عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ) أي اذكر مريم التي حفظت (فَرْجَها) من الوطئ (فَنَفَخْنا فِيها) أي نفخنا الروح في عيسى فيها ، يعني أحييناه في جوفها ، وقيل : معناه أمرنا جبرائيل فنفخ في جيبها (١) أو في نفسها فحملت عيسى حيا بذلك النفخ (مِنْ رُوحِنا) وإضافة الروح إليه تشريفا لعيسى عليه‌السلام (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) أي علامة وعبرة (لِلْعالَمِينَ) [٩١] أي للإنس والجن ، ولم يقل آيتين ، لأنهما كشيء واحد في الدلالة على خلق ولد بلا فحل.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) خطاب للناس جميعا أو للرسل ، أي قلنا يا أيها الرسل هذه الملة ، أي ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تكونوا مع أممكم عليها لا تنحرفون عنها (أُمَّةً واحِدَةً) بالنصب على الحال ، أي يشار إليها حال كونها ملة واحدة ، أي على شريعة واحدة غير مختلفة ، لأنها سبب الفلاح لا غير (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي إلهكم الحق (فَاعْبُدُونِ) [٩٢] أي اعبدوني بالتوحيد.

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣))

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي تفرقوا في أمرهم وهو دينهم (بَيْنَهُمْ) بعد ذلك أحزابا ، فكل حزب يخالف الآخر كاليهود والنصارى (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) [٩٣] في الآخرة فنجازيهم لتفرقهم في الدين فهو تهديد لهم.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤))

ثم بين ثواب الثابتين على الإسلام بقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) أي مصدق بتوحيد الله (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي لا حجد لعمله ولا نسيان لثوابه (وَإِنَّا لَهُ) أي لسعيه (كاتِبُونَ) [٩٤] في صحيفة عمله فنثيبه به.

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

(وَحَرامٌ) أي ممتنع الوجود كامتناع الحرام (عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) بالعذاب فيما مضى (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [٩٥] بالفتح ، أي الرجوع إلى الدنيا بعد الهلاك ف (لا) زائدة وجملة «أن» مبتدأ والخبر ما تقدم من (حَرامٌ) ، وقيل : معناه الإيمان حرام على أهل قرية حكمنا باهلاكهم بالعذاب ، لأنهم لا يرجعون عن كفرهم ف (لا) ثابتة وجملة «أن» تعليل لل (حَرامٌ)(٢).

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦))

قوله (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) غاية ل «حرام» ، أي امتناع رجوعهم لا يزول حتى يقوم القيامة ، وذلك إذا فتحت يأجوج ومأجوج ، أي سدهما وهما قبيلتان من الإنس ، قيل : «الناس (٣) كلهم عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج» (٤)(وَهُمْ) أي يأجوج ومأجوج بعد خروجهم من السد (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) أي من نشز (يَنْسِلُونَ) [٩٦] أي يسرعون من نسل أسرع وعسل ، قيل : يخرجون بعد الدجال فيفسدون في الأرض فيبعث الله عليهم دابة مثل النغف فيلج في أسماعهم ومناخرهم فيموتون فتنتن الأرض فيرسل الله مطرا فيطهرها (٥).

__________________

(١) نقل المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٨٥.

(٢) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٨٦.

(٣) كلهم ، وي : ـ ح.

(٤) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٧٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٧١.

(٥) اختصره المؤلف من السمرقندي ، ٢ / ٣٧٩.

١٢١

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨))

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) أي قيام الساعة ، قيل : الواو زائدة فيه ، لأنه جواب «إذا» أقحمت لتأكيد لصوق الجزاء بالشرط (١)(فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) «هي» ضمير مبهم تفسره الأبصار كما فسروا وأسروا الذين ظلموا في قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)(٢) ، أي عند ظهور الوعد الحق فاتحة (أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فلا تكاد تطرف لهول ما ترى يومئذ قائلين (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ) أي في جهلة (مِنْ هذا) اليوم ، ثم تذكروا أخبار الرسل فقالوا (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) [٩٧] في تكذيب الرسل إلينا وقال تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الأصنام وإبليس وأعوانه ، وإنما قرنوا بأصنامهم وغيرها لأنهم كانوا يقدرون الانتفاع بهم في الآخرة ، فاذا انعكس الأمر فيها لم يكن شيء أبغض إليهم منهم ، وقيل : فيه زيادة عقوبة لهم (٣) ، روي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم ، وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنما وجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث كلها ، فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم «إنكم وما تعبدون من دون الله» (٤)(حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهو ما يوقد فيها كالحطب (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [٩٨] أي داخلون فيها.

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩))

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي جهنم (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) [٩٩] أي (٥) لا يخرجون عنها (٦).

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١))

(لَهُمْ) أي للعابدين منهم (فِيها) أي في النار (زَفِيرٌ) وهو تردد النفس الشديد الغضب في جوفهم حتى ينتفخ الضلوع كأول صوت الحمار (وَهُمْ فِيها) أي في النار (لا يَسْمَعُونَ) [١٠٠] زفيرهم ولا صوتا آخر لشدة غليان النار ولما بهم من الألم أو يجعل المسامير من نار في آذنهم أو يجعلون في توابيتهم من نار مغلقة تمنع السمع ، فأخبر الوليد بن المغيرة بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن الزبعري ، فقال ابن الزبعري للنبي عليه‌السلام : أرأيت ما قلت لقومك آنفا أخاص لهم أم عام؟ قال : عام ، قال أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى المسيح وبنو مليح الملائكة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» ، فأنزل الله تعالى (٧)(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي الجنة أو السعادة أو التوفيق للطاعة كعيسى وعزير (أُولئِكَ عَنْها) أي عن النار (مُبْعَدُونَ) [١٠١] أي منجون.

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢))

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي الصوت الخفي منها إذا دخلوا الجنة (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ) أي تمنت (أَنْفُسُهُمْ) في الجنة (خالِدُونَ) [١٠٢] أي دائمون.

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) وهو النفخة الأخيرة أو الانصراف إلى النار أو حين يذبح الموت على صورة كبش أملح بين الجنة والنار وينادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) عند باب الجنة مهنين قائلين (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [١٠٣] فيه الجنة والثواب (٨).

__________________

(١) أخذ المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٨٨.

(٢) الأنبياء (٢١) ، ٣.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨٠.

(٤) وهذا منقول عن الكشاف ، ٤ / ٧٢.

(٥) أي ، ي : ـ ح و.

(٦) عنها ، ح ي : منها ، و.

(٧) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٨٩ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٢٥٦.

(٨) الثواب ، ح و : النار ، ي.

١٢٢

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

(يَوْمَ نَطْوِي) ظرف لقوله (لا يَحْزُنُهُمُ) والطي ضد النشر ، أي يوم نجمع (السَّماءَ) ونطويها ، قرئ بالنون وبالياء (١)(كَطَيِّ السِّجِلِّ) أي الصحيفة (لِلْكُتُبِ) أي على المكتوب ، قرئ مفردا وجمعا (٢) ، أي للكتب ، وقيل : السجل ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه (٣) ، قيل : «إذا مات الإنسان رفع كتابه إلى الملك الموكل بالصحف فطواه» (٤) ، والكاف في (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ) وهو إيجاده عن عدم ، يتعلق بقوله (نُعِيدُهُ) أي نرد أول الخلق كما أوجدناه عن عدم ، يعني نعبده عودا مثل بدئه عن البعث عن عدم إشارة إلى تبديل السماء في الآخرة وإلى استواء قدرته في تناولها للإبداء والإعادة ، قيل : يمطر السماء أربعين يوما كمني الرجال فينبتون به (٥)(وَعْداً عَلَيْنا) تأكيد ل (نُعِيدُهُ وَعْداً) بالإعادة صدقا لا خلف فيه (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [١٠٤] أي باعثين الخلق بعد الموت ، قال عليه‌السلام : «إنكم تحشرون يوم القيامة عراة حفاة غرلا بهما» (٦) ، أي ساكتين ، جمع أبهم.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥))

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) بفتح الزاء (٧) وهو زبور داود أو المراد الجنس ، أي في جميع الكتب المنزلة من السماء (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي من بعد التورية أو بعد اللوح المحفوظ ، لأن كلها أخذت منه (أَنَّ الْأَرْضَ) أي أرض الجنة أو أرض الدنيا (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [١٠٥] يعني محمدا وأمته يفتحون أرض الكفار ويدخلون الجنة.

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

(إِنَّ فِي هذا) أي القرآن (لَبَلاغاً) أي لكفاية (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) [١٠٦] أي عاملين بالتوحيد وهم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧))

(وَما أَرْسَلْناكَ) أي ما بعثناك يا محمد (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [١٠٧] أي للمؤمنين حيث هداهم إلى طريق الجنة وللكافرين بتأخير العاذب عنهم استئصالا.

