عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

والمائدة (١) ، فأمره أن يقول إنما الآيات في قدرته ينزلها إذا شاء كيف شاء (٢) وليس بيدي شيء (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٥٠] كلفت الإنذار وإبانته بالدلائل الواضحة وليس لي أن أقول الله أنزل علي آية كذا دون آية.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١))

(أَوَلَمْ) أي أيطلبون (٣) آية على صدقك ولم (يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي القرآن (يُتْلى عَلَيْهِمْ) يصدقك ويثبت حجتك وهو أعظم الآيات يغني عن سائر الآيات ، لأنه ثابت على مرور الأيام وغيره من الآيات انعدمت (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي القرآن الموجود في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر (لَرَحْمَةً) أي لنعمة عظيمة (وَذِكْرى) أي تذكرة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٥١] به ، وقيل : نزلت هذه الآية في أناس من المسلمين أتوا بمكتوب فيه بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر النبي عليه‌السلام إليه ألقاه وقال : «كفى حماقة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم» (٤).

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) نزل حين لم يصدق أهل مكة وكعب بن الأشرف من اليهود وكان قدم مكة من الطائف ، وقالوا من يشهد لك أنك رسول الله بالقرآن إن لم نشهد لك (٥) ، فأمره الله تعالى بأن يقول (كَفى بِاللهِ) إلى آخره ، أي يشهد الله لي بالبلاغ والتصديق وعليكم بالتكذيب عند التبليغ (يَعْلَمُ) الله (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مطلع على أمري وأمركم وعالم بحقي وباطلكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) منكم ، أي بالأصنام (وَكَفَرُوا بِاللهِ) أي جحدوا بتوحيده (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [٥٢] أي المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣))

ونزل حين قالوا ائتنا بعذاب الله قوله (٦)(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) في اللوح ، أي لو لا الوقت الذي عين أنهم يعذبون فيه وهو الموت أو في بدر أو يوم القيامة (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) الذي استعجلوا مجيئه استهزاء منهم (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) العذاب في الأجل المسمى (بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [٥٣] بمجيئه.

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤))

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي بنزوله (وَ) الحال (إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [٥٤] أي سيحيط بهم.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أي محيطة بهم في الدنيا لاستحقاقهم إياه بسبب معاصيهم فيكون (يَوْمَ) منصوبا ب «محيطة» ، ويجوز قطع الكلام بالكافرين فيكون (يَوْمَ) منصوبا بمضمر على هذا ، أي يوم يغشيهم العذاب كان كيت وكيت (مِنْ فَوْقِهِمْ) أي يحيط بهم بعد البعث من فوقهم (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) كقوله (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ)(٧)(وَيَقُولُ) بالنون والياء (٨) ، أي يقول الله لهم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [٥٥] أي عقوبته.

__________________

(١) هذا منقول عن الكشاف ، ٤ / ٢٥٠.

(٢) إذا شاء كيف شاء ، وي : إذا يشاء كيف يشاء ، ح.

(٣) أي أيطلبون ، وي : أي يطلبون ، ح.

(٤) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٢٥١.

(٥) هذا منقول عن الكشاف ، ٤ / ٢٥١.

(٦) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٥٤١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٣٨٢ ؛ والكشاف ، ٤ / ٢٥١.

(٧) الزمر (٣٩) ، ١٦.

(٨) «وَيَقُولُ» : قرأ نافع والكوفيون بالياء التحتية ، والباقون بالنون. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.

٢٦١

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦))

قوله (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بفتح الياء وسكونها (١) ، نزل فيمن كان يؤذى بمكة ويخشى الجوع إن خرج منها فضاقت عليه (٢) ، أي اخرجوا فاني رازقكم حيث كنتم أو إذا عمل بالمعاصي في أرض ولا تستطيعون (٣) منعها أو أمرتم بفعلها فاهربوا منها (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [٥٦] أي فان لم تتمكنوا من العبادة بكثرة المعاصي بأرض فاعبدوني بغيرها (٤) ، قيل : يجب على كل من كان بأرض يعمل فيها بالمعاصي ولا يقدر على تغييرها أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له العبادة (٥) ، فالفاء في (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) جواب شرط محذوف كما قدرناه ، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادته معنى الاختصاص ، وأدخل الفاء الذي كان في الشرط في هذا المفعول المقدم ، وأما الفاء الذي كان في الجزاء فمقدرة في الجزاء العامل في «إياي» ، والفاء الثالث لتكرير الجزاء ، تقديره : فاياي فاعبدوا فاعبدون.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧))

قوله (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) نزل حين كانوا يخافون على أنفسهم بالخروج (٦) ، أي هاجروا ولا تخافوا من الموت فان الموت ملاقيكم أينما كنتم (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [٥٧] بالياء والتاء (٧) ، فهذا تشجيع للمهاجر عن بلده بعد الأمر له بالحرص على العبادة وطلبه لها أوفق البلاد ، أي كل نفس واجدة مرارة الموت وكربه البتة كما يجد الذائق طعم المذوق ، فهي إذا تيقنت الموت سهل عليها مفارقة وطنها ، فالواجب عليه التزود والاستعداد للوصول إلى الجزاء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨))

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الخيرات ، ومنها الهجرة لأنها كانت فريضة في ذلك الوقت (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) بالباء ، أي لننزلنهم من التبوئة وهي النزول ، وقرئ بالثاء «لنثوئنهم» (٨) ، إفعال من الثواء وهو الإقامة ، وثوى إذا تعدى بهمزة النقل يتعدى إلى مفعول واحد ، وهنا تعدى إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف حملا على ننزلنهم (٩) أو على (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أو على حذف الجار وإيصال الفعل ، أي إلى الغرف ، يعني لننزلنهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) [٥٨] أي ثوابهم.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))

(الَّذِينَ صَبَرُوا) أي هم الذين صبروا على الشدائد ومفارقة الأوطان للدين وأذى المشركين (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [٥٩] في الرزق وغيره.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

قوله (وَكَأَيِّنْ) رفع على الابتداء ، أي وكم (مِنْ دَابَّةٍ) يعني من حيوان يدب في الأرض ومن طير في الهواء

__________________

(١) «يا عِبادِيَ» : قرأ البصريان والأخوان وخلف باسكان الياء في الحالين ، والباقون بفتحها وصلا وإسكانها وقفا. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.

(٢) عن مقاتل والكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٨٣.

(٣) ولا تستطيعون ، و : ولا يستطيعون ، ح ي.

(٤) أي فان لم تتمكنوا من العبادة بكثرة المعاصي بأرض فاعبدوني بغيرها ، وي : أي فان لم يتمكنوا من العبادة بأرض بكثرة المعاصي فاعبدوني بغيرها ، ح.

(٥) نقل المفسر هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٣٨٣.

(٦) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٥٤٢.

(٧) «ترجعون» : قرأ شعبة بياء الغيبة ، وغيره بتاء الخطاب ، ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم ، وغيره بضم الياء أو التاء وفتح الجيم. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.

(٨) «لنبوئنهم» : قرأ الأخوان وخلف بثاء مثلثة ساكنة بعد النون وتخفيف الواو وبعدها ياء تحتية مفتوحة ، والباقون بباء موحدة في مكان التاء وتشديد الواو وبعدها همزة مفتوحة ، وأبدل أبو جعفر همزه ياء مفتوحة مطلقا. البدور الزاهرة ، ٢٤٦.

(٩) ننزلنهم ، وي : لننزلنهم ، ح.

٢٦٢

(لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) معها ضعفا عن حمله وكسبه ، والجملة المنفية صفة ل (دَابَّةٍ) ، وخبر المبتدأ (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي لا يرزق تلك الدواب إلا الله ولا يرزقكم أيضا أيها المطيقون لحمل أرزاقكم وكسبها إلا هو إن هاحرتم إلى المدينة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم نخشى الفقر الضيعة (الْعَلِيمُ) [٦٠] بما في صدوركم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي اعترفوا بذلك فقل (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) [٦١] أي فكيف يصرفون عن طاعته تعالى وتوحيده مع هذا الاعتراف.

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢))

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي يضيق لمن يشاء ، قيل : الظاهر أن الضمير في (لَهُ) يرجع إلى «من يشاء» فيلزم أن يكون بسط الرزق وقدره لشخص واحد وهو ليس بمراد ، فالوجه أن يقال الأصل كان أن يقول ويقدر لمن يشاء ، فوضع الضمير موضع من يشاء فكان الضمير مبهما مثله ، لأن «من يشاء» غير معين في الناس ، وقيل يجوز أن يريد تعاقب الأمرين لواحد فيكون معينا (١)(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [٦٢] من البسط والتقتير.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) أي بعد يبسها (٢)(لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ثبوت الحجة عليكم وإقراركم بها ، ولم ينفعكم إقراركم بعدم (٣) خلوصكم فيه (٤) ، ثم قال الله تعالى (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [٦٣] أي لا يفهمون فهم العقلاء ما يقولون ، لأنهم يشركون مع إقرارهم بذلك أو لا يعقلون ما تريد بقولك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) عند مقالتهم ذلك ، أي الحمد لله على أنه لم يجعل إقرارنا كاقرار المشركين.

