عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

اللهِ كَذِباً) [١٥] بنسبة الشريك إليه تعالى ، فأخذهم وسلمهم إلى آبائهم ليحفظوهم حبسا إلى أن يطلبهم ، ثم هربوا منهم إلى الكهف ومروا بكلب في الطريق ، وقيل : مروا براع له كلب فتبعهم على دينهم فطردوا الكلب فأنطقه الله ، فقال أنا أحب من يحب الله وأنا أحرسكم (١) ، فتركوه ومشوا قائلين في طريقهم (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) يعني قال بعض الفتية لبعض إذ تركتموهم (٢) ، أي الكافرين (وَما يَعْبُدُونَ) أي ومعبوديهم (إِلَّا اللهَ) استثناء متصل ، لأنه داخل فيما بعبدون ، روي : أنهم كانوا يقرون بالله ويشركون به (٣) ، قوله (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) مقول للفتية ، أي التجؤا بالفرار بدينكم إلى الكهف ، والفاء في جواب «إذ» ، وجواب الأمر (يَنْشُرْ لَكُمْ) أي يفض عليكم (رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) ويعدكم من أعدائكم (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) [١٦] بكسر الميم وفتح الفاء ، وبالعكس (٤) ما يرتفق به ، أي ينتفع ، المعنى : يجعل لكم سهولة بدل الصعوبة ، قالوا ذلك ثقة بفضل الله وتوكلا عليه ، قيل : كان بعضهم نبيا بقوله لهم (٥) ، ثم ذهب آباؤهم إلى الملك وأخبروه أنهم هربوا من عندهم فتبعهم الملك والناس معه حتى انتهوا إلى باب الكهف ، فوجدوا آثارهم داخلين فيه فدخلوا الكهف فلم يجدوا شيئا لما أعمى الله تعالى عليهم ، فقال الملك : سدوا عليهم باب الكهف ليموتوا من الجوع ، فيكون قبورهم ثم انصرف الملك والناس معه إلى المدينة ، فكتب رجلان مسلمان يكتمان إيمانهما أسماءهم وأسماء آبائهم واسم مدينتهم وفرارهم من دقيانوس الملك الكافر في لوح من رصاص ، فألزقاه من داخل الكهف فمن ظهر عليهم يعلم به أنهم مسلمون.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧))

(وَتَرَى الشَّمْسَ) يا محمد أو يا إنسان (إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ) بالرفع مع التشديد ، أصله تتزاور أي تعدل وتميل ، وقرئ «تزور» من ازور و «تزاور» بالتخفيف (٦) ، والمعنى في كله واحد وهو الميل (عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أي جهة يمين الكهف وهو ظرف ل «تزاور» (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي تقعهم مجاورة لهم (ذاتَ الشِّمالِ) يعني تتركهم وتعدل عنهم جهة شمال الكهف ، قيل : كان كهفهم بازاء بنات نعش ، ولذلك لا تقع عليهم الشمس (٧) ، وقيل : إن هذا القول خطأ ، لأن الله تعالى صرف عنهم الشمس بقدرته وحال بينها وبينهم إكراما لهم (٨) ، فعلى هذا يكون كهفهم نحو المشرق (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ) أي في متسع (مِنْهُ) أي من الكهف يصل إليهم النسيم ويرتفع عنهم وخامة الغار ولا تصل إليهم الشمس عن طلوع وغروب (ذلِكَ) أي ما ذكر من حال كهفهم من أن الشمس تصيبه ولا تصيبهم كرامة من الله لهم أو شأنهم وحديثهم (مِنْ آياتِ اللهِ) الدالة على قدرته تعالى (٩) ، ثم مدحهم فقال (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) بحذف الياء وإثباتها وصلا (١٠) بأنهم قد جاهدوا في الله وأسلموا له فأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة السنية ، أي من يهده الله ويسلك طريقهم فهو الذي أصاب الفلاح واهتدى وأخلص في إيمانه ، ثم ذم من خالفهم فقال (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي يضلله تعالى بخذلانه (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) [١٧] أي من يليه ويرشده إلى فلاحه بعد خذلان الله إياه.

__________________

(١) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٩١.

(٢) لو تركتموهم ، ي : إذ تركتموهم ، ح : إذ اعتزلتموهم ، و؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٢٩٣.

(٣) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٥٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢٠٠.