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨))

(قُلْ) يا محمد لمشركي قريش (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فيه قصران ، قصر الحكم على شيء وقصر الشيء على حكمه ، وإنما اجتمعا هنا للدلالة على أن الوحي إلى الرسول (٨) عليه‌السلام مقصور على استئثار الله بالوحدانية ، ثم أمر الناس بالتوحيد الحاصل من جهة الوحي بقوله (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [١٠٨] أي مخلصون بالتوحيد ، يعني أسلموا له.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩))

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي إن أعرضوا عن التوحيد (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم بالحرب (عَلى سَواءٍ) مني ومنكم لتتأهبوا ، إذ ليس الغدر من شيم الأنبياء (وَإِنْ أَدْرِي) أي ما أدري (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) [١٠٩] من نزول العذاب بكم في الدنيا ، لأن الله لم يعلمني علمه ، ومحل (ما تُوعَدُونَ) رفع بأنه فاعل (أَقَرِيبٌ) سد مسد الخبر.

__________________

(١) «نَطْوِي السَّماءَ» : قرأ أبو جعفر بالتاء الفوقية المضمومة وفتح الواو ورفع همزة «السماء» وغيره بالنون المفتوحة في مكان التاء وكسر الواو ونصب همزة «السماء». البدور الزاهرة ، ٢١٣.

(٢) «للكتب» : قرأ حفص والأخوان وخلف بضم الكاف والتاء من غير ألف على الجمع ، والباقون بكسر الكاف وفتح التاء وألف بعدها على الإفراد. البدور الزاهرة ، ٢١٣.

(٣) نقل المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٧٣.

(٤) عن السدي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٨١.

(٥) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨١.

(٦) روى أحمد بن حنبل نحوه ، ١ / ٢٢٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٨١.

(٧) «الزبور» : ضم الزاي خلف وحمزة ، وفتحها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢١٣.

(٨) الرسول ، وي : الرسل ، ح.

١٢٣

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠))

(إِنَّهُ) أي قل لهم إن الله (يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أي العلانية (مِنَ الْقَوْلِ) أي من كلام مكذبي القرآن وطاعني الإسلام منكم (وَيَعْلَمُ) كذلك (ما تَكْتُمُونَ) [١١٠] أي ما تسرون في صدوركم من الطعن والحقد للمسلمين وهو يجازيكم عليه.

(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١))

(وَإِنْ) أي ما (أَدْرِي لَعَلَّهُ) أي لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا (فِتْنَةٌ) أي بلية (لَكُمْ) قيل : نزل حين قالوا لو كان التوحيد حقا لنزل بنا العذاب (١) ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أعلم متى يحل لكم العذاب لعل تأخيره بلاء لكم لينظر كيف تعملون» (٢)(وَمَتاعٌ) أي تمتيع وتبليغ لكم (إِلى حِينٍ) [١١١] أي إلى انقضاء آجالكم ليكون ذلك حجة عليكم.

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

(قالَ) أمر ، وقرئ «قال» (٣)(رَبِّ احْكُمْ) إخبارا ، أي قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا رب افصل بيني وبين مكذبي» (٤)(بِالْحَقِّ) أي العذاب أو بالعدل أو بالنصر ، لأنه كان قد وعد بالنصر ، ووعده تعالى حق ، فعذبوا ببدر ونصر عليهم (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) أي العاطف على خلقه بالرزق (الْمُسْتَعانُ) أي الذي استعين به (عَلى ما تَصِفُونَ) [١١٢] بالياء والتاء (٥) ، أي تقولون من الشرك ونسبة الولد إليه تعالى عنه ، يعني يطلب منه العون والنصرة على إهلاكهم بسبب وصفهم إياه بما لا يليق به تعالى.

__________________

(١) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨٢.

(٢) ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٣) «قال» : قرأ حفص بفتح القاف واللام وألف بينهما ، والباقون بضم القاف وإسكان اللام من غير ألف. البدور الزاهرة ، ٢١٣.

(٤) انظر البغوي ، ٤ / ٩٢. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٥) أخذ المفسر هذه القراءة عن الكشاف ، ٤ / ٧٤.

١٢٤

سورة الحج

كلها مكية في رواية (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق ، فقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة من شدة الخوف (٢) ، أي احذروا عقابه وأطيعوا أمره ، ثم حث على التقوى بقوله (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي قيامها (شَيْءٌ عَظِيمٌ) [١] لا يوصف لعظمته ، والزلزلة التحرك الشديد بازعاج ، وإضافته إما إلى الفاعل ، فالساعة تحرك الأشياء أو إلى الظرف الأشياء تتحرك في الساعة ، قيل : هي إما في الدنيا أو في الآخرة (٣) ، وإنما وصفها بأهول (٤) صفة ليتصوروها بعقولهم فيتزودوا بالتقوى.

(يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

(يَوْمَ تَرَوْنَها) أي تبصرون الزلزلة فجعل الناس جميعهم رائين لها ، لأن الرؤية تعلقت بالزلزلة فيعم الرؤية ، ونصب الظرف بقوله (تَذْهَلُ) أي تغفل وتتحير (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) عن ما (أَرْضَعَتْ) من الولد فتترك إرضاعه في كون ثديها في فم الولد لشدة الأمر ولم يقل مرضع ليدل على حال الإرضاع بالتاء ، إذ المرضع هي التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الرضاع ، ومحل (تَذْهَلُ) نصب على الحال من المفعول (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي ولدها قبل تمامه خوفا ، وهذا يدل على أن الزلزلة في الدنيا ، ومن قال هي يوم القيامة جعل ذلك فرضا تهويلا لشأن الساعة ، قيل : «ينادي ملك من السماء يا أيها الناس أتى أمر الله فيسمع الصوت أهل الأرض جميعا ، وذلك قبل النفخة الأولى فنزلت الأرض وطارت القلوب وتضع الحوامل ما في بطونها» (٥)(وَتَرَى النَّاسَ) خطاب لكل واحد منهم من غير تعيين ، لأن الرؤية تعلقت بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل منهم رائيا لسائرهم ، أي تراهم (سُكارى) من الخوف (وَما هُمْ بِسُكارى) وقرئ «سكرى» فيهما (٦) ، أي ما هم بسكرى حقيقة بشراب لما شاهدوا من بساط العزة وسلطان الجبروت حتى ألجأ النبيين إلى أن قالوا نفسي نفسي فتراهم كالسكارى من شدة الخوف يدل عليه قوله (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) [٢] في ذلك اليوم.

__________________

(١) «وقال الجمهور : السورة مختلطة ، منها مكي ومنها مدني ، وهذا هو الأصح». انظر القرطبي ، ١٢ / ١.

(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٧٥.

(٣) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٩٤ ، ٩٥.

(٤) بأهول ، و : بأكمل ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٧٥.

(٥) ذكر مقاتل نحوه ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٨٤.

(٦) «سكارى» ، «بسكارى» : قرأ الأخوان وخلف بفتح بالسين وإسكان الكاف من غير ألف ، والباقون بضم السين وفتح الكاف وبعدها ألف فيهما. البدور الزاهرة ، ٢١٣.

١٢٥

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣))

قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) أي يخاصم ، نزل في شأن النضر بن الحارث (١) وجداله بالباطل (فِي اللهِ) أي في توحيده وكلامه وكان يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير حجة (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) [٣] أي عات مستمر في الشر.

(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

(كُتِبَ عَلَيْهِ) أي قضي على الشيطان (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) أي أحبه واتبعه (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) أي فشأنه إضلاله عن الهدى (وَيَهْدِيهِ) أي يدعوه (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [٤] أي عمل أهل النار ، فقوله (أَنَّهُ) بالفتح قائم مقام الفاعل ل (كُتِبَ) ، وقوله (فَأَنَّهُ) بالفتح جواب الشرط وهو (مَنْ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا كفار مكة (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) بعد الموت فانظروا إلى ابتداء خلقكم (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يعني من آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي من المني (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي من دم غبيط (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي مثل قطعة كبد (مُخَلَّقَةٍ) أي مسواة الخلق منفوخة الروح (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي غير مسواة الخلق كالسقط (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) أي خلقناكم بهذا التنقل لنظهر لكم قدرتنا على الخلق فتؤمنوا به (٢) ، قوله (وَنُقِرُّ) بالرفع استئناف ، أي نحن نثبت (فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) ثبوته فلا يكون سقطا (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت (٣) معلوم وهو وقت ولادته (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) أي كل واحد منكم (طِفْلاً) من بطون أمهاتكم (ثُمَّ) نمهلكم (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي كمال عقلكم وهو وقت التمييز ، قيل : هو خمس عشرة سنة (٤) ، وقيل : هو ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين (٥) ، وقيل : إلى ستة وثلاثين (٦)(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي يقبض قبل أن يبلغ أشده (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أضعف العمر وأخسه وهو الخرف ، أي نمهلكم لتصيروا إليه (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي لا يعلم شيئا بالنسيان بعد علمه ذلك بالعقل الأول ، ثم أكد إظهار القدرة على البعث بقوله (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) أي يابسة ميتة (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) أي تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) أي زادت وعلت (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل صنف (بَهِيجٍ) [٥] أي حسن يسر من رآه.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦))

(ذلِكَ) أي هذا المذكور من الدلائل (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) في الألوهية (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) يوم القيامة (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإحياء والإماتة والثواب والعقاب (قَدِيرٌ) [٦] وغير الله من الأصنام باطل في الألوهية وعاجز عن خلق شيء والنفع والضر.

