عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [٢٥] التوحيد ووجوبه عليهم ولا يتنبهون إذا نبهوا عليه.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦))

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له ما فيهما من الخلق لا شريك له فيه (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ) عن عبادة خلقه (الْحَمِيدُ) [٢٦] في فعاله.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧))

قوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) الاية نزل جوابا لليهود لما قالوا قد أوتينا التورية وفيها كل الحكمة فلا نحتاج إلى ما أنزل عليك (١) ، وقيل : نزل حين قال المشركون الوحي كلام سينفد (٢) ، أي سيفني وينقطع ، قوله (مِنْ شَجَرَةٍ) بالتنكير والإفراد ، أي من كل فرد من جنس الشجر حتى لا يبقى منه واحدة إلا وقد برئت أقلاما حال من (ما) التي هذ اسم (أَنَّ) و (أَقْلامٌ) خبر «أن» (وَالْبَحْرُ) بالنصب عطف على (ما) ، وبالرفع (٣) عطف على محل اسم (أَنَّ) أو مبتدأ ، وخبره (يَمُدُّهُ) والجملة حال على معنى ولو أن جميع الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا سبعة أبحر ، أي وينصب في البحر (مِنْ بَعْدِهِ) أي من خلقه (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) ومياهها مداد فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) أي متعلقات علمه بالكتبة ونفدت الأقلام والمداد ، قيل : أصل الكلام أن يقال ولو أن الشجرة أقلام والبحر مداد لكن ذكر «يمده» أغنى عن ذكر المداد لأنه من قولك مد الدواة إذا صب فيها مدادها (٤) ، وإنما لم يقل كلم الله إيذانا بأن القليل من كلامه تعالى لا تفي بكتبته البحار فكيف بالكثير لا يقال لا ضمير في جملة الحال لأنا نقول المعنى وبحرها والضمير للأرض أو هي من الأحوال التي حكمها حكم الظروف كقولهم جئتك والشمس طالعة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) [٢٧] لا يخرج من علمه شيء فلا ينفد كلماته وهي حكمه (٥).

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨))

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ) مع كثرتكم (إِلَّا كَنَفْسٍ) أي كخلق نفس (واحِدَةٍ) وبعثها بحذف المضاف ، أي سواء في قدرته القليل والكثير لأنه لا يشغله شأن عن شأن (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كل صوت (بَصِيرٌ) [٢٨] يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك (٦) بعض ، فكذلك الخلق والبعث.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ) أي يدخل (اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أو ينقص كل واحد منهما بصاحبه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما لابن آدم فالله تعالى دل به على عظم قدرته وحكمته فقال مخاطبا لمحمد عليه‌السلام والمراد غيره ، يعني ألم تعلم (٧) أن الله يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بمغيب الشمس ويدخل ضياء ذاك في مكان ظلمة (٨) هذا بطلوع الشمس أو يزيد أحدهما وينقص الآخر وسخر النيرين في فلكيهما (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى مدة معلومة لا يتجاوزها فجميع ذلك على تقدير وحساب ، فدل بذكر (إِلى) على الانتهاء ، وإذا قصد الاختصاص يذكر باللام فيكون معنى يجري لأجل مسمى لإدراك أجل معلوم ، فالجري

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٥ / ٢٢.

(٢) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢٤ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤١٥.

(٣) «وَالْبَحْرُ» : قرأ البصريان بنصب الراء ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٥١.

(٤) نقله عن الكشاف ، ٥ / ٢٢.

(٥) حكمه ، وي : حكمته ، ح.

(٦) إدراك ، ح : ـ وي.

(٧) يعني ألم تعلم ، وي : يعني ألم يعلم ، ح.

(٨) ظلمة ، ح و : ـ ي.

٢٨١

مختص بالإدراك حينئذ (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ) بالتاء والياء (١)(خَبِيرٌ) [٢٩] أي بجميع أعمالكم فتؤمنون به وتعبدونه وحده.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠))

(ذلِكَ) أي المذكور من الدلالة على عظم قدرته (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الذي لا يجوز أن يعبد إلا هو بالألوهية (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الآلهة هو (الْباطِلُ) أي باطل في الألوهية (٢)(وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ) الشأن (الْكَبِيرُ) [٣٠] السلطان أو العلي الكبير عن أن يشرك به.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) أي برحمته وإحسانه (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) أي دلائله على الوحدانية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على طاعته وبلائه (شَكُورٍ) [٣١] لنعمه وهما صفتا المؤمن العاقل.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢))

(وَإِذا غَشِيَهُمْ) أي غطى المشركين (مَوْجٌ كَالظُّلَلِ) لأن الموج يرتفع ويتراكب فيعود مثل الظلل وهي السحب ، والظلة كل ما أظلك من سحاب أو جبل أو غيرهما (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) أي إلى موضع القرار (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي متوسط في الظلم والكفر ، يعني انزجر بعض الانزجار فانحط عن علوه أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه من الخوف في البحر ثابت على ما عاهد عليه الله فيه (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الدالة على قدرتنا (إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) أي غدار خداع ، والختر أشد الغدر (كَفُورٍ) [٣٢] للإحسان إليه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٣٣))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً) أي عذاب يوم (لا يَجْزِي) فيه ، أي لا يغني (والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ) أي الولد (هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) مما عليه من الدين أو العذاب ، وإنما جاء بالمعطوف جملة اسمية والمعطوف عليه جملة فعلية لأن الاسمية آكد من الفعلية ، إذ المقام مقام التوكيد ، قيل : هذا في الكفار خاصة ، وأما المؤمن فانه ينفع لقوله تعالى (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(٣) ، أي بشرط الإيمان ، إذ لا ينفع المؤمن والده ولا ولده اللذين قبضا على الكفر بالشفاعة لهما (٤)(إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أي البعث (حَقٌّ) كائن لا خلف فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي زينتها لاطمئنان بها وترك العمل للآخرة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [٣٣] أي الشيطان المضل عن سبيل الله بتزيين (٥) أعمالكم الخبيثة لكم ، قيل : الغرة بالله أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة (٦).

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤))

قوله (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية نزل حين سأل الحارث بن عمرو رسول الله أخبرني عن الساعة ، متى قيامها؟ وإني زرعت الأرض فمتى تمطر السماء ، وعن امرأتي أن ما في بطنها ذكر أو أنثى وإني علمت

__________________

(١) هذه القراءة مأخوذة عن السمرقندي ، ٣ / ٢٥.

(٢) أي باطل في الألوهية ، ح : أي باطل الألوهية ، وي.

(٣) الطور (٥٢) ، ٢١.

(٤) اختصره من السمرقندي ، ٣ / ٢٦.

(٥) بتزيين ، وي : بتزين ، ح.

(٦) عن سعيد بن جبير ، انظر الكشاف ، ٥ / ٢٤.

٢٨٢

ما عملت أمس فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت؟ فقال صلّى الله مفاتح الغيب خمس وتلا هذه الآية (١) ، أي علم قيام الساعة عنده (وَ) هو (يُنَزِّلُ الْغَيْثَ) إذا شاء (وَ) هو (يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) على أي وصف كان من سواد وبياض وذكر وأنثى وغير ذلك (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) من خير وشر (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ) أي بأي مكان (تَمُوتُ) من بر أو بحر أو سهل أو حزن ، قيل : لا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فاذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد (٢)(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بحقيقة كل أمر (خَبِيرٌ) [٣٤] بحاله فهو المختص بعلم هذه الأشياء لا غير.