(٤) «مرفقا» : قرأ المدنيان والشامي بفتح الميم وكسر الفاء ، والباقون بكسر الميم وفتح الفاء. البدور الزاهرة ، ١٩٠.

(٥) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

(٦) «تزاور» : قرأ الشامي ويعقوب باسكان الزاي وتشديد الراء من غير ألف مثل تحمر ، وعاصم والأخوان وخلف بفتح الزاي مخففة وألف بعدها وتخفيف الراء ، والباقون كذلك إلا أنهم شددوا الزاي. البدور الزاهرة ، ١٩١.

(٧) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٥٤ ، ٥٥٥.

(٨) أخذه عن البغوي ، ٣ / ٥٥٥.

(٩) تعالى ، و : ـ ح ي.

(١٠) «المهتد» : قرأ المدنيان وأبو عمرو باثبات الياء وصلا ، ويعقوب في الحالين ، والباقون بحذفها كذلك. البدور الزاهرة ، ١٨٨.

٤١

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً) أي منتبهين (وَهُمْ رُقُودٌ) جمع راقد ، أي نيام ، لأن أعينهم كانت مفتحة لئلا تذوب (١) ، فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا ، وهي جمع يقظ ، أي متيقظ (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) ويتنفسون مع ذلك ولا يتكلمون ، قيل : «لهم تقلبان في السنة» (٢) أو تقلب واحد في يوم عاشوراء (٣)(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل ماضيا ، وإذا أضيف كانت إضافته حقيقية معرفة نحو غلام زيد إلا إذا نويت حكاية الحال الماضية ، ومعناه ماد يديه (بِالْوَصِيدِ) وهو الباب أو الفناء أو العتبة وهو مثلهم في النوم واليقظة التقلب (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي لو نظرت إليهم يا محمد (لَوَلَّيْتَ) أي لرجعت خوفا (مِنْهُمْ فِراراً) مصدر بمعنى الفاعل ، أي هاربا (وَلَمُلِئْتَ) مثقلا ومخففا (٤) ، أي لامتلأت (مِنْهُمْ رُعْباً) [١٨] وهو الخوف الذي يملأ الصدر ، قيل : ذلك لوحشة مكانهم (٥) ، وقيل : لما ألبسهم الله من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيوقظهم الله بقدرته من رقدتهم (٦) ، وقيل : دخل قوم في زمان معاوية لينظروا إليهم فبعث الله تعالى ريحا فأحرقتهم (٧).

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩))

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي كما أنمناهم تلك النومة بقدرتنا مثل ذلك أيقظناهم (٨) من نومهم جياعا (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) عن حالهم ، أي ليسأل بعضهم بعضا ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويزدادوا يقينا ويشكروا على ما كرموا به ، واللام لام العاقبة ، لأنهم لم يبعثوا للسؤال (٩)(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) وهو رئيسهم مكسلمينا (كَمْ لَبِثْتُمْ) أي نومكم هذا (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً) لأنهم (١٠) دخلوا الغار عند طلوع الشمس وتساءلون عند غروبها ، فلما رأوا بقية منها قالوا (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ظنا منهم أنه اليوم المدخول فيه ، فلما لم يتيقنوا مدة لبثهم (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) وهو إنكار من بعضهم عليهم لما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم فاستيقنوا أنهم لبثوا أكثر من يوم ، وقالوا (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) بفتح الواو وكسر الراء ، وبسكون الراء أيضا (١١) ، كأن بعضهم قال : ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه ، فاتركوه واشتغلوا بما يهمكم فابعثوا ، أي أرسلوا واحدا منكم بفضتكم (هذِهِ) المعدة للنفقة ، والورق بسكون الراء مع الفتح والضم والكسر على الواو مع فتح الواو وكسر الراء الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة (إِلَى الْمَدِينَةِ) وهي التي خرجوا منها ، واسمها أفسوس والآن طرسوس (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها)(١٢)(أَزْكى) مبتدأ وخبر ، أي أي أهلها (١٣) أحل (طَعاماً) لأنه كان فيهم من يذبح لغير الله (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ) أي بشيء (مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ) أي ليتكلف اللطف في أمر المبالغة حتى لا يغبن أو في أمر التخفى في ذهابه وإيابه حتى لا يعرف (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) [١٩] أي لا يفعلن شيئا يؤدي إلى الشعور بنا.

__________________

(١) تذوب ، ح ي : يذوب ، و.

