعة من أرضهم (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) أي من الأرض (وَإِذاً) أي ولو أخرجوك منها (لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) وقرئ «خلفك» (٦) ، أي بعد خروجك (إِلَّا قَلِيلاً) [٧٦] أي زمانا مقدار هلاكهم في أرضهم ، ولم يعمل «إذن» هنا النصب ، لأن واو العطف ألغتها عن العمل بجعل الجملة بعدها متصلة بما قبلها ، لأنها عطفت الفعل على الفعل الذي هو مرفوع لوقوعه خبر «كاد» ، والفعل في خبر «كاد» واقع موقع الاسم فكذا ما عطف عليه ، فلم تعمل «إذن» فيه فصار حشوا.

(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

قوله (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) منصوب بنزع الخافض كسنة أو بفعل مقدر ، أي سن الله سنة في الدنيا بعثناهم للرسالة (قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا) إذا كذبتهم الأمم أن لا يعذبهم ما دام نبيهم بين أظهرهم ، فاذا خرج نبيهم من بينهم فيستأصلهم بالهلاك (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا) أي لعادتنا هذه (تَحْوِيلاً) [٧٧] أي تغييرا.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨))

ثم أمر النبي عليه‌السلام بأن يقيم الصلوة ليلا ونهارا متوكلا عليه في كل حال بقوله (أَقِمِ الصَّلاةَ) المفروضة (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي لزوالها أو لغروبها ، وأصل الدلوك الميل ، والشمس تميل إذا زالت وغربت ، والأكثر على معنى الزوال لتكون الاية جامعة لمواقيت الصلوة كلها ، لأنه إن أريد منه الغروب خرج عنها الظهر والعصر ، وإن أريد الزوال دخلا قوله (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي إلى ظهور ظلمته ، في محل النصب على الحال ، أي ممتدة إليه ، ويجوز أن يتعلق الجار ب (أَقِمِ) ، قيل : المراد من ذلك الظهر والعصر والمغرب والعشاء لتناول (٧) الدلوك صلوة الظهر والعصر وتناول (غَسَقِ اللَّيْلِ) المغرب والعشاء (٨)(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي وأقم صلوة الفجر ، فهو معطوف على (الصَّلاةَ) ، وسميت قرآنا لكونه جزء منها كما سميت ركوعا وسجودا وقنوتا ، ويجوز أن يكون إضافة

__________________

(١) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥١٣.

(٢) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ٥ / ٤٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٣.

(٣) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٥١٤.

(٤) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥١٤.

(٥) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥١٤.

(٦) «خلافك» : قرأ المدنيان والمكي والبصري وشعبة بفتح الخاء وإسكان اللام من غير ألف ، والباقون بكسر الخاء وفتح اللام وألف بعدها. البدور الزاهرة ، ١٨٨.

(٧) لتناول ، ب : ليتناول ، س م.

(٨) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥١٥.

٢٨

ال (قُرْآنَ) إلى (الْفَجْرِ) حثا (١) على طول القراءة في صلوة الفجر ، لأنها يكثر عليها في العادة ليستمعوا القرآن ، فيكثر الثواب (٢) ، وقيل : نصبه على الإغراء ، أي وعليك بقرآن الفجر (٣)(إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [٧٨] لأن من حقه أن يشهده (٤) الجماعة الكثيرة أو كونه مشهودا بأن يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار إذا صعد هولاء نزل هؤلاء.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

(وَمِنَ اللَّيْلِ) أي وقم بعض الليل بعد نومك (فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي فاسهر للصلوة بالقرآن والتهجد قيام الليل بعد النوم للصلوة وكانت صلوة الليل فرضا على النبي عليه‌السلام وأمته في الابتداء ، فنسخ الوجوب في حق الأمة بالصلوات الخمس وبقي الاستحباب ، وأما في حق النبي عليه‌السلام فلم ينسخ لقوله عليه‌السلام : «ثلث هن علي فريضة وهي لكم سنة ، الوتر والسواك وقيام الليل» (٥) ، فقوله (نافِلَةً لَكَ) نصب على الحال ، أي صلوة نافلة أو مصدر في موضع تهجدا من غير لفظه ، ومعناه : فريضة زائدة على سائر الفروض ، فرضها الله عليك وذهب قوم إلى أن الوجوب صار منسوخا في حقه كما في حق الأمة فصارت نافلة ، أي زائدة دون فرض لقوله (لَكَ) لا عليك ، قيل : فما معنى التخصيص بقوله (لَكَ) إذا لم يكن فرضا عليه كما لم يكن على الأمة؟ أجيب بأن التخصيص لرفع الدرجات في حقه ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، والزيادة في حق الأمة كفارة لذنوبهم وتتميم لصلواتهم (٦) ، قالت عائشة رضي الله عنها : «ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيد في ليالي رمضان ولا غيره إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا ، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ، ثم يصلي ثلاثا ، قالت : فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال عليه‌السلام : يا عائشة تنام عيناي ولا تنام قلبي» (٧) ، وفي رواية : «يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة ويسجد سجدتين قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه» (٨) ، قوله (عَسى) من الله واجب أن يفعل ما يطمع منه عباده ، يتعلق بقوله «أقم» ، أي دم على ما أمرت من إقامة الصلوة بالليل والنهار رجاء (أَنْ يَبْعَثَكَ) يوم القيامة (رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [٧٩] وهو نصب على الظرف ، أي يثبتك في المقام المحمود ، وهو مقعد على العرش ، وقيل : على الكرسي (٩) ، والأكثر أنه مقام الشفاعة ، لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون لما روي عن النبي عليه‌السلام : «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي وهي نائلة من أمتي لكل من مات ولم يشرك بالله شيئا» (١٠) ، روي عن عبد الله بن عمر : «أن الشمس تدنو يوم القيامة حتى تبلغ العرق نصف الأذن فبيناهم كذلك استغاثوا بآدم ، ثم بموسى ثم بمحمد ، فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم» (١١) ، وهو الوسيلة في الحديث ، قال رسول الله عليه‌السلام : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ، فمن صلى علي صلوة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا إلى الوسيلة ، فانها منزلة في الجنة لا ينبغي أن يكون إلا لعبد من عباد الله ، وأنا أرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة» (١٢).

__________________

(١) ويجوز أن يكون إضافة القرآن إلى الفجر حثا ، ب : ـ س.