(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

(وَأَنَّ السَّاعَةَ) أي ذلك بأن الساعة (آتِيَةٌ) أي جائية (لا رَيْبَ فِيها) عند من له عقل وذهن (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [٧] لأنه حكيم لا بد أن يفي بما وعد.

__________________

(١) نقله عن البغوي ، ٤ / ٩٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٧٦.

(٢) فتؤمنوا به ، وي : فيؤمنوا به ، ح.

(٣) أي إلى وقت ، ح : أي وقت ، وي.

(٤) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨٦.

(٦) قد أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨٦.

١٢٦

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي في دينه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي علم ضروري وهو العلم العقلي (وَلا هُدىً) أي بلا حجة موصلة إلى المعرفة (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) [٨] أي وحي واضح منزل للبيان ، بل يجادل بالظن بلا تحقيق ، وهو النضر بن الحارث ، وكرره ردعا للجاهل عن الجدال.

(ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

قوله (ثانِيَ عِطْفِهِ) نصب على الحال من ضمير (يُجادِلُ) ، أي لاويا جانبه عن طاعة ربه بكبره معرضا على الإيمان به (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) بفتح الياء ، أي ليعرض عن دين الإسلام ، فاللام للعاقبة ، لأن جداله يؤدي إلى الضلال ، فجعل كأنه غرضه ، وقرئ بضم الياء (١) ، أي ليصرف الناس عن دين الله (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) أي عذابه ، فقتل النضر ببدر صبرا أو محبوسا بغير قتال (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) [٩] وهو عذاب النار ، أي ما أصابه في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبه ويقال له يوم القيامة (ذلِكَ) أي هذا العذاب (بِما قَدَّمَتْ) أي عملت (يَداكَ) أي نفسك بكفرك وتكذيبك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [١٠] أي لا يعذب أحدا بغير ذنب أبدا ، قيل : هذا من قولهم ظالم لعبده وظلام لعبيده ، فيلزم منه نفي كل ظلم عن الله تعالى لكل عبد من العبيد لدخول صيغة المبالغة الدالة على الأنواع المقابلة بصيغة الجمع الدالة على الاستغراق باللام تحت النفي العام (٢).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١))

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على وجه الرياء أو على شك ، حال من ضمير (يَعْبُدُ) ، أي متزلزلا ، قيل : نزل في أناس من بني أسد ، أصابتهم شدة فاحتملوا العيال وقدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا من غير اعتقاد صحة الإسلام فأغلوا الأسعار بالمدينة فرجعوا إلى كفرهم الأول (٣)(فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) أي صحة وسلامة في نفسه وماله أو سعة وغنيمة (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي سكن إليه ، وقال : نعم الدين دين محمد عليه‌السلام (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي محنة وضيق في المعيشة (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي جهته ، يعني رجع إلى كفره ، وقال : بئس بالدين دين محمد ، فقال تعالى (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) أي غبنهما بذهاب ماله وبذهاب ثوابه (ذلِكَ) أي رجوعه عن الإسلام (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [١١] وهو ذهاب دينه وخلوده في النار.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢))

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي يعبد من غيره (ما لا يَضُرُّهُ)(٤) إن لم يعبده (وَما لا يَنْفَعُهُ) حقيقة إن عبده (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) [١٢] عن الهداية لا يرجى زواله.

(يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

(يَدْعُوا) تأكيد للأول بيانا لاستمرار كفره ولا يتعلق ب «لمن» بعد ، لأنه قسم ، تقدير الكلام : يدعو يدعو من دون الله الآية والله (لَمَنْ ضَرُّهُ) إن عبده (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) إن استنفعه بادعاء الشفاعة له ، ف «من» مبتدأ بمعنى الذي و (ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) صلته (لَبِئْسَ الْمَوْلى) خبره وهو الناصر (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) [١٣] أي الصاحب المعاشر ، إذ لا ينفعه في الآخرة.

__________________

(١) «ليضل» : قرأ المكي والبصري ورويس بفتح الياء وغيرهم بضمها. البدور الزاهرة ، ٢١٣.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٣) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨٧.

(٤) أي ، + ح.

١٢٧

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) أي فيها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [١٤] أي يحكم في خلقه ما يشاء من الضلالة والهداية.

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥))

روي : أن بني أسد وغطفان من الكفار قالوا : نخاف أن نقطع المودة من اليهود ونؤمن بمحمد ، ثم لا يستقيم أمره وذلك لظنهم أن الله لا ينصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دينه فنزل (١)(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) أي محمدا بالحجة والغلبة (فِي الدُّنْيا وَ) الشفاعة في (الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ) أي ليربط (بِسَبَبٍ) أي بحبل (إِلَى السَّماءِ) أي من سقف بيت ، لأن كل ما علاك فهو سماء (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) نفسه بحبس مجاريه بالحبل ، يعني ليختنق به فيموت خنقا (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) أي فعله بنفسه من الاختناق (ما يَغِيظُ) [١٥] أي غيظه ، يعني هل ينفعه ذلك ، وهذا مبالغة في الزجر عن الظن الفاسد في نصرة الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن أريد بالسماء حقيقتها كان المعنى : ليمد حبلا فيصعد فيه إليها ليقطع الوحي عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا استهزاء لمن يظن ذلك الظن ، وقيل : المراد بالنصر الرزق (٢) ، ومعناه : أن من ظن أن الله غير رازقه وليس به صبر فليختنق فانه لا يقلب القسمة.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

(وَكَذلِكَ) أي مثل ذلك الإنزال (أَنْزَلْناهُ) أي القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات (وَأَنَّ اللهَ) أي وأنزلناه لأنه (يَهْدِي) أي يرشد به إلى دينه (مَنْ يُرِيدُ) [١٦] أي الذين يعلم أنهم يؤمنون.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأصحابه (وَالَّذِينَ هادُوا) أي عدلوا عن الإسلام كاليهود (وَالصَّابِئِينَ) من دين إلى دين (وَالنَّصارى) أي عبدة عيسى عليه‌السلام (وَالْمَجُوسَ) أي عبدة النيران (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) أي عبدة الأوثان ، ففي هذه الآية إشارة إلى أن الأديان بين الخلق ستة ، واحد منها لله تعالى والخمسة للشيطان ، وخبر «إن» قوله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) أي يقضي بالحق (يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [١٧] من أعمالهم وأحوالهم فيجازيهم بها.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

(أَلَمْ تَرَ) أي ألم تخبر في الكتاب (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ) أي يخضع (لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الخلق (وَ) ينقاد له (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) أي لما أراد من التدبير فيها ، قيل : سجودها دورانها (٣) في منازلها بأمره تعالى (وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) قيل : «سجودها تحول ظلّ كل منها» (٤) ، وقيل : تسخرها لما أريد منها (٥) ، وفيه مبالغة في سجود الأشياء له تعالى (وَ) يسجد سجود طاعة (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) أي المومنون يسجدون لله تعالى بالإخلاص ، وعطفه على (مَنْ) وإن عمته تفضيلا ، ويجوز أن يرفع بالابتداء صفته من

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٨٨.

(٢) قد أخذه المصنف عن البغوي ، ٤ / ١٠٢.

(٣) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٣٨٨.

(٤) ذكر مجاهد نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ١٠٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٨٨.

(٥) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

١٢٨

الناس وخبره محذوف ، أي وكثير منهم مثاب ، يدل عليه قوله (وَكَثِيرٌ) منهم (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) أي وجب بترك السجود لله تعالى في الدنيا كالمشركين وبترك الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن سجدوا له تعالى كاليهود والنصارى (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) أي يخذله بالشقاوة في قضائه (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي من (١) معز بالسعادة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [١٨] من الإهانة والإكرام في خلقه.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩))

(هذانِ خَصْمانِ) نزل في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث حين بارزوا ببدر إلى عتبة وشيبة والوليد بن عتبة (٢) ، والخصم صفة يوصف بها الفريق أو الطائفة أو طائفتان (اخْتَصَمُوا) بالجمع ردا إلى المعنى ، أي تجادلوا (فِي رَبِّهِمْ) أي في دينه ، ثم بين مصير كل من الفريقين بقوله (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء للتفسير وقطع الخصومة ، أي الذين جحدوا دين الإسلام (قُطِّعَتْ) أي هيئت (لَهُمْ ثِيابٌ) يلبسونها (مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) [١٩] أي الماء الذي انتهى حره ، قيل : «يضرب الملك رأس الكافر بالمقمع من حديد فيثقب رأسه ثم يصب عليه الحميم» (٣).