(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤))

قوله (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) ازدراء للدنيا وتصغير (٥) لأمرها ، لأنه لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها ليست إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي حياتها (لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحيوة المستمرة البقاء بلا زوال ، وسميت الحيوان لأن فيه مبالغة على الحيوة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب لا في بناء الحيوة ، أي كأنها في ذاتها حيوة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [٦٤] ذلك يقينا لم يؤثروا الدنيا على الآخرة.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦))

قوله (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) عطف على مقدر ، وهو هم متصفون بالشرك في البر دائما ، فاذا ركبوا في السفن في البحر وخافوا الغرق (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي كائنين في صورة من يخلص (٦) الدين لله من المؤمنين حيث لا يذكرون غيره لعلمهم أنه لا ينجيهم إلا الله (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ) وخلصوا (٧) من الغرق (إِذا

__________________

(١) فالوجه أن يقال الأصل كان أن يقول ويقدر لمن يشاء فوضع الضمير موضع من يشاء فكان الضمير مبهما مثله لأن من يشاء غير معين في الناس وقيل يجوز أن يريد تعاقب الأمرين لواحد فيكون معينا ، ح : فالوجه أن يقال الأصل كان أن يقول ويقدر لمن يشاء فوضع الضمير موضع من يشاء وهو ضمير مبهم مثله لأن من يشاء غير معين في الناس وقيل يجوز أن يريد يعاقب الأمرين لواحد فيكون معينا ، ي ، فالوجه أن يحمل المعنى على تعاقب الأمرين لواحد يشاءه من عباده ، و. وهذه الأقوال مأخوذة عن الكشاف ، ٤ / ٢٥٣.

(٢) بعد ، وي : ـ و.

(٣) بعدم ، ح ي : لعدم ، و.

(٤) فيه ، ي : فيكم ، و ، ـ ح.

(٥) تصغير ، وي : تصغيرا ، ح.

(٦) يخلص ، ح و : تخلص ، ي.

(٧) وخلصوا ، ح ي : ويخلصوا ، و.

٢٦٣

هُمْ يُشْرِكُونَ) [٦٥] أي عادوا إلى الشرك به تعالى ، واللام في (لِيَكْفُرُوا) يحتمل أن يكون لام «كي» وكذلك (لِيَتَمَتَّعُوا) ، أي إنهم يعودون إلى الشرك ليكونوا كافرين (بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة النجاة (وَلِيَتَمَتَّعُوا) أي ليعيشوا بها ويتلذذوا لأعين لا على ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة من أن يشكروا نعمة الله إذا أنجاهم الله ، فيستحقون المزيد لشكرهم (١) ، ويحتمل أن يكون لام الأمر ويكون الأمر من الله بالكفر والتمتع خذلانا لهم وتخلية وتهديدا بدليل قوله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [٦٦] عند نزول العذاب عليهم كقوله (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٢).

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧))

قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أهل مكة توبيخ لهم بأنهم مؤمنون بالباطل لا بالحق ، وذلك أن العرب حول مكة كانوا يتناهب بعضهم بعضا ويتغاورون وأهل مكة قارون آمنون لا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب ، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة الخاصة الظاهرة (٣) ليتفكروا ويفهموا أن هذه من النعم التي لا يقدر عليها إلا الله وحده وهو مكفور عندهم ، يعني ألم يعلموا (أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) يأمنون فيه (وَيُتَخَطَّفُ) أي يؤخذ (النَّاسُ) ويسلبوا (مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وهو الصنم أو الشيطان (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) أي بالقرآن والإسلام ومحمد (٤) عليه‌السلام (يَكْفُرُونَ) [٦٧] أي يجحدون (٥).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى) أي اختلق (عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) فافتراؤه زعمه الشريك والولد لله وتكذيبه بما جاء به من الحق كفره بالرسول وبالكتاب الذي أنزل معه لما جاءه (٦) من غير توقف عنادا (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) أي مقام (لِلْكافِرِينَ) [٦٨] أي للمكذبين ، والاستفهام تقرير لإقامتهم في جهنم ، وحقيقته أن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي صار إيجابا وهو معنى التقرير ، أي كيف لا يستوجبون الخلود في جهنم وقد افتروا مثل هذا الافتراء على الله ، وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو المعنى : ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترؤا على هذا التكذيب والإشراك.

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))

قوله (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) تعريض للكفار ، أي الذين جاهدوا (فِينا) أي في حقنا ولوجهنا خالصا أعداء الدين والشيطان المضل والنفس الأمارة بالسوء ، وحذف المفعول للتعميم (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي لنزيدنهم (٧) هداية إلى طرق الخيرات ، وقيل : «الذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم الطريق إلى العمل به» (٨) ، وقيل : «والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا» (٩) ، قيل : «أفضل الجهاد جهاد النفس» (١٠) ، وهو بذل النفس في رضا الحق وذلك بمخالفة الهواء وصدق المجاهدة الانقطاع إلى الله من كل شيء سواه (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [٦٩] أي العاملين بالإحسان في جميع أحوالهم النصر والعصمة وهو تحريض لهم في المجاهدة.

__________________

(١) لشكرهم ، ي : بشكرهم ، و ، ليشكرهم ، ح.

(٢) فصلت (٤١) ، ٤٠.

(٣) الظاهرة ، وي : ـ ح.

(٤) ومحمد ، وي : وبمحمد ، ح.

(٥) أي يجحدون ، ح ي : وهذا تذكير لأهل مكة ، و؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٥٤٤.

(٦) جاءه ، ح ي : جاء به ، و.

(٧) أي لنزيدنهم ، ح ي : ليزيدنهم ، و.

(٨) عن الفضيل بن عياض ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٨٧.

(٩) عن أبي سليمان الداراني ، انظر الكشاف ، ٤ / ٢٥٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٥٤٤.

(١٠) ذكر الحسن نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٨٧.

٢٦٤

سورة الروم

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣))

قوله (الم [١] غُلِبَتِ الرُّومُ) [٢] بضم الغين وسيغلبون بفتح الباء وهو القراءة المشهورة (١)(فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) أي أقربها إلى عدوهم وهي أرض العرب ، لأنها هي المعهودة عندهم من الأرض ، والتعريف للعهد وهي أطراف الشام (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) أي الروم بعد أن غلبوا من فارس (سَيَغْلِبُونَ) [٣] فارس.

(فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥))

(فِي بِضْعِ سِنِينَ) نزل حين احتربت الروم وفارس بين أذرعان وبصرى ، فغلبت فارس الروم فبلغ الخبر مكة فشق ذلك على النبي عليه‌السلام وأصحابه ، لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون وعيروا المسلمين بأنكم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون ، فظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن نحن عليكم ، فسمع أبو بكر رضي الله عنه قولهم وقال لا يقرر الله أعينكم فو الله ليظهرن الروم على فارس فراهنه أبي بن خلف على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فقال بعد نزول الآية ، إنما البضع ما بين الثلث إلى التسع فزائده في الخطر وهو ما يتراهن عليه وماده في الأجل فجعل المراهنة على مائة قلوص إلى تسع سنين ، فمات أبي من طعنة النبي عليه‌السلام ثم غلبت الروم فارس يوم الحديبية أو بدر فأخذ أبو بكر الرهن من ورثة أبي وكان هذا قبل تحريم القمار (٢)(لِلَّهِ الْأَمْرُ) أي أمر الغالبية والمغلوبية لله ، أي بقضائه ومشيته (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين (وَمِنْ بَعْدُ) أي من بعد (٣) كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين ، فلما حذف المضاف إليه منهما بنيا على الضم (وَيَوْمَئِذٍ) أي يوم تغلب (٤) الروم فارس (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [٤] بِنَصْرِ اللهِ) الروم على فارس وتغليبه (٥)(يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) من أهل الكتاب والأميين تارة وتارة (وَهُوَ الْعَزِيزُ) بالانتقام من الأعداء (الرَّحِيمُ) [٥] بنصر الأولياء.

(وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦))

قوله (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد ، أي وعد الله ذلك وعدا لأن ما تقدم ذكره في معنى «وعد» (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) بنصره الروم على فارس (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) أي الكفار (لا يَعْلَمُونَ) [٦] أي لا يصدقون.

__________________

(١) هذه القراءة مأخوذة عن الكشاف ، ٥ / ٢.

(٢) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٢ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٣ ـ ٤ ؛ والبغوي ، ٤ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

(٣) أي من بعد ، و : أي بعد ، ح ي.