__________________

(١) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٨٩ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤١٧.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

٢٨٣

سورة السجدة

مكية

وتسمى سورة المضاجع

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢))

(الم) [١] خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ بناء على أنه اسم السورة ، خبره (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) قيل : الأوجه أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ (١) ، قوله (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض بين المبتدأ وخبره وهو (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٢] فلا محل له من الإعراب ، والضمير في (فِيهِ) راجع إلى مضمون الجملة ، أي لا شك عند العاقل في أنه منزل من رب الخلق وكونه أوجه بشهادة.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))

قوله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي اختلق القرآن محمد لأنه إنكار لكونه من رب العالمين ، ويؤكده قوله (بَلْ هُوَ الْحَقُّ) أي القرآن حق ثابت (مِنْ رَبِّكَ) لأنه إضراب عن الإنكار وتقرير لأنه من عند الله (لِتُنْذِرَ قَوْماً) هم العرب (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) أي لم يأتهم نذير (مِنْ قَبْلِكَ) لأن العرب لم يبعث إليهم أحد قبل النبي عليه‌السلام فلم يلزمهم الحجة بالرسالة التي توجب الشرائع ، بل يلزمهم الحجة بالدلالة العقلية على معرفة الله وتوحيده ، لأنهم كانوا عقلاء ومعهم أدلة العقل الموصلة إلى ذلك في كل زمان (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [٣] أي لإرادة اهتدائهم فيستعار لفظ الترجي للإرادة.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤))

(اللهُ) رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف وهو هو ، أي رب العالمين الله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من السحاب وغير ذلك (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ليدل على التأني ولو شاء لخلقها في ساعة واحدة (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي علا فوق العرش من غير استقرار عليه (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ) أي دون عذابه (مِنْ وَلِيٍّ) أي ناصر ينصركم (وَلا شَفِيعٍ) يشفع لكم إذا خالفتموه أو المعنى : أن الله ناصركم وشفيعكم ، أي معينكم بطريق المجاز إذا أطعتموه (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) [٤] أي ألا تتعظون بما ذكره من صنعه فتوحدونه.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥))

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة وغير ذلك وينزله أو ينزل الوحي المدبر (مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) بالملك وهو جبرائيل (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) أي يرجع إلى مقره منها (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [٥] من أيامكم لأن المسافة فيه مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود بتعدادكم ، لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام وهو يوم من أيامكم لسرعة جبرائيل بتقويتنا ولا يشكل ب (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ

__________________

(١) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٢٥.

٢٨٤

خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(١) ، لأن المراد به ما بين العرش أو سدرة المنتهى إلى الأرض السفلي ، فان الملك يسيره في قدر يوم هبوطا وصعودا كما سيأتي في سورة المعارج ، وقيل : يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض كل يوم وليلة إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله (٢) ، أي يرجع إليه ويكتب في صحف ملائكته ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦))

(ذلِكَ) المدبر في الحقيقة (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم الظاهر والباطن وهو (الْعَزِيزُ) في ملكه (الرَّحِيمُ) [٦] بخلقه.

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧))

(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) بسكون اللام ونصب القاف بدل من (كُلَّ) ، أي أحسن خلق كل شيء وأتقنه على ما تقتضيه الحكمة ، وبفتح اللام (٣) فعل صفة (كُلَّ) ، أي كل شيء خلقه فقد أحسنه وقومه بعلمه وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) أي آدم (مِنْ طِينٍ) [٧] أي من أديم الأرض.

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨))

(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) أي ذريته (مِنْ سُلالَةٍ) أي من نطفة ، لأنها تنسل ، أي تنفصل منه وتستل (٤) من صلبه ، أي تخرج (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [٨] أي ضعيف وهو المني ، و (مِنْ) فيه للبيان.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩))

(ثُمَّ سَوَّاهُ) أي قوم خلق آدم وعدله (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أي جعل فيه من الشيء الذي اختص هو بعلمه ، ولذلك أضافه إلى ذاته ، فقال من روحه كقوله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(٥) الآية فصار آدم (٦) بسبب ذلك الشيء حيا حساسا بعد أن كان جمادا لا أن ثم حقيقة نفخ (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لتصرفوا كلها في طاعة ربكم (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [٩] رب هذه النعم ، أي لا تشكرونه.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠))

(وَقالُوا) القائل أبي بن كعب لإنكار البعث (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) أي أئذا غبنا فيها وصرنا ترابا نبعث وهو عامل في الظرف ، يدل عليه قوله (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ولا يجوز أن يعمل فيه جديد لأن «ما» بعد «إن» لا يعمل فيما قبلها ، قوله (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) إضراب عن كفرهم بالإنشاء إلى ما هو أبلغ من الكفر ، أي أنهم (كافِرُونَ) [١٠] بجميع ما يكون في العاقبة لا بالإنشاء وحده.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١))

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يقبض أرواحكم (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) بقبض أرواحكم ، قيل : «حويت الأرض لملك الموت وجعلت له كطست لديه يتناول منه ما يشاء» (٧) ، وقيل : ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها (٨) ، ثم خاطبهم الله بالرجوع إلى ربهم بعد توفي ملك الموت أرواحهم بقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [١١] بعد الموت احياء للحساب والجزاء وهذا معنى لقاء الله عزوجل.

__________________

(١) المعارج (٧٠) ، ٤.

(٢) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ٤ / ٤١٩ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٦.

(٣) «خلقه» : لا يخفى ما فيه لورش وحمزة وهشام وأبي جعفر وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام ، والباقون باسكانها. البدور الزاهرة ، ٢٥٢.

(٤) وتستل ، وي : وتنسل ، ح.

(٥) الإسراء (١٧) ، ٨٥.

(٦) آدم ، وي : ـ ح.

(٧) عن مجاهد ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٢١ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٧.

(٨) قد أخذه المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٢٧.

٢٨٥

(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣))

(وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي مطأطئوها حياء وخجلا وندما (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة لرأيت أمرا عظيما لا يدرك وصفه ، ويجوز أن يكون (لَوْ) للتمني ، أي ليتك تراهم على تلك الحالة الردية الفظيعة من الخزي والغم لتشمت بهم أو هو خطاب عام ، فثم يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا) معاصينا (وَسَمِعْنا) قول الرسل (فَارْجِعْنا) إلى الدينا (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) فيها (إِنَّا مُوقِنُونَ) [١٢] بما أنكرنا ثمه من البعث ، وقيل معناه : قد آمنا وأيقنا بالقيامة ولكن لا ينفعهم (١) ، فقال تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي رشدها على طريق القسر والإلجاء ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار فاستحبوا العمى على الهدى (وَلكِنْ حَقَّ) أي وجب (الْقَوْلُ) بالوعيد على أهل العمى (مِنِّي) وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [١٣] أي من كفارهما.

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))

(فَذُوقُوا) أي قلنا لهم يوم القيامة ذوقوا العذاب (بِما نَسِيتُمْ) أي بسبب نسيانكم وذهولكم بالشهوات عن تذكر العاقبة أو النسيان بمعنى الترك ، أي بسبب ترككم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يعني يوم القيامة والاستعداد له (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي جازيناكم جزاء نسيانكم وتركناكم في النار كما تركتم العمل بطاعتنا لهذا اليوم (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي الدائم في جهنم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [١٤] من الكفر والمعاصي الموبقة.

(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))

ثم قال تعالى مخبرا عن حال المخلصين من عباده (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا) أي وعظوا (بِها) أي بتلك الآيات (خَرُّوا سُجَّداً) في الصلوة أو سجدوا تواضعا لله وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزهوا الله من نسبة القبائح إليه واثنوا عليه حامدين أو صلوا بأمره (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [١٥] عن الإيمان والطاعة.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦))

قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) نزل في المتهجدين (٢) ، أي تبعد وترتفع جنوبهم عن الفرش والوساد لترك النوم (يَدْعُونَ) أي داعين (رَبَّهُمْ) يعني عابدين له (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته أو خوفا من القطيعة وطمعا في الوصل (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [١٦] أي يتصدقون طوعا.

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) ما) استفهام ، مبتدأ و (أُخْفِيَ لَهُمْ) مجهولا خبره ، والضمير في (أُخْفِيَ) راجع إلى (ما) ، والجملة في محل النصب ب (تَعْلَمُ) سد مسد المفعولين ، وقرئ «ما أخفي» بسكون اللام (٣) على البناء للفاعل مستقبلا وهو الله تعالى ، و (ما) بمعنى الذي عامله (تَعْلَمُ) أو بمعنى أي شيء ، عامله (أُخْفِيَ (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٤) هي ما تقر به أعينهم وتسكن إليه أنفسهم في محل النصب حال من فاعل (أُخْفِيَ) ، والمعنى : لا تعلم نفس ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع من الثواب ادخر الله لأولئك واخفاه (٥) من جميع خلائقه ثم

__________________

(١) اختصر المصنف هذا المعنى من السمرقندي ، ٣ / ٣٠.

(٢) عن الحسن ومجاهد ، انظر الواحدي ، ٢٩١ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٢٣ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٨.

(٣) «أخفي» : قرأ حمزة ويعقوب باسكان الياء ، والباقون بفتحها ولا خلاف بينهم في ضم الهمزة وكسر الفاء.

البدور الزاهرة ، ٢٥٣.

(٤) أي ، ح : ـ وي.

(٥) اخفاه ، و : اخفاءه ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٨.

٢٨٦

لا يعلمه إلا هو (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١٧] من الخير هنا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله تعالى : «اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (١).