(٢) عن أبي هريرة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٥٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢٠٠.

(٣) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥٥٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢٠٠.

(٤) «ولملئت» : شدد اللام المدنيان والمكي وخففها غيرهم وأبدل همزه في الحالين السوسي وأبو جعفر وفي الوقف حمزة. البدور الزاهرة ، ١٩١.

(٥) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٢٠١.

(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٧) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٩٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٥٦.

(٨) أيقظناهم ، ح ي : ـ و.

(٩) للسؤال ، وي : للسول ، ح.

(١٠) قد ، + ي.

(١١) «بورقكم» : أسكن الراء البصري وشعبة وحمزة وخلف وروح ، وكسرها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٩١.

(١٢) أي أي أهلها ، + ح.

(١٣) أي أي أهلها ، وي : ـ ح.

٤٢

(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))

(إِنَّهُمْ) أي قومك (إِنْ يَظْهَرُوا) أي يطلعوا (عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ) أي يقتلوكم بالأحجار وكان ذلك عادتهم (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي في كفرهم بالإكراه (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) [٢٠] إن فعلتم ذلك فدفعوا الورق إلى يمليخا فدخل في طريق المدينة فأشكل عليه لتغيره ، فقال : لعل هذه غير تلك المدينة فسأل إنسانا فقال : إنهما أفسوس ، فقال : لقد تغير عقلي فلم أعرفها ، فلما دخلها يمشي بين ظهري سوقها فسمع ناسا يحلفون باسم عيسى ابن مريم فبقي حيران فقام مستندا إلى جدار من جدر المدينة يقول في نفسه كان أمس (١) من يذكر عيسى ابن مريم قتل ، واليوم كل إنسان يذكره ولا يخاف ، فقال في نفسه أيضا والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن أفطن بي لكنت أكيس ، فجاء إلى خباز ودفع إليه الدرهم فأنكره ، وقال من أين لك هذا؟ وكان من ضرب دقيانوس فاجتمع عليه (٢) الناس واتهموه بأنه وجد كنزا ففرق فرقا شديدا يرتعد ، فذهبوا به إلى الملك ، وكان مسلما اسمه يستفاد الملك ، فقص عليه القصة فذهب الملك مع أهل المدينة فأبصروهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث ، ثم قال الفتية للملك رح عنا نستودعك الله ونعيذك به من شر الناس والجن.

(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

ثم رجعوا إلى مضاجعهم وأماتهم الله فألقى الملك عليهم ثيابه ، وأمر ببناء المسجد على باب الكهف فأخبر تعالى عن ذلك بقوله (وَكَذلِكَ) أي كما أنمناهم وأيقظناهم لحكمة لنا (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي أطلعنا الناس على حال الفتية لحكمة أيضا ، وهي قوله (لِيَعْلَمُوا) أي ليعلم قومهم المطلعون على حالهم (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث (حَقٌّ) لا خلف فيه (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعده كحال من يموت ثم يبعث ، قيل : سيحييهم الله تعالى في زمان عيسى عليه‌السلام ويكونون مقدمة عسكره ناصرين لدين الإسلام معه (٣) ، قوله (إِذْ يَتَنازَعُونَ) متعلق ب (أَعْثَرْنا) ، أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون ، أي المسلمون والكافرون (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أمر دينهم وكان ذلك قبل أن يبعث أصحاب الكهف من منامهم وبعد أن ملك المدينة الملك الصالح ، روي : أن أهل مملكته كانوا يتنازعون فيما بينهم في الدين ويختلفون في حقيقة البعث ، وكان (٤) بعضهم قائلا ببعث (٥) الأرواح دون الأجساد ، وبعضهم قائلا ببعث (٦) الأجساد مع الأرواح ، فدخل الملك يوما بيته وأغلق بابه ولبس مسحا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يظهر الحق فألقى الله في نفس راع هدم سد باب الكهف ليجعل حظيرة لغنمه ، فأيقظهم الله من نومهم ليرتفع الخلاف ، وقيل : كانوا يتنازعون في أمر الفتية من الإسلام والكفر قبل الاطلاع على حالهم (٧)(فَقالُوا) أي المسلمون بعضهم لبعض ممن أطلعهم الله على حالهم (ابْنُوا عَلَيْهِمْ) أي على باب الكهف (بُنْياناً) يسترهم عن العيوب ، لأنهم كانوا على ديننا ، وقال الكافرون بل نحن نبني عليهم ، لأنهم كانوا على ديننا وذلك القول حين توفى الله أصحاب الكهف ، وأرادوا أن يحافظوا تربتهم عن تطرق الناس إليهم ، فلما لم يتحقق المتنازعون أمرهم من المسلمين والكافرين الذين لم يطلعهم الله على حالهم قالوا (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) أي أمر الفتية من المسلمين الذين اطلعوا على حالهم مع ملكهم ، وهو أولى بالبناء عليهم (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ) أي على باب الكهف (مَسْجِداً) [٢١] يصلى فيه المسلمون تبركا بمكانهم.

