عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

(إِنْ هذا) أي ما الحق (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [٤٣] فهم بتوا الحكم بهذا القول على أنه سحر بين ، أي ظاهر لكل عاقل إن تأمله سماه سحرا لفرط عنادهم.

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤))

(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) أي يقرؤونها فيعلمون بذلك صحة الشرك بالله (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) [٤٤] ينذرهم بالعقاب أن لا يشركوا ، والمراد منهم هم العرب الذين بعث النبي إليهم لا من تقدمهم من العرب ، لأن إسمعيل عليه‌السلام كان مبعوثا قبله إليهم.

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥))

(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تهديد لهم على تكذيبهم بالنبي عليه‌السلام ، أي قد كذب الذين تقدموهم من الأمم والقرون الخالية رسلهم كما كذبك هؤلاء (وَما بَلَغُوا) أي أهل مكة (مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) أي بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) عنادا ، أي (١) لم يؤمنوا بهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [٤٥] أي إنكاري عليهم بالتدمير والاستئصال ، ولم ينفعهم استظهارهم بتلك الأحوال التي يتوقعون الاستظهار بها (٢) فما بال هؤلاء بجنب أولئك ، وال (مِعْشارَ) بمعنى العشر كالمرباع بمعنى الربع (٣) ، يعني ما بلغ كفار مكة عشر ما آتينا الأمم المتقدمة قبلهم من أسباب الاستظهار ، قوله (فَكَذَّبُوا رُسُلِي) بعد قوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مع كونه مستغنى عنه به بيان بأنه مسبب عن الأول ، لأن إقدامهم على التكذيب سبب لتكذيب الرسل.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦))

(قُلْ) لكفار مكة ترحما بهم (إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) أي لوجه الله خالصا وهو بدل من «واحدة» (مَثْنى) أي اثنين اثنين (وَفُرادى) أي فردا فردا (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) في شأن محمد عليه‌السلام وما جاء به حتى يظهر لكم شأنه وتعلموا (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي ليس بمحمد الذي أرسل إليكم جنون كما تزعمون ، بل هو عاقل صادق في قوله بل علمتموه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأصدقهم قولا وأرزنهم حلما ، فكان مظنة لأن تظنوا به الخير وترجحوا فيه جانب الصدق على الكذب فحينئذ كفاكم بأن يأتيكم (٤) آية على قوله ، فاذا أتى بها تبين أنه نذير مبين ، ويجوز أن يكون ما بصاحبكم كلاما مستأنفا تنبيها من الله على طريقة النظر في أمر الرسول عليه‌السلام وأراد بالقيام منهم الاهتمام بالمطلوب لا حقيقة القيام ، وإنما قيده بالاثنين والفرادى لأن الاثنين إذا نظرا فيه نظر متصادقين متناصفين لا يميل بها أتباع هوى هجم بهما الفكر الصحيح على جادة الحق وسننه ، وكذا الواحد إذا تفكر في نفسه بعدل وإنصاف على عادة العقلاء متجردا عن الهوى والتعند يهدي به إلى الحق وأما الجمع فمما يقل فيه الإنصاف غالبا ويكثر فيه الخلاف وتشوش الخاطر وغيرها مما يمنع الفكر الصحيح ، ثم أثبت صدقه بالنفي والاستثناء بعد قوله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) بقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) [٤٦] وهو عذاب النار.

(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧))

قوله (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) شرط وجزاء ، أي أي شيء سألتكم من أجر على إنذاري وتبليغي الرسالة فهو لكم ، يعني لا أسألكم شيئا ، وهذا من قبيل قولهم ما لي في هذا فهو لك ، أي ليس لي فيه شيء (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) فهو يثيبني ويحفظني وينصرني (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [٤٧] أي شاهد بأني نذير مبين ليس بي جنون أو حفيظ عالم بأني لا أطلب الأجر منكم على الدعوة والنصيحة.

__________________

(١) أي ، وي : ـ ح.

(٢) بها ، ح و : ـ ي.

(٣) الربع ، ح و : المربع ، ي.

(٤) بأن يأتيكم ، ح : ـ وي.

٣٢١

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨))

(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ) أي يرمي ويتكلم بالوحي على الأنبياء أو يرمي بالحق على الباطل فيدمغه ، قوله (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [٤٨] صفة لاسم (إِنَّ) أو بدل من ضمير (يَقْذِفُ) ، أي هو عالم بكل غيب وهو الخفي الذي لا يعلمه ابتداء إلا هو من القول والفعل وغيرهما في السماء والأرض.

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩))

(قُلْ جاءَ الْحَقُّ) أي القرآن أو الإسلام النافع (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) [٤٩] أي وهلك الباطل وهو الكفر الضار ، و «ما» فيهما بمعنى لا ، روي : «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة وحول الكعبة ثلثمائة وستون صنما ، فجعل يطعنها بعود ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ)(١)» (٢) ، أي هلك ، يقال فلان لا يبدئ ولا يعيد مثلا في الهلاك ، وقيل : معناه إن الباطل قد بطل بمجيء الحق فلا يلتفت إليه (٣) ، لأنه يقال فلان لا يبدئ ولا يعيد إذا لم يلتفت إليه ، وقيل : «لا يبدئ الباطل لأهله خيرا ولا يعيده» (٤) ، أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة أو الباطل الشيطان (٥) ، لأنه صاحب الباطل ولا يخلق شيئا ولا يبعثه ، وقيل : هو أصنامهم (٦) ، لأنهم عجزة لا تحيي ولا تميت.

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠))

(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) أي فانما وزر ضلالي علي لا عليكم (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ) إلى الحق من الإسلام والقرآن (فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) أي فهدايتي بفضل ربي ووحيه فلا منة لغيره فهو في معنى فنفعه لنفسي (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [٥٠] منهم يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله ، ولا يفوته شيء ما من القول والفعل أو قريب بالإجابة ممن دعاه.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١))

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) أي خافوا وهو وقت البعث وقيام الساعة أو وقت الموت أو يوم بدر (فَلا فَوْتَ) أي لا يفوتون الله ، وجواب (لَوْ) محذوف ، أي لرأيت أمرا عظيما ، وقيل : نزلت الآية في عسكر قصدوا الكعبة ليخربوها فخسف بهم إذا دخلوا البيداء (٧)(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [٥١] أي من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم هنا أو المراد يوم بدر وحيث كانوا فهو قريب من الله تعالى ، وعطف (أُخِذُوا) على معنى (فَلا فَوْتَ) ، أي لم يفوتوا وأخذوا أو على (فَزِعُوا) ، أي فزعوا وأخذوا فلا فوت.

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢))

(وَ) عند حلول العذاب بهم (قالُوا آمَنَّا بِهِ) أي بالبعث أو بمحمد لتقدم ذكره بقوله (ما بِصاحِبِكُمْ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) بالهمز من النأش وهو الحركة ببطء ، أي من أين لهم أن يتحركوا فيما لا حيلة لهم ، وبالواو (٨) ، أي التناول والأخذ بسهولة ، يقال تناقش وتناول إذا مد يده إلى شيء يصل إليه (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [٥٢] أي من الآخرة إلى الدنيا وهو تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم عند نزول العذاب بهم كما نفع (٩) المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، فمثلت حالهم بحال من يريد أن يصل الشيء من غلوة وهي مقدار رمية.

__________________

(١) الإسراء (١٧) ، ٨١.

(٢) عن ابن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٧٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ٧٣.

(٣) لعل المفسر اختصر هذا المعنى من القرطبي ، ١٤ / ٣١٣.

(٤) ذكر الزجاج نحوه ، انظر الكشاف ، ٥ / ٧٣.

(٥) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٧٣.

(٦) هذا الرأي منقول عن البغوي ، ٤ / ٥١٤.

(٧) نقله المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٧٣.

(٨) «التناوش» : قرأ أبو عمرو وشعبة والأخوان وخلف بهمزة مضمومة بعد الألف فيصير المد عندهم متصلا ، فكل يقرأ على أصله ، ولحمزة في الوقف عليه تسهيل بالهمزة مع المد والقصر ، وقرأ الباقون بالواو الخالصة بعد الألف. البدور الزاهرة ، ٢٦٢.