(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨))

قوله (٢)(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) الإفراد فيه محمول (٣) على لفظ «من» ، وقوله (لا يَسْتَوُونَ) [١٨] جمع ، محمول على معناها ، أي لا يستوون عند الله ، وفيما أعد لهم يوم القيامة.

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩))

ثم بين التفاوت (٤) بينهما فقال (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ) استحقاقا وتكرما من الله تعالى (جَنَّاتُ الْمَأْوى) سميت به لأن أرواح الشهداء تأوي إليها ، نزل في علي رضي الله عنه والوليد بن عقبة لما قال لعلي : اسكت فانك صبي حين وقع بينهما كلام في بدر ، وقال : أنا أجلد منك جلدا وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأدرب منك لسانا ، فقال علي : اسكت فانك فاسق (٥) ، فعمهما ومن في مثل حالهما قوله (نُزُلاً) مصدر ، والمراد ما يعد للضيف عند نزوله ثم صار عاما للعطاء (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١٩] أي بسبب أعمالهم الصالحة.

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١))

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا) أي أشركوا بالله (فَمَأْواهُمُ النَّارُ) مكان جنة المأوى للمؤمنين (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار (أُعِيدُوا فِيها) أي تضربهم الزبانية بمقامع من نار فتهوي بهم إلى قعرها (وَقِيلَ) أي يقولون (لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) أي بعذابها (تُكَذِّبُونَ [٢٠] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) أي الأقرب وهو عذاب الدنيا من القتل والأسر والجدب سبع سنين والأمراض (دُونَ) أي قبل (الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) وهو عذاب النار أو الأدنى عذاب القبر والأكبر النار ، والمعنى : إنا نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٢١] أي يتوبون على الكفر باختيارهم إذا أراد الله ذلك أو من بقي منهم.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ) أي وعظ (بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) أي عن الآيات ، وجيء ب «ثم» للإيذان أن الإعراض عن الآيات بعد وضوحها وإرشادها إلى السبيل مستبعد في العقل (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) كلهم (مُنْتَقِمُونَ) [٢٢] أي منتصرون ولم يقل إنا منه ، لأنه لما جعله أظلم الظلمة ثم توعد للمجرمين عامة بالانتقام فقد دل على أن نصيب الأظلم من الانتقام هو النصيب الأوفر منه فلو قال منه لم يفد هذه الفائدة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية (فَلا تَكُنْ) يا محمد (فِي مِرْيَةٍ) أي في شك (مِنْ لِقائِهِ) أي من لقاء (٦) الكتاب ، المعنى : آتينا موسى الكتاب (٧) ولقيناه فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله من الوحي لا من غيره أو لا تشك يا محمد من لقاء موسى التورية فانا ألقينا عليه التورية ولقناه تلك كلها (وَجَعَلْناهُ) أي جعلنا (٨) الكتاب المنزل على موسى (هُدىً) لقومه ، أي جعل (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [٢٣] خاصة دون بني إسمعيل ، لأنهم كانوا على دين إبراهيم دون موسى.

__________________

(١) انظر السمرقندي ، ٣ / ٣١.

(٢) قوله ، وي : ـ ح.

(٣) محمول ، ح : ـ وي.

(٤) التفاوت ، وي : المتوافت ، ح.

(٥) عن ابن عباس ، انظر الواحدي ، ٢٩٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣١.

(٦) أي من لقاء ، و : ـ وي.

(٧) الكتاب ، و : ـ وي.

(٨) أي وجعلنا ، و : ح ي.

٢٨٧

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤))

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة (يَهْدُونَ) أي يدعون الناس إلى ما في التورية من دين الله وشرائعه (بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) بالتشديد ، أي جعلوا أئمة حين صبروا على نصرة الدين وثبتوا على ذلك فلم يرجعوا عنه ، وقرئ «لما صبروا» بالتخفيف وكسر اللام (١) ، أي جعلوا (٢) أئمة لصبرهم على ذلك (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [٢٤] أي يصدقون بما أعطي موسى من المعجزات.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥))

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي يقضي بين الأنبياء وأممهم أو بين المؤمنين والمشركين فيميز المحق في دينه من المبطل (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [٢٥] من الدين هنا.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))

ثم هددهم بقوله (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) عطف على مقدر ، أي ألم يبعث الله إلى أهل مكة محمدا ولم يهد ، أي ولم يعرفهم (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود وغيرهما (مِنَ الْقُرُونِ) فالفاعل «الله» والمفعول (كَمْ أَهْلَكْنا) ، ويجوز أن يكون الفاعل ما دل عليه (كَمْ أَهْلَكْنا) ، أي أو لم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون (يَمْشُونَ) أي أهل مكة (فِي مَساكِنِهِمْ) أي يمرون في متاجرهم على ديارهم بعد هلاكهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي لعبرات (أَفَلا يَسْمَعُونَ) [٢٦] المواعظ فيتعظون.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧))

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ) بالسحاب أو بالأنهار (إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) أي التي قطع نباتها لعدم المطر أو لغيره فيستدلوا على قدرتنا فيؤمنوا (فَنُخْرِجُ بِهِ) أي بالماء (زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ) كالتبن والأوراق (وَأَنْفُسُهُمْ) كالحبوب والفواكه (أَفَلا يُبْصِرُونَ) [٢٧] ذلك فيؤمنون.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩))

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) أي الحكم علينا بالنار أو الفصل بين المؤمنين وأعدائهم أو فتح مكة ، نزل حين قال الكفار للمؤمنين : متى قيام الساعة؟ فيقضي بيننا وبينكم (٣)(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٢٨] في الوعد وهو سؤال استعجال منهم على وجه الاستهزاء والتكذيب ، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم بقوله (قُلْ) لهم لا تستعجلوا ولا تستهزؤا فان (يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) وهو يوم القيامة أو فتح مكة أو يوم بدر ، والمراد المقتولون منهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [٢٩] أي يمهلون بل يعذبون بالقتل فلا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع إيمان فرعون له يوم الغرق.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠))

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ) النصرة عليهم لصدق وعدي (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) [٣٠] هلاكك وإنك أحق أن تنتظر هلاكهم ، والملائكة في السماء ينتظرونه لأنهم هالكون لا محالة.

__________________

(١) «لَمَّا صَبَرُوا» : قرأ الأخوان ورويس بكسر اللام وتخفيف الميم ، والباقون بفتح اللام وتشديد الميم. البدور الزاهرة ، ٢٥٣.

(٢) حين صبروا على نصرة الدين وثبتوا على ذلك فلم يرجعوا عنه وقرئ لما صبروا بالتخفيف وكسر اللام أي جعلوا ، و : ـ وي.

(٣) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٣.

٢٨٨

سورة الأحزاب

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١))

قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) أي واظب على ما أنت عليه من التقوى ، نزل حين قدم أبو سفيان ومن تابعه من أهل الشرك على النبي عليه‌السلام فقالوا له وكانت بينه وبينهم موادعة ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تشفع وتنفع ونحن ندعك وربك ، فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المؤمنين وهموا بقتل أولئك (١) ، فمنعهم الله تعالى بقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) وأراد بالخطاب النبي عليه‌السلام وأصحابه ، أي اتقوه في نقض العهد ونبذ المواعدة (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) من أهل مكة (وَالْمُنافِقِينَ) من أهل المدينة فيما طلبوا إليك ، وإنما لم يقل يا محمد بصريح اسمه تشريفا له ، وأما قوله (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)(٢) ونحوه فلتعليم الناس بأنه رسول الله وتنبيههم على اتباعه ، المعنى : لا تطع الكافرين والمنافقين رأيا ومشورة واحترس منهم ، فانهم أعداء الله وأعداء المؤمنين لا يريدون إلا المضارة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بالصواب من الخطأ (حَكِيماً) [١] لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بالحكمة.

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢))

(وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وهو القرآن واعمل به لا برأي الكافرين والمنافقين (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [٢] بالياء ، أي بما يعمل الكفار من كيدهم لكم ، وبالتاء (٣) ، أي بما يصلح به أعمالكم فلا حاجة بكم إلى الاستماع من الكفار.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣))

(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي اسند أمرك إليه (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) [٣] أي كفى هو لك حافظا ومدبرا كل أمر لك.

(ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤))

قوله (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) نزل حين قال الكفار أن لمحمد قلبين ، قلب معنا وقلب مع أصحابه (٤) ، و : قيل نزل في معمر بن أسد الفهري ، وكان لبيبا حافظا بين العرب للوقائع والأخبار التي يسمعها ، وقال : أن لي قلبين ، أفهم بأحدهما أكثر ما يفهم محمد ، فانهزم مع المشركين يوم بدر وإحدى نعليه بيده والأخرى في رجله ، فقيل له في ذلك ، فقال : ما شعرت به (٥) ، وفائدة ذكر (فِي جَوْفِهِ) كالفائدة في (تَعْمَى

__________________

(١) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٥ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٩٢ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٣٠.

(٢) الفتح (٤٨) ، ٢٩.

(٣) «تعملون» : قرأ أبو عمرو بياء الغيبة فيهما ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٢٥٣.

(٤) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ٣٦.

(٥) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٣٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٣١.

٢٨٩

الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(١) ، وذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصور ليكون أسرع إلى الإنكار لجوف مشتمل على قلبين (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) ومعنى ظاهر من امرأته قال لها أنت علي كظهر أمي ، أي علي حرام كبطن أمي ، يعني كفرجها عبر به لقربه من الفرج وكني بالبطن عن الظهر ، لأنه قوام البنية وعمودها ، والمعنى : ما جعل الله نساءهم اللاتي تقولون لهن (٢) هذا القول أمهاتكم لكنه قول منكر تجب (٣) به عليكم كفارة ذكرت في سورة المجادلة مع سبب نزولها (٤) ، ووجه تعدية (تُظاهِرُونَ) ب «من» تضمنه معنى البعد ، لأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية وكانوا يتجنبون المرأة المظاهر منها كما يتجنبون المطلقة ، وقرئ «تظهرون» بتشديدين و «تظاهرون» بتشديد واحد مع الأف (٥) ، قوله (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) نزل في شأن زيد بن حارثة حين تبناه النبي عليه‌السلام (٦) ، فعم ، وال «أدعياء» جمع دعي ، فعيل ، بمعنى مفعول وهو الذي يدعى ولد أو جمعه على أفعلاء شاذ ، لأن القياس أن يجمع عليه ما كان من فعيل بمعنى فاعل كتقي وأتقياء دون رمي ونحوه ، أي لم يجعل الله الدعي ابنا حقيقة في الحكم والحرمة والنسب كما لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه ، فنسخ التبني بهذه الآية (٧) ، لأنه كان في الجاهلية أن الرجل إذا أعجبه عقل ولد وكياسته وظرافته ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه فكان ينسب إليه (ذلِكُمْ) أي النسب (قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) هذا ابني لا حقيقة له (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ) أي لا يقول إلا ما هو الحق ظاهرا وباطنا (وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [٤] أي الله لا يهدي إلا سبيل الحق وكان زيد يدعى بابن محمد فقال الله ما هو الحق وهدى إلى (٨) سبيل الحق.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥))

(ادْعُوهُمْ) أي انسبوهم (لِآبائِهِمْ هُوَ) أي دعاؤهم بآبائهم (أَقْسَطُ) أي أعدل (عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم ، يعني ادعوهم إخوانا (فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) أي أولياؤكم ، يعني إذا جهل نسبه قل يا أخي يا مولاي تريد الأخوة والموالاة في الدين (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) من التسمية قبل النهي أو النسبة إلى غير أبيه (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) فيه الجناح ، أي لا إثم عليكم إذا قلتم يا بني لولد غيركم على سبيل الخطأ ولكن الإثم (٩) إذا قلتموه متعمدين ، قيل : إن كان معروف النسب لا يثبت نسبه به وإن كان عبدا له عتق وإن كان مجهول النسب وأصغر منه سنا ثبت نسبه منه وكذا إن كان عبدا له ثبت نسبه (١٠) مع العتق ، وإن كان (١١) أكبر سنا يعتق عند أبي حنيفة رحمه‌الله ولم يثبت النسب وعند غيره لا يعتق ولا يثبت النسب (١٢)(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [٥] لعفوه عن الخطأ وعن العمد إذا تاب العامد.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٦))

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، أي أرحم بهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) فيحكم فيهم بما

__________________

(١) الحج (٢٢) ، ٤٦.

(٢) تقولون لهن ، ح و : يقولون بهم ، ي.

(٣) تجب ، وي : يجب ، ح.

(٤) انظر سورة المجادلة (٥٨) ، ١ ـ ٣.

(٥) «تظاهرون» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان بفتح التاء المثناة وتشديد الظاء والهاء وفتحها مع حذف الألف بعد الظاء ، وقرأ الشامي بفتح التاء وتشديد الظاء وألف بعدها وفتح الهاء مخففة ، وقرأ عاصم بضم التاء وتخفيف الظاء وألف بعدها وكسر الهاء مخففة ، وقرأ الأخوان وخلف بفتح التاء والظاء والهاء مخففتين وألف بينهما. البدور الزاهرة ، ٢٥٤.

(٦) قد نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٣٧ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٩٣.

(٧) أخذ المفسر هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٤٣١.

(٨) ما هو ، + ح.

(٩) الإثم ، ح : ـ وي.

(١٠) له ثبت نسبه ، ح : ـ وي.

(١١) كان ، ح و : ـ ي.

(١٢) نقله المصنف عن الكشاف ، ٥ / ٣٤.

٢٩٠

يشاء (١) وينفذ حكمه عليهم من حكم أنفسهم ، لأنه أشفق عليهم وأحب إليهم من أنفسهم ، فاذا رأى لهم رأيا ، فذلك أولى وأحسن لهم من رأيهم فيجب أن يجعلوها فداءه إذا أعضل خطب ويتبعوا إلى ما دعاهم إليه ولا يتبعوا إلى ما تدعوهم (٢) إليه أنفسهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة» (٣) ، أي في الشفقة والمرحمة من أنفسهم ومن آبائهم (٤) ، وقيل : من لم ير نفسه في ملك الرسول لم يذق حلاوة سنته (٥)(وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) أي أزواج النبي عليه‌السلام مثل أمهاتهم في تحريم نكاحهن وحرمتهن دون النظر والخلوة والميراث ، فانهن في ذلك كالأجنبيات ، ولذلك لم يتعد هذا التحريم إلى بناتهن فلا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن إخوان المؤمنين ولا خالاتهن ، وأيضا هن أمهات الرجال لا أمهات النساء لقول عائشة رضي الله عنها «لست بأم نسائكم وإنما أنا أم الرجال» (٦) ، قوله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) نزل حين كان النبي عليه‌السلام يؤاخى بين الرجلين ، فاذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله (٧) ، وطال ذلك ما شاء الله ، ثم نسخ بذلك (٨) ، أي ذووا القرابات أحق بالميراث (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح أو فيما أوحى الله إلى النبي عليه‌السلام وهو هذه الآية ، وقوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) جاز أن يكون بيانا ل «أولي الأرحام» ، أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم (٩) أولى (١٠) بأن يرث بعضا من الأجانب وجاز أن يتعلق ب (أَوْلى) ، ويكون (مِنْ) لابتداء الغاية ، أي وأولو الأرحام بحق القرابة (١١) أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة ، قوله (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) أي إلا أن توصلوا إلى الذين يوالونكم ويؤاخونكم من المؤمنين والمهاجرين للولاية في الدين (مَعْرُوفاً) استثناء منقطع لإباحة الوصية للأجانب ، أي الأقارب أحق بالميراث من الأجانب ، لكن فعل الوصية أولى للأجانب من الأقارب لأنه لا وصية لوارث ، والمراد من المعروف الوصية بثلث المال لا بما زاد عليه (كانَ ذلِكَ) أي المذكور في الآيتين جميعا (فِي الْكِتابِ) أي في اللوح (مَسْطُوراً) [٦] ويجوز أن يكون المشار إليه نسخ الميراث بالهجرة والمؤاخاة (١٢).

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧))

(وَإِذْ أَخَذْنا) أي اذكر حين أخذنا (مِنَ النَّبِيِّينَ) عند إخراجهم من ظهر آدم كأمثال الذر (مِيثاقَهُمْ) أي عهدهم بأن يعبدوا الله ويدعوا الناس إلى عبادته ويصدق بعضهم بعضا ، ثم خص محمدا عليه‌السلام بالذكر مع جماعة من الأنبياء ، وقدمه تشريفا له ولبيان أنه أفضل الأنبياء ، لأنهم أهل الشرائع عليهم‌السلام فقال (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) أي وأخذنا منك ومن نوح (وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [٧] أي جليل الشأن وعظيمه في بابه وهو العهد القديم الذي بعث عليه نوح ومن بعده وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء ، وقيل : هو اليمين بالله على الوفاء بما حملوا (١٣) ، وإنما قدم نبينا على نوح ومن بعده عليهم‌السلام لبيان أنه أفضل الأنبياء عليهم‌السلام.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (٨))

قوله (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) تعليل لأخذ ميثاقهم ، أي أخذ الله ميثاقهم (١٤) عند الخطاب السابق

__________________

(١) يشاء ، وي : شاء ، ح.