(٢) كما سميت ركوعا ... ليستمعوا القرآن فيكثر الثواب ، ب س : ـ م ، مع وصف الطول والكثرة ، + م.

(٣) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٢٨٠.

(٤) أن يشهده ، س م : أن يشهد ، ب.

(٥) أخرج أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ٢٣١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٦.

(٦) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥١٦.

(٧) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ٥ / ٤٠ ، ٤٩ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٧.

(٨) أخرجه النسائي ، السهو ، ٧٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٧.

(٩) ولم أعثر عليه في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(١٠) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ٢ / ٤٤١ ، ٥٢٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٨.

(١١) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٠.

(١٢) أخرجه مسلم ، الصلوة ، ١١ ؛ والترمذي ، المناقب ، ١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥١٨.

٢٩

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))

ثم قال تعالى بعد خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي) في المدينة (مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي إدخال صدق ، يعني بالسلامة ونيل المراد (وَأَخْرِجْنِي) من المدينة (مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي إخراج صدق إلى مكة ، يعني بالفتح والظهور عليها أو أدخلني في القبر مرضيا طاهرا من الذنوب وأخرجني من القبر مرضيا إلى البعث ملقى بالكرامة آمنا من السخط (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي من حضرتك (سُلْطاناً نَصِيراً) [٨٠] أي برهانا بينا قاهرا أعداء الدين بنصر دينك على جميع الأديان ، فوعده الله لننزعن ملك فارس والروم وغيرهما ، فنجعله لك ، ويشهد عليه قوله (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(١) و (يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ)(٢).

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ) أي القرآن (وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي ذهب الشيطان أو جاء الإسلام وزال الشرك أو جاء عبادة الحق وذهب عبادة الصنم ، والزهوق خروج النفس من البدن ، وأكد ذلك بما هو كالمثل السائر ، وهو قوله (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [٨١] أي مضمحلا غير ثابت في كل وقت.

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) للقلوب من الجهل والضلالة ، و (مِنَ) للتبعيض أو للتبيين ، أي كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لازدياد إيمانهم به ولصلاح دينهم بما فيه كالشفاعة للمريض أو شفاء حقيقة للأجسام لما فيه من البركة ، قال عليه‌السلام : «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» (٣)(وَلا يَزِيدُ) القرآن (الظَّالِمِينَ) أي المكذبين به (إِلَّا خَساراً) [٨٢] أي نقصانا ، لأنهم ينكرون القرآن فيخسرون.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣))

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) أي الكفار بكشف البلاء عنه وبسعة الرزق عليه (أَعْرَضَ) عن ذكر الله وعن التضرع والالتجاء إليه كأنه مستغن عنه (٤)(وَنَأى بِجانِبِهِ) أي تباعد جانبه عن الحق وترك التقرب إليه بالدعاء ، وقيل : «تعظم وتكبر» (٥) ، ولم يلتفت إليه ، وهو تأكيد للإعراض ، لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه وهو جانبه ، والنائ بجانبه أن يعوج عن عطفه ويدبر ظهره (٦) ، قرئ بفتح النون والهمزة ، وبكسرهما ، وبفتح النون وكسر الهمزة ، وبكسر النون وفتح الهمزة ، وبامالة الهمزة وبين بين وناء مثل جاء (٧)(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ) أي الضر في الجسد والشدة في المعيشة (كانَ يَؤُساً) [٨٣] أي قنوطا عن رحمة الله فيترك الدعاء إليه أو معناه : أن يتضرع ويدعو عن الشدة ، فاذا تأخرت الإجابة ترك الدعاء ولا ينبغي للمؤمن أن ييأس من الإجابة وإن تأخرت فيدع الدعاء.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) أي كل واحد من الناس يعمل على طريقته التي اختارها من طرق الضلالة والهدى لنفسه ، وهي من الشكل وهو الشبه ، يعني كل يعمل ما يشبهه ، ومنه المثل «كل امرئ يشبهه عمله» (٨)(فَرَبُّكُمْ

__________________

(١) التوبة (٩) ، ٣٣ ؛ الفتح (٤٨) ، ٢٨ ؛ الصف (٦١) ، ٩.

(٢) الأعراف (٧) ، ١٢٩.

(٣) انظر الكشاف ، ٣ / ١٩٠. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٤) كأنه مستغن عنه ، ب س : ـ م.

(٥) عن عطاء ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٤.

(٦) والنائ بجانبه أن يعوج عن عطفه ويدبر ظهره ، ب س : ـ م.

(٧) «ونآي» : قرأ ابن ذكوان وأبو جعفر بألف ممدودة بعد النون وبعدها همزة مفتوحة مثل شاء ، والباقون بهمزة مفتوحة ممدودة بعد النون مثل رآي ، ولورش فيهما أربعة أوجه : قصر البدل مع فتح ذات الياء والتوسط مع التقليل والمد مع الوجهين ، ولحمزة عن الوقف التسهيل فقط. البدور الزاهرة ، ١٨٨.

(٨) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥٢٤.

٣٠

أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) [٨٤] أي أوضح طريقا ، يعني يعلم المهتدي والضال ، فيجازي كلا بعمله.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦))

قوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) وهو الذي يحيى به الإنسان ، واختلفوا في ماهيته ، قال قوم : هذا الدم ، وقوم : هي النفس ، وقوم : هي معنى ذو نور اجتمع فيه العلم والطيب والبقاء والعلو ، ولم يأت أحد منهم على ما اختاره دليلا يدل على حقيقته ، فالأولى أن يوكل علمه إلى الله تعالى وهو قول أهل السنة ، قال عبد الله بن بريدة : «إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا» (١) ، نزل حين اجتمع قريش ، وقالوا : إن محمدا نشأ فينا بالصدق والأمانة وما اتهمنا بالكذب ، وقد ادعى النبوة فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة ليسألوا عنه ، فانهم أهل كتاب ، فبعثوا جماعة إليهم ، فقالت اليهود : سلوه عن ثلاثة أشياء ، فان أجابوا عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي ، وإن أجاب عن اثنين ولم يجب عن أحد فهو نبي ، فسألوه عن فتية فقدوها في الزمان الأول ، وأمرهم العجيب وهم أصحاب الكهف وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها وهو ذو القرنين ، فقالوا : أخبرنا عنهما وعن الروح ، فقال عليه‌السلام أخبركم غدا بما سألتم ، ولم يقل «إن شاء الله» ، فلبث الوحي خمسة عشر يوما ، وقيل : «أربعين يوما» (٢) ، وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء حتى حزن النبي عليه‌السلام من مكث الوحي ، وشق عليه قولهم ، ثم أنزل جبرائيل عليه‌السلام (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) إلا إن شاء الله (٣) ، وأنزل في الفتية (أَمْ حَسِبْتَ)(٤) الآية ، وفي ذي القرنين (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ)(٥) الآية ، وفي الروح (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(٦)(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فأشار به إلى أن معرفة حقيقته متعذرة ، يعني علم الروح من علم ربي لا يعلمه غيره ، فبين القصتين كما هما وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التورية ، فندموا على سؤالهم ، فدل هذا على صدق نبوته ، قوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [٨٥] خطاب عام للنبي عليه‌السلام وغيره لما روي أن اليهود قالوا له : نحن مختصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه؟ فقال النبي عليه‌السلام : بل نحن وأنتم ، لم نؤت (٧) من العلم إلا قليلا ، أي يسيرا في جنب علم الله تعالى ، وقيل : خطاب لليهود خاصة ، لأنهم قالوا قد أوتينا التورية وفيها الحكمة (٨) ، وقد تلوت (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(٩) ، فقيل لهم : علم التورية قليل في جنب علم الله ، والشيء قد يكون كثيرا بالنسبة إلى ما دونه قليلا بالنسبة إلى ما فوقه ، والأصح الأول لظاهر الآية من العموم ولقوله (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ) واللام الأولى التي في «إن» الشرطية للتوطئة والثانية جواب قسم محذوف مع نيابته عن جزاء الشرط ، أي والله لو شئنا لنمحون (بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) أي بالقرآن من الصدور والمصاحف حتى لا يوجد له أثر ، يعني نحن منعنا علم الروح عنك وعن غيرك بمشيتنا وقدرتنا ولو شئنا لمحونا القرآن أيضا ، فلم نترك له أثرا وبقيت ك (ما كُنْتَ) لا (تَدْرِي مَا الْكِتابُ)(١٠)(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً) [٨٦] أي من يتوكل برد القرآن إليك بعد الذهاب به ، فالعلم في الحقيقة كله لنا لا لكم ، قال عليه‌السلام «اقرؤا القرآن قبل أن يرفع ، فانه لا تقوم الساعة حتى يرفع» (١١).

(إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

قوله (إِلَّا رَحْمَةً) مفعول له ، أي ما حفظناه عليك إلا للرحمة أو تقديره : لكنا لم نشأ ذلك لرحمة (مِنْ

__________________

(١) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٦.

(٢) عن عكرمة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٥.

(٣) الكهف (١٨) ، ٢٣.

(٤) الكهف (١٨) ، ٩.

(٥) الكهف (١٨) ، ٨٣.

(٦) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٤٦.

(٧) نؤت ، ب : تؤت ، س م.

(٨) نقله عن البغوي ، ٣ / ٥٢٦.

(٩) البقرة (٢) ، ٢٦٩.

(١٠) الشورى (٤٢) ، ٥٢.

(١١) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٧. ولم اعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي رجعتها.

٣١

رَبِّكَ) أو تقريره : لكنا رحمناك رحمة تركته غير مذهوب به ، فيكون استثناء منقطعا (إِنَّ فَضْلَهُ) أي عطاء ربك (كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) [٨٧] أي فضلا عظيما لإعطائك الإسلام دينا واصطفائك بالرسالة من بينهم وبالنصرة والغلبة عليهم وبتنزيل القرآن إليك وبابقائه محفوظا عليك ، وفيه امتناع عظيم على أهل العلم والقرآن ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه في الصدور والمصاحف ، فعليهم أن لا يغفلوا عن هاتين المنتين والقيام بشكرهما ، قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في الصدور (١) ، عن ابن عمر : «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل ، له دوي كدوي النحل ، يقول الرب : ما لك؟ فيقول يا رب كنت أتلى ولا يعمل بي» (٢).

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨))

ونزل حين قال الكفار لو نشاء لقلنا مثل هذا (٣)(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) متظاهرين (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في بلاغته وحسن نظمه وإعجازه والإخبار عن الغيوب مع ما ضمن فيه من الأحكام والحدود وغيرهما مما لا يعرف إلا بالوحي (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) جواب قسم محذوف لا جواب الشرط ، ولو لا اللام الموطئة لجاز أن يكون (لا يَأْتُونَ) مع النون جواب الشرط ، لأن الشرط وهو اجتمعت وقع ماضيا لا يعمل فيه الأداة ، فجاز أن لا يعمل في الجواب ، المعنى : أنهم عاجزون عن الاتيان بمثله لأنه كلام في أعلى طبقات الكلام من البلاغة لا يشبه كلام الخلق (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [٨٨] أي معينا.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي كررنا (لِلنَّاسِ) بالبيان (فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من كل شيء هو كالمثل في الغرابة والحسن لما فيه من الأخبار العجيبة والأحكام والأمثال والوعد والوعيد والعبر (فَأَبى) أي امتنع (أَكْثَرُ النَّاسِ) عن القبول أو عن الشكر (إِلَّا كُفُوراً) [٨٩] أي جحودا أو كفرانا مكان الشكر وهذا استثناء مفرغ في المفعول ، لأن «أبى» هنا في معنى لم يرضوا.

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠))

(وَقالُوا) أي قال عبد الله بن أبي أمية وأصحابه للنبي عليه‌السلام (لَنْ نُؤْمِنَ) أي لن نصدق (لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا) بضم التاء وكسر الجيم مشددا من التفجير ، وبفتح التاء وضم الجيم مخففا (٤) ، أي تشقق (مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [٩٠] أي عينا يخرج منها الماء.

(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١))

(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي بستان (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ) أي تشقق (الْأَنْهارَ خِلالَها) أي وسطها (تَفْجِيراً) [٩١] أي تشقيقا ظاهرا ، والتشديد فيه إجماعي لذكر الجمع بعده وهو (الْأَنْهارَ) ، يقال فجرت نهرا بالتخفيف ، لأن مفعوله واحد ، وفجرت الأنهار بالتشديد لكون مفعوله جمعا ، وقد يذكر بالتشديد في الواحد أيضا إذا قصد المبالغة فيه.