(٤) تغلب ، ح ي : يغلب ، و.

(٥) وتغليبه ، ح ي : ويغلبه ، و.

٢٦٥

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧))

قوله (يَعْلَمُونَ) بدل من قوله (١)(لا يَعْلَمُونَ) ، وفي هذا الإبدال إيذان بأن لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) إيذان بأنهم منخدعون بظاهر الحيوة الدنيا ، يعني التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من ظواهرها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) أي عن عملها وهو باطن الحيوة الدنيا ، يعني ما يتزود منها إلى الآخرة كالإيمان والأعمال الصالحة (هُمْ غافِلُونَ) [٧] أي لاهون ، و (هُمْ) الأول مبتدأ ، و (غافِلُونَ) خبره ، و (هُمْ) الثاني تكرير للأول يفيد أنهم معدن الغفلة عن الآخرة.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) أي ألم يحدثوا التفكر الصالح في قلوبهم الفارغة من الفكر فيكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) ظرفا للتفكر أو المعنى : ألم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم وهم أعرف بأحوالها وما أودعت من غرائب الحكم الدالة على المطلوب منهم وعلى خالقهم فيكون (فِي أَنْفُسِهِمْ) صلة للتفكر ، قوله (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) متعلق بالقول المحذوف ، تقديره : أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول ، وقيل : معناه فيعلموا ، لأن التفكر يدل عليه (٢)(إِلَّا بِالْحَقِّ) أي إلا ملتبسا بالحق ، يعني ما خلقها باطلا وعبثا بلا غرض صحيح وحكمة بالغة (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلا بأجل معلوم لا بد أن ينتهي الأشياء المذكورة إليه ، وهو قيام الساعة للحساب والثواب والعقاب ، يعني كلها ينعدم عنده (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) وهم الجاهلون بالله (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي بالبعث والجزاء (لَكافِرُونَ [٨] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي ألم يسافروا في البلاد فيعتبروا آثار المهلكين من عاد وثمود وغيرهم من الآمم العاتية (٣).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩))

ثم وصف لهم أحوالهم بأنهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي حرثوها (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي مما عمرها المكيون فأهلكوا ، فما الظن بأهل مكة وهم دونهم في القوة وفي دنياهم ، يعني هم (٤) في حال الضعف من قوة الجسد وقلة المال ، لأنهم أهل واد غير ذي زرع لا يثيرون أرضا ولا يعمرونها ليتباهوا وليستظهروا بذلك كما هو حال أهل الدنيا مع أمر الدهقنة (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي ما كان (٥) إهلاكه تعالى إياهم ظلما لهم ، لأن نعته العدل والظلم ينافيه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [٩] حيث عملوا سبب إهلاكهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠))

(ثُمَّ كانَ) أي أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم كان (عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي أشركوا بوضع المظهر موضع المضمر ، أي عاقبتم (السُّواى) وهي جهنم التي هي أسوء العقوبات ، وهو تأنيث الأسوء وهو الأقبح ، قرئ «عاقبة» بالرفع اسم (كانَ) والخبر (السُّواى) بالنصب وبالعكس (٦) ، وعلل المعنى بقوله (٧)(أَنْ كَذَّبُوا) أي لأن

__________________

(١) قوله ، ح : ـ وي.

(٢) هذا المعنى منقول عن الكشاف ، ٥ / ٣.

(٣) العاتية ، وي : الغائية ، ح.

(٤) هم ، ح و : ـ ي.

(٥) كان ، ح : ـ وي.

(٦) «عاقبة» : قرأ المدنيان والمكي والبصريان برفع التاء الفوقية ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٤٧.

(٧) وعلل المعنى بقوله ، وي : ـ ح.

٢٦٦

كذبوا (بِآياتِ اللهِ) أي القرآن ومحمد (١) عليه‌السلام (وَكانُوا بِها) أي بآيات الله (يَسْتَهْزِؤُنَ) [١٠] وينكرون البعث.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١))

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي يحييهم بعد موتهم (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [١١] أي إلى ثوابه وعقابه.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢))

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [١٢] أي ييأس ويسكت متحيرين المشركون من كل خير لا كلام ولا حجة لهم ثمه.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣))

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ) أي لا يكون لهم يوم القيامة (مِنْ شُرَكائِهِمْ) الذين عبدوها (٢) دون الله (شُفَعاءُ) من الملائكة أو من الأصنام (وَكانُوا) أي المشركون (بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) [١٣] أي جاهدين ، يعني كل واحد منهم يتبرأ من الآخر.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤))

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ) أي بعد الحساب (يَتَفَرَّقُونَ) [١٤] أي المسلمون والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها ، يعني يصيرون فريقين ، فريق للنار وفريق للجنة.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥))

قوله (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بيان لحال الفريقين ثمه ، أي الذين آمنوا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ) أي بستان مخضرة في غاية النضارة مع جري مائه (يُحْبَرُونَ) [١٥] أي ينعمون ويكرمون ، وأصل الحبور السرور ، وقيل : «هو السماع في الجنة» (٣) ، روي : «أن أهل الجنة إذا أخذوا في السماء لم تبق في الجنة شجرة إلا وردت وليس أحد أحسن صوتا من إسرافيل ، فاذا أخذوا في السماع قطع أهل سبع سموات تسبيحهم وصلوتهم» (٤).

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦))

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد عليه‌السلام (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي القرآن والبعث (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ) أي في عذاب (٥) جهنم (مُحْضَرُونَ) [١٦] أي لا يغيبون عنه فيعذبون دائما.

(فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧))

قوله (فَسُبْحانَ اللهِ) ترغيب للعقلاء المميزين كلهم على التنزيه في مواقيتها ، وأراد من التسبيح الصلوة (حِينَ تُمْسُونَ) أي حين (٦) تدخلون في المساء وهي صلوة (٧) المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) [١٧] وهو صلوة الصبح.

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨))

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعتراض بينه وبين (وَعَشِيًّا) وهي صلوة العصر لتأكيد وجوب الطاعة على أهلهما (٨) باختصاص الحمد والثناء له تعالى فيهما (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [١٨] أي تدخلون في الظهيرة وهي صلوة الظهر ، يعني صلوا في هذه الأوقات الخمسة ، فانها توصل إلى الوعد وتنجي من الوعيد ، واختلفوا في

__________________

(١) ومحمد ، وي : وبمحمد ، ح.

(٢) عبدوها ، ح ي : عبدوهم ، و.

(٣) عن يحيى بن أبي كثير ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٩٢.

(٤) عن الأوزاعي ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٩٢.

(٥) أي في عذاب ، و : أي عذاب ، ح ي.

(٦) حين ، و : ـ وي.

(٧) صلوة ، و : ـ وي.

(٨) أهلهما ، وي : أهلها ، ح.

٢٦٧

أن الخمس فرضت (١) بمكة أو بالمدينة ، القول الأكثر أنها فرضت بمكة ، وعن عائشة رضي الله عنها : «فرضت الصلوة ركعتين فلما قدم رسول الله عليه‌السلام بالمدينة أقرت صلوة السفر وزيدت في الحضر» (٢) ، وقيل : المراد من التسبيح في هذه الأوقات ظاهره الذي هو تنزيه الله عن السوء والثناء عليه بالخير لما يتجدد من نعمة الله الظاهرة (٣) ، قيل لابن عباس رضي الله عنه : هل تجد الصلوت الخمس في القرآن؟ قال : نعم وقرأ هاتين الآيتين (٤).

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩))

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي الطائر من البيضة (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أي البيضة من الطائر (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) بالمطر وإخراج النبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها (وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإخراج (تُخْرَجُونَ) [١٩] من القبور وتبعثون فآذن بذلك أن الإبداء والإعادة في قدرته سواء ، وعن النبي عليه‌السلام : «من قال حين يصبح فسبحان الله إلى قوله (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أدرك ما فاته من يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته» (٥).