(٩) نفع ، وي : ينفع ، ح.

٣٢٢

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣))

(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي كيف لهم تناول التوبة والحال أنهم قد كفروا في الدنيا بما آمنوا به وقت العذاب ، فالتوبة لا تنفع التائب حين لا متاب ، قوله (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) عطف على (كَفَرُوا) على حكاية الحال الماضية ، أي وكانوا يتكلمون في الدنيا بالغيب كذبا ويأتون به (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [٥٣] أي من حيث لا يعلمون لعدم تحققهم صدق ما يقولون من أنه شاعر ساحر كاهن ، وهذا تكلم بالغيب بعيد من جهة بعيدة من حاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و «الغيب» بمعنى الغائب ، وقيل : «هو قولهم لا بعث ولا جنة ولا نار» (١).

(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤))

(وَحِيلَ) أي فعل حائل (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة أو الرجوع إلى الدنيا (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) أي بأشباههم (مِنْ قَبْلُ) أي فعل بمن كان قبلهم من كفرة الأمم ومن مذهبه مذهبهم من الحائل ، يعني منعوا وحجبوا من الإيمان والتوبة عند شدة البأس ، وال «أشياع» جمع شيع وهو جمع شيعة ، وهي فرقة يتقوى الإنسان بهم (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) [٥٤] من أراب الرجل إذا صار ذا شك ، أي إنهم كانوا في الدنيا في شك ذي شك من قبيل قولهم شعر شاعر للمبالغة ، والمراد : أن تزايد الشك فيهم أوقعهم في العذاب الأليم الأبدي.

__________________

(١) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ٥١٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٧٨.

٣٢٣

سورة الملائكة (فاطر)

مكية

أنزلت لرفع شكهم ودفع شركهم (١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) باضافة الصفة التي للمضي إلى المفعول ، أي منشئهما ومبدعهما قبل فيكون إضافة حقيقة ، وكذلك (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ) صفة بعد صفة ، قوله (رُسُلاً) مفعول ثان ل (جاعِلِ) عند البعض أو بفعل مقدر دل عليه (جاعِلِ) ، أي جعلهم رسلا ، وقيل : (جاعِلِ) بمعنى خالق ، و (رُسُلاً) حال من (الْمَلائِكَةِ)(٢) ، وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وكرام كاتبون عليهم الصلوة والسّلام ، قوله (أُولِي) صفة ل (رُسُلاً) ، أي الملائكة ذوي (أَجْنِحَةٍ) و «أولوا» اسم جمع ل «ذو» كما أن «أولاء» اسم جمع ل «ذا» ، قوله (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات ل (أَجْنِحَةٍ) وهي لا تنصرف لتكرر العدل فيها ، لأنها عدلت عن ألفاظ الأعداد إلى صيغ أخر وعن تكرير إلى غير تكرير ، وقيل : للوصفية والعدل (٣) ، والمعنى : أن من الملائكة ما له جناحان وهو الأصل للطيران في أمر من أمور الله تعالى بمنزلة اليدين وثلاثة أجنحة الثالث في ظهره يتقوى به وأربعة الرابع لغير الطيران وهو لف الوجه به حياء من الله تعالى (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) من الملائكة وغيرها ، روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى جبرائيل ليلة المعراج وله ستمائة جناح (٤) ، وقيل : الزيادة في الخلق حسن الوجه والصوت والخط (٥) أو المعرفة بالله والمراقبة له ، وقيل : كل زيادة محمودة في خلق وخلق (٦)(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [١] مما لا يحيط به الوصف.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢))

(ما يَفْتَحِ اللهُ) أي أي شيء يرسل (لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) أي من كل خير كرزق ومطر وصحة وأمن (فَلا

__________________

(١) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٣) أخذ المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٧٥.

(٤) عن ابن مسعود ، انظر البغوي ، ٤ / ٥١٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ٧٥.

(٥) هذا المعنى منقول عن الكشاف مختصرا ، ٥ / ٧٥.

(٦) لعل المفسر اختصر هذا المعنى من الكشاف ، ٥ / ٧٥ ؛ وانظر أيضا القرطبي ، ١٤ / ٣٢٠.

٣٢٤

مُمْسِكَ لَها) أي لا أحد يقدر على إمساكها وحبسها (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) أي أي شيء يمسك بالله فلا أحد يقدر على إرساله من بعد إمساكه ، وتأنيث الضمير وتذكيره في الموضعين للحمل على اللفظ وعلى المعنى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب القادر على الإرسال والإمساك (الْحَكِيمُ) [٢] الذي يرسل ويمسك باقتضاء الحكمة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي يا أهل مكة (اذْكُرُوا) أي احفظوا (نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بشكرها وهو معرفة حقها وطاعة مولاها حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من عدادة جميع العالم ، وقيل : المراد من (النَّاسُ) العموم (١)(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) بالجر والرفع (٢) نعت ل (خالِقٍ) لفظا أو محلا ، قوله (يَرْزُقُكُمْ) خبر من (خالِقٍ) لأنه مبتدأ ، و (مِنْ) زائدة ، ويجوز أن يكون صفة ل (خالِقٍ) والخبر محذوف ، أي موجود ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ بعد قوله (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) ، أي هو يرزقكم (مِنَ السَّماءِ) المطر (وَالْأَرْضِ) النبات والغرض نفي للغير ، أي لا رازق لكم سواه ، ثم استأنف مشيرا إلى توحيده بقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في الخلق والرزق (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [٣] أي فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الكفر.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ) أي رسل ذو عدد كثير وأولو آيات ونذر (مِنْ قَبْلِكَ) شرط وجزاء ، وحق الجزاء أن يتعقب الشرط وهو سابق عليه معنى ، قيل : وجه صحته أن الجواب محذوف وهو فتأس بتكذيب الرسل من قبلك فوضع (فَقَدْ كُذِّبَتْ) موضع الجواب استغناء بالسبب عن المسبب (٣)(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ) أي تصير (الْأُمُورُ) [٤] أي عواقبها بالبعث والجزاء لا إلى غيره تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥))

ثم خاطب أهل مكة بقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) أي البعث وما تعلق به (٤)(حَقٌّ) أي ثابت لا شك فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي فلا يخدعنكم الدنيا بزخارفها (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي لا يخدعنكم بذكر مغفرته لكم (الْغَرُورُ) [٥] أي الشيطان بوسوسته ، يعني لا يغوينكم بقوله لكم (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ)(٥) ، فان الله غفور يغفر لكل (٦) كبيرة وخطيئة.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦))

(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي عدو قوي في عداوته (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي لا تطيعوه وحاربوه في سركم وجهركم (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) أي أتباعه (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [٦] أي من أهل الشقاوة والهلاك.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧))

قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ ، خبره (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي كفرهم سبب لذلك ، قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مبتدأ ، خبره (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [٧] أي إيمانهم سبب لذلك.

__________________

(١) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٧٦.

(٢) «غير» : قرأ الأخوان وخلف وأبو جعفر بخفض الراء ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٦٢.

(٣) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٧٧.

(٤) تعلق به ، وي : يتعلق به ، ح.

(٥) فصلت (٤١) ٤٠.

(٦) لكل ، ح : كل ، وي.

٣٢٥

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

ثم قال لنبيه عليه‌السلام (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) من هذين الفريقين كأبي جهل ، أي لبس عليه وسلب تمييزه لكونه مغلوب العقل بوسوسة الشيطان (فَرَآهُ حَسَناً) أي جميعا ، وجوابه محذوف وهو كمن هداه الله لدلالة قوله (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقيل : الجواب ذهبت نفسك عليه حسرة لدلالة قوله (١)(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) وهي مفعول له ، أي للحسرات ، و (عَلَيْهِمْ) متعلق ب (تَذْهَبْ) لا ب (حَسَراتٍ) ، لأن صلة المصدر لا يتقدم عليه ، والمعنى : لا تهلك نفسك غما بعد غم عليهم بتركهم الإيمان أو بهلاكهم في العذاب ، قوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) [٨] وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ) أي تهيج (سَحاباً) لإنزال المطر ، وإنما قال (فَتُثِيرُ) على المضارعة ليحكى الحال التي يقع فيها إثارة الرياح السحاب للدلالة على القدرة الربانية بالصورة الحاضرة (فَسُقْناهُ) أي نسوقه (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) أي صيرناها خضراء بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي بعد (٢) يبسها (كَذلِكَ النُّشُورُ) [٩] أي خروجكم من القبور مثل خروج النبات من الأرض من غير عسر علينا ، روي : أنه تعالى يحيي الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال ، تنبت به أجساد الخلق عند النفخة الثانية كما ينبت الأرض من الندى (٣).