(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢))

(أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ) بقولك إن نشأ نخسف بهم الأرض أن نسقط عليهم كسفا من السماء

__________________

(١) نقله المصنف عن البغوي ، ٣ / ٥٢٧.

(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٥٢٧.

(٣) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥٢٧.

(٤) «تفجر» : قرأ الكوفيون ويعقوب بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم وتخفيفها ، والباقون بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم وتشديدها ، وأجمعوا على تشديد «فتفجر الأنهار». البدور الزاهرة ، ١٨٨.

٣٢

(عَلَيْنا كِسَفاً) بسكون السين على التوحيد ، أي توقعها مرة واحدة وجمعه كسوف واكساف ، وبفتح السين (١) جمع كسفة ، أي أو توفع السماء علينا قطعا ، يعني قطعة بعد قطعة ، ونصبه حال من «السماء» (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [٩٢] أي كفيلا يكفلون بما تقول وضامنا به شاهدا (٢) لصحته (٣) أو تأتي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة ، وهو جمع قبيلة ، نصبه حال من الملائكة (٤) أو بمعنى مقابلة وعيانا يشهدون لك بأنك نبي الله ، نصبه حال من «الله» و (الْمَلائِكَةِ).

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي من ذهب وأصله الزينة (أَوْ تَرْقى) أي تصعد (فِي السَّماءِ) أي في معارجها (وَلَنْ نُؤْمِنَ) أي لن نصدق (لِرُقِيِّكَ) أي لصعودك فيها فرضا (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا) من السماء (كِتاباً) فيه تصديقا (نَقْرَؤُهُ) فنتبعك فقال تعالى لنبيه عليه‌السلام (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) تعجبا من قولهم ، وقرئ «قال» (٥) إخبارا عن النبي عليه‌السلام (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [٩٣] أي لست إلا بشرا أرسل إليكم ، فكيف تطلبون مني شيئا لا يقدر البشر على الإتيان به ، ولو كان رسولا لا يأتي به (٦) إلا باذن الله ، قيل : لو أراد الله أن ينزل ما طلبوا منه لفعل ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر من البشر (٧) ، لأنه ليس في طوق البشر وإنما رد الله سؤالهم ، لأنه تعالى أعطى النبي عليه‌السلام من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله في الإيمان به مثل القرآن واتشقاق القمر وغيرها مما اشتهر بين القوم ، ولكن كفار مكة كانوا متعنتين لم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فردهم الله تعالى لشك مريب في صدورهم لا يزول بكل آية نزلت يدل على ذلك قوله تعالى.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) بالقرآن ونبوة محمد عليه‌السلام (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي القرآن ومحمد (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي إلا قولهم ، محله رفع فاعل (مَنَعَ) و (أَنْ يُؤْمِنُوا) مفعوله مقدم عليه ومقولهم بالاستفهام للإنكار (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [٩٤] ولم يبعث ملكا فلا نؤمن به ولا حجة لهم سوى هذا القول ، فرد الله عليهم بقوله (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) مكان البشر (يَمْشُونَ) على أقدامهم كما يمشي الإنس ولا يطيرون بأجنحتهم كالطير (مُطْمَئِنِّينَ) أي مقيمين فيها (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [٩٥] من جنسهم لينذرهم ويعلمهم الخير ، لأن القلب إلى الجنس أميل منه إلى غير الجنس ، وإنزال الملائكة على الأنبياء لاتصافهم بالصفة الملكية في الصورة بالبشرية كأنهم من جنس الملائكة ، وذلك أيضا لإرسالهم إلى بني آدم للإنذار والتبشير ، ولما سمعوا ذلك قالوا من يشهد لك يا محمد بأنك رسول من الله تعالى.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) نصبه حال ، أي كفى الله شاهدا (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني رسول الله باظهار المعجزة مني وبلغت ما أرسلت به إليكم وأنتم كذبتم به وعاندتم (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) [٩٦] فيجازيهم بعملهم (٨).

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى

__________________

(١) «كسفا» : قرأ المدنيان والشامي وعاصم بفتح السين ، والباقون باسكانها. البدور الزاهرة ، ١٨٨.

(٢) شاهدا ، ب س : ـ م.

(٣) لصحته ، س : بصحته ، ب ، ـ م.

(٤) نصبه حال من الملائكة ، ب س : ـ م.

(٥) «قل» : قرأ ابن عامر بفتح القاف وألف بعدها وفتح اللام بصيغة الماضي ، والباقون بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر. البدور الزاهرة ، ١٨٨.

(٦) لا يأتي به ، م : ـ ب س.

(٧) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥٣٠.

(٨) بعملهم ، ب م : بعلمهم ، س.

٣٣

وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧))

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) أي من يرشده إلى دينه (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) باثبات الياء وحذفها وصلا (١) ، أي على طريق الحق بالاستقامة (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي يخذله عن دينه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) أي أحباء أو أنصارا (مِنْ دُونِهِ) يرشدونهم من الضلالة إلى طريق الحق (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) محله نصب على الحال ، أي يسحبون عليها في النار ، قالوا : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال النبي عليه‌السلام : «إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه» (٢) ، قوله (عُمْياً) حال أخرى لا يرون فيه ما يفرحهم (وَبُكْماً) أي لا ينطقون بحجة واعتذار (وَصُمًّا) أي لا يسمعون ما يلتذون به ، وذلك حين يساقون إلى الموقف إلى أن يدخلوا النار (مَأْواهُمْ) أي مستقرهم ومنزلهم (جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهبها أو طفئت نارها في رأي العين (زِدْناهُمْ سَعِيراً) [٩٧] أي وقودا أو تلهبا واشتعالا.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

(ذلِكَ) أي العذاب الموصوف يوم القيامة (جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) أي القرآن ومحمد عليه‌السلام (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [٩٨] بعد الموت والفناء ، فأجابهم بالله تعالى بقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أنكروا الإعادة ولم يخبروا في القرآن (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) في عظمها وشدتها (قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) في صغرهم وضعفهم كقوله (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)(٣) ، وعطف على (أَوَلَمْ يَرَوْا) قوله (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً) لأن تقدير المعنى فيه : قد علموا بالعقل أن القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق أمثالهم من الإنس ، وجعل ، أي عين وقتا لعذابهم ، وقيل : هو الموت أو يوم القيامة (٤)(لا رَيْبَ فِيهِ) عند المؤمنين أنه يأتيهم (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) أي لم يرضوا مع وضوح الدليل عن الإيمان (إِلَّا كُفُوراً) [٩٩] أي عنادا أو جحودا له لقبولهم الكفر مكانه وذلك كله لحبهم الدنيا واطمئنان قلوبهم بها.