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠))

(وَمِنْ آياتِهِ) أي من دلائله الدالة على القدرة والوحدانية (أَنْ خَلَقَكُمْ) أي خلق أصلكم وهو آدم (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [٢٠](إِذا) للمفاجأة ، أي فأجاء تم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من شكل أنفسكم وجنسها (أَزْواجاً) لا من جنس آخر للألف والسكون لما بين الجنسين المختلفين من التنافر أو من حواء من أنفسكم ، لأنها خلقت من ضلع آدم (٦) ، والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) أي لتميلوا وتأووا إلى أزواجكم (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) أي محبة (وَرَحْمَةً) أي تراحما بعصمة الازدواج من غير قرابة بعد أن لم يكن بينكم سابقة معرفة ولا لقاء ، وقيل : ال «مودة» كناية على الجماع ، وال «رحمة» عن الولد (٧) ، فبرحمة الله تتعاطفون ويرزق بعض بعضا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [٢١] في صنعه فيستدلون به على قدرته وعظمته فيؤمنون به ويعبدونه.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢))

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وأنتم تعلمون ذلك وتقرون به (٨)(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) المراد من الألسنة اللغات أو أشكالها من الفصاحة واللكنة وملاذ النغمات (وَأَلْوانِكُمْ) أي ألوان صوركم من أبيض وأسود وغيرهما وهم من أب واحد وأم واحدة (٩) ، ولاختلاف ذلك وقع التعارف والتمايز وإلا فلو اتفقت الأشكال وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) [٢٢] بكسر اللام جمع عالم وهو ذو العلم ، وخص العلماء لأنلهم أهل الاستدلال دون الجهلاء وبفتح اللام (١٠) جمع عالم وهو الخلق ، والمعنى : أن الآيات ظاهرة ظهورا يمكن أن يستدل بها جميع الخلائق فتكون (١١) حجة على كل مخلوق.

__________________

(١) فرضت ، و : فرض ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٥.

(٢) انظر الكشاف ، ٥ / ٥.

(٣) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٥.

(٤) انظر البغوي ، ٤ / ٣٩٢.

(٥) أخرج أبو داود نحوه ، الأدب ، ١١٠ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٥.

(٦) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٥.

(٧) نقله المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٦.

(٨) وتقرون به ، وي : ويقرؤن به ، ح.

(٩) وأم واحدة ، ح : ـ وي.

(١٠) «للعالمين» : قرأ حفص بكسر اللام وغيره بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٤٨.

(١١) فتكون ، و : فيكون ، ح ي.

٢٦٨

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣))

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي فيهما (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي من رزقه فيهما أو المعنى : أنه جعل الليل للسكنى والنهار لطلب المعاش ، والأول أظهر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) أي لعبرات (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [٢٣] سماع تدبر.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤))

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) مبتدأ وخبر بتقدير «أن» المصدرية من باب تسمع بالمعيدي خير من أن تراه ، وإنما حذف «أن» ليدل الفعل على الحال ظاهرا (خَوْفاً) من الصاعقة (وَطَمَعاً) في الغيث وانتصبا مفعولا لهما ، أي لإرادة خوف وإرادة طمع أو حالان (١) ، أي خائفين وطامعين (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٢٤] أي يفهمون عن الله فيوحدونه.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥))

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) فوقكم وتحتكم لا يزيلهما شيء وأراد بقيامهما دوام قيامهما إلى أجلهما بلا عمد (بِأَمْرِهِ) أي بقوله كونا قائمتين (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً) أي بعد قيام السماء والأرض للبعث (مِنَ الْأَرْضِ) أي من قبوركم ، يعني إذا دعاكم إسرافيل على صخرة بيت المقدس دعوة واحدة يا أهل القبور أخرجوا (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) [٢٥] بسرعة من غير توقف ، قرئ معلوما ومجهولا (٢) ، والجملة جواب الشرط ، و «إذ» نائبة عن الفاء و (مِنَ الْأَرْضِ) صفة (دَعْوَةً) ومتعلق ب (دَعاكُمْ) ، وعطف (إِذا دَعاكُمْ) على قيام السماء والأرض ب «ثم» على تأويل ومن آياته قيامهما ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم بقوله «أخرجوا» فيخرجون بلا توقف بيانا لعظم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله بلا إباء كقوله (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ)(٣).

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦))

(وَلَهُ) أي لله (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الخلق ، يعني هو موجدهما وربهم (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) [٢٦] أي مطيعون ومنقادون لوجود أفعاله تعالى فيهم لا يمتنعون عليه.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي خلق آدم ومنه خلقهم ولم يكونوا شيئا ثم يعيد الخلق أحياء من قبورهم يوم القيامة (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي البث أسهل على الله فيما تقتضيه عقولكم ، لأن من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وإن كان في نفسه عظيما أو هو أهون على الخلق لأن قيامهما بصيحة واحدة أسهل من كونهم نطفا ثم علقا ثم مضغا إلى تكميل خلقهم (وَلَهُ الْمَثَلُ) أي الوصف (الْأَعْلى) الذي ليس لغيره مثله (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهو أنه منزه عن صفات المحدثين أو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٢٧] أي هو القاهر لكل مقدور والجاري فعله على قضية حكمته وعلمه ، وقيل : (الْمَثَلُ الْأَعْلى) هو الوصف بالوحدانية يدل عليه قوله بعده في وصف التشريك (٤).

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ

__________________

(١) حالان ، ح : حال ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٧.

(٢) هذه القراءة مأخوذة عن السمرقندي ، ٣ / ٨.

(٣) الزمر (٣٩) ، ٦٨.

(٤) أخذه المصنف عن الكشاف مختصرا ، ٥ / ٨.

٢٦٩

بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) مِنْ) فيه ابتدائية ، كأنه قال أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم ، و (مِنْ) في قوله (١)(هَلْ لَكُمْ) مما (مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تبعيض ، أي من عبيدكم وإمائكم ، و (مِنْ) في (مِنْ شُرَكاءَ) زائدة لتأكيد الاستفهام الذي يجري مجرى النفي ، أي هل ترضون لأنفسكم والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم بشر أن يشارككم بعضكم (فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها تكونون أنتم وهم فيه على السواء من غير تفصلة بين حر وعبد ويقاسمونكم كما يقاسم الحر شريكه الحر ، وجوابهم أن يقولوا لا فيقول فاذا لم ترضوا (٢) بذلك لأنفسكم فكيف ترضون أن تجعلوا معبوديكم شركائي في الألوهية والعبادة وهم عبيدي (فَأَنْتُمْ) وعبيدكم (فِيهِ) أي في المال الذي بأيديكم (سَواءٌ) أي متساوون وهو جواب الاستفهام ، أي هل لكم مال فتستوي أنتم وعبيدكم فيه ، وقوله (تَخافُونَهُمْ) حال من فاعل (سَواءٌ) داخلة تحت الاستفهام الإنكاري ، تقديره : أفأنتم تساووا خائفين من مواليكم خيفة (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي بعضكم بعضا من الأحرار الأقارب والأباعد (كَذلِكَ) أي مثل هذا التفصيل (٣)(نُفَصِّلُ الْآياتِ) أي آيات الأمثال نبينها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٢٨] لأن التمثيل بمنزلة التصوير بكشف المعاني لأهلها وهم العقلاء ، فلما لم يمتنعوا من كفرهم وكذبهم أضرب عنهم فقال (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا (أَهْواءَهُمْ) بعبادة الأوثان (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي جاهلين (فَمَنْ يَهْدِي) أي فمن يقدر أن يرشد (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) أي أضله وخذله ولم يلطف به بالتوفيق (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [٢٩] أي مانعين (٤) من العذاب ، وهو دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان.

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠))

(فَأَقِمْ) أي عدل وقوم يا محمد من غير التفات يمينا وشمالا (وَجْهَكَ لِلدِّينِ) يعني أقبل على الدين واستقم بالعمل بأمره ونهيه (حَنِيفاً) أي مخلصا ، حال من الضمير في «أقم» ، قوله (فِطْرَتَ اللهِ) نصب بمحذوف ، أي اتبع يا محمد أو الزموا فطرة الله (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) والفطرة الخلقة وهي القابلية للتوحيد ودين الإسلام من غير إباء عنه وإنكار له أو المراد العهد المأخوذ عليهم بقوله (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(٥) ، فعلى هذا كل مولود يولد ابتداء على التوحيد ، لو لم يعرض له ما يصده عنه لدام عليه لوجود حسن التوحيد وصحته عقلا ، يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» (٦)(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير (ذلِكَ) أي التوحيد الذي خلق الناس عليه هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي المستقيم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [٣٠] ذلك.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

قوله (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) أي منصرفين إلى الله من غيره بالتوحيد والطاعة حال من ضمير «الزموا» الناصبة لفطرة أو من فاعل (فَأَقِمْ) ، لأنه جمع في المعنى لأنه خطاب للرسول عليه‌السلام والمراد أمته ، وإنما أفرد ثم جمع لما في الإفراد من التعظيم للإمام ، وفي الجمع من البيان والتلخيص (وَاتَّقُوهُ) بامتثال أمره ونهيه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي في مواقيتها (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [٣١] أي على دينهم ، وهذه الأوامر بيان للإنابة إليه ، وعطف على «الزموا» المقدر قوله (مِنَ الَّذِينَ) بدل من (الْمُشْرِكِينَ) ، أي لا تكونوا من الذين (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بالتشديد ، أي جعلوه فرقا

__________________

(١) قوله ، ح : ـ وي.

(٢) فاذا لم ترضوا ، ح و : فاذا لم يرضوا ، ي.

(٣) التفصيل ، وي : التفضيل ، ح.