(٢) تدعوهم ، وي : يدعوهم ، ح.

(٣) أخرجه البخاري ، الاستقراض ، ١١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٣٣ ؛ والكشاف ، ٤ / ٣٥.

(٤) آبائهم ، ح ي : أوليائهم ، و.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٦) انظر البغوي ، ٤ / ٤٣٤.

(٧) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٣٤.

(٨) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٣٨.

(٩) بعضهم ، ح : ـ وي.

(١٠) أولى ، وي : ـ و.

(١١) القرابة ، و : القرابات ، ح ي.

(١٢) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٤٣٤.

(١٣) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٣٦.

(١٤) أي أخذ الله ميثاقهم ، وي : ـ ح.

٢٩١

بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(١) ليسأل الأنبياء عليهم‌السلام (٢) عن تبليغ الرسالة وصدقهم فيها إثباتا للحجة على الكفار ، قوله (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ) عطف على (أَخَذْنا) بطريق الالتفات من «اعتدنا» أو على من دل عليه ليسأل الصادقين ، أي فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين (عَذاباً أَلِيماً) [٨] أي مؤلما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩))

ثم أخبر عمن نقض العهد فأهلك به عبرة للمؤمنين ومنة عليهم بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) في الدفع عنكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) هم أحزاب من قريش ومن تبعهم من غيرهم كبني قريظة وبني النضير اللذين عاهدوا النبي عليه‌السلام على أن لا يكونوا عليه ولا معه ، فنقضوا عهودهم فجاؤا إلى المدينة لقتال النبي عليه‌السلام مع قريش وغيرهم ، وهم كانوا عشرة آلاف ، نزلوا قريبا من الغابة والنبي عليه‌السلام في ثلاثة آلاف ، فخندق النبي عليه‌السلام حول المدينة خندقا برأي سلمان يحول بين المسلمين والكافرين فأحصر المؤمنون بضع عشرة ليالي ، وقيل : عشرين (٣)(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) ليلا وهي ريح الصبا فأطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» (٤)(وَجُنُوداً) أي وأرسلنا جنودا وهم ألف ملك (لَمْ تَرَوْها) فكبرت الملائكة في جانب عسكرهم وقلعت أوتاد خيامهم ، وقذف الله في قلوبهم الرعب وماجت الخيل بعضها في بعض ، فقال طلحة بن خويلد : أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجا النجا ، أي السرعة السرعة (٥) من سحر محمد فارتحلوا ليلا منهزمين من غير قتال (٦)(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [٩] أي عالما بأعمالكم يوم الخندق حين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين وضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء في الحصون ، واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ، وظهر النفاق من المنافقين بقولهم كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ونحن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠))

قوله (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من «إذ جاءتكم» أو عامله مقدر ، أي اذكر إذ جاء بنو غطفان (مِنْ فَوْقِكُمْ) أي من أعلى الوادي من قبل المشرق (وَ) جاء (مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش تحزبوا ، وقالوا سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) أي مالت وتحيرت خوفا لكثرة العدد والعدد (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) جمع حنجرة ، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب ، وهو تمثيل لشدة الخوف (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [١٠] بالألف وصلا ووقفا على إشباع الفتحة ، وبحذف الألف على ترك الإشباع وهو القياس ، وبحذفها وصلا على الأصل وإثباتها وقفا إشباعا (٧) ، والمعنى : أنكم أيها المؤمنون ظننتم ظنونا مختلفة ، إذ المؤمنون باللسان أي المنافقون ظنوا أن المسلمين يستأصلون وظن المخلصون أنهم يبتلون وينصرون.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١))

(هُنالِكَ) أي ثمه (ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) الذين هم ثبتوا (٨) القلوب والأقدام في الإيمان (وَزُلْزِلُوا) أي حركوا

__________________

(١) الأعراف (٧) ، ١٧٢.

(٢) عليهم‌السلام ، وي : ـ ح.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٤) رواه مسلم ، الاستسقاء ، ١٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٤١ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٣٦ ؛ والكشاف ، ٥ / ٣٦.

(٥) السرعة ، و : ـ ح ي.

(٦) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٣٦.

(٧) «الظنونا» : قرأ المدنيان والشامي وشعبة باثبات ألف بعد النون وصلا ووقفا ، وحمزة والبصريان بحذف الألف في الحالين ، والباقون بحذفها وصلا وإثباتها وقفا وهم المكي والكسائي وحفص وخلف في اختياره. البدور الزاهرة ، ٢٥٤.

(٨) ثبتوا ، ح : ثبت ، وي.

٢٩٢

وأزعجوا بالخوف (زِلْزالاً شَدِيداً) [١١] أي أشد الإزعاج.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢))

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) أي الذين (١) لم يوجد منهم الإيمان إلا باللسان (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي الذين في قلوبهم ضعف الإيمان (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [١٢] أي وعدا غرورا ، وقائله معتب حين رأى الأحزاب قال يعدنا محمد فتح فارس والروم ولا نقدر على الخروج إلى البراز خوفا ، ما هذا الوعد إلا غرورا لنا.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣))

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) أي من المنافقين (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) اسم المدينة لا ينصرف للتعريف وزنة الفعل (لا مُقامَ لَكُمْ) بالضم وبالفتح (٢) ، أي لا قرار لكم ههنا ولا مكان تقيمون فيه (فَارْجِعُوا) إلى المدينة أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ارجعوا إلى الكفر واتركوا محمدا وإلا فليست يثرب لكم بمكان القرار (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ) هم بنو سلمة وبنو حارثة (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي ذات عورة ، يعني ذات خلل يخاف منه العدو والسارق ، أي غير محرزة ولا محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه ، فقال تعالى (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) الواو للحال (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) [١٣] من القتال فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ، وإنما يريدون الفرار.

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) أي لو دخلت المدينة أو بيوتهم ، يعني لو دخل الأحزاب على المنافقين من نواحيها (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) أي ثم سألوهم الشرك والردة ومقاتلة المسلمين (لَآتَوْها) بالمد وبالقصر (٣) ، أي لجاؤها وفعلوها (وَما تَلَبَّثُوا بِها) أي ما توقفوا بالمدينة عن إجابة الكفار (إِلَّا) بشارا (يَسِيراً) [١٤] وهو مقدار السؤال والجواب فقط أو المعنى : أنهم ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيرا ، أي قليلا حتي يعذبوا لفرارهم عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤).

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥))

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ) أي لقد كان بنو حارثة هموا أن يفشلوا مع بني سلمة ببدر ، فلما نزل فيهم ما نزل قالوا للنبي عليه‌السلام اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال اشترط لربي أن لا تشركوا به شيئا وتعبدوه ولنفسي أن تمنعوا مني ما منعتموه من أنفسكم وأولادكم ، فقالوا فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال لكم النصرة في الدنيا والجنة في الآخرة ، فقالوا قد فعلنا ذلك وهو معنى قوله (عاهَدُوا اللهَ (مِنْ قَبْلُ) أي قبل حفر الخندق أو حلفوه ليقاتلن و (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) منهزمين أو هم غابوا عن وقعة بدر ، فلما رأوا ما أعظى الله البدريين من الكرامة قالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) [١٥] أي يسأل يوم القيامة من نقضه أو هو يطلب ويقتضى حتى يوفى به.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦))

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ) أي لا تؤجلون (٥)(إِلَّا قَلِيلاً) [١٦] أي يسيرا لكون الدنيا قليلة لا محالة ، المعنى : لا يغنيكم الفرار مما لا بد لكم من نزوله بكم بقضاء الله من حتف أنف أو قتل وإن نفعكم مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع (٦) إلا زمانا قليلا.

__________________

(١) أي الذين ، و : الذين ، ح ي.

(٢) «مقام» : قرأ حفص بضم الميم الأولى ، وغيره بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٥٤.

(٣) «لآتوها» : قرأ المدنيان والمكي بقصر الهمزة ، والباقون بمدها. البدور الزاهرة ، ٢٥٤.

(٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وي : ـ ح.

(٥) أي لا تؤجلون ، ح ي : أي تؤجلوا ، و.

(٦) التمتع ، وي : التأخير ، ح.