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

ونزل حين كان الكفار يتعززون بأصنامهم أو المنافقون كانوا يتعززون بالمشركين قوله (٤)(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) فليطلبها من الله من يطلبها وذلك بالإيمان والعمل الصالح ، قوله (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) وضع موضع الجواب استغناء به عنه لدلالته عليه ، لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وهو قول لا إله إلا الله (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي يرفع الكلم الطيب فكان التوحيد انما قبل بسبب الطاعة ، إذ التوحيد مع العصيان لا ينفع ، أي لا يمنع من العقاب ، وقيل : (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) يرفع العمل الصالح ، لأن الطاعة لا تقبل إلا بالتوحيد (٥) ، وقيل : (الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) كل ذكر من تكبير وتسبيح وتهليل ودعاء واستغفار وتلاوة القرآن (٦) ، وقيل : قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجة الرحمن ، فاذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه (٧) ، والمراد من (الْعَمَلُ الصَّالِحُ) فرائض الله فمن ذكره ولم يؤد فرائضه رد كلامه (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) نصب بأنه صفة للمصدر المنصوب ، أي المكرات السيئات لأن يمكر لازم (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) هنا وثم ، والمراد مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة بمكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم باحدى ثلاث مكرات إما بقتله أو باخراجه أو باثباته وهو الجرح بجراحة لا يتحرك (٨) معها (وَمَكْرُ

__________________

(١) هذا الرأي منقول عن البغوي ، ٤ / ٥١٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٧٨.

(٢) بعد ، و : ـ ح ي.

(٣) هذا الرأي منقول عن الكشاف ، ٥ / ٧٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٨٢.

(٤) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٧٨.

(٥) اختصره المؤلف من البغوي ، ٤ / ٥٢٠.

(٦) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٧٩.

(٧) هذه الأقوال منقولة عن الكشاف ، ٥ / ٧٩.

(٨) يتحرك ، و : يتحركها ، ح ي.

٣٢٦

أُولئِكَ) أي الكفار الماكرين (هُوَ يَبُورُ) [١٠] أي يبطل ويفسد هو خاصة دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر وحقق فيهم قوله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ) وهو (خَيْرُ الْماكِرِينَ)(١).

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١))

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي خلق أصلكم منه وهو آدم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا أو ذكرانا وإناثا (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) أي لا تحمل (٢) أنثى ، و (مِنْ) فيه زائدة (وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) نصب على الحال ، أي ليس حملها ووضعها إلا ملابسا بعلم الله تعالى بوقته ووصفه (وَما يُعَمَّرُ) أي لا يطول عمر (٣)(مِنْ مُعَمَّرٍ) أي طويل العمر ، والمراد به من أحد وسمي معمرا بما هو صائر إليه (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) بسكون الميم وضمه (٤) ، أي من عمر المعمر المذكور (إِلَّا) هو (فِي كِتابٍ) وهو اللوح بأن كتب فيه أن عمر فلان أربعون سنة إن حج وستون سنة إن حج وتصدق ، فاذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر ، وإذا أفرد أحدهما فبلغ الأربعين بلا تجاوز عنه فقد نقص من عمره الذي هو الغاية وهو الستون (إِنَّ ذلِكَ) المكتوب في اللوح حفظه (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [١١] بغير حسبان وكتابة ، لأنه العالم بالذات لا يتعذر تعلق علمه بمعلوم ما.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢))

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي حلو لذيذ (سائِغٌ شَرابُهُ) أي سلس الدخول في الحلق (وَهذا) أي والآخر منهما (مِلْحٌ أُجاجٌ) أي شديد الملوحة ، وقيل : هو مثل للمؤمن والكافر (٥)(وَمِنْ كُلٍّ) أي كل واحد منهما (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ) من الملح خاصة (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وهي اللؤلؤ والمرجان ، ولم يقل منه هنا كما في النحل (٦) لأنه معلوم (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ) أي في كل واحد منهما (مَواخِرَ) من المخر وهو الشق ، أي تمخر الماء بجريها ، يعني تشقه (٧) مقبلة ومدبرة بريح واحدة وفعل ذلك (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي لتطلبوا من رزق الله ، فالضمير لله وإن لم يذكر لدلالة المعنى عليه (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [١٢] أي ولتشكروا رب هذه النعم ، استعير «لعل» للإرادة ولذا عطف على (لِتَبْتَغُوا).

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣))

ثم أخبر بأنه (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ) أي ذلل لكم (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أقصى منازلهما في الغروب أو يجريان إلى يوم القيامة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) ذلِكُمُ) مبتدأ ، والباقي أخبار مترادفة ، أي هذا الذي فعل تلك الأشياء البديعة خالقكم ورازقكم له ملك السموات والأرض ، فاعرفوه ووحدوه فادعوه في حاجاتكم ليستجيب لكم ولا تدعوا غيره (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) من الأصنام آلهة (مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [١٣] أي لا يقدرون على أن ينفعوكم مقدار القطمير وهو القشر الرقيق الملتف على النواة.

__________________

(١) الأنفال (٨) ، ٣٠.

(٢) أي لا تحمل ، وي : أي لا تحمله ، ح.

(٣) عمر ، وي : عمره ، ح.

(٤) هذه القراءة منقولة عن السمرقندي ، ٣ / ٨٢.

(٥) أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٨٠.

(٦) انظر سورة النحل (١٦) ، ١٤.

(٧) تشقه ، وي : يشقه ، ح.

٣٢٧

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

(إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي الأوثان (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) فرضا (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لعجزهم فيما تدعون لهم من الألوهية أو ما نفعوكم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) إياهم مع الله وعبادتكم يقولون ما كنتم إيانا تعبدون (وَلا يُنَبِّئُكَ) أي لا يخبرك يا محمد بحال الأوثان وعبادة المشركين إياها وعاقبتها أو بأمر الدنيا والآخرة مخبر (مِثْلُ خَبِيرٍ) [١٤] أي عالم بذلك على الحقيقة لا كسائر المخبرين به وهو الله تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥))

ثم خاطب الناس بالعموم تنبيها لهم على ضعفهم بالخلقة فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) بكل حال وعرفه لبيان أنهم هم الفقراء لا غير لشدة افتقارهم إليه وإن كانت المخلوقات كلها مفتقرة إليه تعالى ، ولو نكر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء إلى الله (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) عن كل خلقه (الْحَمِيدُ) [١٥] أي المحمود في صنعه بغناه ، وقيد (الْغَنِيُّ) به ليعلمهم أنه ينفعهم بغناه إذ ليس كل غني نافعا بغناه.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧))

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) باهلاككم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) [١٦] بدلكم.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [١٧] أي بمممتنع وهذا أغضب عليهم بشركهم ونسبة الولد إليه.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) من وزره إذا حمله ، أي لا تحمل نفس حاملة (وِزْرَ أُخْرى) أي حمل نفس حاملة أخرى ، يعني لا تؤخذ نفس بذنب غيرها يوم القيامة (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) أي نفس حاملة الأثقال (إِلى حِمْلِها)(١) الذي عليها من الأوزار الثقيلة أحدا ليحمل بعض أوزاره (لا يُحْمَلْ مِنْهُ) أي من حملها (شَيْءٌ) بالطوع (وَلَوْ كانَ) المدعو (ذا قُرْبى) أي ذا قرابة من أب وأم وأخ وولد ، وترك المدعو في الكلام للتعميم بدلالة (وَإِنْ تَدْعُ) لاقتضائه المدعو ، قيل : الفرق بين الجملة الأولى وهي قوله (وَلا تَزِرُ) وبين الثانية وهي (وَإِنْ تَدْعُ) ، إن الأولى للدلالة على عدل الله في حكمه والثانية لبيان أن لا غياث يومئذ لمن استغاث (٢) ، قوله (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) تسلية لنبيه عليه‌السلام ، ووجه اتصاله بما قبله أن الله لما غضب عليهم من قوله (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أتبعه الإنذار بذكر القيامة وأهوالها لهم ثم لما لم ينفعهم قال (إِنَّما تُنْذِرُ) ، أي لا تنذر إلا الذين يخافون الله وهم ما رأوه ، وقيل : معنى (بِالْغَيْبِ) في السر (٣)(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي يتمونها وإنما خص الخاشعين بالإنذار ، لأنه لا ينفع إلا لهم ، وهذه صفة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن غيرهم أصحاب التمرد والعناد (وَمَنْ تَزَكَّى) أي تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى) أي (٤) يتطهر (لِنَفْسِهِ) يعني صلاحه نافع له والله غني عن خلقه وعملهم ، قوله (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [١٨] وعد للمتطهرين بالثواب ووعيد لغيرهم بالعقاب.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١))

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) [١٩] أي الكافر والمؤمن أو الصنم والحق تعالى (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) [٢٠]

__________________

(١) أي ، + ح.