(٤) مانعين ، ح و : مانعون ، ي.

(٥) الأعراف (٧) ، ١٧٢.

(٦) رواه البخاري ، الجنائز ، ٨٠ ؛ ٩٣ ؛ والترمذي ، القدر ، ٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١١ ؛ والبغوي ، ٤ / ٣٩٧.

٢٧٠

وأديانا مختلفة وهم اليهود والنصارى ، وقرئ «فارقوا» بالأف (١) بمعنى تركوه (وَكانُوا شِيَعاً) أي طوائف مختلفة كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها ، قيل : افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة والنصارى اثنين وسبعين والمسلمون ثلاثة وسبعين (٢)(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من الدين (فَرِحُونَ) [٣٢] أي مغرورون يحسبون باطلهم حقا.

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣))

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) أي شدة كمرض وقحط (دَعَوْا رَبَّهُمْ) أي يلجئون إلى الله تعالى (مُنِيبِينَ) أي مقبلين بالدعاء (إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) أي نعمة وخصبا من مطر وصحة (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [٣٣].

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥))

ثم هددهم بلام الأمر بقوله (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي بسبب ما أعطيناهم من النعم ، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب وهو (فَتَمَتَّعُوا) هذا (٣) نظير (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(٤)(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [٣٤] ما يفعل بكم من الجزاء ثم (أَمْ أَنْزَلْنا) بالاستفهام وزيادة الميم ، والمراد النفي ، أي لم ننزل (عَلَيْهِمْ) من السماء (سُلْطاناً) أي برهانا أو كتابا (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) مجاز ، لأن البرهان لا يتكلم ولكنه لما جاء دليلا على الإيمان فكأنه متكلم (بِما كانُوا بِهِ) أي بكونهم (يُشْرِكُونَ) [٣٥] بالله.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦))

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ) أي الكفار (رَحْمَةً) أي خصبا وكفاية (فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) أي قحط وضيق وبلاء (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الأعمال الخبيثة (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [٣٦] بفتح النون وكسرها (٥) ، أي يئسون من رحمة الله تعالى.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨))

ثم أنكر عليهم نصحا لهم بقوله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسعه ويضيقه ، يعني أنهم قد علموا أن الله هو الباسط للرزق والقابض له فما لهم يقنطون من رحمته ، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بها حتى يعيد إليهم رحمته (إِنَّ فِي ذلِكَ) البسط والتقتير (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [٣٧] بالله ولما ذكر أن السيئة تصيبهم بما قدمت أيديهم ، أي بشؤمه عقبه بذكر ما يمدحون بفعله ويذمون بتركه فقال بالفاء (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أي تبره وتصله (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) من الصدقة والإعانة (ذلِكَ) أي صلة القرابة وغيرها (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي يقصدون بمعروفهم ذاته خالصا أو يقصدون به جهة التقرب إليه تعالى لا جهة أخرى (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٣٨] أي الناجون في الآخرة بدخول الجنة يحتج أبو حنيفة رحمه‌الله بهذه الآية على وجوب النفقة لذوي الأرحام المحارم عند الاحتياج ، ولا يوجبها الشافعي رحمه‌الله إلا على الولد والوالدين لوجود الولاد دون سائر القرابات ويقيسهم على ابن العم لأنه لا ولاد بينهم (٦).

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ

__________________

(١) «فرقوا» : قرأ الأخوان بالألف بعد الفاء مع تخفيف الراء وغيرهما بحذف الألف وتشديد الراء. البدور الزاهرة ، ٢٤٩.

(٢) نقله عن السمرقندي ، ٣ / ١٢.

(٣) هذا ، ي : هنا ، ح و.

(٤) فصلت (٤١) ، ٤٠.

(٥) «يقنطون» : قرأ البصريان والكسائي وخلف عن نفسه بكسر النون ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٤٩.

(٦) نقله المصنف عن الكشاف ، ٥ / ١٠.

٢٧١

فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

(وَما آتَيْتُمْ) بالمد من الإعطاء وبالقصر من المجيء ، أي الذي أعطيتم أو جئتم به (مِنْ رِباً) أي عطية أكلة الربوا (لِيَرْبُوَا) أي ليزداد (فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا) أي لا ينمو ولا يضاعف تلك العطية في أموالهم (عِنْدَ اللهِ) قيل : المراد منه منع الربوا ، لأن الله يمحقه ولا يبارك فيه (١) أو ما أعطيتم للذين يمنون عليكم بهبتهم لكم ليستكثروا بها من ربوا ليربو في أموالهم ، أي ليزيد فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه ، يعني لا يثيب لكم بتلك الزيادة على العوض ، لأنها لغير الله ولا إثم على الآخذ (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) أي صدقة (تُرِيدُونَ) أي تقصدون به (وَجْهَ اللهِ) خالصا لا مكافاة ولا رياء ولا سمعة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [٣٩] أي ذوو الأضعاف من الحسنات ، يعني تضاعف حسناتهم فيعطون بالحسنة عشرة أضعافها ، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة تعظيما لهم ، قوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) مبتدأ وخبر وهو بيان لصنعه البيع تحريضا على توحيده ، أي الله خلقكم ولم تكونوا شيئا (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أي أطعمكم ما عشتم في الدنيا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت للحساب والجزاء ، نزل للإيماء إلى عجز آلهتهم (٢) ، يعني الله هو فاعل هذه الأفعال الخاصة التي لا يقدر على شيء منها أحد غيره (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) وهم الذين اتخذوهم أندادا لله من الأصنام وغيرها (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يفعل أحد شيئا قط من تلك الأفعال حتى يصح ما ذهبتم إليه ثم استبعد ونزه حاله من حال شركائهم حين عجزوا من الجواب بقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى) عن ما (يُشْرِكُونَ) [٤٠] به من المعبودين.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١))

ثم بين سبب عقوبتهم في الدنيا والآخرة ليرجعوا عن معاصيهم تائبين بقوله (ظَهَرَ الْفَسادُ) كالجدب ونقص المعاش بقلة الربح في التجارات والريع في الزراعات ووقوع الموتان في الناس والدواب وكثرة المضار وقلة المنافع ومحق البركات من كل شيء ، وقيل : ظهر الشرور والفتن (٣)(فِي الْبَرِّ) أي في البوادي والمفاوز (وَالْبَحْرِ) أي في القرى على الماء ، يعني امتلاء الضلالة والمعاصي فأثرت بها فيهما ، وقيل : «المراد حقيقة البحر» (٤) ، لأنه إذا انقطع المطر عميت دواب البحر وخلت الأصداف على اللؤلؤ ، لأن الصدف إذا جاء المطر صعد على وجه الماء منفتحا فيقع فيه المطر فينطبق عليه فيصير لؤلؤا (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بسبب ذنوبهم ومعاصيهم فيهما واللام في (لِيُذِيقَهُمْ) لام «كي» ، أي أفسد الله أسباب دنياهم ومحقها ليذيقهم أي ظهر الشرور والمعاصي بسببهم فاستوجبوا به أن يذيقهم ، قرئ بالياء والنون (٥) ، أي لنذيقهم نحن (بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) أي وبال أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [٤١] عما هم عليه.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢))

قوله (قُلْ سِيرُوا) أي سافروا (فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) أي آخر أمر من كان قبلهم من الأمم تأكيد لتسبب المعاصي لغضب الله ونكاله حيث أمرهم بالسير في الأرض والنظر إلى حال من أهلكهم الله من الأمم العاتية وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ودل بقوله (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) [٤٢] على أن الشرك وحده لم يكن (٦) سبب إهلاكهم بل ما دونه كان سببا لذلك أيضا.

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٣) لعله اختصره من الكشاف ، ٥ / ١١.

(٤) ذكر ابن عباس نحوه ، انظر الكشاف ، ٥ / ١١.

(٥) «ليذيقهم» : قرأ قنبل وروح بالنون ، وغيرهما بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ٢٤٩.

(٦) لم يكن ، ح و : ـ ي.

٢٧٢

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣))

(فَأَقِمْ) أي عدل (وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) أي الدين (١) البليغ الاستقامة الذي لا يأتي (٢) فيه عوج ، يعني أثبت عليه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) هو يوم القيامة ، أي لا يرده أحد (مِنَ اللهِ) بعد مجيئه ولا رد له من جهته ، وال «مرد» مصدر بمعنى الرد (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [٤٣] أي يتصدعون بمعنى يتفرقون ، فريق إلى الجنة وفريق إلى النار.