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ) «لو» حرف شرط ، حقه أن يدخل على الفعل لكنه حذف هنا وأضمر على شريطة التفسير ، وتقديره : لو تملكون أنتم تملكون ، فحذف «تملك» وأبدل من الضمير المتصل الفاعل ضمير منفصل وهو (أَنْتُمْ) لسقوط ما يتصل به من اللفظ ، ف (أَنْتُمْ) فاعل الفعل المضمر ، و (تَمْلِكُونَ) تفسيره ، نزل لأهل مكة الذين طلبوا من النبي عليه‌السلام تفجير الينبوع والأنهار وغيرها من نعم الله (٥) ، أي قل يا محمد لهم لو ملكتم (خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) أي جميع نعمه (إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ) لبخلهم وحبستم من قولهم للبخيل ممسك ، جعل الفعل المتعدي كاللازم لإرادة التعميم (خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) أي لخوف الفقر والفاقة ، يقال أنفق الرجل إذا أذهب ماله وصار فقيرا أو نفق الشيء إذا أذهب (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [١٠٠] أي بخيلا ممسكا.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١))

ثم قال تهديدا لأهل مكة (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي أعطينا (مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي علامات واضحات وهي

__________________

(١) «المهتد» : قرأ المدنيان وأبو عمرو باثبات الياء وصلا ويعقوب في الحالين ، والباقون بحذفها كذلك. البدور الزاهرة ، ١٨٨.

(٢) رواه مسلم ، منافقين ، ٥٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٣١.

(٣) المؤمن (٤٠) ، ٥٧.

(٤) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٩٤.

(٥) نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ١٩٤.

٣٤

العصا وبياض اليد والجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان ، ثم اختلف في الآيتين الاخرتين ، قال بعضهم : فلق البحر وانحلال العقدة التي كانت بلسانه ، وقال بعضهم : فلق البحر ونتق الجبل ، وقال بعضهم : السنون ونقص الثمارات (فَسْئَلْ) يا محمد (بَنِي إِسْرائِيلَ) أي من آمن منهم يخبرونك وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن آيات موسى لتزداد يقينا وطمأنينة قلب ، لأن الأدلة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت أو لتحتج به على من لم يؤمن منهم ويظهر كذبهم مع قومهم أو سلهم عن موسى وما جرى له مع فرعون (إِذْ جاءَهُمْ) أي حين جاء آباءهم موسى (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) لما جاء بالآيات (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) [١٠١] أي مغلوب العقل بالسحر ومصروفا عن الحق.

(قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢))

(قالَ) له موسى (لَقَدْ عَلِمْتَ) بضم التاء يخبر موسى عن نفسه ليس بمسحور كما قال فرعون وإن ما جاء به حق ، وبفتح التاء خطابا لفرعون (١) ، أي لقد علمت يا فرعون أني لست بمسحور لأني كنت في تربيتك ولم تكن رأيت مني شيئا يدل على ما قلت في حقي وعلمت (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) أي الآيات التسع (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو الله الخالق الرازق لأهلهما (بَصائِرَ) نصب على الحال من (هؤُلاءِ) ، جمع بصيرة وهو ما يبصر به الحق ، أي بينات مكشوفات على أني على الحق ولكنك معاند مكابر بعد ظهور الحق عندك (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [١٠٢] أي هالكا مصروفا عن كل خير.

(فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣))

(فَأَرادَ) فرعون (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) ويخرج موسى وبني إسرائيل (مِنَ الْأَرْضِ) أي أرض مصر أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال فنزل به مكره (فَأَغْرَقْناهُ) أي فرعون (وَمَنْ مَعَهُ) من الكافرين (جَمِيعاً) [١٠٣] ونجينا موسى وقومه من الغرق.

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

(وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد هلاك فرعون (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) التي أراد أن يخرجكم فرعون منها وهي مصر أو الشام (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي قيام الساعة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) [١٠٤] أي مجتمعين مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز السعداء والأشقياء منكم ، واللفيف الجمع الكثير من كل صنف.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥))

ثم قال (وَبِالْحَقِّ) أي بالحكمة المقتضية لإنزاله (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (وَبِالْحَقِّ) أي وبتلك الحكمة (نَزَلَ) عليك ولم يتغير لاشتماله على الهداية إلى كل خير ، وقيل معناه : أنزلناه من السماء محفوظا بالملائكة الحرس ، ونزل عليك محفوظا من تخليط الشياطين (٢)(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً) للناس بالجنة (وَنَذِيراً) [١٠٥] لهم من النار وليس عليك غير هذا من القسر والإكراه على الدين.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦))

قوله (وَقُرْآناً) نصب ، يفسره (فَرَقْناهُ) بالتخفيف ، أي أنزلناه متفرقا بالنجوم ، يعني في أزمان مختلفة أو فرقناه بمعنى بيناه تبيانا أو جعلناه فارقا بين الحق والباطل (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) بضم الميم ، أي على مهل وترسل (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [١٠٦] أي في ثلاث وعشرين سنة على حسب الحوادث.

__________________

(١) «علمت» : ضم الكسائي التاء وفتحها غيره. البدور الزاهرة ، ١٨٩.

(٢) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٣ / ١٩٥.

٣٥

(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧))

(قُلْ) يا محمد تهديدا لهم (آمِنُوا بِهِ) أي بالقرآن (أَوْ لا تُؤْمِنُوا) به ، فان الله غني عنكم وعن إيمانكم ، وفيه أمر له عليه‌السلام بالإعراض عنهم لاحتقارهم شأنهم ، ثم أخبر توبيخا لهم وتعييرا بأن خيرا منهم وأفضل من علماء أهل الكتاب ، قد آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم ، فاذا تلي القرآن عليهم خروا سجدا لله تعظيما لأمره بقوله (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وهو في معنى التعليل ل (آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) ، أي لأنهم أعطوا علم كتابهم وهم مؤمنو أهل الكتاب (مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل القرآن أو قبل محمد عليه‌السلام (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي يعرض عليهم القرآن فيعرفونه (يَخِرُّونَ) أي يسقطون (لِلْأَذْقانِ) أي على الوجوه ، فاللام بمعنى «على» أو المعنى : يجعلون الخرور مختصا بأذقانهم ، فاللام للاختصاص وخصت «الأذقان» بالذكر لأنها أقرب شيء من الوجه إلى الأرض ، وهي جمع ذقن ، والذقن ملتقى اللحيين (١)(سُجَّداً) [١٠٧] أي ساجدين شاكرا لله تعالى.

(وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨))

(وَيَقُولُونَ) في السجود (سُبْحانَ رَبِّنا) أي ننزهه تنزيها من الشرك ومن كل نقص في واحدانيته (إِنْ كانَ) أي إن الشأن كان (وَعْدُ رَبِّنا) الذي وعده بأن يبعث محمدا نبيا من العرب (لَمَفْعُولاً) [١٠٨] أي لكائنا حقا.

(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩))

(وَيَخِرُّونَ) أي ويسقطون (لِلْأَذْقانِ) أي على وجوههم (يَبْكُونَ) نصب على الحال من ضمير (يَخِرُّونَ (وَيَزِيدُهُمْ) نزول القرآن (خُشُوعاً) [١٠٩] أي خضوعا لربهم أو لين القلب ورطوبة العين ، قيل : من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه (٢) ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلج من بكى من خشية الله تعالى» (٣) ، وكرر الخرور للأذقان فيه لاختلاف الحالين ، حال السجود وحال البكاء.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠))

قوله (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) نزل حين قال أهل الكتاب أنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التورية هذا الاسم (٤) ، فقال تعالى قل يا محمد سموا ربكم الله أو سموه الرحمن ، فالدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء ، وإلا يلزم تعدد الآلهة ، ويجوز أن يكون نصب (اللهَ) و (الرَّحْمنَ) على نزع الخافض ، تقديره : نادوا ربكم بالله أو بالرحمن فلا يلزم ذلك وهو يتعدى إلى مفعولين مثل دعوته زيدا وقد يذكر أحدهما ويترك الآخر استغناء عنه نحو دعوت زيدا أي سميته زيدا ، و (أَوِ) فيه للتخيير ، وقيل : نزل حين قال أبو جهل ينهانا محمد عن آلهتنا وهو يدعو إلهين (٥) ، فقال تعالى (أَيًّا ما تَدْعُوا) أي أي هذين الاسمين سميتم أو ذكرتم (فَلَهُ) أي فلمسمى هذين الاسمين (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي الصفات العلى ، فهذان الاسمان منها فيكونان حسنين و (أَيًّا) كلمة استفهام وشرط ، عمل فيها (تَدْعُوا) لاقتضائه مفعولا و (ما) زائدة لتأكيد الإبهام في «أي» ، و (تَدْعُوا) مجزوم ب «أي» ، لأنه شرط جازم يقتضي جزاء ، وقوله (فَلَهُ) جزاؤه ، والضمير فيه يرجع إلى مسمى هذين الاسمين ، وهو ذاته تعالى لأن التسمية للذات لا للاسم ، والأصل : أيا ما تدعوا منهما فهو حسن ، فوضع موضعه قوله (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، ومعنى كونه أحسن الأسماء أنها مستقلة بمعاني التحميد والتقديس

__________________

(١) اللحيين ، ب س : اللجبين ، م.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٣) أخرجه مسلم ، فضائل الجهاد ، ٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٣٦.

(٤) عن الضحاك ، انظر الواحدي ، ٢٤٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٩٦ ؛ والسمرقندي ، ٢ / ٢٨٧.

(٥) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٢٤٩ ؛ والكشاف ، ٣ / ١٩٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٨٧.

٣٦

والتعظيم ، قيل : كان المشركون إذا سمعوا أذكار رسول الله عليه‌السلام أو قراءته في الصلوة لغوا وسبوا (١) ، لأنه كان يرفع صوته بها فأمر بالخفض بقوله (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي قراءتك في صلوتك (وَلا تُخافِتْ بِها) أي ولا تخفها عن أصحابك لينتفعوا بقراءتك (وَابْتَغِ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي واطلب (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين فعلك من الرفع والخفض (سَبِيلاً) [١١٠] أي طريقا وسطا بأن تجهر بصلوة الليل وتخافت بصلوة النهار ، وقيل : معنى (بِصَلاتِكَ) بدعائك (٢) ، لأن الصلوة تستعمل بمعنى الدعاء ، وقيل : الآية نسخت بقوله (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)(٣).

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمر للنبي عليه‌السلام بأن يحمد الله على وحدانيته ، لأنه المنعم لكل نعمة ظاهرة وباطنة لا غير ، وصفه بقوله (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) إذ لا جنس له (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) إذ لا مثل له فلا يعازه (٤) في عظمته (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ) أي ناصر ينصره (مِنَ الذُّلِّ) أي من أن يعرض له المذلة ، لأنه منزه عنه ، فلا يحتاج إلى الناصر ، قيل : كيف لاق هذا الوصف النافي للأشياء المذكورة بكلمة التحميد؟ أجيب بأن الموصوف به هو الواحد القاهر القادر على إيلاء كل نعمة ، فهو المستحق لكل حمد (٥) ، فحمده (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [١١١] أي بالغ في تعظيمه على قدر معرفتك ، فنزهه كما نزه نفسه عن اتخاذ الولد والشريك والولي من الذل ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء» (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» (٧) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحب الكلام إلى الله أربع : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، لا يضرك بأيهن بدأت» (٨) ، روي : أن رجلا جاء إلى النبي عليه‌السلام فقال : يا رسول الله! إني رجل كثير الدين ، كثير الهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : اقرؤا آخر بني إسرائيل «قل ادعوا الله» حتى تختم ، ثم قل توكلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات» (٩) ، وهذه الآية تسمى آية العزة ، وكان النبي عليه‌السلام يعلمها الصغير إذا فصح من بني عبد المطلب ، أي جاد في الكلام الحمد لله أنعم علينا وهدانا إلى الإسلام وصلّى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين (١٠).

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٢٤٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٨٧ ؛ والواحدي ، ٣ / ٥٣٧.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٩٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٣٧.

(٣) الأعراف (٧) ، ٥٥. أخذه عن الكشاف ، ٣ / ١٩٦ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٨٣ ؛ وهبة الله بن سلامة ، ٦١.

(٤) فلا يعازه ، ب م : فلا يعانه ، س.

(٥) نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ١٩٧.