(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠))

(يُصْهَرُ بِهِ) أي يذاب بالحميم المصبوب على رؤوسهم (ما فِي بُطُونِهِمْ) من شحوم غيرها فيقطعها ويخرج من أدبارهم (وَالْجُلُودُ) [٢٠] أي يذاب الجلود أيضا فتسلخ.

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١))

(وَلَهُمْ مَقامِعُ) جمع مقمعة (مِنْ حَدِيدٍ) [٢١] وهي سياط مختصة بهم يضربون بها على هامتهم.

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣))

(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار (مِنْ غَمٍّ) بدل من (مِنْها) ، أي من الشدة التي أدركتهم من ضرب المقامع (أُعِيدُوا فِيها) أي ردوا إليها (وَ) يقال لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [٢٢] أي المحرق بالدوام ، قيل : «إذا ضربتهم الزبانية المقامع يسقطون إلى قعر النار سبعين خريفا» (٤) ، ثم تضربهم النار بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها فيقصدون الخروج منها فيعيدون الضرب عليهم كذلك ، هذا جزاء أحد الخصمين (٥) ، ثم بين جزاء الخصم الآخر بقوله (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ) أي يلبسون الحلي (٦)(فِيها) أي في الجنة (مِنْ أَساوِرَ) جمع سوار وهو القلب ، و (مِنْ) للتبعيض ، أي بعض أقلبه (مِنْ ذَهَبٍ) مِنْ) للبيان (وَلُؤْلُؤاً) أي ويؤتون لؤلؤا ولا يجوز عطفه بالنصب على محل (مِنْ أَساوِرَ) ولا على لفظها على قراءة الجر أيضا (٧) ، إذ اللؤلؤ لا يلبس ، فينتصب محله بمضمر يدل عليه (يُحَلَّوْنَ) كما ذكروه ، و (مِنْ) في (لُؤْلُؤاً)

__________________

(١) من ، و : ـ ح ي.

(٢) عن أبي ذر الغفاري ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٨٩ ؛ والواحدي ، ٢٥٧.

(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٨٩.

(٤) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٤ / ٨٠.

(٥) اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٨٩ ؛ والكشاف ، ٤ / ٨٠.

(٦) الحلي ، ح ي : ـ و.

(٧) «وَلُؤْلُؤاً» : قرأ المدنيان وعاصم ويعقوب بنصب الهمزة الثانية وغيرهم بخفضها ، وأبدل الهمزة الأولى واوا ساكنة مدية وصلا ووقفا شعبة والسوسي وأبو جعفر ، وفي الوقف حمزة ، وأما الثانية فلحمزة وهشام فيها الإبدال واوا ساكنة مدية ، وتسهيلها بين بين مع الروم وهذان الوجهان قياسيان. البدور الزاهرة ، ٢١٤.

١٢٩

بالجر للتبعيض ، وقيل : النصب والجر عطف على (أَساوِرَ) فيكون اللؤلؤ ملبوسا (١)(وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [٢٣] وهو الإبريسم المحرم لبسه على الرجال هنا.

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))

(وَهُدُوا) أي هداهم الله تعالى وألهمهم (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو كملة التوحيد أو هو القرآن أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدنيا أو الحمد لله الذي صدقنا وعده في الآخرة (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) [٢٤] أي المحمود في فعاله وهو طريق الجنة ، أي دين الإسلام.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أهل مكة (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يصرفون الناس عن دين الإسلام ، ولم يقل صدقوا كما قال كفروا لإرادة أن الصد منهم مستمر دائم (وَ) عن (الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وذلك منعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في الحديبية عن زيارة الكعبة ، ثم وصف المسجد الحرام بقوله (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ) أي صيرناه لهم (سَواءً) بالنصب مفعول ثان لل «جعل» وبالرفع خبر لما بعده (٢) ، والجملة في محل النصب لكونها مفعولا ثانيا لل «جعل» ، والمعنى : جعلنا المسجد الحرام مستويا (الْعاكِفُ) أي المقيم (فِيهِ وَالْبادِ) بلا ياء في الوصل والقطع وبها فيهما أو في الوصل فقط (٣) ، أي الخارج عنه الوارد إليه لا نختص بعضا دون بعض في تعظيم حرمته وقضاء النسك به ، فليس أهل مكة أحق به من التنازع إليه غير أنه لا يزعج أحد عن منزل نزله إذا سبق إليه عند أبي حنيفة رحمه‌الله مقيما كان أو مسافرا ، ويخص الشافعي رحمه‌الله عليه المقيم بمنزله هذا إن أريد بالمسجد الحرام الحرم ، ولا يجوز بيع دور مكة عند أبي حنيفة رحمه‌الله وجوزه الشافعي رحمه‌الله وإن أريد به البيت ، فالمعنى : أنه قبلة لجميع الناس فالمقيم والغريب فيه سواء (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قيل : مفعول (يُرِدْ) محذوف والمجروران بالباء حالان مترادفان ، أي من يرد في المسجد الحرام مرادا ما (٤) ملابسا بالحاد (٥) ، أي بميل (٦) عن طريق الحق كالشرك وملابسا بالظلم على الناس كالاحتكار والشتم للخادم ، وقيل : الباء في (بِإِلْحادٍ) زائد (٧) ، أي إلحادا فهو مفعول (يُرِدْ) ومحل (بِظُلْمٍ) حال من ضمير (يُرِدْ) ، أي من يقصد إلحادا ظالما (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [٢٥] جواب الشرط وخبر (إِنَّ) في (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) محذوف ، أي معذبون يدل عليه جواب الشرط وهو «نذقه» ، قيل : نزل في عبد الله بن أنيس حين قتل أنصاريا افتخر على المهاجرين في النسب ، فهرب إلى مكة مرتدا فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح مكة بقتله فقتل (٨).

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦))

(وَإِذْ بَوَّأْنا) أي اذكر إذ جعلنا (لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي مباءة ولعقبه ، أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ، لأنه رفع في زمان الطوفان إلى السماء وهو البيت المعمور وكان من ياقوتة حمراء ، فاعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج ، وهي التي تلتوي في هبوبها فكنست ما حوله فبناه على أساسه القديم ، قالوا بعث الله سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم يا إبراهيم ابن على قدري وحيالي ، فأسس البيت عليه مع

__________________

(١) لعل المصنف اختصره من القرطبي ، ١٢ / ٢٩.

(٢) «سواء» : قرأ حفص بنصب الهمزة ، وغيره برفعها. البدور الزاهرة ، ٢١٤.

(٣) «وَالْبادِ» : قرأ ورش وأبو عمرو وأبو جعفر باثبات ياء بعد الدال وصلا ، والمكي ويعقوب باثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها كذلك. البدور الزاهرة ، ٢١٤.

(٤) مرادا ما ، و : مرادا ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٨١.

(٥) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٤ / ٨١.

(٦) بميل ، و : ميل ، ح ي.

(٧) نقل المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ١٠٩.

(٨) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٩٠.

١٣٠

إسمعيل ، ثم فسر التبوئة لكونها مقصودة للعبادة بقولها (أَنْ لا تُشْرِكْ) كأنه قال تعبدنا فيه إبراهيم ، وقلنا له لا تشرك (بِي شَيْئاً) ف (أَنْ) مفسرة للقول المقدر (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) من الأصنام والأقذار أن يطرح حوله (لِلطَّائِفِينَ) بالبيت من غير أهل مكة (وَالْقائِمِينَ) أي المقيمين من أهل مكة (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [٢٦] أي المصلين بالآفاق من كل وجه.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧))

(وَأَذِّنْ) أي ناد (فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) فقام إبراهيم على أبي قبيس ، جبل من جبال مكة ، فقال يا أيها الناس حجوا بيت ربكم والتفت بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وغربا ، فأجابه كل من كتب له أنه يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات لبيك لبيك اللهم لبيك ، فيحج من أجاب إبراهيم يومئذ ، قوله (يَأْتُوكَ رِجالاً) جواب الأمر ، جمع راجل أو مشاة (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) أي ركبانا على إبل ومهاذيل فلا يدخل بعير ولا غيره الحرم إلا وقد ضمر من طول الطريق ، قوله (يَأْتِينَ) صفة ل (كُلِّ ضامِرٍ) ، لأنه في معنى الجمع ، أي الضوامر (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [٢٧] أي طريق بعيد ، أي من نواحي الأرض ، روي عن أبي حنيفة رحمه‌الله : مشي الحاج أفضل إن صبر لما روي أن الملائكة يسلمون على أصحاب المحافل ويصافحون أصحاب البغال والحمير ويعانقون المشاة (١) ، وقيل : «الركوب أفضل إن كان بيته بعيدا ، والمشي أحسن إن كان قريبا» (٢).