(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤))

قوله (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وبال كفره إيماء إلى غناه عنهم (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) [٤٤] أي يسوون لأنفسهم في الجنة مضاجعهم ، ونسب ذلك إليهم مع أن الملائكة يسوون لهم ذلك لأن أعمالهم الصالحة صارت سببا لذلك كقوله (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها)(٣) ، وقدم الظرف في الموضعين ليدل التقديم على أن الضرر والنفع لا يعود إلا على صاحبه.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥))

قوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تعليل ل (يَمْهَدُونَ (مِنْ فَضْلِهِ) أي من طاعته بعد توفيقه الواجب من الثواب و (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) [٤٥] تصريح بعد التضمين ، لأن ما قبله من آية المؤمنين يتضمن أن الكافرين لا يحبهم الله تعالى.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) أي رياح الرحمة وهي الصبا والجنوب والشمال وأما الدبور فريح العذاب (مُبَشِّراتٍ) تبشر لخلقه بالمطر النافع (وَلِيُذِيقَكُمْ) عطف على معنى (مُبَشِّراتٍ) ، تقديره : يرسل الرياح ليبشركم وليذيقكم (مِنْ رَحْمَتِهِ) وهي نزول المطر وحصول الخصب الذي يتبعه (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ) أي السفن (بِأَمْرِهِ) بارسال الرياح (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا من رزقه يريد به تجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [٤٦] أي لتشكروا نعمة الله فيها وتوحدوه.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الآيات الواضحات فكذبوهم (فَانْتَقَمْنا) بالعذاب (مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) أي كذبوا الآيات بذنوبهم (وَكانَ حَقًّا) أي واجبا (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [٤٧] بانجائهم من العذاب وهو تعظيم للمؤمنين ورفع شأنهم حيث جعلهم الله مستحقين عليه أن ينصرهم ويظفرهم.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨))

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) أي ترفع غيما (فَيَبْسُطُهُ) متصلا تارة (فِي السَّماءِ) أي نحوها (كَيْفَ يَشاءُ) من قلة وكثرة وبسط (٤) وسمك مسيرة يوم أو أكثر (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي قطعا متفرقة تارة (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي من وسطه في حال البسط والتفرق (فَإِذا أَصابَ بِهِ) أي بالمطر (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني أصاب به أراضيهم وبلادهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) [٤٨] أي يفرحون فجأة.

__________________

(١) الدين ، ح و : ـ ي.

(٢) لا يأتي ، ح ي : يتأتى ، و.

(٣) الإسراء (١٧) ، ٧.

(٤) وبسط ، ح ي : وسبط ، و.

٢٧٣

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩))

(وَإِنْ كانُوا) أي الخلق (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر ، قوله (مِنْ قَبْلِهِ) من باب التأكيد وهو الدلالة على بعد عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم منه فكان استبشارهم على قدر اغتمامهم بذلك ، قوله (لَمُبْلِسِينَ) [٤٩] خبر «كان» ، أي آيسين.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) جمع الأثر ، وقرئ به (١) ، أي انظر إلى تأثيرات المطر نظر عبرة (كَيْفَ يُحْيِ) الله (الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يبسها (إِنَّ ذلِكَ) أي محييها بعد موتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) للجزاء وهو الله تعالى (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٥٠] أي هو قادر على كل مقدور من الإنشاء والإعادة.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١))

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا) اللام لتوطئة القسم دخلت على حرف الشرط ، أي والله لئن أرسلنا على زرعهم (رِيحاً) فأفسدته (فَرَأَوْهُ) أي الزرع (مُصْفَرًّا) بعد خضرته (٢)(لَظَلُّوا) جواب القسم والشرط ، أي لصاروا (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد اصفراره (يَكْفُرُونَ) [٥١] بالله وبنعمته ، المعنى : أنهم يفرحون عند السعة ويكفرون عند الضيق ، وكان عليهم أن يتوكلوا على الله وفضله على كل حال فيشكروه على نعمته ويصبروا على بلائه.

(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢))

(فَإِنَّكَ) يا محمد (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي الكفار الذين هم كالموتى إذا دعوتهم إلى الإيمان (وَلا تُسْمِعُ) أيضا (الصُّمَّ الدُّعاءَ) إليه وهم الذين يتصاممون عن سماع الدعاء (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) [٥٢] أي إذا أعرضوا عن الحق مكذبين.

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ) أي الذين عميت بصائرهم عن آياتنا ، يعني لا يرشدهم إلا (٣) بالتوفيق (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) أي عن طريق الضلالة إلى طريق الهدى وهو الإيمان والطاعة والله يهدي ، أي يوفق من يشاء ولكن عليك الدعاء إلى الهدى (إِنْ) أي ما (تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ) أي من يصدق (٤)(بِآياتِنا) أي القرآن (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) [٥٣] أي مخلصون في إيمانهم به.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤))

ثم دل على قدرته بأظهر الدليل فقال (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) بالضم والفتح (٥) ، أي من ذي ضعف وهو النطفة إلى ضعف الطفولة أو المراد من حال الطفولة إلى الاحتلام (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) أي بعد ضعف الطفولة قوة الشباب إلى الاكتهال (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) أي قوة الشباب (ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي ضعف الشيخوخة (٦) والهرم وهذا الترديد في الأحوال المختلفة أعدل شاهد على الصانع الكامل بالعلم والقدرة (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من الدواب والصور كما يشاء (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بخلقه (الْقَدِيرُ) [٥٤] بتحويله من حال إلى حال.

__________________

(١) «آثار» : قرأ الشامي والأخوان وخلف وحفص بألف بعد الهمزة وألف بعد الثاء على الجمع ، والباقون بحذف الألفين على الإفراد. البدور الزاهرة ، ٢٤٩.

(٢) خضرته ، ح ي : حضرته ، و.

(٣) إلا ، ح : ـ وي.

(٤) أي من يصدق ، و : أي يصدق ، ح ي.

(٥) «ضعف» : قرأ حمزة وشعبة وحفص بخلف عنه بفتح الضاد ، والباقون بضمها وهو الوجه الثاني لحفص والوجهان عنه جيدان. البدور الزاهرة ، ٢٥٠.

(٦) الشيخوخة ، وي : الشيوخة ، ح.

٢٧٤

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥))

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) أي القيامة (يُقْسِمُ) أي يحلف (الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون (ما لَبِثُوا) في الدنيا أو في القبور (غَيْرَ ساعَةٍ) إلا ساعة فيكذبون ويفتضحون ، وسمي يوم القيامة ساعة لأنه تقوم بغتة في ساعة واحدة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) [٥٥] أي مثل ذلك الصرف عن الصدق كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦))

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) أي يقول الملائكة ثمه أو الأنبياء والمؤمنون في جوابهم (لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكمه وقضائه أو في اللوح (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) فردوا قولهم وحلفهم وأطلعوهم على حقيقة الحال ، وقالوا على سبيل التقريع أن شككتم في طلب الحق (١) في يوم البعث (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي أنكرتموه ، فالفاء فيه هي الفصيحة لما أبهم قبلها (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ) في الدنيا (لا تَعْلَمُونَ) [٥٦] صحة ذلك الآن لتفريطكم في طلب الحق واتباعه.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧))

(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ) بالتاء والياء (٢)(الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ) أي اعتذارهم (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [٥٧] يقال استعتبني فلان فأعتبته ، أي استرضاني فأرضيته ، أي لا يطلب منهم العتبى وهو استرضاء الله تعالى ، يعني لا يقال هم ارضوا ربكم بتوبة وطاعة تنفع (٣) لكم.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨))

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا) أي وصفنا (٤) وبينا كل صفة وقصة عجيبة الشأن (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) كصفة المبعوثين يوم القيامة وقصتهم وما يقولون وما يقال لهم وما ينفع من معذرتهم وما لا يسمع من استعتابهم كأنها مثل في غرابتها (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) يا محمد (بِآيَةٍ) منا كما سألوا (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أهل مكة (إِنْ أَنْتُمْ) أي ما أنتم (إِلَّا مُبْطِلُونَ) [٥٨] أي كاذبون ، يعني أنهم لقسوة قلوبهم عن الميل إلى الحق إذا جئتهم (٥) بآية من آيات القرآن ، قالوا ما جئتنا إلا بزور وباطل.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩))

(كَذلِكَ) أي مثل ذلك الطبع وهو الختم (يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [٥٩] التوحيد ولا يصدقون الرسل.

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

(فَاصْبِرْ) على أذاهم وعداوتهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ)(٦) بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله (حَقٌّ) أي لا بد من إنجازه والوفاء به (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) أي لا يحملنك على الخفة والقلق جزعا (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) [٦٠] بالبعث بما يقولون ويفعلون ، يعني لا يخدعنك بسلب عقلك منك بحلاوة الكلام وإظهار التملق فيعظمون عندك مكان المؤمنين أو بما يغضبونك فيضيق صدرك فانهم ضالون مضلون ليس ذلك ببدع منهم فاحذرهم فانهم أصحاب فتنة ومكر.

__________________

(١) في طلب الحق ، ح ي : ـ و.