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢))

__________________

(١) أمس ، ح ي : أمر ، و.

(٢) عليه ، و : إليه ، ح ي.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٤) وكان ، ح ي : فكان ، و.

(٥) ببعث ، وي : لبعث ، ح.

(٦) ببعث ، وي : لبعث ، ح.

(٧) لعل المصنف اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٢٩٥.

٤٣

(سَيَقُولُونَ) الضمير فيه لمن خاض في قصتهم من أهل الكتاب السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران ، فانهما اختلفا مع المؤمنين في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأل المؤمنون خبرهم عن النبي عليه‌السلام ، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه (١) فيهم ، فنزل الآية إخبارا بما سيجري بينهم من تنازعهم في عدد الفتية بأن يعضهم يقولون ، يعني السيد وأصحابه : هم (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ) بعضهم (يَقُولُونَ) يعني العاقب وأصحابه : هم (خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي ظنا به أو رميا بالخبر الخفي من غير يقين (وَ) بأن المصيبين منهم ، يعني المؤمنين هم الذين (يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) اسمه قطمير أو فرفرين ، ولونه خلنج أو أبلق (٢) ، روي : أنه يكون معهم في الجنة (٣) ، وأدخل السين في الفعل الأول دون الآخيرين اكتفاء بعطفهما عليه ، فيدخلان في حكم السين ، والواو في (وَثامِنُهُمْ) ، قيل : هي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة ، وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت متحقق والإيذان بأن هذا العدد المذكور بعدها هو الحق خاصة دون العددين قبله (٤) ، والذين قالوه لم يرجموا بالظن بل قالوه عن علم وطمأنينة نفس ، ويدل عليه قوله في الأولين (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ، وفي الأخير (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) من الناس ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : «أنا من القليل» (٥)(فَلا تُمارِ فِيهِمْ) أي فلا تجادل يا محمد في أهل الكهف مع أهل الكتاب (إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي جدالا ظهر لك بالوحي ولا تزد عليه من تجهيل وتعنيف بهم في الرد عليهم (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) [٢٢] أي لا تطلب الفتوى في أهل الكهف من أحد من اليهود ، لأنك عالم بحالهم ، فلا تسألهم سؤال استرشاد ، لأن الله تعالى قد عرفك الحق منهم بالوحي إليك ولا سؤال تعنت لأحد منهم ، لأنه خلاف المداراة به بأن يقول شيئا فترده عليه.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣))

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ) أي لأي شيء تعزم عليه (إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ) الشيء (غَداً) [٢٣] أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة.

(إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

قوله (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من النهي لا من قوله (إِنِّي فاعِلٌ) ، أي لا تقولن أفعل ذلك في حال إلا ملتبسا بمشية الله ، أي قائلا إن شاء الله ، وقيل معناه (٦) : إلا بأن (٧) يأذن لك الله فيه ، وهذا نهي تأدب له ، نزل حين قال لهم ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن (٨) ، وقد ذكرناه آنفا (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) أي مشية ربك أو معناه : قل إن شاء الله واذكره بالتسبيح والاستغفار (إِذا نَسِيتَ) كلمة الاستثناء ، ثم تنبهت عليها أو اذكره إذا نسيت شيئا ما لتذكره (٩) ، وأكثر الفقهاء لا يجوز الاستثناء حتى يكون متصلا ، وقيل : «يجوز إلى سنة» (١٠) ، وهو قول ابن عباس (١١) ، وقيل : «ما دام في المجلس» (١٢) ، وهو قول الحسن رضي الله عنه ، قوله (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ) بيان لقوله (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، يعني اذكر (١٣) ربك عند نسيان شيء أن تقول عسى أن يرشدني ربي إلى شيء آخر بدل المنسي

__________________

(١) إليه ، ح و : إليهم ، ي.