(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٥ / ٨١.

(٣) هذا المعنى منقول عن الكشاف ، ٥ / ٨١.

(٤) أي ، وي : يعني ، ح.

٣٢٨

أي ولا الباطل والحق والكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ) أي الجنة (وَلَا الْحَرُورُ) [٢١] أي النار ، وقيل : (الظِّلُّ) سواد الليل و (الْحَرُورُ) سموم النهار (١).

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢))

(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي العلماء والجهال أو الذين شرحوا صدورهم للإسلام والذين قست قلوبهم بالكفر ، و (لَا) زائدة بعد (٢) النفي في جميع ما مر (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي يسمع الإنذار منك إسماع هداية من يشاء هدايته فيسلم وخذل من لم يشأ هدايته فيكفر ، لأنه عالم بمن ينفعه الهداية وبمن لا ينفعه (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [٢٢] أي أنت لست بمسمع الإنذار من قلبه مطبوع ، لأنه كالمقبور تحت الأرض في عدم الانتفاع فلا تحرص على هدايته لأنه لا ينفعه قولك.

(إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣))

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) [٢٣] أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر لا أن تجبر عليها ، قيل : نسخ هذا بآية السيف (٣).

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥))

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ) أي إرسالا مصحوبا بالحق ، يعني بالقرآن (بَشِيراً وَنَذِيراً) بالجنة والنار ، ويجوز أن يكون (بِالْحَقِّ) حالا من أحد الضميرين بمعنى محقا أو محقين (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) أي ما جماعة كثيرة (إِلَّا خَلا) أي مضى (فِيها نَذِيرٌ) [٢٤] ينذر من عذاب الله وذكره من قبيل الاكتفاء به عن بشير لدلالته عليه لكونهما ذكرا من قبل ، وأما فترة عيسى عليه‌السلام فلم يزل فيها من هو على دينه فكأنه لم يخل من نذير إلى أن تندرس آثار النذارة ثم بعث محمد (٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أي كفار قريش (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كذب من تقدم عليهم وقد (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالشواهد على صحة النبوة وهي المعجزات أو بالأمر والنهي (وَبِالزُّبُرِ) أي بالصحف (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) [٢٥] أي التورية والإنجيل والزبور.

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧))

(ثُمَّ أَخَذْتُ) أي عاقبت (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي جحدوا بها (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [٢٦] أي إنكاري وتعييري عليهم ، وفيه تسلية للنبي عليه‌السلام.

ثم بين خلقه وقدرته ليعتبروا به فيؤمنوا بقوله (أَلَمْ تَرَ) أي ألم تعلم (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) أي المطر (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) من أخضر وأصفر وأحمر إلى غيرها أو المراد بال «ألوان» اختلاف الأجناس من الرمان والتين والتفاح والعنب وغيرها مما لا يصحى (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) جمع جدة وهي طريق في الجبل وغيره ، مبتدأ وخبر على حذف المضاف ، أي ومن الجبال ذو جدد (بِيضٌ) صفة بيان ال (جُدَدٌ (وَحُمْرٌ) عطف عليه و (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) صفة بعد صفة ل (جُدَدٌ (وَغَرابِيبُ سُودٌ) [٢٧] معطوف على (بِيضٌ) أو على (جُدَدٌ) ، وهو جمع غربيب وهو الشديد السواد تأكيد لسود مقدر يدل عليه سود مذكورة ، لأن

__________________

(١) لعل المصنف اختصره من الكشاف ، ٥ / ٨٢.

(٢) بعد ، وي : بمعنى ، ح.

(٣) انظر في هذا الموضوع هبة الله بن سلامة ، ٧٥ ؛ وابن البارزي ، ٤٦.

(٤) محمد ، ح و : محمدا ، ي.

٣٢٩

حق التأكيد في تأدية المعنى (١) أن يتبع المؤكد ، تقديره : سود غرابيب سود حذف الأول وأبقي (٢) الثاني ليدل عليه وإنما فعل ذلك لزيادة التأكيد في تأدية المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعا ، والمعنى : من الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود شديد السواد والغرض بيان اختلاف ألوان الجبال كاختلاف ألوان الثمرات.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) أي ومنهم بعض مختلف ألوانه فالموصوف محذوف (كَذلِكَ) أي كاختلاف ألوان الجبال والثمرات ، محله نصب صفة مصدر محذوف ، أي اختلافا كذلك ، فمن أدرك آثار صنعه واعتبر به وعرف خالقه وعظم قدره يخشاه بالاستدلال بها عليه وعلى صفاته ، فلذلك أتبعه قوله (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي العلماء بالله دون غيرهم وهم الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فعظموه حق عظمته وخشوه حق خشيته ، فمن ازداد علمه به ازداد خوفه منه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعلمكم بالله أشدكم خشية» (٣) ، قيل : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه (٤) ، وتقديم اسم الله وتأخيره العلماء يدل على أن الذين يخشون الله من عباده هم العلماء دون غيرهم ، وإذا انعكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله وهو خلاف الأول ، قوله (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [٢٨] تعليل لوجوب الخشية ، أي عزيز على قهر عصاته غفور لذنوب مطيعيه فحقه أي يخشى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩))

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يديمون على تلاوة القرآن ويعملون بما فيه (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) في مواقيتها (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) في طاعة الله (سِرًّا وَعَلانِيَةً) قوله (يَرْجُونَ تِجارَةً) خبر (إِنَّ) ، وال (تِجارَةً) طلب الثواب بالطاعة (لَنْ تَبُورَ) [٢٩] أي لن تهلك تلك التجارة في سبيل الله.

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

قوله (لِيُوَفِّيَهُمْ) متعلق ب (لَنْ تَبُورَ) ، أي لا تكسد بل تنفق (٥) عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده (أُجُورَهُمْ) وهي ثواب التلاوة والعمل بها سرا وعلانية (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) سوى ثوابها (إِنَّهُ غَفُورٌ) لهم ذنوبهم (شَكُورٌ) [٣٠] أي مثيب لأعمالهم.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١))

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي القرآن (هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) حال مؤكدة (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي لما تقدمه من الكتب (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) [٣١] أي إنه عالم بحقيقة حالك بصير بأفعالك فرآك أهلا من بين العباد بوحي هذا الكتاب المعجز الشاهد على سائر الكتب.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢))

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا) أي أعطينا (الْكِتابَ) أي القرآن بعد الوحي إليك (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) هم أمتك

__________________

(١) في تأدية المعنى ، ي : ـ ح و.

(٢) وأبقي ، وي : وبقي ، ح.

(٣) روى البخاري نحوه ، الأدب ، ٧٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٨٣.

(٤) قد أخذه المصنف عن الكشاف ، ٥ / ٨٣.

(٥) تنفق ، وي : ينفق ، ح.