(٦) انظر البغوي ، ٣ / ٥٣٨. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي رجعتها.

(٧) رواه الترمذي ، الدعاء ، ٩ ؛ وابن ماجة ، الأدب ، ٥٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٣٨.

(٨) انظر البغوي ، ٣ / ٥٣٨. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي رجعتها.

(٩) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٨٧. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي رجعتها.

(١٠) وهذا منقول عن الكشاف ، ٣ / ١٩٧.

٣٧

سورة الكهف

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١))

قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تلقين من الله لعباده كيف يحمدونه على أعظم نعمه الذي هو سبب نجاتهم من العذاب وفوزهم بالثواب يوم القيامة ، أي جميع المحامد لله (الَّذِي أَنْزَلَ) بجبرائيل (عَلى عَبْدِهِ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْكِتابَ) أي القرآن وإنما خص الرسول عليه‌السلام بالذكر لبيان أن إنزال القرآن الذي هو نعمة عظيمة عليه على الخصوص وإن كان غيره على العموم ، قيل : ذكر التحميد في إنزال الكتاب والتسبيح في إسراء ، لأن مقام التسبيح مبدأ درجات كماله ومقام التحميد نهايتها لكونه مكملا للبشر بالكتاب (١) ، قوله (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [١] إشارة إلى كمال الكتاب نحو لا ريب فيه ، أي لم يجعل الله للكتاب عوجا ، أي ميلا عن الصواب فهو بالغ في الصحة حتى يجب للعاقل أن لا يرتاب فيه.

(قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣))

قوله (قَيِّماً) منصوب بتقدير «جعله» ، وليس بحال من (الْكِتابَ) ، لأنه يلزم العطف على الصلة قبل تمامها ، ويجوز أن يكون «ولم يجعل» حالا منه ، و (قَيِّماً) حال أخرى ، ويكون إشارة إلى تكميل غيره ، لأن القيم هو القائم بمصالح الغير نحو هدى للمتقين ، أي أنزله (٢) الله قيما بمصالح عباده لما فيه من الأحكام والشرائع الموجبة لاستقامة الدين ، وقيل : بل جعله مستقيما لا نقص فيه بوجه ما كالتناقض والاختلاف (٣) ، ففي نفي العوج عنه ووصفه بالقيم دلالة على أنه في غاية الاستقامة ، فيكون ذكره للتأكيد (لِيُنْذِرَ) أي ليخوف عبده بالكتاب الذين كفروا بالبعث (بَأْساً شَدِيداً) أي بالعذاب القوي ، يعني النار ولم يذكر المفعول الأول ، لأن المنذر به هو الغرض بالإنذار (مِنْ لَدُنْهُ) تضم الدال وسكون النون ، وبسكون الدال وكسر النون (٤) ، أي صادرا من عنده ، وقدم الإنذار ، لأن دفع الضر أهم من تحصيل النفع (وَيُبَشِّرَ) بالكتاب (الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ) أي بأن (لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) [٢] وهو الجنة (ماكِثِينَ فِيهِ) أي مقيمين في الأجر الحسن (أَبَداً) [٣] لا يخرجون منه.

(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦))

(وَيُنْذِرَ) أي ويخوف أيضا (الَّذِينَ قالُوا) أي قال كفار مكة (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً [٤] ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي ليس لهم باتخاذ الولد له تعالى علم على حقيقته (٥) ، ولكن قولهم به عن جهل مفرط وتقليد الآباء وتسويل الشيطان (وَلا لِآبائِهِمْ) أي ليس لآبائهم من قبلهم من علم أيضا ، لأنه مستحيل في حقه تعالى لا للجهل

__________________

(١) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٢) أي أنزله ، و : أي أنزل ، ح ، أنزله ، ي.

(٣) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ١٩٧.

(٤) «من لدنه» : قرأ شعبة باسكان الدال مع إشمامها الضم وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ ؛ والباقون بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء من غير صلة إلا للمكي ، فمع الصلة. البدور الزاهرة ، ١٩٠.

(٥) حقيقته ، وي : الحقيقة ، ح.

٣٨

بالطريق الموصل إليه (كَبُرَتْ) أي عظمت مقالتهم وميزت بقوله (١)(كَلِمَةً تَخْرُجُ) أي تظهر بخروج النفس (مِنْ أَفْواهِهِمْ) فيه معنى التعجب (٢) ، أي ما أكبرها ووصفها بالخروج من أفواههم استعظاما لجرءتهم على النطق بها وهي قولهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (إِنْ يَقُولُونَ) أي ما يقولون (إِلَّا) قولا (كَذِباً [٥] فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) أي مهلكها (عَلى آثارِهِمْ) أي من بعد ذهابهم عن مجلسك بحال الكفر (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي بالقرآن (أَسَفاً) [٦] مفعول له ، أي للأسف ، وهو أشد الحزن أو أشد الغضب أو حال من ضمير (باخِعٌ).

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧))

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) أي الذي (٣) عليها من النبات والأشجار وزخارف الدنيا (زِينَةً لَها) ولأهلها (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنختبر الناظرين إليها (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [٧] أي أزهد وأشكر في الدنيا وهم كفروا مكان الشكر واغتروا بها مكان الزهد.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) أي إنا لنجعل عند النفخة الأولى ما على الأرض من الزينة والبهجة (صَعِيداً جُرُزاً) [٨] أي أرضا بيضاء يابسا لا نبات فيها ولا ماء ولا حيوان يتحرك فيها.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩))