(٢) وقال ابن كثير : «وقد ذكر كثير من القصاص والمفسرين لهذا الكلب نبأ وخبرا طويلا أكثره متلقى من الإسرائيليات ، وكثير منها كذب ومما لا فائدة فيه كاختلافهم في اسمه ولونه». انظر البداية والنهاية ، ٢ / ١٠٥. وقال في تفسيره : «وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران ، وفي تسميتهم بهده الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته ، والله أعلم ، فان غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب ... فان الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة». انظر تفسير القرآن العظيم ، ٥ / ١٤٤.

(٣) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٢٩٥.

(٤) اختصره المفسر من الكشاف ، ٣ / ٢٠٣.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٥٥٩.

(٦) وقيل معناه ، وي : يعني ، ح.

(٧) بأن ، ح و : أن ، ي.

(٨) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٤.

(٩) لتذكره ، ح و : ليذكره ، ي.

(١٠) انظر البغوي ، ٣ / ٥٦٠.

(١١) وهو قول ابن عباس ، و : ـ ح ي.

(١٢) انظر البغوي ، ٣ / ٥٦٠.

(١٣) اذكر ، ح ي : ذكر ، و.

٤٤

أقرب (مِنْ هذا) أي من بناء أهل الكهف وغيره (رَشَداً) [٢٤] أي خيرا ومنفعة ، فاللام في (لِأَقْرَبَ) بمعنى «إلى».

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))

قوله (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ) الآية بيان لما أجمله في قوله «فضربنا عليهم في الكهف سنين عددا» ، أي ولبثوا أحياء نياما في كهفهم (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) قيل : (سِنِينَ) بدل من (ثَلاثَ) أو من (مِائَةٍ) بمعنى مئين أو عطف بيان لا تمييز وإلا لكان أقل مدة لبثهم عند الخليل ستمائة سنة ، لأن أقل الجمع عنده اثنان وعند غيره تسعمائة (١) ، لأن أقله ثلاثة عندهم هذا على قراءة «مائة» بالتنوين (٢) ، وأما على قراءة الإضافة فأقيم الجمع مقام المفرد ، لأن حق المائة أن يضاف إلى المفرد ، ووجه ذلك : أن المفرد في ثلثمائة درهم في المعنى جمع ، فحسن إضافته إلى لفظ الجمع كما في «الأخسرين (أَعْمالاً)(٣) ، فانه ميز بالجمع وحقه المفرد نظرا إلى مميزه ، قوله (وَازْدَادُوا تِسْعاً) [٢٥] أي تسع سنين إشارة إلى أن ذلك الحساب على اعتقاد أهل الكتاب شمسي ، وأما عند العرب فهو قمري ، القمري يزيد على الشمسي تسعا ، ولذلك قال (وَازْدَادُوا تِسْعاً) وهو مفعول (ازْدَادُوا). روي : أن نصارى نجران قالوا أما الثلاث مائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا بها فنزل (٤)(قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) أي قل هو أعلم بمدة لبثهم ، لأن علم الخفيات مختص به تعالى ، ولذلك قال (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بتقديم (لَهُ) ، أي لله العلم بما خفي (٥) فيهما عليه غيره تعالى من أحوال أهلهما وغيرها (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) الضمير في (بِهِ) لله ، محله رفع لكونه فاعلا لفعل التعجب ، والباء زائدة والهمزة في الفعلين للصيرورة ، أصله : أبصر الله وأسمع ، غير من لفظ الخبر إلى لفظ الأمر وليس بأمر ، إذ لا معنى للأمر هنا ومعناه : ما أبصر الله وما أسمعه ، وإنما جاء به ليدل على التعجب من إدراكه تعالى بكل مسموع وكل مبصر ، لأنه خارج عن حد ما عليه إدراك كل سامع وكل مبصر ، إذ هو يدرك ألطف الأشياء وأصغرها كما يدرك أكبرها ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر ، فلا يغيب عنه شيء ما (ما لَهُمْ) أي ليس لأهل السموات والأرض (مِنْ دُونِهِ) أي من غير الله (مِنْ وَلِيٍّ) أي من متول لأمورهم (وَلا يُشْرِكُ) بالياء ، أي الله (فِي حُكْمِهِ) أي في قضائه وعلمه (أَحَداً) [٢٦] منهم ، لأنه غني عنه ، وقرئ بالتاء خطابا مع جزم الكاف نهيا (٦) للإنسان.