٣٣٠

المسلمون يا محمد إكراما لهم بمعنى نورثه لهم إلى يوم القيامة ، لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ، أي خيارا عدلا للشهادة على غيرهم من الأمم (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو المجرم المرجاء لأمر الله ، وقدم ال (ظالِمٌ) للإيذان بكثرة الفاسقين منهم وغلبتهم (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا وهم قليل بالنسبة إليهم (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهو الذي سبق إلى الجنة بالأعمال الصالحة (بِإِذْنِ اللهِ) أي بتوفيقه وتيسيره وهم أقل من القليل (ذلِكَ) أي السبق بالخيرات (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [٣٢] من الله تعالى.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))

قوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من (الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الذي هو السبق بالخيرات وهو سبب في نيل الثواب ، فنزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب وإلا لما جاز الإبدال منه ، لأنهما جنسان مختلفان وفي ذكر ثواب السابقين بعد التقسيم والسكوت عن الآخرين ما فيه من وجوب الحذر عليهما ، فليحذر المقتصد وليهلك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح قبل أن يحال بينهما وبينها ، ويجوز أن يكون (جَنَّاتُ) مبتدأ ، خبره (يَدْخُلُونَها) معلوما ومجهولا (١)(يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسون في الجنة من حليت المرأة فهي حال (مِنْ أَساوِرَ) مِنْ) فيه تبعيض ، وقوله (مِنْ ذَهَبٍ) بيان ، أي يحلون بعض أساور من ذهب (وَلُؤْلُؤاً) بالجر وبالنصب (٢) عطفا على محل (مِنْ أَساوِرَ) ، روي : أن ذلك الذهب يكون في صفاء اللؤلؤ (٣) هذه حليتهم (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي في الجنة (حَرِيرٌ) [٣٣] محرم على الرجال في الدنيا.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤))

(وَقالُوا) بعد دخولهم الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وهو حزن المتقين من سوء العاقبة ، أي أزال عنا كل شيء يوجب الحزن لمعاد ومعاش كالنار والجوع وهم قوت من حلال وخوف الموت ووسوسة الشيطان وغير ذلك ، روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال (٤) : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في مسيرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» (٥) ، قوله (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) [٣٤] يدل على أن أهل الجنة كثير والحسنات.

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥))

ثم وصف الله بوصف آخر فقال (الَّذِي أَحَلَّنا) أي أنزلنا (دارَ الْمُقامَةِ) أي دار الإقامة ، مفعول ثان ل (أَحَلَّنا) لا ظرف لكونها محدودة (مِنْ فَضْلِهِ) أي بكرمه وتفضله (لا يَمَسُّنا) أي لا يصيبنا (فِيها نَصَبٌ) أي تعب ومشقة (وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [٣٥] أي إعياء وفتور ، وفيه زيادة مشقة لأنه نتيجة التعب.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦))

ثم بين حال الكافرين بتوحيد الله بقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ) بالموت (فَيَمُوتُوا) جواب النفي ونصبه باضمار «أن» ، أي فلا يموتون ، فموتهم دخل في حكم النفي (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ

__________________

(١) «يدخلونها» : قرأ البصري بضم الياء وفتح الخاء وغيره بفتح الياء وضم الخاء. البدور الزاهرة ، ٢٦٣.

(٢) «وَلُؤْلُؤاً» : قرأ المدنيان وعاصم بنصب الهمزة الأخيرة ، والباقون بجرها. البدور الزاهرة ، ٢٦٣.

(٣) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٨٥.

(٤) أنه قال ، ح : ـ وي.

(٥) انظر الكشاف ، ٥ / ٨٥. ذكر العجلوني نحوه في كشف الخفاء ، ٢ / ٢٢٢.

٣٣١

عَذابِها) محل (عَنْهُمْ) رفع بأنه فاعل (يُخَفَّفُ (كَذلِكَ) أي مثل ذلك الجزاء (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) [٣٦] معلوما مع نصب «كل» ، أي نعاقب كل كافر بالله ، وقرئ مجهولا ورفع (كُلَّ)(١) ، أي يعذب الكافرون عذابا شديدا.

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧))

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي يستغيثون في جهنم بالصياح مع شدة يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا) منها (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) وفائدة الوصف بقوله (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به لا أنهم يعملون عملا صالحا آخر غير ما عملوه من العمل الصالح ، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى (وَهُمْ يَحْسَبُونَ) أن (يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(٢) ، ثم أجابهم الله بقوله توبيخا (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي ألم نطل أعماركم وقتا يتذكر ، أي يتعظ فيه ويتوب من تذكر وتاب ، وهو ثماني عشرة سنة (٣) أو سبع عشرة (٤) أو ما بين البلوغ إلى الستين (٥)(وَ) قد (جاءَكُمُ النَّذِيرُ) وهو القرآن أو محمد أو الشيب ، وهو معطوف على معنى (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) ، أي قد عمرناكم وجاءكم النذير (فَذُوقُوا) العذاب (فَما لِلظَّالِمِينَ) أي الكافرين (مِنْ نَصِيرٍ) [٣٧] يدفعه.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨))

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما فيهما فيعلم أنهم لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، قوله (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [٣٨] كالتعليل ، لأنه لو علم ما في الصدور علم كل غيب في العالم ، لأن ذلك أخفى ما يكون والمراد (بِذاتِ الصُّدُورِ) مضمراتها وهي تأنيث ذو بمعنى الصاحب ، يعني تصحب المضمرات الصدور وهي القلوب فهي معها.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩))

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ) وهي جمع خليف ، أي قل يا محمد لكفار مكة الله الذي يخلف بعضكم بعضا وينزل منزله بعد موته (فِي الْأَرْضِ) أو المعنى : أنه جعلكم خلفاء في أرضه تملكون التصرف فيها ، وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة أو جعلكم خلفاءه لإقامة دينه (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي وباله (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بطول عمرهم في الدنيا (إِلَّا مَقْتاً) أي بغضا شديدا (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) [٣٩] أي خسار الآخرة الذي ليس بعده خسار وهو الغبن.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠))

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام ، وقوله (أَرُونِي) بدل من (أَرَأَيْتُمْ) ، لأنه معنى (أَرَأَيْتُمْ) أخبروني ، كأنه قال أخبروني من هؤلاء الشركاء (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله ، والمراد من الاستفهام نفي ذلك كله (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) مع الله (فِي)

__________________

(١) «نَجْزِي كُلَّ» : قرأ أبو عمرو بالياء التحتية المضمومة وفتح الزاي وألف بعدها ورفع لام «كل» ، والباقون بالنون المفتوحة ، وكسر الزاي وياء ساكنة مدية بعدها ونصب لام «كل». البدور الزاهرة ، ٢٦٣.

(٢) الكهف (١٨) ، ١٠٤.

(٣) عن عطاء وقتادة والكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٥٢٩.

(٤) هذا مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٨٦.

(٥) ذكر مجاهد نحوه ، انظر الكشاف ، ٥ / ٨٦.

٣٣٢

خلق (السَّماواتِ) يعينونه فيه (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) أي أم معهم كتاب أتيناه إياهم ينطق بأنهم شركاؤه (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي على حجة وبرهان من ذلك الكتاب يريد أنهم ليسوا عل بيان منه (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً) أي ما يعد الرؤساء الأتباع (إِلَّا غُرُوراً) [٤٠] أي باطلا أو ما يعد الشيطان الكافرين من شفاعة الأصنام لهم إلا باطلا.

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١))

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ) أي يأخذ بقدرته (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي كراهة أن تزولا أو معنى (يُمْسِكُ) يمنع ، أي يمنعها أن تزولا (وَلَئِنْ زالَتا) أي والله لئن زالت السموات والأرض من مقرهما (إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي ما يقدر أحد أن يمسكهما أحد من بعد إمساكه ، (مِنْ) الأولى زائدة والثانية ابتدائية ، والجملة المنفية سدت مسد جواب القسم والشرط (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [٤١] أي غير معاجل بالعقوبة حيث أمسكهما متجاوزا عن سيئاتهم بأن تابوا.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢))

قوله (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) نزل حين بلغ قريشا قبل مبعث النبي عليه‌السلام أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، فقالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم ، والله لئن آتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم ، فلما بعث النبي عليه‌السلام كذبوه فأخبره الله تعالى بذلك (١) ، ومعنى (أَقْسَمُوا) حلفوا كفار مكة (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي رسول ينذرهم (لَيَكُونُنَّ أَهْدى) أي أطوع (مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) من اليهود والنصارى وليس المراد منه إحدى الأمتين دون الأخرى ، بل المراد هما جميعا لشيوع إحدى فيهما وإنما لم يقل من الأمتين أو من الأمم ليعم جميع أفراد الأمتين ، لأن (إِحْدَى) تأنيث أحد ، فيكون المعنى أهدى من كل واحد من الأمم ، فلو ترك «إحدى» لجاز أن يراد بعض الأمم (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زادَهُمْ) مجيئه (إِلَّا نُفُوراً) [٤٢] عن الإيمان.