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨))

(لِيَشْهَدُوا) صلة لقوله «أذن» ، أي ليحضروا (مَنافِعَ لَهُمْ) دينية ودنيوية أو مناحرهم وقضاء مناسكهم (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) عند الذبح (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) بالعد عندهم ، لأنهم كانوا يعدونها لأجل الحج ، وهي عشر ذي الحجة عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، أي أيام ليالي العشر أو هي يوم النحر وثلاثة بعده عند غيره ، وقيل : «المعلومات أيام النحر والمعدودات أيا التشريق» (٣) ، وهو طريق الفقهاء وهو أشبه بتأويل الكتاب ، لأنه ذكر في أيام معلومات الذبح وفي أيام معدودات الذكر عند الرمي ، ورخص بتركه في اليوم الآخر بقوله في سورة البقرة (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)(٤) الآية (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي ليذكروا اسم الله عند الذبح على الإبل والبقر والغنم ، فلا يجوز الأضحية من غيرها ، قوله (فَكُلُوا مِنْها) أمر إباحة ، لأن الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) أي الشديد البؤس (الْفَقِيرَ) [٢٨] أي الضيف بالإعسار.

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))

(ثُمَّ لْيَقْضُوا) أي ليزيلوا (تَفَثَهُمْ) يعني أوساخهم أو التفث مناسك الحج كالرمي والحلق والذبح ونتف الإبط وأخذ الشارب وقص الأظافير وحلق العانة ، فالمراد من قضائه الخروج من الإحرام إلى الإحلال بأفعاله (وَلْيُوفُوا) بالتخفيف من أوفى ، وبالتشديد من وفى والمعنى واحد (٥) ، أي ليتموا (نُذُورَهُمْ) يعني كل ما أوجبوا على أنفسهم للحج والعمرة من هدي وغيره ، فاذا نحروا يوم النحر فقد أوفوا نذورهم (وَلْيَطَّوَّفُوا) قرئ بسكون اللام في الثلاثة وبكسرها فيها ، وبكسر اللام في الأول دون الأخيرين (٦) ، أي ليدوروا طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [٢٩] أي القديم ، وذلك بعد ما حلق المحرم رأسه أو قصر (٧) وسمي عبيقا لأنه

__________________

(١) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٩١.

(٢) عن الفقيه أبي الليث ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٩١.

(٣) عن مجاهد وقتادة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٩٢.

(٤) البقرة (٢) ، ٢٠٣.

(٥) «وَلْيُوفُوا» : قرأ شعبة بفتح الواو وتشديد الفاء ، والباقون بسكون الواو وتخفيف الفاء. البدور الزاهرة ، ٢١٥.

(٦) «ليقضوا» : قرأ ورش وقنبل وأبو عمرو وابن عامر ورويس بكسر اللام وغيرهم باسكانها. «وَلْيُوفُوا» ، «وَلْيَطَّوَّفُوا» : قرأ ابن ذكوان بكسر اللام فيهما ، والباقون بالاسكان. البدور الزاهرة ، ٢١٥.

(٧) قصر ، ح و : قص ، ي.

١٣١

أول بيت وضع للناس أو لأنه عتق من القتل والسبي والجراحات وغير ذلك في الجاهلية أو عتق من الغرق يوم الطوفان أو عتق من الجبابرة المتسلطة ، ولا يشكل بتسلط الحجاج عليه ، لأن ابن الزبير تحصن بالبيت فاحتال لإخراجه ولم يكن قصده التسلط عليه.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠))

(ذلِكَ) خبر مبتدأ محذوف ، أي الأمر ذلك المذكور من أعمال الحج ومثله فصل لما بعده عما قبله (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) الحرمة ما لا يحل هتكه بالعلم بأنها واجبة الحفظ بالعمل من مناسك الحج وغيرها (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي ذلك التعظيم أعظم أجرا (عِنْدَ رَبِّهِ) في الدار الآخرة (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) أي أكلها بعد الذبح (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) تحريمه في قوله (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(١) الآية في سورة المائدة ، وهو استثناء منقطع ، إذ المتلو ليس من جنس الأنعام أو متصل بأن يكون المحرم حراما بعارض كالميتة والموقوذة (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) أي القذر (مِنَ الْأَوْثانِ) أي اتركوا عبادتها بيان ل (الرِّجْسَ) ، لأنه يعم الأوثان وغيرها ، أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ، ووجه تسمية الأوثان رجسا هو التشبيه ، أي انفروا عنها كما ينفر طباعكم من الرجس (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [٣٠] أي الكذب والبهتان ، وهو قولهم هذا حلال وهذا حرام أو هو شهادة الزور وأصله الانحراف.

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١))

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مخلصين في التلبية والاجتناب عن معصية الله (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) شيئا ، لأن أهل الجاهلية كانوا يشكرون في تلبيتهم بقولهم لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ) أي سقط (مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ) أي تسلبه (الطَّيْرُ) بسرعة (أَوْ تَهْوِي بِهِ) أي تسقطه (الرِّيحُ) من السماء (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [٣١] أي بعيد متلف وهو وادي الضلالة والبعد من الله لا يمكن خلاصه منه.

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢))

(ذلِكَ)(٢) أي الأمر هو المذكور من اجتناب الرجس وقول الزور (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) وهي الهدي المعشرة المقلدة لتعرف أنها هدي لا يتعرض بها وتعظيمها استسمانها واستحسانها للنحر ، قوله (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [٣٢] منهم جواب الشرط ، أي إن تعظيمها من أفعال أصحاب تقوى القلوب ، والمراد منه إخلاصها ، والضمير في «منهم» المقدر راجع من الجزء إلى الشرط ليصح المعنى.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣))

(لَكُمْ فِيها) أي في البدن (مَنافِعُ) من ركوبها وشرب ألبانها وقطع أوبارها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت انقضاء الحج أو منافع يوم القيامة وهي المنافع الدينية (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [٣٣] أي الذي ينحر فيه الهدايا عند البيت القديم (٣) أو ينتهي إليه وهو جميع الحرم من أطراف مكة ، لأنه في حكم البيت.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤))

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) بالكسر مفعول به بمعنى الظرف ، أي شرع الله لكل قوم من المؤمنين مكانا ووقتا يذبحون فيه على وجه التقرب ، واللام لتعليل الجعل في (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ)

__________________

(١) المائدة (٥) ، ٣.

(٢) إعرابه وتقديره كما مر ، + و.

(٣) القديم ، ح ي : العتيق ، و.

١٣٢

أي لعلة ذكرهم الله عند النحر ، وقرئ «منسكا» بالفتح مصدر (١) ، أي شرعنا لكل أمة أن يتقرب بالذبح لله من الذبائح (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ) أي لله (أَسْلِمُوا) أي أخلصوا الذكر بالتسمية عند الذبيحة وفي التلبية سالما عن شوب الشرك (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [٣٤] أي المطيعين المتواضعين في العبادة ، وأصل الخبت الانخفاض من المكان.

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥))

قوله (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) صفة كاشفة ل «المخبتين» ، أي هم الذين (٢) إذا ذكر الله عندهم (وَجِلَتْ) أي خافت (قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ) عطف على (الَّذِينَ) ، أي والذين صبروا (عَلى ما أَصابَهُمْ) من المحن والمصائب في أوقاتها (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [٣٥] في طاعة الله ، فهذه الخصال الأربع للمخبتين.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦))

(وَالْبُدْنَ) منصوب بمضمر كقوله (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ)(٣) ، جمع بدنة ، وهي الإبل خاصة بدليل إلحاق النبي عليه‌السلام البقرة بالإبل حين قال : «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» (٤)(جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي من أعلام دينه (لَكُمْ فِيها) أي في نحرها (خَيْرٌ) أي أجر في الآخرة ومنفعة في الدنيا (فَاذْكُرُوا) عند نحرها (اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ) حال من الهاء في (عَلَيْها) ، أي قائمة على القوائم الأربع ، وقرأ ابن عباس «صوافن» (٥) ، والصوافن التي تقوم على ثلاث قوائم (٦) وتنصب الرابعة (٧) بمعنى على ثلاث قد عقلت يدها الواحدة ، والآية دلت على أن الإبل تنحر قائمة (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت على الأرض بجنبها بعد النحر وسكنت حركتها (فَكُلُوا مِنْها) أي حل لكم الأكل منها والإطعام ، وكان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين بقوله (فَكُلُوا مِنْها (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) أي الذي يقنع بما أعطى من غير سؤال (وَالْمُعْتَرَّ) أي الذي تعرض (٨) بالسؤال ، قيل : «السنة أن يأكل الرجل من لحم أضحيته قبل أن يتصدق» (٩)(كَذلِكَ) أي مثل ذلك التسخير الذي رأيتم وعلمتم (سَخَّرْناها لَكُمْ) فيه إظهار منة الله تعالى على عباده ، أي ذللناها مطيعة منقادة بأن تعقل وتنحر أو تركب وتحمل ولو لا تسخير الله لم تطق ، فاعتبروا عبرة منه (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [٣٦] أي لكي تشكروا ربكم على هذه النعمة.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))

قوله (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) نزل حين أراد المسلمون أن يلطخوا بيت الله بدم النحر ، ويقولون اللهم تقبل منا كفعل أهل الجاهلية إذا نحروا البدن لينتهوا عنه (١٠) ، أي لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) أي يناله العمل الخالص له مع الإيمان وهو التقوى (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) كرره تذكيرا للنعمة بالتسخير تقريرا لها (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) أي لتعظموه (عَلى ما هَداكُمْ) أي أرشدكم إلى معالم دينه ومناسك حجه ، والمراد من التكبير الشكر ولذا عدي ب «على» (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [٣٧] وهم الذين فعلوا ما في الآية قبله أو الذين أحسنوا بذبح (١١) غير معيب بالجنة.