(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))

قوله (وَاتْلُ ما أُوحِيَ) نزل حين قالوا له عليه‌السلام : ائت من السماء بقرآن غير هذا أو بدله (٧) ، أي اقرأ الذي أوحي (إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) أي من القرآن واعمل به ولا تطعهم في طلب التبديل ولا تسمع قولهم فيه (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا يقدر أحد على تبديلها سواه تعالى (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون عذابه (مُلْتَحَداً) [٢٧] أي ملتجأ تلجأ إليه إن هممت بذلك التبديل فرضا.

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨))

قوله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) نزل حين طلب رؤساء الكفار طرد فقراء المسلمين من مجلسه كصهيب وعمار وخباب وغيرهم وقالوا : اطردهم حتى نجالسك ، فان أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا من إتباعك إلا هؤلاء ،

__________________

(١) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٢) «ثلاثمائة سنين» : قرأ الأخوان وخلف بحذف تنوين «مائة» ، والباقون باثباته. البدور الزاهرة ، ١٩١.

(٣) الكهف (١٨) ، ١٠٣.

(٤) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٦١ ـ ٥٦٢.

(٥) خفي ، ح و : أخفى ، ي.

(٦) «ولا يشرك» : قرأ الشامي بتاء الخطاب وجزم الكاف على أن لا ناهية ، والباقون بياء الغيبة ورفع الكاف علي أنها نافية. البدور الزاهرة ، ١٩١.

(٧) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٥.

٤٥

لأنهم قوم أرذلون (١) ، فأمره الله تعالى بالصبر معهم ، أي احبس نفسك (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) قوله (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ) حال ، أي دائبين على الدعاء في كل وقت ، وقيل : «المراد الصلوات الخمس» (٢) أو «صلوة الفجر والعصر» (٣)(يُرِيدُونَ) بعبادتهم (وَجْهَهُ) تعالى لا شيئا آخر من أغراض الدنيا (وَلا تَعْدُ) أي لا تنصرف أو لا تجاوز (عَيْناكَ عَنْهُمْ) لرثاثة حالهم نظرا إلى زي الأغنياء ، قوله (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) حال من ضمير (تَعْدُ (وَلا تُطِعْ) أي في طردهم (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي عن القرآن (٤) والتوحيد بالخذلان (وَاتَّبَعَ هَواهُ) في الكفر ونيل مشتهاه (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [٢٨] أي إسرافا ومجازاة للحد في التفريط ، لأنه نابذ للحق وراء ظهره ، فلما نزلت هذه الآية قال النبي عليه‌السلام : «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم» (٥).

(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))

ثم أمر الله النبي عليه‌السلام أن يقول الحق الذي أرسلت به فقال (وَقُلِ) هو (الْحَقُّ) أي ترك طرد المؤمنين هو الحق (مِنْ رَبِّكُمْ) لا طردهم ، فانه باطل (فَمَنْ شاءَ) الإيمان (فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ) الكفر (فَلْيَكْفُرْ) فلست بطاردهم من عندي لهواكم فاعملوا ما شئتم (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي جاحدي الحق (ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) وهي الحجب حول الفسطاط كالحائط ، قيل : هي دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار (٦) ، وقيل : حائط من نار يحيط بهم في النار وهي أربعة جدر كثف ، كل جدار أربعون سنة (٧) ، قوله (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا) يشير إلى أنهم عند ذلك يعطشون فيستغيثون (بِماءٍ كَالْمُهْلِ) وهو صديد أهل النار ، والمهل ما أذيب من جواهر الأرض ، وقيل : «دردي الزيت» (٨) ، ثم وصف المهل بقوله (يَشْوِي الْوُجُوهَ) أي ينضجها من حره ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هو كعكر الزيت فاذا قرب إلى الكافر ليشرب سقطت فروة وجهه» (٩)(بِئْسَ الشَّرابُ) ذلك وهو المخصوص بالذم (وَساءَتْ) النار (مُرْتَفَقاً) [٢٩] أي متكئا ومنزلا للاستراحة ، واتيانه هنا لمشاكلة قوله (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) وإلا فلا ارتفاق ولا اتكأ لأهل النار.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالقرآن (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بما فيه ، قوله (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [٣٠] منهم خبر (إِنَّ الَّذِينَ) ، ويجوز أن يكون (إِنَّا لا نُضِيعُ) الآية اعتراضا ، والخبر (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة وخلود فيها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الأربعة من الخمر واللبن والعسل والماء العذب (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي يلبسون في الجنة (مِنْ أَساوِرَ) جمع أسورة وهي جمع سوار وهو ما يلبس في اليد من حلقة ، (مِنْ) فيه ابتداء ، و (مِنْ) في (مِنْ ذَهَبٍ) بيان ، قيل : «يحلى كل واحد منهم ثلاثة أسورة من ذهب ومن فضة ومن لؤلؤ ويواقيت» (١٠)(وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ) جمع سندسة ، وهي ما رق من الديباج (وَإِسْتَبْرَقٍ) جمع استبرقة وهي ما غلظ من الديباج المنسوج بالذهب ، وجمع بينهما جمعا بين النوعين ، قوله (مُتَّكِئِينَ) حال من ضمير (يَلْبَسُونَ (فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السرير في الحجال ، جمع حجلة وهي بيت يزين بالثياب