(٢) «لا يَنْفَعُ» : قرأ الكوفيون بياء التذكير وغيرهم بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ٢٥٠.

(٣) تنفع ، و : ينفع ، ح ي.

(٤) أي وصفنا ، ح ي : أي لقد وصفنا ، و.

(٥) يا محمد ، + ح.

(٦) أي ، + ح.

٢٧٥

سورة لقمان

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢))

(الم) [١] أي هذه السورة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [٢] يجوز أن يكون (الْحَكِيمِ) وصف (الْكِتابِ) ، أي ذي الحكمة أو وصف قائله ، والأصل الحكيم قائله ، حذف القائل وأضمر المضاف إليه في الصفة المشبهة مرفوعا.

(هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

(هُدىً وَرَحْمَةً) بالنصب على الحال من ال (آياتُ) والعامل ما في تلك من معنى الإشارة ، وبالرفع (١) على أنه خبر مبتدأ محذوف (لِلْمُحْسِنِينَ) [٣] أي للذين (٢) يحسنون العمل بالنية الخالصة وهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يتمونها (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يؤدونها (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والجزاء فيه (هُمْ يُوقِنُونَ) [٤] أي بوقوعه وإنما خص ذكر هذه الثلاث لفضل اعتداد بها.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

(أُولئِكَ عَلى هُدىً) أي توفيق (مِنْ رَبِّهِمْ) بتبيينه طريقه (٣) المستقيم لهم هنا (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [٥] من النار والفوز بالخير ثمه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) وهو السمر بالأساطير والتحدث بالكلمات المستملحة والمضاحيك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل شرى المغنيات ولا بيعهن وأثمانهن حرام» (٤) ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «لهو الحديث الغناء» (٥) ، وقيل : كلام سوى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيرة الصالحين فهو لهو (٦) ، وقيل : نزل في النضر بن الحارث كان يشتري أخبار رستم وإسفنديار ليقرأها على قريش ويمنعهم عن استماع القرآن (٧)(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بالضم ، أي ليصد الناس عن استماع القرآن والدخول في الإسلام ، وبالفتح (٨) ، أي ليصير آخر

__________________

(١) «وَرَحْمَةً» : قرأ حمزة برفع التاء ، وغيره بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٥٠.

(٢) للذين ، و : الذين ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٦.

(٣) طريقه ، وي : طريقة ، ح.

(٤) روى ابن ماجة نحوه ، التجارات ، ١١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٩ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٠٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٦.

(٥) انظر البغوي ، ٤ / ٤٠٨.

(٦) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٧) عن الكلبي ومقاتل ، انظر الواحدي ، ٢٨٧ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٠٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ١٩ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٦.

(٨) «ليضل» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، والباقون بضمها. البدور الزاهرة ، ٢٥٠.

٢٧٦

أمره إلى الضلال (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي يشتري بغير علم التجارة وبغير بصيرة بها حيث يستبدل الضلال بالهدى من غير ربح (وَيَتَّخِذَها) بالنصب ، أي وليتخذ السبيل أو الآيات (هُزُواً) أي استهزاء ، وقرئ بالرفع (١) عطفا على «يشتري» (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [٦] أي يهانون فيه.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا) أي القرآن (وَلَّى مُسْتَكْبِراً) أي أعرض عن الإيمان بالقرآن وبمحمد عليه‌السلام متكبرا لا يعبأ بها فحاله في ذلك (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي كحال من لم يسمعها وهو سامع ، قوله (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) بدل من (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ، وال «وقر» الثقل ، ومحل جملتي (كَأَنْ) و (كَأَنْ) نصب على الحال الأولى من الضمير في (مُسْتَكْبِراً) ، والثانية من ضمير الفاعل في (لَمْ يَسْمَعْها) ، وأصل «كأن» كأنه ، والضمير ضمير الشأن (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [٧] أي مؤلم.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالقرآن (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال المرضية (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) [٨] في الآخرة.

(خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

(خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا) مصدران للتأكيد ، الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره ، لأن معنى (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) وعدهم بها ، فأكد معنى الوعد بالوعد ، و (حَقًّا) يدل على الثبات ، أكد به معنى الوعد فيكون تأكيدا لغيره (وَهُوَ الْعَزِيزُ)(٢) الذي لا يغلبه شيء (الْحَكِيمُ) [٩](٣) الذي لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة.

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠))

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) أي خلقها بغير عمد مرئية ، فقوله (تَرَوْنَها) في محل الجر صفة ل (عَمَدٍ) ، فيجوز أن يكون لها عمد لكنها لا ترى ، ويجوز أن لا يكون لها عمد أصلا ، بل يمسكها الله بقدرته (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ) أي وضع فيها (رَواسِيَ) أي جبالا مرتفعة (أَنْ تَمِيدَ) أي كراهة أن تضطرب (بِكُمْ وَبَثَّ فِيها) أي بسط في الأرض (مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها) أي في الأرض (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) [١٠] أي حسن.

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١))

(هذا) أي ما ذكر من المخلوقات (خَلْقُ اللهِ) أي مخلوقه (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله وهم آلهتهم ، تبكيب لهم بأن الله خلق هذه الأشياء العظيمة ، فأي شيء (٤) خلق آلهتكم حتى يستوجبوا العبادة عندكم ، قوله (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [١١] إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال وهو الخسران الدائم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢))

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) أراد بلقمان بن باعور بن أخت أيوب ، قيل : إنه أدرك داود عليه‌السلام وأخذ منه العلم وعاش ألف سنة (٥) ، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا ، والحكمة هي العقل والعلم والعمل ، روي : أن رجلا قال له ألست راعي فلان فبما بلغت ما بلغت قال بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا

__________________

(١) «وَيَتَّخِذَها» : قرأ حفص والأخوان وخلف ويعقوب بنصب الذال ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٥٠.

(٢) أي ، + ح.

(٣) أي ، + ح.

(٤) فأي شيء ، ح ي : فأروني ما ذا ، و.

(٥) نقله المصنف عن الكشاف ، ٥ / ١٨.

٢٧٧

يعنيني (١)(أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) «أن» مفسرة ، لأن إيتاء الحكمة في معنى القول ، أي قلنا له اشكر لله على ما أعطاك من الحكمة (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ) أي ثواب شكره (لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ) نعمة ربه (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ) عن خلقه وعن شكره (حَمِيدٌ) [١٢] أي مستحق أن يحمد في صنعه وإن لم يحمده أحد.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣))

(وَ) اذكر (إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ) وهو لقمان بن باعور ، وقيل : «كان لقمان عبدا حبشيا لرجل من بني إسرائيل في زمان داود عليه‌السلام فأعتقه» (٢)(وَهُوَ يَعِظُهُ) أي يأمر ابنه بالطاعة وينهاه عن المعصية (يا بُنَيَّ) بالتصغير والإضافة إلى ياء المتكلم بالنصب والكسر (٣) ، وكان اسم ابنه أنعم ، وكان هو وأمه كافرين فما زال لقمان يعظهما حتى أسلما (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [١٣] لأنه لا يغفر ويغفر ما دون ذلك أو لأنه تسوية بين خالق كل نعمة وغيرها وبين العاجز عن كل شيء ، وهو ظلم لا غاية له.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤))

ثم قال تعالى بالاعتراض في أثناء وصية (٤) لقمان تأكيدا لما فيها من النهي لابنه عن الشرك (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) أي وصيناه بهما كما وصى لقمان ابنه بالتوحيد والطاعة ، يعني وصيناه الإحسان لوالديه (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي حال كونها تضعف ضعفا على ضعف ، يعني يتزايد ضعفها بأزدياد الحمل وثقله (وَفِصالُهُ) أي مدة فطامه (فِي عامَيْنِ) فلا يثبت حرمة الرضاع بعدهما لأن هذه المدة هي الغاية التي لا يتجاوزوا لأمر فيما دونها موكول إلى اجتهاد الأم في الفطام والرضاع ، وهو مذهب الشافعي رحمه‌الله ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله مدة الرضاع ثلاثون شهرا ، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المفسر والمفسر تذكيرا لحق الوالدة الذي هو أعظم من حق الوالد على الإنفراد والمفسر (٥) قوله (أَنِ اشْكُرْ) فانه تفسير لقوله (وَوَصَّيْنَا) ، ويجوز أن يكون منصوبا به ، أي وصينا الإنسان أن اشكر (لِي وَلِوالِدَيْكَ) أي بشكري وشكر والديك (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [١٤] قيل : من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكر والديه (٦) ، قال الرسول عليه‌السلام لمن قال : «من أبر أمك ثم أمك ثم أمك» ثم قال بعد ذلك : «ثم أباك» (٧).