__________________

(١) «منسكا» : كسر السين الأخوان وخلف وفتحها سواهم. البدور الزاهرة ، ٢١٥.

(٢) الذين ، و : ـ ح ي.

(٣) يس (٣٦) ، ٣٩.

(٤) رواه الترمذي ، الحج ، ٦٦ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٨٤.

(٥) قرأ ابن مسعود هذه الكلمة هكذا ، انظر البغوي ، ٤ / ١١٩.

(٦) الصوافن التي تقوم على ثلث قوائم ، ح ي : ـ و.

(٧) وتنصب الرابعة ، ح : ـ وي.

(٨) تعرض ، ح و : يعرض ، ي.

(٩) عن الزهري ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٩٥.

(١٠) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

(١١) بذبح ، ح ي : ـ و.

١٣٣

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩))

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ) أي يذهب أذى المشركين ، وقرئ «يدفع» (١)(عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ)(٢) أي كل خائن لأمانته وأورد بلفظ المبالغة ، لأن من يذبح لغير الله فهو كثير الخيانة لربه (كَفُورٍ) [٣٨] لنعمه ، وفي هذه الآية إيماء إلى تحمل أذى المشركين والنصرة عليهم ، لأن كفار مكة كانوا يضربونهم ويشجونهم ويأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويطلبون قتالهم قبل الهجرة فيأمرهم بالصبر ، أي يقول اصبروا على أذاهم ، فاني لم أومر بقتالهم حتى هاجر فنزلت آية (٣)(أُذِنَ) ونسخت سبعين اية (٤) ، لأنها أول آية نزلت في الإذن بالقتال ، أي أذن الله (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) بفتح التاء مجهولا ، أي يقاتلهم عدوهم ، وبكسرها معلوما (٥) ، أي يقاتلونهم عدوهم (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب ظلم الكفار إياهم (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ) أي نصر المؤمنين على الكافرين (لَقَدِيرٌ) [٣٩] فلما هاجروا أمروا بالقتال.

(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠))

ثم بين ظلم الكفار المؤمنين بقوله (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي من مكة ، بدل من «للذين يقاتلون» أو نصب على المدح ، أي أعنى الذين أخرجوا من ديارهم (بِغَيْرِ حَقٍّ) أي بغير جرم (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا) استثناء من المنفي المقدر ، يدل عليه قوله (بِغَيْرِ حَقٍّ)(٦) ، أي ما أخرجوا إلا لأن يقولوا (رَبُّنَا اللهُ) يعني أخرجوهم بسبب هذا القول الموجب للتمكين لا للإخراج (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي المشركين بالمؤمنين لغلب المشركون على المؤمنين وعلى من في ذمتهم ، فجواب (لَوْ لا) قوله (لَهُدِّمَتْ) أي لخربت (٧)(صَوامِعُ) للرهبان (وَبِيَعٌ) للنصارى (وَصَلَواتٌ) أي مواضعها وهي كنائس اليهود (وَمَساجِدُ) المسلمين ، المعنى : لو لا دفع الله عن المتعبدين بالمجاهدين في سبيل الله لانقطعت العبادات وخربت أمكنتها التي (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي ينصر دينه (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [٤٠] أي غالب قادر على أن ينصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير نصرتهم.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))

قوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) بدل من «الذين أخرجوا» أو تمكينهم (فِي الْأَرْضِ) أي ينصرهم على عدوهم ، وقيل : إنزالهم بالمدينة وهم أصحاب النبي عليه‌السلام (٨)(أَقامُوا الصَّلاةَ) المكتوبة (وَآتَوُا الزَّكاةَ) المفروضة (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ) أي بالتوحيد واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) أي عن الشرك والنفاق (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) [٤١] أي إليه يرجع عاقبة أمور العباد في الآخرة من الثواب والعقاب.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ

__________________

(١) «يدافع» : قرأ المكي والبصريان بفتح الياء وسكون الدال وفتح الفاء من غير ألف ، والباقون بضم الياء وفتح الدال وألف بعدها مع كسر الفاء. البدور الزاهرة ، ٢١٥.

(٢) كفور ، + و.

(٣) لعله اختصره من الكشاف ، ٤ / ٨٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٢١.

(٤) نقل المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٨٥ ؛ وانظر أيضا النحاس ، ١٨٩.

(٥) «يقاتلون» : فتح التاء المدنيان والشامي وحفص ، وكسرها سواهم. البدور الزاهرة ، ٢١٥.

(٦) يدل عليه قوله بغير حق ، وي : ـ ح.

(٧) لخربت ، و : خربت ، ح ي.

(٨) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٩٧.

١٣٤

فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))

ثم قال تسلية للنبي عليه‌السلام (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي إن يكذبك قومك يا محمد (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ [٤٢] وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ [٤٣] وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) شعيبا ، أي فقد كذب الأنبياء قبلك أممهم فصبروا وإنما قال (وَكُذِّبَ مُوسى) مجهولا ولم يقل «وكذب قوم موسى» ، لأن قومه بني إسرائيل (١) لم يكذبوه وإنما كذبه القبط (فَأَمْلَيْتُ) أي أمهلت (لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) أي عاقبتهم بعد المهل بالعذاب (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [٤٤] أي إنكاري عليهم باهلاكهم ، يعني وجدوه حقا ويسجده قومك إن لم يؤمنوا ، ثم أبدل من (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (فَكَأَيِّنْ) أي فكم (مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) وهو مفسر لناصب «كأين» (٢) ، وقرئ «أهلكتها» (٣) ، أي أهلها (وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي مشرك أهلها في محل النصب على الحال ، ثم عطف على (أَهْلَكْناها) وإن لم يكن لهذا الفعل محل (٤) قوله (فَهِيَ خاوِيَةٌ) أي ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي على سقوفها (٥) بأن سقطت تلك أولا ثم سقطت عليها الحيطان ف (عَلى) متعلق ب (خاوِيَةٌ)(٦)(وَبِئْرٍ) بالهمز ، وقرئ بالتخفيف (٧) عطف (٨) على (قَرْيَةٍ) ، أي وكم (٩) بئر (مُعَطَّلَةٍ) أي خالية من ساكن مع وجود الماء وآلاتها فيها لهلاك أربابها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [٤٥] أي مشيد مجصص مرتفع محكم أخليته باهلاك أصحابها ، يعني وكم بئر عطلنا عن سقاتها وكم (١٠) قصر مرتفع أخليناه عن ساكنيه (١١) فترك ذلك لدلالة معطله عليه ، قيل : هذا بئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب فهي بحضرموت ، وسمي البقعة بذلك لأن صالحا لما حضرها مات (١٢).

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي كفار مكة (فِي الْأَرْضِ) فينظروا ذلك ويعترفوا فيؤمنوا (فَتَكُونَ) أي لتكون (لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) بالنظر والعبرة (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) التخويف (فَإِنَّها) الضمير للقصة وما بعده خبر «إن» ، أي إن القصة والشأن (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [٤٦] وهو تفسير للضمير المبهم ، وذكر (الصُّدُورِ) للتأكيد وتقرير أن مكان العمى هو القلب لا البصر لما ثبت في العرف أن مكان العمى هو البصر فنفي ذلك بفضل تعريف وتبيين بذكر الصدور.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧))

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ) الآية نزلت لما قالوا متى هذا الوعد (١٣) ، والمستعجل (بِالْعَذابِ) هو النضر بن الحارث (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) في العذاب (وَإِنَّ يَوْماً) من أيام الله للعذاب الذي استعجلوه (عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [٤٧] بالتاء والياء (١٤) في الدنيا في الشدة وهذا وصف يومهم وطول عذابهم وبيان أنه تعالى يقدر على أخذهم متى شاء ولا يستعجل ، فاذا كان الأمر كذلك فكيف يستعجلونه.