٢٩٣

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧))

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي يمنعكم (مَنْ) قضاء (اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) كالقتل (١) وغيره (أَوْ) من يصيبكم بسوء إن (أَرادَ) الله (بِكُمْ رَحْمَةً) أي خيرا كالعافية والنصرة ، وهذا من اختصار الكلام نحو قوله يتقلد سيفا أو رمحا بمعنى حاملا رمحا (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) أي قريبا (وَلا نَصِيراً) [١٧] أي مانعا.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨))

قوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) أي المانعين من القتال (٢)(مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أي لأوليائهم (هَلُمَّ إِلَيْنا) وهو كلمة يشترك فيها الواحد وغيره ، نزل فيمن كان يصد الناس ويثبطهم عن القتال مع النبي عليه‌السلام وهم المنافقون كانوا يقولون لإخوانهم : هلموا إلينا وخلوا محمدا وأصحابه وهم قليلون ، أي قربوا أنفسكم إلينا فكلوا واشربوا ودعوا القتال معهم وكانوا يحضرون القتال ، فاذا غفل النبي عليه‌السلام عنهم دخلوا بيوتهم (٣) ، فلذلك قال (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي الحرب (إِلَّا) اتيانا (قَلِيلاً) [١٨] وهو خروجهم مع المؤمنين ، ثم لا يرونهم في القتال أو يقولون إن لنا شغلا فيرجعون إلى المدينة.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩))

قوله (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) حال من فاعل (يَأْتُونَ) ، أي لا يأتون الحرب إلا بخلاء بالظفر للمسلمين وبما يصل إليهم من الغيبة (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ) أي خوف العدو (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) في تلك الحالة (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في رؤوسهم خوفا (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي دورانا كدوران أعين المغشى عليه من سكرات الموت جبنا وحذرا ولواذا بك ، فان من قرب من الموت ذهب عقله وشخص بصره فلا يطرف (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ) أي آذوكم بالغيبة والفحش (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) أي سليطة ، وقيل : «بسطوا ألسنتهم فيكم عند قسمة الغنيمة واجترؤا عليكم وضربوكم بألسنتهم وقالوا : وفروا قسمتنا فانا قد شاهدنا القتال معكم وبنا نصرتم على أعدائكم» (٤) ، قوله (أَشِحَّةً) أي أضناء بكم حال من فاعل (سَلَقُوكُمْ) ، أي مشاحين المؤمنين عند القسمة حرصا (عَلَى الْخَيْرِ) وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) حقا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطل جهادهم لنفاقهم ، وفيه إيذان أن كل عمل يوجد من المنافق باطل لا ثواب له وإيمانه كلا إيمان ، فلا يظن أن الإيمان باللسان يجدي عليه على أن الأعمال بلا تصحيح المعرفة كالبناء على الماء ، فهو هباء منثورا عند الله وبعث للمؤمن أن يحكم أساس عمله وهو الإيمان الصحيح (وَكانَ ذلِكَ) أي الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) [١٩] يعني أن أعمالهم حقيقة وخليقة بالإحباط لا يصرف عنه صارف.

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي يحسب المنافقون لجبنهم المفرط لم ينهزموا فانصرفوا إلى المدينة عن الخندق لذلك (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرة ثانية إلى المدنية (يَوَدُّوا) أي يتمنوا (لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) أي خارجون عن المدينة إلى البدو وحاصلون بين الأعراب لئلا يقاتلوا (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) أي عن أخباركم وعما جرى عليكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي في الخندق ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) [٢٠] أي

__________________

(١) كالقتل ، وي : أي القتل ، ح.

(٢) من القتال ، ح ي : عن القتال ، و.

(٣) لعله اختصره من السمرقندي ، ٣ / ٤٣.

(٤) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٤٩.

٢٩٤

رياء وسمعة ورميا بالحجارة والنبال ليقيموا عذرهم.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١))

ثم قال تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أيها المنافقون (فِي رَسُولِ اللهِ) أي في نفسه (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) بضم الألف وكسرها (١) ، أي قدوة من حقها أن يؤتسى بها ويقتدى وهي المواساة لأنه واساكم في القتال بنفسه حتى كسرت رباعيته وجرح وجهه فلم لا تقتدون به وبفعله ولا تصبرون معه ، قوله (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) بدل من «لكم» ، أي يرجو فضل الله أو يخاف حسابه (وَ) يرجو (الْيَوْمَ الْآخِرَ) الذي هو يوم الله ورحمته (وَذَكَرَ اللهَ) ذكرا (كَثِيراً) [٢١] في جميع أوقاته وأحواله باللسان والقلب.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) واجتماعهم عليهم ، ثم رأوا تزلزلهم واضطرابهم وخوفهم الشديد ورحيلهم منهزمين (قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) في سورة البقرة (وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) من النصر ودخول الجنة لقوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) إلى قوله (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ)(٢) ، فأيقنوا بالجنة والنصر (وَما زادَهُمْ) الخوف عن مجيء الأحزاب (إِلَّا إِيماناً) بالله وبمواعيده (وَتَسْلِيماً) [٢٢] لقضائه وقدرته.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣))

قوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا) الآية نزل في رجال من الصحابة نذروا وعاهدوا الله ليقاتلن ولينصرن دينه إذا لقوا حزبا وهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتي يستشهدوا ، وهم عثمان وطلحة وسعيد وأنس وحمزة ومصعب (٣) ، فوفوا (ما عاهَدُوا اللهَ) أي فيما عاهدوا (عَلَيْهِ) يقال صدقك فلان إذا وفى بما عاهد عليك وكذبك فلان إذا نكث عهده (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي مات كحمزة ومصعب وأنس (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الموت كعثمان وطلحة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة» (٤) ، والنحب النذر في الأصل ثم استعملوا للموت ، لأن كل حي لا بد له منه فكأنه نذر لازم في رقبته فاذا مات فكأنه وفى نذره ، وقيل : قضى نحبه يحتمل موته شهيدا ويحتمل وفاءه بنذره الثبات مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥)(وَما بَدَّلُوا) أي ما أظهروا تغييرا لعهدهم لا المستشهد ولا المنتظر للشهادة ، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق والشك (تَبْدِيلاً) [٢٣] أي تغييرا ما.

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤))

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ) لام كي يتعلق بقوله (وَما بَدَّلُوا (بِصِدْقِهِمْ) أي بجزاء وفائهم بالعهد (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) أي ليعذبهم (إِنْ شاءَ) إذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إذا تابوا فيهديهم إلى الإيمان (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [٢٤] لمن تاب عن الكفر والنفاق وأطاعه ورسوله.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا

__________________

(١) «أسوة» : ضم عاصم الهمزة وكسرها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٥٥.

(٢) انظر البقرة (٢) ، ٢١٤.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٥ / ٣٩.

(٤) انظر الكشاف ، ٥ / ٣٩. ولم أعثر عليه بهذا اللفظ في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها. وروى البخاري في صحيحه في باب الزكوة (١): «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا».

(٥) قد أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٥ / ٣٩.

٢٩٥

عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦))

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الأحزاب يوم الخندق (بِغَيْظِهِمْ) أي ملتبسين بالغيظ (لَمْ يَنالُوا) أي لم يصيبوا (خَيْراً) من الظفر والغنيمة ، يعني رجعوا خائبين غير ظافرين بمطلوبهم من المسلمين ، وهما حالان بتداخل وتعاقب أو الثانية بيان للأول (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح الشديدة والملائكة (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) بقهر أعدائه (عَزِيزاً) [٢٥] بنصر أوليائه وبعد زهاب الأحزاب إلى بلادهم ، رجع النبي عليه‌السلام إلى المدينة بالمسلمين وشرع يغسل رأسه فجاءه جبرائيل عليه‌السلام صبيحة الليل التي انهزم فيها الأحزاب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج ، وقال يا رسول الله إن الملائكة لم تصنع السلاح منذ أربعين ليلة وأنتم وضعتم أسلحتكم أن الله يأمركم بالسير إلى بني قريظة ، وإني مزلزل حصونهم وإن الله جعلهم لكم طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة ، فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الأخيرة لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، وبعضهم صلوا العصر قبل ذلك مخافة خروج الوقت ورضي النبي عليه‌السلام بما فعل الفريقان ، واللواء يومئذ في يد علي رضي الله عنه ، فجاء به وغرزه عند حصي بني قريظة فحاصرهم النبي عليه‌السلام خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا إخوة القردة والخنازير أنزلوا على حكم الله وحكم رسوله» ، فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فقال سعد لهم : «أنزلوا من حصنكم» ، فلما نزلوا قال حكمت فيهم أن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم فكبر النبي عليه‌السلام وقال : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ، ثم استنزلهم خندق وضربت أعناقهم فيه وكانوا سبعمائة فنزل فيهم قوله تعالى (١)(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي عاونوا الأحزاب (مِنْ صَياصِيهِمْ) أي من حصونهم ، والصيصية كل ما يتحصن به الحيوان من المخلب للديك والقرن للثور أو جبل أو مفازة (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي رمي في قلوب بني قريظة الخوف (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) منهم وهم الرجال وكانوا أربعمائة وخمسين (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) [٢٦] منهم وهم النساء والذراري وكانوا ستمائة وخمسين.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) أي جعل مزارعهم ومنازلهم للمهاجرين دون الأنصار (وَ) قسم (أَمْوالَهُمْ) من العروض والحيوانات (وَ) أورثكم سواها (أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) قيل : إنها خيبر (٢) أو مكة (٣) ، وقيل : فارس والروم (٤) ، وقيل : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة (٥)(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [٢٧] من قهر الأعداء وفتح بلادهم وغير ذلك.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨))

قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) الآية نزل حين أوذي عليه‌السلام من نسائه بميلهن إلى الدنيا وطلب زيادة النفقة ولبس الثياب (٦) ، وكانت تسعا فصعد إلى غزوة له فمكث فيها ولم يخرج إلى أصحابه ، أي قل لهن (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ) أي جئن إلى ما أعرض عليكن (أُمَتِّعْكُنَّ) بشيء من الدنيا (وَأُسَرِّحْكُنَ

__________________

(١) هذا منقول عن الكشاف ، ٥ / ٤٠.

(٢) عن ابن زيد ومقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٥٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ٤٠.

(٣) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٥٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ٤٠.

(٤) عن الحسن ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٥٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ٤٠.

(٥) عن عكرمة ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٥٨ ؛ والكشاف ، ٥ / ٤٠.

(٦) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٣ / ٤٨ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٥٩ ؛ والكشاف ، ٥ / ٤٠ ـ ٤١.

٢٩٦

سَراحاً جَمِيلاً) [٢٨] أي أطلقكن باحسان من غير قصد سوء بكن ، يعني لا أراجعكن حتى تبن بالعدة ، قيل : المتعة واحبة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد عند أبي حنيفة ، ولسائر المطلقات مستحبة وتجب لكل مطلقة إلا لمطلقة قبل الدخول ، وقد سمي لها مهرا فان الواجب لها نصف المهر عند الشافعي (١).

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩))

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي رضاهما (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي الجنة (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ) أي للمطيعات أمرهما (مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [٢٩] أي ثوابا جزيلا في الجنة ، فأخبر بذلك عائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن وخيرها ، وقرأ القرآن عليها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، ثم اختارت جميعهن كذلك فشكر لهن الله فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ)(٢) الآية (٣) ، قيل : حكم التخيير في الطلاق أن الزوج إذا قال لها اختاري فقالت أخترت نفسي وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة إذا كان ذلك في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض وطلقة رجعية عند الشافعي واعتبر اختيارها على الفور (٤).

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠))

ثم قال تعالى تهديدا لهن (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) بفتح الياء وكسرها (٥) ، أي بمعصية ظاهرة من نشوز أو غيره مما يضيق به ذرعه ويغتم لأجله (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) وقرئ «يضعف» بالياء مجهولا بالتشديد وبالنون معلوما به ، ونصب (الْعَذابُ)(٦) ، أي نحن نضعفه لها مثلي عذاب غيرها وإنما ضوعف عذابهن ، لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن ، لأنهن نساء النبي عليه‌السلام ، والذنب يعظم بعظم جانيه وعمله ولذلك ذم العالم العاصي أشد من ذم الجاهل العاصي (وَكانَ ذلِكَ) أي عذابها (عَلَى اللهِ يَسِيراً) [٣٠] أي هينا ، وفيه إيذان بأن كونهن نساء النبي عليه‌السلام ليس بمغن عنهن شيئا بل هو سبب مضاعفة العذاب.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١))

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي من يطع لأمر الله (٧) ورسوله (وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها) أي نعطها (أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي مثلي أجر غيرها لطلبها (٨) رضاه بحسن الخلق وطلب المعاشرة والقناعة والتقوى ، قال مقاتل رضي الله عنه : «نعطها بالحسنة عشرين» (٩)(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) [٣١] أي حسنا هو الجنة.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢))

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) وهو يعم الذكر والأنثى والواحد والجماعة بخلاف الواحد فانه للمفرد المذكر ، أي ليس قدركن عندي كقدر غيركن في الفضل والسابقة (مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) أي إن تردن أن تكن متقيات من المعاصي ومطيعات لله ورسوله (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي لا تقلن قولا لينا خنثا مثل كلام النساء الموقعات

__________________

(١) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٥ / ٤١.

(٢) الأحزاب (٣٣) ، ٥٢.

(٣) اختصره المصنف من البغوي ، ٤ / ٤٥٩.

(٤) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٤٦١.

(٥) «مبينة» : فتح الياء المكي وشعبة ، وكسرها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢٥٥.

(٦) «يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ» : قرأ ابن كثير وابن عامر بنون مضمومة وحذف الألف بعد الضاد مع كسر العين وتشديدها ونصب باء «العذاب» ، وقرأ أبو جعفر والبصريان بياء تحتية مضمومة وحذف الألف بعد الضاد مع فتح العين وتشديدها ورفع باء «العذاب» ، والباقون بياء تحتية مضمومة وإثبات الألف بعد الضاد مع فتح العين وتخفيفها ورفع باء «العذاب» ، واتفقوا على جزم فاء «يضاعف». البدور الزاهرة ، ٢٥٥.

(٧) لأمر الله ، وي : أمر الله ، ح.

(٨) لطلبها ، وي : لطلبهن ، ح.

(٩) انظر البغوي ، ٤ / ٤٦٢.

٢٩٧

في الريب (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي ريبة وفجور (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) [٣٢] أي عفيفا سليما من الريب واللين أو بعيدا من طمع الفاجر بجد وخشونة بمقتضى الإسلام.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣))

(وَقَرْنَ) بكسر القاف (١) من وقر يقر ثبت ، وأصله أو قرن حذف الواو واستغني عن الهمز أو من قر في المكان يقر ، والقرار السكون ، وأصله أقررن بالكسر فيمن قرأ به أو أقررن بالفتح فيمن قرأ به ، نقلت حركة الراء فيهما إلى القاف فحذف الراء واستغني عن الهمز ، والمعنى : اثبتن واسكن (فِي بُيُوتِكُنَّ) بالوقار (وَلا تَبَرَّجْنَ) أي لا تظهرن زينتكن شهوة للرجال (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي كاظهار الجاهلية القديمة وهي زمان ولادة إبراهيم عليه‌السلام ، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد عليهما‌السلام ، وقيل : «الأولى» جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والأخرى جاهلية الفسق في الإسلام ، فكان المعنى : لا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر (٢)(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) أي الصلوات الخمس (وَآتِينَ الزَّكاةَ) إن كان لكن مال (وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يأمركن وينهاكن (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي كل ذنب يا (أَهْلَ الْبَيْتِ) والمراد زوجات النبي عليه‌السلام وإنما قال (عَنْكُمُ) دون عنكن لكونه عليه‌السلام بينهن فغلب أو فاطمة وزوجها وابناها (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [٣٣] من التلوث بالأرجاس.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) أي احفظن ما يقرأ عليكن من القرآن بالوحي فيها ولا تنسين في ذلك ، فانها تدل على صدق النبوة باعجاز نظمها (وَ) من (الْحِكْمَةِ) أي شرائع الدين وعلومها لإرشاد الخلق ودفع الضلالة عنهم (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) يلطف بكم بانزاله عليكم (خَبِيراً) [٣٤] حين علم ما ينفعكم وما يصلحكم في دينكم.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

قوله (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الآية نزل حين قالت أم سلمة يا رسول الله ذكر الله الرجال بخير فما فينا خير نذكر به ، إنا نخاف أن لا يقبل منا طاعة (٣) ، فقال تعالى إن المسلمين من الرجال أو المسلمات من النساء المسلم الداخل في السلم بعد الحرب المنقاد الذي لا يعاند (وَالْمُؤْمِنِينَ) من الرجال (وَالْمُؤْمِناتِ) من النساء والمؤمن المصدق بالله ورسوله وبما جاء به (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) والقانت القائم بالطاعة الدائم عليها (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) والصادق الذي يصدق في قوله وعلمه ونيته (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) والصابر الذي يصبر على الطاعة وعن المعصية (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) والخاشع المتواضع لله بقلبه وجوارحه (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) والمتصدق الذي يزكي ماله ولا يخل بالنوافل ، قيل : من تصدق بدرهم في كل أسبوع فهو من المتصدقين (٤)(وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) والصائم الذي يصوم الفرض ، وقيل : من صام البيض من كل شهر

__________________

(١) «وَقَرْنَ» : قرأ المدنيان وعاصم بفتح القاف وغيرهم بكسرها. البدور الزاهرة ، ٢٥٦.