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣))

(اسْتِكْباراً) أي علوا (فِي الْأَرْضِ) ونصبه على الحالية أو العلية أو البدلية من (نُفُوراً) ، قوله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) بكسر الهمزة أو بسكونها منصوب عطف على (اسْتِكْباراً) أو على (نُفُوراً) أو إضافة ال (مَكْرَ) إلى (السَّيِّئِ)(٢) للاتساع لكونه وصفا للمفعول المطلق أجري مجرى المفعول به ، أصله أن مكروا السيء بمعنى المكر السيء على الوصف ، ثم أضيف ال (مَكْرَ) إلى (السَّيِّئِ) الذي هو وصف المفعول المطلق ، فقيل : (مَكْرَ السَّيِّئِ) فهو منقول من المكر السيء (٣) ، وهو كل عمل قبيح أو الشرك أو إرادة إهلاكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَحِيقُ) أي لا

__________________

(١) قد أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٨٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣١.

(٢) وَمَكْرَ السَّيِّئِ» : قرأ حمزة باسكان الهمزة وصلا ، والباقون بكسرها ، فاذا وقف عليه فلحمزة فيه وجه واحد وهو إبدال الهمزة ياء خالصة لسكونها وانكسار ما قبلها ، ولهشام ثلاثة أوجه : الأول كحمزة والثاني إبدالها ياء مكسورة مع روم حركتها والثالث تسهيلها بين بين مع الروم ، والباقون يقفون باسكان الهمزة ، ويجوز لهم روم حركتها. البدور الزاهرة ، ٢٦٤.

(٣) نقل المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٥ / ٨٧ ـ ٨٨.

٣٣٣

يحل ولا ينزل (الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي بالماكر ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» (١)(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي لا ينتظر هؤلاء إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن قبلهم من الكفار الذين كذبوا رسلهم (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) في نزول العذاب بهم (تَبْدِيلاً) من العذاب إلى الرحمة (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [٤٣] وهو نقل العذاب من المستحق إلى غير مستحقه ، المعنى : أن الله يفعل ما يشاء بعلمه ويحكم ما يريد بحكمته فلا يقدر أحد أن يغير فعله وحكمه.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤))

ثم وعظهم ليعتبروا بقوله (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي مشركو مكة (فِي الْأَرْضِ) من ديارهم إلى الشام والعراق واليمن للتجارة وغيرها (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ) مضوا (مِنْ قَبْلِهِمْ) بمشاهدة آثار ديارهم (٢) وهلاكهم لما كذبوا الرسل (وَ) قد (كانُوا) هم (أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فمع ذلك أهلكوا (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ) أي ليفوته (مِنْ شَيْءٍ) أي شيء بزيادة (مِنْ) للتأكيد ، يعني لا يقدر أحد أن يهرب من عذابه (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً) بخلقه (قَدِيرٌ أَ) [٤٤] عليهم بالعقوبة.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) أي بما عملوا من المعاصي (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي ظهر الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) أي نسمة تتحرك عليها ، والمراد بنو آدم (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو يوم القيامة (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) الموعود لهم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ) أي بأعمالهم (بَصِيراً) [٤٥] فيجازيهم بها وهو وعيد شديد بالجزاء للعباد.

__________________

(١) وقال الزمخشري في تفسيره : «وفي أمثال العرب : من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا». انظر الكشاف ، ٥ / ٨٨. وذكر العجلوني أيضا أنه من أمثال العرب ، انظر كشف الخفاء ، ٢ / ٣٢١. ولكن ذكره المفسر هنا حديثا. لعله نقله حديثا من مصدر آخر.

(٢) ديارهم ، ح ي : دمارهم ، و.

٣٣٤

سورة يس

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢))

قيل (يس) [١] معناه يا إنسان (١) أو يا محمد (٢) أو من فواتح السورة يفتتح به كلام رب العزة (٣) ، قرئ الياء بين الكسر والفتح وبالإمالة وبالفتح ، وقرئ يس (وَالْقُرْآنِ) بادغام النون في الواو مع الغنة وباظهارها (٤) والواو فيه (٥) واو القسم (٦) ، أقسم الله بالقرآن (الْحَكِيمِ) [٢] أي ذو الحكمة أو المحكم من العيب (٧) أو الحاكم بالحق على جميع الكتب المنزلة من قبله.

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥))

قوله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [٣] يا محمد جواب القسم ، وجواب لقولهم لست مرسلا ، قوله (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٤] جواب آخر أو صلة ل (الْمُرْسَلِينَ) أو خبر بعد خبر ، وهو طريق الإسلام وذكره بعد ذكر (الْمُرْسَلِينَ) الدال عليه لتعظيم شرعه يدل عليه تنكيره (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [٥] بالرفع ، أي القرآن منزل العزيز ، أي المنتقم ممن لم يصدقه ، الرحيم لمن صدقه وعمل بما فيه ، وبالنصب (٨) ، أي نزله تنزيلا.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦))

(لِتُنْذِرَ) أي لتخوف بالقرآن (قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ف (ما) نفي ، لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمراد آباؤهم الأدنون ، فتقديره : قوما غير منذر أباؤهم على الوصف ، وقيل : «ما» مصدرية أو

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٩٣ ؛ والبغوي ، ٤ / ٥٣٣ ؛ والكشاف ، ٥ / ٨٩.

(٢) عن محمد بن حنفية ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٩٣.

(٣) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٩٣.

(٤) وباظهارها ، ح : ـ وي.

(٥) فيه ، وي : فيها ، ح.

(٦) «يس وَالْقُرْآنِ» : سكت أبو جعفر على يا وسين سكتة لطيفة من غير تنفس ، ولا يخفى أنه يلزم من السكت على نون «يس» إظهارها ، وقرأ ورش والشامي وشعبة والكسائي ويعقوب وخلف في اختياره بادغام النون في الواو مع الغنة ، والباقون باظهارها ، ولا يخفى نقل والقرآن لابن كثير في الحالين ولحمزة في الوقف. البدور الزاهرة ، ٢٦٤.

(٧) العيب ، ح ي : الغيب ، و.

(٨) «تنزيل» : قرأ ابن عامر وحفص والأخوان وخلف بنصب اللام وغيرهم برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٦٥.

٣٣٥

موصولة ، تقديره : قوما إنذار آبائهم أو قوما الذي أنذر به آباؤهم من العذاب (١)(فَهُمْ غافِلُونَ) [٦] عن الرشد بسبب عدم إنذارهم أو غافلون عما أنذر آباؤهم.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧))

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) أي وجب القول بالعذاب وهو قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)(٢) ، لأنه علم موتهم على الكفر (عَلى أَكْثَرِهِمْ) وهم الكفار في علمه تعالى (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [٧] بالقرآن.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨))

قوله (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ) نزل لما حلف أبو جهل من بني مخزوم لئن رأيت محمدا يصلي لأدمغنه ، فأتاه وهو يصلي فرفع الحجر ليضربه فيبست يده على عنقه ، ورجع إلى أصحابه فخلصوا الحجر من يده ، ثم جاء رجل من بني المغيرة ليقتله فطمس الله على بصره ولم ير النبي عليه‌السلام (٣) ، فقال الله إنا جعلنا في أعناقهم (أَغْلالاً) أي جعلنا أيديهم ممسكة بأعناقهم كالأغلال (فَهِيَ) أي تلك الأغلال مجتمعة (إِلَى الْأَذْقانِ) أي مع الأذقان ، يعني ملزوقة (٤) فمنعت رؤوسهم من الانخفاض (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) [٨] أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم ، لأن عمود الغل في عنق المغلول يدخل تحت ذقنه فيمنع خفض رأسه.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩))

ثم قال (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) أي ظلمة بالعمي (وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) كذلك ، قرئ بفتح السين والضم فيهما (٥)(فَأَغْشَيْناهُمْ) أي غطينا أبصارهم بالظلمة (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [٩] محمدا عليه‌السلام حيث أرادوه بالسوء ، وقيل : معنى (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) إلى قوله (لا يُبْصِرُونَ) إنا منعنا أيديهم ممسكة عن كل خير وقلوبهم عن الإيمان مجازاة لكفرهم (٦) ، وجعلنا من بين أيديهم حائلا وهو طول الأمل ومن خلفهم حائلا وهو الغفلة عن سابق الجنايات ، فأعمينا بصائرهم عن الهدى فهم لا يبصرون سبيل الهداية وهو الإسلام.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠))

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) أي خوفتهم (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) أي أو لم تخوفهم (لا يُؤْمِنُونَ) [١٠] أي لا يصدقون بالقرآن ، قيل : نزلت الآية في شأن الذين ماتوا أو قتلوا على الكفر (٧).