__________________

(١) بني إسرائيل ، و : بنو إسرائيل ، ح ي.

(٢) وهو مفسر لناصب كأين ، و : ـ ح ي.

(٣) «أهلكناها» : قرأ البصريان بتاء مثناة مضمومة بعد الكاف من غير ألف ، وغيرهما بنون مفتوحة بعد الكاف بعدها ألف. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

(٤) وإن لم يكن لهذا الفعل محل ، و : ـ ح ي.

(٥) على سقوفها ، و : سقفها ، ح ي.

(٦) فعلى متعلق بخاوية ، و : ـ ح ي.

(٧) وَبِئْرٍ» : أبدل الهمز مطلقا ورش والسوسي وأبو جعفر ، وفي الوقف حمزة. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

(٨) عطف ، وي : عطفا ، ح.

(٩) وكم ، ح و : ـ ي.

(١٠) كم ، ح و : ـ ي.

(١١) ساكنيه ، وي : ساكنه ، ح.

(١٢) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

(١٣) أخذه عن البغوي ، ٤ / ١٢٣.

(١٤) «تعدون» : قرأ المكي والأخوان وخلف بياء الغيبة وغيرهم بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

١٣٥

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨))

(وَكَأَيِّنْ) بالواو عطف على قوله (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، أي وكم (مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ) أي أمهلت (لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي كافرة بربها (ثُمَّ أَخَذْتُها) بالعذاب في الدنيا (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) [٤٨] في الآخرة فنعذب (١) العذاب الأكبر.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩))

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا كفار مكة (إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [٤٩] من الله بلغة تعرفونها.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠))

(فَالَّذِينَ آمَنُوا) منكم (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الطاعات (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [٥٠] أي حسن في الجنة.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))

(وَالَّذِينَ سَعَوْا) بالتكذيب (فِي آياتِنا) أي القرآن (مُعاجِزِينَ) بالتشديد ، أي مثبطين عن الإيمان ، وبالتخفيف والألف (٢) ، أي معاندين في إبطال آياتنا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [٥١] أي أهل النار.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢))

قوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) تسلية للنبي عليه‌السلام حين حزن بالقاء الشيطان في قراءته تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ، وذلك عند قراءته على المشركين سورة النجم حتى انتهى إلى قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)(٣) ، فأتاه الشيطان في صورة جبرائيل ، فألقى ما ألقى فاغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فنزل «وما أرسلنا من قبلك» (٤)(مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي قرأ وتكلم (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في قراءته وكلامه بتمكيننا الشيطان إياه لحكمة نعلمها فلا تهتم بذلك (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يذهب به الله ويبطله (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي يثبتها ولا ينسخها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يلقي (٥) الشيطان في قراءته (حَكِيمٌ) [٥٢] يحكم بنسخه ، ولما سمع المشركون (٦) أنه يقرأ ذلك أعجبهم ، فلما انتهى إلى آخر السورة سجد لله وسجد المسلمون والمشركون معه ، فجاءه جبرائيل وقال : ما جئتك بهذا يا رسول الله ، والعرانيق جمع عرنيق بكسر العين المهملة وهو طويل العنق من طير الماء ، وقيل : بمعنى السادات (٧) ، وأريد منها اللات والمناة والعزى.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣))

(لِيَجْعَلَ) علة لتمكين الله تعالى الشيطان على إلقائه ما ألقى في قراءة النبي عليه‌السلام ، أي مكنه عليه ليجعل الله (ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) أي بلية (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي للمنافقين (وَالْقاسِيَةِ) أي الذين قست (قُلُوبِهِمْ) عن ذكر الله وهم المشركون (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ) أي الجاحدين بالقرآن (لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) [٥٣] أي في خلاف طويل عن الحق.

__________________

(١) فنعذب ، ح : فيعذب ، ي ، فتعذب ، و.

(٢) «معاجزين» : قرأ المكي والبصري بحذف الألف وتشديد الجيم ، وغيرهم بألف بعد العين وتخفيف الجيم. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

(٣) النجم (٥٣) ، ١٩ ـ ٢٠.

(٤) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٩٩.

(٥) يلقي ، ح ي : ألقى ، و.

(٦) المشركون ، ح و : ـ ي.

(٧) ولم أجد له مأخذا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

١٣٦

(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤))

(وَلِيَعْلَمَ) المؤمنون (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) علم التوحيد والقرآن (أَنَّهُ) أي القرآن (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) أي يثبتوا على إيمانهم ويزيد يقينهم (فَتُخْبِتَ) أي تطمئن وتسكن (لَهُ قُلُوبُهُمْ) مخلصة (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بالقرآن (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٥٤] أي إلى عمل به ، يعني هو حافظ لقلوبهم عن الإعراض ونزع المعرفة منها عن إلقاء الشيطان ووسوسته.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥))

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي في شك من القرآن (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أي فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) [٥٥] أي عذابها وضع (يَوْمٍ عَقِيمٍ) موضع الضمير ، أي لا فرج فيه ولا رحمة ولا توبة عن الكفر ، وأصل العقم المنع ، وهو يوم القيامة ، وقيل : «هو يوم بدر» (١).

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦))

(الْمُلْكُ) أي الولاية والحكم (يَوْمَئِذٍ) أي يوم تزول مريتهم (لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بالحق لا حاكم غيره في ذلك اليوم (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [٥٦] أي حكمه في حق المؤمنين يومئذ ذلك.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بالقرآن (٢)(فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) [٥٧] أي حكمه في حق الكافرين يومئذ أنهم في عذاب شديد يهانون فيه.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩))

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي في طاعة الله من مكة إلى المدينة (ثُمَّ قُتِلُوا) بالتشديد والتخفيف (٣) ، أي استشهدوا (أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) أي في الجنة أو الغنيمة في الدنيا لمن لم يمت ولم يقتل (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [٥٨] لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً) بضم الميم وفتحها (٤)(يَرْضَوْنَهُ) أي الجنة إذا قتلوا أو ماتوا في طاعة الله ، لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بدرجات العاملين (حَلِيمٌ) [٥٩] عن المسيء فلا يعجل عليه بالعقوبة ، نزلت الآيتان حين قال المهاجرون يا رسول الله ما لنا إذا هاجرنا معك وجاهدنا فقتلنا أو متنا (٥).

(ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠))

(ذلِكَ) أي الأمر ذلك قوله (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) نزل في المسلمين الذين طلب المشركون قتالهم في الأشهر الحرم ، فكره المسلمون قتالهم فيها ، فقاتلهم المشركون فبغوا عليهم وقاتلوهم ، فنصر الله المسلمين عليهم فوقع في أنفس المؤمنين من القتال في الشهر الحرام ما وقع (٦) ، فقال تعالى ومن جازى الظالم بمثل ما ظلمه الظالم ثم تعدى عليه (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) على ظالمه وسمى ابتداء الفعل بالعقاب وهو اسم للجزاء والابتداء ليس بجزاء لملابسته له من حيث أنه سبب وذلك مسبب عنه ، والباء في الموضعين للسببية (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ

__________________

(١) عن السدي وقتادة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠١.

(٢) بالقرآن ، و : القرآن ، ح ي.

(٣) «قتلوا» : شدد التاء الشامي وخففها غيره. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

(٤) «مدخلا» : فتح الميم المدنيان وضمها سواهما. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٨٩.

(٦) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠٢.

١٣٧

غَفُورٌ) [٦٠] للمؤمنين بقتالهم في الأشهر الحرم وتركهم المندوب إليهم وهو العفو عن الجاني بقوله (١) تعالى (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ)(٢).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))

(ذلِكَ) أي المذكور من القدرة والحكم (بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل ظلمة هذا في مكان ذلك (٣) بمغيب الشمس ويدخل ضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوع الشمس (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [٦١] ذلِكَ) أي المذكور من الدلالة على القدرة (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ) الذي لا يجوز أن يعبد إلا هو (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ) بالياء والتاء (٤) ، أي يعبدون (مِنْ دُونِهِ) من الآلهة (هُوَ الْباطِلُ) لا يقدر على شيء (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [٦٢] أي هو (٥) أعلى وأكبر من أن يشرك به شيء وينسب إليه الولد وأن يعدل به الباطل.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي مطرا (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) أي تصير (مُخْضَرَّةً) بالنبات برفع «تصبح» ، لأن الاستفهام في (أَلَمْ تَرَ) بمعنى الخبر ، فلا يكون له جواب ولو نصب لاختل المعنى ، إذ لو كان جوابا له يلزم انتفاء كون الأرض مخضرة والحال أنه مثبت ، ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان على سبيل الاستمرار (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) بانزال المطر واستخراج النبات به لوصول علمه إلى كل شيء (خَبِيرٌ) [٦٣] بنوعه وشخصه ومقداره ومكانه أو خبير بمصالح خلقه ومنافعهم.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤))

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الخلق لا شريك له فيه (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ) عن الخلق وعن عبادتهم (الْحَمِيدُ) [٦٤] أي المحمود في فعاله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ) أي ذلل (لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ) ذلل (الْفُلْكَ تَجْرِي) أي تسير (فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ) أي كراهة أن تقع (عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي بأمره يوم القيامة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) [٦٥] مع شركهم وعصيانهم حتى يرزقهم في الدنيا ولا يعجل بالعقوبة.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) في الأرحام (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)(٦) للبعث (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي الكافر بالبعث وهو بديل بن ورقاء (لَكَفُورٌ) [٦٦] بالله وبأنعمه ، أي لا يشكره ولا يطيعه.