(٢) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٥ / ٤٢.

(٣) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٦٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٥٠.

(٤) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٤٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٦٦.

٢٩٨

فهو من الصائمين (١)(وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) والحافظ لفرجه الذي يحفظه عما لا يحل له ، وأراد ب (الْحافِظاتِ) الحافظاتها (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) والذاكر كثيرا الذي لا يخلو من ذكر الله بقلبه أو بلسانه أو بهما والاشتغال بالعلم النافع وتلاوة القرآن والدعاء من الذكر ، قيل : من صلى الصلوات الخمس فهو من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات (٢)(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ) خبر (إِنَّ) والعطف بالواو وبين الذكور والإناث كالعطف بين الضدين إذا اشتركا في حكم واحد ، وأما عطف الزوجين على الزوجين فمن عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ، وكان المعنى : أن الله أعد للجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشرة (مَغْفِرَةً) لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) [٣٥] هو الجنة.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧))

قوله (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) نزل حين خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب بنت جحش على مولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله (٣) ، أي ما كان لمؤمن وهو عبد الله ولا مؤمنة وهي زينب (إِذا قَضَى) أي حكم (اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) وهو خطبتها لزيد (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) وهي الاختيار ، والأصل أن يقال له الخيرة بتوحيد الضمير لكن المؤمن والمؤمنة لما وقعا (٤) تحت النفي عما (٥) كل مؤمن و (٦) مؤمنة فرجع الضمير إلى معنى الجمع فقال لهم الخيرة ، أي ليس لهم أن يختاروا (مِنْ أَمْرِهِمْ) شيئا بل الحق أن يريد ، وأما أراد الله ورسوله ويجعلوا اختيارهم تبعا لاختياره واختيار رسوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في حكمهما (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [٣٦] أي بينا فهو وعيد لهم فرضيت زينب وأخوها فأنكحها إياه وساق عن قبل زيد إليها مهرها (٧) ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر وبقيت بالنكاح (٨) معه مدة ، فجاء النبي عليه‌السلام يوما إلى بيت زيد فرآها فأعجبته فقال سبحان الله مقلب القلوب وانصرف فجاء زيد وأخبرته بذلك فألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجاء النبي عليه‌السلام فقال أريد طلاق صاحبتي ، فقال ما لك (٩) أرابك شيء منها ، قال : لا والله ما رأيت إلا الخير ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني ، فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ، ثم طلقها زيد بعد فنزل (١٠)(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالإسلام الذي هو أجل النعم (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بعتقه ومحبته (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) يعني زينب (وَاتَّقِ اللهَ) فلا تفارقها الطلاق ، وقصد عليه‌السلام بذلك (١١) نهي تنزيه لا تحريم ، لأن الأولى لا أن لا يطلق (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي الذي الله مظهره والواو للحال يعني تقول لزيد أمسكها مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها لتعلق قلبه بها (وَتَخْشَى النَّاسَ) أي وتخفي خاشيا مقالة الناس (وَاللهُ) أي والحال أن الله (أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) لئلا يجتمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس ، وهذا عتاب شديد له عليه

__________________

(١) أخذ المفسر هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٤٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٦٦.

(٢) هذا الرأي مأخوذ عن البغوي ، ٤ / ٤٦٦.

(٣) هذا منقول عن السمرقندي ، ٣ / ٥١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٦٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ٤٣.

(٤) وقعا ، ح ي : وقعتا ، و.

(٥) عما ، وي : فعما ، ح.

(٦) لا ، + ح.

(٧) مهرها ، وي : مهرا ، ح.

(٨) بالنكاح ، وي : ـ ح.

(٩) ما لك ، ح : ما بك ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٤٤.

(١٠) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٥١ ـ ٥٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ والكشاف ، ٥ / ٤٤.

(١١) بذلك ، ح : ـ وي.

٢٩٩

السّلام في ستر ما أراد الله وهو في نفسه مباح لا عيب فيه عند الله لحكمة يعلمها ، قالت عائشة رضي الله عنها : «لو أن رسول الله كتم شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية» (١) ، فطلقها زيد ، فلما انقضت عدتها قال عليه‌السلام لزيد : أنت أوثق بي من غيرك اذهب إليها فاخطبها علي ، قال زيد فانطلقت فاذا هي تخمر عجينها فلم أستطع أن أنظر إليها لرسول الله فوليت ظهري ، وقلت يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك ففرحت ، وقالت ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها فنزل قوله تعالى (٢)(فَلَمَّا قَضى) أي أتم (زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي حاجة (زَوَّجْناكَها) فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بها وما أو لم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أي ضيق من تزوج زوجة الابن المتبنى لهم ، واللام زائدة في (لِكَيْ) ، لأن كي تكفي (٣) للتعليل ، يعني فلعنا ذلك لدفع الحرج عنهم (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أي الذين تبنوهم (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) يعني ليعلم أن نكاح زوجة المتبنى حلال بخلاف زوجة الابن الصلبي وكانت زينب تفتخر على أزواج النبي عليه‌السلام ، وتقول أنتن زوجكن آباؤكن وأما أنا فرب العرش زوجني من رسوله (٤)(وَكانَ أَمْرُ اللهِ) الذي يريد أن يكونه وهو تزوج النبي عليه‌السلام إياها (مَفْعُولاً) [٣٧] أي مكونا لا محالة.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨))

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) «من» زائدة بعد النفي ، و (حَرَجٍ) اسم (كانَ) الناقصة ، والخبر (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي فيما أوجب وقسم (سُنَّةَ اللهِ) أي سن ذلك سنة (فِي) الأنبياء (الَّذِينَ خَلَوْا) أي مضوا (مِنْ قَبْلُ) أي من قبلك وهي الإباحة والتوسيع عليهم في باب النكاح بلا حرج ومؤاخذة ، فانهم كانوا أكثر منك نساء كداود وسليمان ، فان له كانت ثلثمائة امرأة وسبعمائة سرية ولأبيه ثلثمائة سرية ومائة امرأة (٥) ، قوله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [٣٨] أي قضاء مقضيا ، يعني حكما مبتوتا.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩))

قوله (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) محله من الإعراب يحتمل الجر على الوصف للأنبياء والرفع والنصب على المدح حملا على «هم» أو أعني ، قوله (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) تعريض بعد التصريح في قوله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ، أي الأنبياء متصفون بأنهم لا يخشون إلا الله (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [٣٩] أي كافيا للمخاوف أو محاسبا على الصغيرة والكبيرة ، فيجب أن يكون حق الخشية من مثله.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

(ما كانَ) أي لم يكن (مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أي من الذين لم يلدهم فلا يحرم عليه نكاح زوجة من تبناه بعد افتراقها وانقضاء عدتها ، وقوله (مِنْ رِجالِكُمْ) موضح لذلك حيث لم يقل من رجاله ودخل الحسن والحسين في جملة بنيه ، لأنهما من رجاله لا من رجالكم (٦) فلا يكون أبا حقيقة لمن تبناه (وَلكِنْ) كان (رَسُولَ اللهِ) وكل رسول أبو أمته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم والشفقة والنصيحة لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء ، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير فزيد كذلك من رجالكم الذي ليسوا بأولاده حقيقة ، وكان حكمه حكمهم (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) بالنصب ، أي وكان خاتم النبيين ، وبالرفع على

__________________

(١) انظر البغوي ، ٤ / ٤٦٨.

(٢) نقله المصنف عن الكشاف ، ٥ / ٤٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٤٦٨ ـ ٤٧٠.

(٣) تكفي ، ح و : يكفي ، ي.

(٤) من رسوله ، وي : من رسول الله ، ح.

(٥) انظر في هذا الموضوع إلى تفسير قوله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، رقم الآية (٥٤) من سورة النساء.

(٦) من رجاله لا من رجالكم ، ح ي : من رجالكم ، و.

٣٠٠