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١))

(إِنَّما تُنْذِرُ) أي تخوف وينفع إنذارك غيرهم وهو (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي القرآن وعمل بما فيه (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي أطاعه في الغيب (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) في الدنيا (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) [١١] في الآخرة وهو الجنة.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢))

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي نبعثهم يوم القيامة (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي نكتب في اللوح ما أسلفوا من أعملاهم ليجازوا به (وَآثارَهُمْ) أي ونكتب آثارهم وهي ما سنوا وعملوا من سنة خير كصدقة وحج وتصنيف

__________________

(١) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٥ / ٨٩.

(٢) هود (١١) ، ١١٩ ؛ السجدة (٣٢) ، ١٣.

(٣) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٩٣ ـ ٩٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣٣.

(٤) ملزقة ، و : ملزوفة ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٩٠.

(٥) «سدا» معا : فتح السين فيهما حفص والأخوان وخلف ، وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٦٥.

(٦) نقل المؤلف هذا المعنى عن السمرقندي ، ٣ / ٩٤.

(٧) قد أخذه عن السمرقندي ، ٣ / ٩٤.

٣٣٦

كتاب وإصلاح بين الناس أو من سنة شر كزنا وسرقة وقتل نفس بغير حق ، فاقتدى بهم من بعدهم ولهم مثل أجورهم أو عليهم مثل أوزارهم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن سنة حسنة يعمل بها من بعده كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» (١) الحديث ، وقيل : الآثار خطأهم إلى المساجد (٢) ، روي : «أنه ما خطا عبد خطوة إلا كتبت له بها حسنة أو سيئة» (٣)(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) أي حفظناه (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) [١٢] أي في اللوح المحفوظ.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣))

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) أي بين (مَثَلاً) أي شبها للمشركين (أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) أي مثل أصحاب القرية وهي أنطاكية ، و «إذ» بدل من «أحصاب» و «إذ» الثانية بدل من الأولى في قوله (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) [١٣] وهم رسل عيسى عليه‌السلام.

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤))

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) أي إلى أنطاكية ليدعوهم إلى الإسلام وهما ثومان وبالوس ، فلما قربا منها رأيا شيخا وهو حبيب النجار فأخبراه خبرهما ، وكان يرعى غنما له فقال : هل من آية لكما؟ فقالا : نبرئ الأكمه والأبرص والمريض ، وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فقام صحيحا فآمن حبيب ، فبلغ الخبر إلى ملك أنطاكية فدعاهما فقال لهما : لم جئتما؟ قالا : ندعوك إلى عبادة الرحمن فقال : ألنا رب غير آلهتنا؟ قالا : نعم هو من أوجدك وآلهتك فمن آمن به دخل الجنة وأمن من العذاب ومن لم يؤمن به ومات دخل النار وعذب فيها أبدا فقال : قوما حتى انظر في أمركما فذهبا عنه فتبعهما الناس (٤)(فَكَذَّبُوهُما) فضربوهما وحبسوهما (فَعَزَّزْنا) بالتخفيف ، أي غلبنا أهل أنطاكية ، وبالتشديد (٥) بمعنى قوينا المرسلين (بِثالِثٍ) أي برسول ثالث وإنما ترك ذكر المفعول به ، لأن الغرض ذكر المعزز به وهو شمعون بعثه عيسى عليه‌السلام بعد بعث الرسولين تقوية لهما ، فدخل منكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ، وكان يدخل معهم إلى الصنم فيصلي ويتضرع مثلهم ويحسبون أنه منهم ورفعوا خبره إلى الملك فآنس به ، فقال له شمعون : بلغني أنك حبست رجلين يدعوانك إلى إله غير إلهك فهل لك أن تدعوهما فأسمع كلامهما وأخاصمهما عنك فدعاهما وأقيما بين يدي الملك ، فقال شمعون : من أرسلكما؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك ، قال : ما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك فدعا بغلام ولد أعمى فدعوا الله تعالى فأبصر الأعمى ، فقال له شمعون : أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله شرف ، قال : ليس لي عنك سر أن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ، ثم قال شمعون لهما : إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فحيى وقام فقال : فتحت أبواب السماء فرأيت شابا أحسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة فقال الملك : من هم؟ قال : شمعون وهذان فتعجب الملك ، فلما رأى شمعون أن قول الغلام أثر فيه نصحه فآمن وآمن معه قوم من أصحاب ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبرائيل عليه‌السلام صيحة فهلكوا (٦)(فَقالُوا) أي رسل عيسى عليه‌السلام بعد تقويتهم الثالث (إِنَّا إِلَيْكُمْ) يا أهل أنطاكية (مُرْسَلُونَ) [١٤] من الله فآمنوا به.

__________________

(١) رواه أحمد بن حنبل ، ٤ / ٣٦١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣٤.

(٢) ذكر مجاهد نحوه ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٩٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣٤ ؛ والكشاف ، ٥ / ٩١.

(٣) عن مسروق ، انظر السمرقندي ، ٣ / ٩٥.

(٤) اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٣٥.

(٥) «فعززنا» : قرأ شعبة بتخفيف الزاي الأولى ، والباقون بتشديدها. البدور الزاهرة ، ٢٦٥.

(٦) نقله عن الكشاف ، ٥ / ٩١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣٦.

٣٣٧

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥))

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أو الرسول لا يكون من الآدميين (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) على بشر (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) [١٥] أنكم رسل الله.

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦))

(قالُوا) أي الرسل (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) [١٦] أرسلنا عيسى بأمر الله تعالى ، قوله (رَبُّنا يَعْلَمُ) جار مجرى القسم في التوكيد ، وكذلك علم الله وشهد الله ، وزيد اللام في (لَمُرْسَلُونَ) دون الأول ، لأنه جواب إنكار والأول ابتداء إخبار.

(وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧))

(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [١٧] أي التبليغ الظاهر المكشوف بالآيات الشاهدة على صحته.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))

(قالُوا) أي قال (١) أهل أنطاكية (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشأمنا لحبس المطر عنا بسببكم (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عن مقالتكم (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي لنقتلنكم بالحجارة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ [١٨] قالُوا) أي الرسل (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي شؤمكم وهو كفركم ومعاصيكم معكم ، وقيل : ما أصابكم مكتوب في أعناقكم (٢)(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) بهمزتين استفهام وشرط ، وبهمزة واحدة مع الكسر (٣) ، أي ائن وعظتم بالله تشأمتم بنا أو كفرتم بالله (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) [١٩] أي مشركون به تعالى أو متمادون في ضلالتهم حيث تشأمون برسل الله.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢))

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ) أي من أوساطها (رَجُلٌ) وهو حبيب النجار (يَسْعى) أي يشتد عدوا ليعلم الرسل أن أهلها أرادوا قتلهم ثم (قالَ) أي حبيب (٤) لقومه (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [٢٠] أي دينهم ثم قال حبيب للرسل : هل تسألون على هذا (٥) الإنذار أجرا؟ قالوا : لا فقال لقومه (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) على الإنذار والإيمان (وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٢١]) أي هم في دين الحق ينبغي أن تتبوعوه ، فقالوا له تبرأت عن ديننا واتعبت دين غيرنا وكان حبيب يكتم إيمانه ، فقال لهم عاتبا على نفسه وناصحا لها وهو يريد نصحهم بالتلطف والمداراة لأنه أدخل في إمخاض النصيحة حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه (وَما لِيَ) بسكون الياء وبالفتح (٦) ، أي أي شيء كان لي (لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي خلقني للعباد (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [٢٢] بعد الموت فيجازيكم ، فوضع

__________________

(١) قال ، و : ـ ح ي.