(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨))

قوله (لِكُلِّ أُمَّةٍ) بدون الواو ، لأنه لم يجد معطفا لتباعد المعنى عنه بخلاف نظيره المتقدم بالواو ، أي لكل قوم من أمتك (جَعَلْنا مَنْسَكاً) باختلاف ما مر فيه ، أي مذبحا (هُمْ ناسِكُوهُ) أي ذابحوه (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي

__________________

(١) بقوله ، ح و : لقوله ، ي.

(٢) الشورى (٤٢) ، ٤٠.

(٣) ذلك ، ي : ذاك ، ح و.

(٤) «يدعون» : قرأ البصريان وحفص والأخوان وخلف بالياء التحتية ، والباقون بالتاء الفوقية. البدور الزاهرة ، ٢١٦.

(٥) هو ، و : ـ ح ي.

(٦) أي ، + و.

١٣٨

الْأَمْرِ) من قولهم نازعته أنزعه ، أي غلبته ، أي لا يخالفنك بالمنازعة في أمر الذبيحة أو في أمر الدين (وَادْعُ) أي ادعهم (إِلى رَبِّكَ) أي إلى دينه (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً) أي على (١) دين (مُسْتَقِيمٍ) [٦٧] وهو دين الإسلام فاعمل به ، نزل حين قال المشركون للنبي عليه‌السلام كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله (٢)(وَإِنْ جادَلُوكَ) في أمر الذبائح أو في أمر الدين (فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) [٦٨] فيجازيكم.

(اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩))

وبين ذلك بقوله (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي يقضي بالحق ، يعني بالثواب والعقاب (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [٦٩] من أمر الذبيحة أو الدين.

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠))

(أَلَمْ تَعْلَمْ) يا محمد (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) من الخلق وأعمالهم (إِنَّ ذلِكَ) أي العلم (فِي كِتابٍ) أي مكتوب في اللوح المحفوظ (إِنَّ ذلِكَ) أي العلم (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [٧٠] هين حفظه وكتابته لا يفوت عنه شيء.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١))

قوله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) نزل لبيان جهالة المشركين بعبادتهم ما ليس بمستحق لها (٣)(ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي حجة لهم بذلك (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي علم معقول ولا عذر مقبول (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [٧١] بمنعهم من العذاب.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢))

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي واضحات يفهمونها (تَعْرِفُ) يا محمد (فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار والكراهة (٤)(يَكادُونَ) أي يقربون (يَسْطُونَ) أي يهمون (٥) ويثبتون بالضرب والبطش بالشدة لو قدروا (بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) أي القرآن وهم أصحاب النبي عليه‌السلام معه (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ) أي أخبركم (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) أي بأسوأ وأشد من ضربكم وبطشكم أو غيظكم على تالي القرآن هو (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [٧٢] وقيل : «النار» مبتدأ ، خبره «وعدها» (٦).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣))

قل (٧)(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) أي بين شبه (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) إنما سماه «مثلا» ، وهو ليس بمثل بل صفة أو قصة مستحسنة ، لأن الصفة إذا كانت مستغربة عندهم شبهوها ببعض الأمثال التي يساربها ويشتهروا ، والمراد منه قطع جدالهم بآيات الله وإيقاع عيوب آلهتهم في أسماعهم وتبيين جهالتهم الفاحشة فقال (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدونهم (مِنْ دُونِ اللهِ) من الآلهة (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) أي لن يقدروا على خلق ذباب من الذباب (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي على تخليقه ، الجملة في محل النصب على الحال كأنه قال يستحيل أن يخلقوه مشروطا عليهم اجتماعهم لخلقه ، ثم ذكر من أمر الهتهم ما هو أضعف

من خلق الذباب بقوله (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) من حلي الأصنام مع ضعف الذباب (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) لعجزهم ، روي : أن الكفار كانوا يطلون أصنامهم بالعسل والزعفران ، فاذا جف سلبه الذباب فتعجز الأصنام وعابدوها عن أخذه منه (٨)(ضَعُفَ الطَّالِبُ) أي

__________________

(١) على ، ح و : ـ ي.

(٢) نقله المفسر عن البغوي ، ٤ / ١٣٠.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) والكراهة ، ح ي : والكراهية ، و.

(٥) أي يهمون ، ح ي : يهمون ، و.

(٦) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٩١.

(٧) قل ، ح ي : ـ ب.

(٨) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٠٤.

١٣٩

العابد (وَالْمَطْلُوبُ) [٧٣] أي المعبود.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤))

قوله (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق عظمته حيث أشركوا به غيره أو ما عرفوه حق معرفته حيث لم يعلموا ربوبيته ولم يشكروا نعمه ، نزل في حق اليهود الذين قالوا خلق الله السماء والأرض في ستة أيام ، ثم استلقى فاستراح ووضح إحدى رجليه على الأخرى وكذب أعداء الله في وصفه تعالى (١)(إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ) في أمره وخلقه ليس كمعبودهم بلا قوة (عَزِيزٌ) [٧٤] أي منيع في ملكه ومنتقم ممن لا يوحده.

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥))

(اللهُ يَصْطَفِي) أي يختار (مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) إلى خلقه كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والحفظة الكتبة ، قوله (وَمِنَ النَّاسِ) عطف على (الْمَلائِكَةِ) ، أي يختار منهم رسلا كمحمد وعيسى وموسى وإبراهيم ونوح عليهم‌السلام أرسلهم إلى خلقه ليدعوهم إلى دينه ، ففيه بيان أن رسل الله على ضربين ملائكة وبشر (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لمقالتهم (بَصِيرٌ) [٧٥] لمن يصلح للرسالة فيختاره ويجعله رسولا رد لقول الوليد بن المغيرة حين قال أأنزل عليه الذكر من بيننا.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي من أمر الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الدنيا (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [٧٦] أي الأمر كله إليه لا يسأل عما يفعل في حكمه وتدبيره واختيار رسله عواقب أمور العباد في الآخرة من الثواب والعقاب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي صلوا بالركوع والسجود وإنما أمرهم بذلك ، لأنهم أول ما أسلموا كانوا يسجدون بغير ركوع (وَاعْبُدُوا) أي وحدوا (رَبَّكُمْ) وأطيعوه بالصوم والزكوة والحج والجهاد (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي افعلوا سائر الخيرات وأكثروها ما استطعتم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٧٧] أي افعلوا راجين الفلاح من عذاب الله من غير اعتماد على أعمالكم ، روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه : «فضلت سورة الحج بسجدتين» (٢) ، وفي رواية : «إن لم تسجدهما فلا تقرأهما» (٣) ، وهو حجة للشافعي رضي الله عنه في إثبات السجدتين ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه هي سجدة صلوة بدليل اقترانها بالركوع ، فمعناه : اركعوا واسجدوا في الصلوات المفروضة وفي صلوة التطوع.

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))

(وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي اعملوا لله (حَقَّ جِهادِهِ) أي حق عمله وهو أن تؤدي جميع ما أمرك الله به وتجتنب ما نهاك الله عنه وأن تترك رغبة الدنيا لرهبة الآخرة ، والإضافة (٤) إلى ضميره تعالى كانت بأدنى ملابسة ، لأن الجهاد مفعول لأجل الله ، والأصل أن يقول (٥) حق الجهاد ، قيل للنبي عليه‌السلام : أي الجهاد أفضل؟ قال : «كلمة عدل عند السلطان» (٦) ، وقيل «حق جهاده» جهاد الكفار (٧) ، وقيل : «جهاد النفس وهو

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠٥.

(٢) رواه أحمد بن حنبل ، ٤ / ١٥١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٩٢.

(٣) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٤ / ١٥١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٣٣.

(٤) والإضافة ، ح ي : وإضافة الجهاد ، و.

(٥) أن يقول ، و : ـ ح ي.

(٦) رواه أبو داود ، الملاحم ، ١٧ ؛ وابن ماجة ، الفتن ، ٢٠ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٠٥.

(٧) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ١٣٤.

١٤٠