قوله (أَمْ حَسِبْتَ) نزل حين أرسل أهل مكة خمسة رهط منهم إلى يهود المدينة ، وقالوا : سلوهم عن أمر محمد وصفته ، فانه يزعم أنه نبي مرسل ، فقالت اليهود : سلوه عن قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين والروح ، فان أخبركم عن القصتين دون الروح ، فاعلموا أنه نبي مرسل فاتبعوه ، وإلا فهو كاذب ، فسألوه ، فقال : أخبركم غدا ولم يقل «إن شاء الله» ، فرجعوا ولم ينزل عليه جبرائيل إلى ثلاثة أيام في رواية ، فقالوا : ودعه ربه وأبغضه ، فشق ذلك على رسول الله ، فنزل به جبرائيل ، فقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم له : يا أخي لم أبطأت علي؟ فقال : أنا عبد مثلك ، ما نتنزل إلا بأمر ربك ، فلما قرأ عليهم الرسول آية (أَمْ حَسِبْتَ) إلى آخر القصة ، قالوا : هذا ساحر كموسى فلم يصدقوه (٤) ، و (أَمْ) بمعنى «بل» والهمزة وهو يقتضي الاستفهام قبله لفظا أو تقديرا ، فتقديره : أحسبت أن ذلك المذكور من الآيات ، أي تزيين الأرض بما ذكرنا ، ثم جعلنا إياه كله كأن لم يكن قط أعجب من قصة أصحاب الكهف أم حسبت (٥) ، أي بل ظننت وعلمت بالقرآن (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ) أي الغار الواسع (وَالرَّقِيمِ) اسم كلبهم أو لوح كتب فيه أسماؤهم على باب الكهف ليقف من بعدهم على خبرهم أو هو اسم للجبل (٦) الذي فيه الكهف (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) [٩] أي آية عجيبة ، يعني عجب منها (٧) ، ومحل (مِنْ آياتِنا) حال من (عَجَباً) ، قدم عليه ، قيل معناه : أنهم ليسوا بأعجب من آياتنا (٨) ، فمعنى (أَمْ حَسِبْتَ) أن ما خلقنا من السموات والأرض وما فيهن (٩) من العجائب أعجب منهم ، والأول أقرب ، لأن الإضراب عن الكلام الأول إلى الكلام الثاني إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب وأحسن ليحصل الترقي.

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠))

(إِذْ أَوَى) أي اذكر إذ دخل (الْفِتْيَةُ) جمع فتى ، وهو الشاب الكامل (إِلَى الْكَهْفِ) ليجعلوه مأوى لهم خوفا على دينهم من قومهم الكفرة (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) أي من خزائن رحمتك (رَحْمَةً) أي مغفرة وأمنا من

__________________

(١) بقوله ، ح ، ي : لقوله ، و.

(٢) التعجب ، وي : التعجيب ، ح.

(٣) أي الذي ، ح ي : الذي ، و.

(٤) عن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٩٠.

(٥) أم حسبت ، ح و : حسبت ، ي.

(٦) للجبل ، وي : الجبل ، ح.

(٧) يعني عجب منها ، وي : ـ ح.

(٨) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥٤١.

(٩) فيهن ، وي : فيها ، ح.

٣٩

الأعداء (وَهَيِّئْ) أي أصلح (لَنا مِنْ أَمْرِنا) أي للأمر الذي نحن فيه وهو الإيمان وترك الكفر (رَشَداً) [١٠] أي هداية تحفظنا عن الضلالة.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١))

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) حجابا من أن تسمع ، أي أنمناهم نوما ثقيلا لا يؤثر فيه صوت ما ، قوله (فِي الْكَهْفِ) ظرف ل «ضربنا» ، ومفعوله محذوف وهو «حجابا» (سِنِينَ عَدَداً) [١١] ظرف آخر ل «ضربنا» ، أي ذوات عدد يريد الكثرة كما اختاره الزجاج (١) ، لأن الكثير يحتاج إلى العد والقليل لا يحتاج.

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي أيقظناهم بعد ما أنمناهم (لِنَعْلَمَ) أي ليتعلق بعلمنا ما يظهر في الوجود من أمرهم (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) المختلفين منهم في مدة لبثهم (أَحْصى) أي ضبط (٢)(لِما لَبِثُوا أَمَداً) [١٢] أي أمد أوقات لبثهم ، أي غايتها ، ف (أَمَداً) مفعول به ل (أَحْصى) ، لأنه فعل ماض ، وقوله (لِما لَبِثُوا) في التقدير صفة (أَمَداً) ، فلما قدم صار حالا ، أي أمدا لأوقات لبثهم ، وقيل : (أَحْصى) أفعل التفضيل بعد حذف الزيادة على غير قياس نحو هو أعطى للمال (٣) ، ف (أَمَداً) حينئذ منصوب بمحذوف ، دل عليه (أَحْصى) وهو ضبط ، لأن أفعل لا يعمل ولا يعمل فيه (لَبِثُوا) ، لأنه يخل بالمعنى ، إذ المقصود هو العلم بغاية لبثهم لا العلم بلبثهم في الغاية.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣))

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ) أي خبرهم (بِالْحَقِّ) أي بالصدق (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ) بعد الإيمان بالتوفيق والتثبيت (هُدىً) [١٣] أي بصيرة في دينهم.

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤))

(وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قويناها على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام والصبر على هجر الأوطان وترك اللذات (إِذْ قامُوا) بأمرنا بين يدي الجبار ، وهو دقيانوس الملك ، وكان جبارا أكره أهل الإنجيل على عبادة الأصنام حين دخل مدينة أفسوس بعسكره وتسلط عليهم ، فمن كفر بالله واتبع دينه تركه ومن لم يتبعه قتله ، وأراد فتية من أشراف قومه على الشرك ، وتوعدهم بالقتل فأبوا عنه وقاموا باثبات الحجة وإظهار الإسلام بعد أن أمرهم بالسجود للأصنام والتشديد على عبادة غير الله تعالى وقول الكفر (فَقالُوا) بالإخلاص والتوكل على الله رادين عليه من غير مبالاة (٤) به (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا) أي لن نعبد (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (إِلهاً) ولا نسأل من غيره ولئن دعونا غيره فرضا (لَقَدْ قُلْنا إِذاً) قولا (شَطَطاً) [١٤] أي ذا شطط وهو الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من شط إذا بعد.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

قوله (هؤُلاءِ قَوْمُنَا) الآية إنكار منهم لحال قومهم ، و (قَوْمُنَا) عطف بيان ل (هؤُلاءِ) ، وهو مبتدأ ، خبره (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله بالجهل (آلِهَةً) لعبادتهم وهذا إخبار في معنى الإنكار ، خبره (لَوْ لا يَأْتُونَ) أي هلا يجيئون (عَلَيْهِمْ) أي على عبادتهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي حجة ظاهرة ، وهو تبكيت لهم ، لأن الاتيان بذلك محال ودليل على فساد التقليد ، إذ لا بد في الدين من الحجة على صحته (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى

__________________

(١) انظر الكشاف ، ٣ / ١٩٩.

(٢) أي ضبط ، ح : أي أضبط ، و ، ضبط ، ي.

(٣) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ١٩٩.

(٤) مبالاة ، وي : مبالات ، ح.

٤٠