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦))

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أراد بنفي العلم به نفيه ، أي لا تشرك بي ما ليس بشيء وهو الأصنام (فَلا تُطِعْهُما) في الشرك (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا) صحابا (مَعْرُوفاً) حسنا بخلق جميل ، أي بالبر والصلة وحسن العشرة (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ) أي أقبل (إِلَيَّ) بطاعتي وهي سبيل المؤمنين في دينك ولا تتبع سبيلهما أو إن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) أي مرجعك (٨) ومرجعهما (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [١٥] أي فأجازيك وأجازيهما على كفرهما ، قيل : نزلت الآية في سعد بن أبي وقاص وأمه (٩) ،

__________________

(١) هذا مأخوذ عن البغوي ، ٤ / ٤٠٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢١.

(٢) عن وهب بن منبه ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٢١.

(٣) إن في «يا بني» ثلاث قراءات : الأولى فتح الياء مشددة لحفص والثانية إسكان الياء مخففة لابن كثير والثالثة كسرها مشددة للباقين. البدور الزاهرة ، ٢٥١.

(٤) وصية ، و : قضية ، ح ي.

(٥) تذكيرا لحق الوالدة الذي هو أعظم من حق الوالد على الإنفراد والمفسر ، ح و : ـ ي.

(٦) عن سفيان بن عيينة ، انظر البغوي ، ٤ / ٤١٠.

(٧) رواه مسلم ، البر ، ١ ، ٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ١٩.

(٨) مرجعك ، وي : مرجعكم ، ح.

(٩) هذا منقول عن البغوي ، ٤ / ٤١٠ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٨٨.

٢٧٨

وقد مرت القصة (١) ، ثم قال لقمان لابنه حين قال «يا أبي» : «إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله؟» (٢)(يا بُنَيَّ إِنَّها) أي إن الخطيئة التي تعمل أو الهنة وهي الشيء اليسير من العمل أي عمل كان (إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ) بالنصب ف «كان» ناقصة ، أي إن تك السيئة أو الحسنة قدر مثقال حبة (مِنْ خَرْدَلٍ) أي زنة حبة من حب الخردل ، والرفع ف «كان» تامة (٣) ، وأنث ال «مثقال» لإضافتها إلى الحبة أو بمعنى الحسنة أو السيئة ، خاطب به ابنه للتهديد فقال : يا بني لو كان عملك أصغر شيء كحبة الخردل (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي في أخفى موضع كجوف صخرة ما في الماء لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء أو في الصخرة التي هي تحت الأرض ، وهي السجين فيها كتب أعمال الكفار (أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) أي في العالم العلوي أو السفلي (يَأْتِ بِهَا) أي بتلك الهنة (٤)(اللهُ) يوم القيامة فيجازى بها عاملها (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) يتوصل علمه إلى كل خفي (خَبِيرٌ) [١٦] أي عالم بكنهه وبمكانه لا يفوته شيء.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧))

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) أي بالخير (وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك وابدأ بنفسك (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من الأذى ممن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر ، ويجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن (إِنَّ ذلِكَ) أي الذي ذكر من الأوامر (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [١٧] أي مما عزمه الله عزم إيجاب وإلزام ، يعني قطعه قطع الفرض والوجوب ، يقال هذا عزمة الملك إذا لم يكن للمعزوم عليه بد من فعله ، أي لم يجز تركه.

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨))

(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) بالتشديد وبالألف مع التخفيف (٥) ، أي لا تعرض عن الناس وجهك تجبرا ، من الصعر وهو داء يصيب البعير يلوي به عنقه ، المعنى : أقبل على الناس بوجهك تواضعا ولا تولهم بشق وجهك عند السّلام وغيره كما يفعله المتكبرون (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) أي مشي مرح أو مصدر في موضع الحال ، أي مرحا أشرا أو مفعول له ، أي لأجل المرح ، يعني لا يكن غرضك البطر والأشر كمشي أصحابك لبطالة لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ) أي متبختر في مشيته (فَخُورٍ) [١٨] على الناس.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))

(وَاقْصِدْ) أي اعدل (فِي مَشْيِكَ) حتى يكون مشيا بين مشيين ، أي بين الإسراع والدبيب ، يعني لا تمش كمشي الشطار ولا كمشي الزاهد المتماوت ، وعليك الوقار والسكينة (وَاغْضُضْ) أي انقص (مِنْ صَوْتِكَ) واخفضه ، في محل الخطاب ولا تجهر به إلا في الإرهاب للعدو ، قوله (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ) من باب ضرب المثل بما هو المعروف بين الناس ، أي أوحشها وأقبحها (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [١٩] المعروف بالقبح عندكم ، لأن أوله زفير وآخره شهيق كصوت أهل النار وذكر الحمير فيه مبالغة في الذم والتهجين (٦) والترغيب عن رفع الصوت وتنبيه على أنه مما يكرهه الله تعالى أشد كراهة ، والمراد بصوت الحمير صوت هذا الجنس لا صوت كل أحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع.

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ

__________________

(١) انظر سورة العنكبوت (٢٩) ، ٨.

(٢) انظر البغوي ، ٤ / ٤١١.

(٣) «مثقال» : قرأ المدنيان برفع اللام ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٥١.

(٤) الهنة ، وي : الهيئة ، ح.

(٥) «وَلا تُصَعِّرْ» : قرأ نافع وأبو عمرو والأخوان وخلف بألف بعد الصاد وتخفيف العين ، والباقون بحذف الألف وتشديد العين. البدور الزاهرة ، ٢٥١.

(٦) التهجين ، ح و : التهجير ، ي.

٢٧٩

النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠))

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) أي الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك (وَما فِي الْأَرْضِ) من البحار والأنهار والمعادن والدواب وغير ذلك مما لا يحصى ، يعني ذلل لكم منافعها (وَأَسْبَغَ) أي أفضل وأسبل (عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ) جمعا لكثرتها ومفردا لإرادة الجنس (١) ، والنعمة هي ما قصد به الإحسان والنفع ، والله جل وعلا خلق العالم كله نعمة لنفع غيره لأنه غني لا يحتاج إلى المنافع ولا لغرض آخر لأنه عبث ، وهو عليه محال ، قوله (ظاهِرَةً وَباطِنَةً) حالان للنعمة ، والنعمة الظاهرة ما يعلم بالمشاهدة كحسن الصوت وامتداد القامة وتسوية الأعضاء أو هي البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح الظاهرة والنعمة الباطنة المعرفة وما لا يعلم إلا بدليل أو ما لا يعلم أصلا وينتفع به (٢) ، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها ولا يهتدى إلى العلم بها كالستر والقلب والعقل والفهم والروح وما أشبه ذلك ، وقيل : الظاهرة الإعراض عن الدنيا والباطنة التوكل والثقة بالله (٣)(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في دينه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بالجهل وهو النضر بن الحارث (وَلا هُدىً) أي لا ببيان من الله (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) [٢٠] أي مضيء له بالحجة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) أي لكفار مكة (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فقال تعالى (أَوَلَوْ كانَ) أي أيتبعون (٤) ولو كان (الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [٢١] وهو في موضع الحال من ضمير الفاعل ، أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب.

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢))

(وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) أي من يجعل ذاته سالما لله ، أي خالصا له (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في عمله ، والمراد التوكل عليه والتفويض إليه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي فقد اعتصم بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه ، والمراد العهد المحكم وهو قول «لا إله إلا الله» (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [٢٢] أي هي صائرة إليه فيجزي كلا جزاءه.

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣))

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) أي لا يهمنك كيده للإسلام فانا ندفع كيده في نحره ونعاقبه على عمله (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) أي رجوعهم يوم القيامة (فَنُنَبِّئُهُمْ) أي نخبرهم ونجازيهم (بِما عَمِلُوا) في الدنيا من الجحود والمعاصي (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٢٣] أي يعلم ما في صدور عباده فيفعل بهم على حسبه.

(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤))

(نُمَتِّعُهُمْ) زمانا (قَلِيلاً) بدنياهم (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ) أي نلجئهم (إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [٢٤] أي شديد لا يقدر على الانفكاك منه ، والغلظ يستعار من الأجرام الغليظة ، والمراد الشدة والثقل على المعذب.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي أهل مكة (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أي ليقرون أن الله خلقهما ، قوله (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلزام لهم (٥) على إقرارهم بأن خالقهما هو الله وحده ، وحقيق بأن يحمد (٦) ويشكر له لا لغيره (بَلْ

__________________

(١) «نعمة» : قرأ المدنيان والبصري وحفص بفتح العين هاء مضمومة على التذكير والجمع ، والباقون باسكان العين وبعد الميم تاء منونة منصوبة على التأنيث والإفراد. البدور الزاهرة ، ٢٥١.

(٢) وينتفع به ، ح : وينفع به ، وي.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٤) أي أيتبعون ، ح ي : أي أيتبعونهم ، و.

(٥) لهم ، وي : ـ ح.

(٦) بأن يحمد ، وي : بأن يحمده ، ح.

٢٨٠