(٢) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٩٧.

(٣) «أئن» : قرأ أبو جعفر بفتح الهمزة الثانية وتسهيلها وإدخال ألف بينها وبين الأولى على أصله ، والباقون بكسرها ، وكل على أصله في التسهيل وغيره ، فقالون وأبو عمرو بالتسهيل مع الإدخال ، وورش والمكي ورويس بالتسهيل من غير إدخال وهشام بالتحقيق مع الإدخال وتركه ، والباقون بالتحقيق من غير إدخال. البدور الزاهرة ، ٢٦٥.

(٤) أي حبيب ، و : ـ ح ي.

(٥) هذا ، ح و : ـ ي.

(٦) «وَما لِيَ» : أسكن الياء في الحالين حمزة وخلف ويعقوب وفتحها غيرهم وصلا وأسكنها وقفا. البدور الزاهرة ، ٢٦٥.

٣٣٨

مكان قوله وما لكم لا تعبدون الذي فطركم (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ، ألا ترى إلى قوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولو لا قصده ذلك لقال وإليه أرجع.

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣))

ثم قال حبيب بالاستفهام الإنكاري (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (آلِهَةً) أي أصناما (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ) أي ببلاء إن فعلت ذلك (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) أي شفاعة الأصنام (شَيْئاً) يعني لا يقدرون أن يدفعوا عني الضر (وَلا يُنْقِذُونِ) [٢٣] من مكروه ما.

(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥))

(إِنِّي إِذاً) أي حينئذ (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٢٤] أي إني لو عبدت غير الله لكنت في خسران بين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) [٢٥] أي فشهدوني أو اسمعوا قولي ، فامنوا أنتم به بقول لا إله إلا الله كما آمنت به.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) استئناف كلام ، كأن قائلا قال سائلا عن حاله عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في نصر دينه كيف كان لقاء ربه ، فقيل : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ولم يقل «قيل له» ، لأن الغرض ذكر المقول به لا المقول له (١) ، روي : «أنهم رجموه وهو يقول رب اهد قومي» (٢) ، وقيل : «أدخله الله الجنة حيا يرزق فيها» (٣) ، وقيل : «مات فذهب بروحه إلى الجنة» (٤) ، فقيل لها ادخلي الجنة فدخلها و (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ [٢٦] بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) أي بماذا غفرلي أو بمغفرتي أو بالذي غفرلي (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [٢٧] ليؤمنوا ، أي لو علموا لآمنوا بالرسل.

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨))

ثم قال تعالى (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ) أي قوم حبيب (مِنْ بَعْدِهِ) أي من (٥) بعد موت حبيب (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي الملائكة لهلاكهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) [٢٨] أي ما كان في حكمتنا أن ننزل ملائكة لتعذيب أحد من قومه بعد هلاكهم.

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩))

(إِنْ كانَتْ) أي ما كانت عقوبتهم وهلاكهم (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهي (٦) صيحة جبرائيل عليه‌السلام (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) [٢٩] أي ميتون لا يتحركون من خمود النار (٧) وهو طفؤ لهبها ، يعني ما عذبناهم كتعذيبنا المكذبين قبلهم ، وإنما أنزل الملائكة يوم بدر والخندق مع كفاية صيحة من جبرائيل لتفضيل محمد عليه‌السلام على كبار الأنبياء بكل شيء من أسبابه ، يعني وما كنا منزلين جندا من السماء لغيرك وإنما يؤهل له مثلك.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠))

قوله (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) بيان حال استهزائهم بالرسل ، أي يقال يوم القيامة يا حرسة وندامة على الكفار حيث لم يؤمنوا برسلهم ، ونصب (حَسْرَةً) بالنداء ، أي يا حسرة أحضري فهذا وقتك ، وقيل : يقول الكفار يا

__________________

(١) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٥ / ٩٣.

(٢) عن السدي ، انظر البغوي ، ٤ / ٥٣٩.

(٣) عن قتادة ، انظر الكشاف ، ٥ / ٩٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣٩.

(٤) قال الحسن نحوه ، انظر البيضاوي ، ٢ / ٢٨٠.

(٥) من ، و : ـ ح ي.

(٦) وهي ، وي : وهو ، ح.

(٧) من خمود النار ، وي : ـ ح.

٣٣٩

شدة ندامتنا على الرسل حيث لم نؤمن بهم (١)(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) في الدنيا (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٣٠] وهو تفسير لسبب الحسرة النازلة لهم.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١))

قوله (أَلَمْ يَرَوْا) وعيد للمشركين في مكة بمثل عذاب الأمم الماضية ليعتبروا ، أي ألم يعلموا (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) الماضية وهو معلق عن العمل لفظا في (كَمْ) استفهاما كانت أو خبرا ، بل العامل فيها (أَهْلَكْنا) إلا أنه مؤثر في الجملة معنى (٢) ، أي ألم يروا كثرة المكذبين (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ) أي إلى المكيين (لا يَرْجِعُونَ) [٣١] بعد هلاكهم أفلا يعتبرون ف (أَنَّهُمْ) بدل من (كَمْ أَهْلَكْنا) على المعنى لا على اللفظ.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ) أي ما كل الخلائق إلا مجتمعون (لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [٣٢] للحساب ، وجمع بين (كُلٌّ) و (جَمِيعٌ) ، لأن كلا يفيد الإحاطة دون الاجتماع.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣))

قوله (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) تذكير لهم كي يعتبروا في صنعه فيعرفوا توحيده ، أي علامة وحدانية الله تعالى لهم الأرض اليابسة (أَحْيَيْناها) بالماء فتنبت (٣)(وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) أي الحبوب كلها كالحنطة (فَمِنْهُ) أي من الحب (يَأْكُلُونَ) [٣٣] وذكر الحب دون غيره ، لأنه أكثر المطالب من نبات الأرض عندهم.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤))

(وَجَعَلْنا فِيها) أي خلقنا في الأرض (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها) أي أجرينا في الأرض (مِنَ الْعُيُونِ) [٣٤] أي الأنهار الخارجة من العيون.

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥))

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) أي من ثمر النخيل الحاصل بالماء أو من ثمر الله (وَما عَمِلَتْهُ) أي لم تعمله (أَيْدِيهِمْ) لأنهم لا يقدرون على خلقه ، ف (ما) نفي أو الذي عملته أيديهم من الغرس والإصلاح إلى أو ان أكله ف «ما» موصولة ، وقرئ بحذف الهاء (٤)(أَفَلا يَشْكُرُونَ) [٣٥] نعم الله تعالى عليهم ويوحدونه.

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ) أي أصناف (كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من الثمار والنبات والحبوب (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) من الذكور والإناث والألوان المختلفة (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [٣٦] من الأشياء المخلوقة العجيبة التي لم يطلعهم الله عليها من الجماد والحيوان ، إذ علمها لا ينبغي لهم في دينهم ودنياهم.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧))

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ) أي وعلامة أخرى لهم في علم وحدانية الله تعالى الليل (نَسْلَخُ) أي نكشط ونخرج (مِنْهُ النَّهارَ) يعني نميزه (٥) منه كتمييز جلد الشاة عنها (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) [٣٧] أي داخلون في الظلمة.

__________________

(١) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٤٠.

(٢) معنى ، ح : ـ وي.

(٣) فتنبت ، وي : فينبت ، ح.

(٤) «عملته» : قرأ شعبة والأخوان وخلف بحذف هاء الضمير ، والباقون باثباتها. البدور الزاهرة ، ٢٦٦.

(٥) نميزه ، ح : نميز ، وي.

٣٤٠