__________________

(١) وهذا مأخوذ عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٥.

(٢) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٢٩٧.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٥.

(٤) عن القرآن ، ح : القرآن ، وي.

(٥) انظر البغوي ، ٣ / ٥٦٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٦) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٦.

(٧) اختصره المؤلف من البغوي ، ٣ / ٥٦٤ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢٠٦.

(٨) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٦٥.

(٩) رواه الترمذي ، صفة جهنم ، ٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٦٥ ؛ والكشاف ، ٣ / ٢٠٦.

(١٠) عن سعيد بن جبير ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٦٥.

٤٦

للعروس ، وخص الاتكاء ، لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم (نِعْمَ الثَّوابُ) ذلك وهو المخصوص بالمدح (وَحَسُنَتْ) الجنة (مُرْتَفَقاً) [٣١] أي متكأ ومنزلا للاستراحة فيه.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣))

قوله (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضرب مثل لهم ليعتبروا فيؤمنوا ، وتقديره : اضرب لهم مثلا مثل (رَجُلَيْنِ) أي مثل حال الكافرين من أهل مكة والمؤمنين بحال رجلين ، وكانا أخوين من بني إسرائيل ، أحدهما كافر اسمه قطروس ، والآخر مسلم اسمه يهوذا ، ورثا من أبيهما مالا عظيما ، قيل : هو ثمانية آلاف دينار (١) ، فاقتسماه فصرف المؤمن ماله في أبواب البر ، وصرف الكافر ماله في أسباب (٢) المكاسب كالبساتين والمزارع ، ثم وصف حالهما بقوله (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) أي بستانين (٣) من كروم (وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي أحطناهما بأشجار مثمرة ، فصار النخل محيطا بالجنتين (وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) [٣٢] يقتات به ، أي جمعت أرضهما أنواع الفواكه والأقوات ، وجعلت متواصلة متشابكة مستحسنة الشكل واللون ، وافية الأثمان ، تامة الأكل من غير نقص ، مسقية بأفضل ما يسقى به وهو النهر الجاري ، وأشار إلى ذلك بقوله (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) أي أثمارها ، وإفراد (آتَتْ) حمل على لفظ (كِلْتَا) ، ولو قيل «آتتا» لجاز حملا على المعنى (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ) أي لم تنقص من حملها (شَيْئاً) بل آتت به في غاية الكمال (وَفَجَّرْنا) أي أجرينا (خِلالَهُما) أي وسطهما (نَهَراً) [٣٣] يجري بينهما ، وجاز بسكون الهاء لغة.

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤))

(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) أي حصل لصاحب البستان ثمر بفتحتين جمع ثمرة وهو المجني من الفاكهة ، وقرئ «ثمر» بالسكون ، و «ثمر» بضمتين جمع ثمار وهو جمع ثمرة (٤) ، وذكر الثمرة بعد ذكر الجنتين وإن كانت الجنة لا تخلو عنها إيذان بكثرة الحاصل له في الجنتين من الثمار وغيرها (فَقالَ) الكافر صاحب الجنتين (لِصاحِبِهِ) المؤمن (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يكلمه ويراجعه الكلام ، من حار يحور إذا رجع ، قيل : إنه أخذ يد أخيه المؤمن يطوف به الجنتين ليريه ما فيهما مفاخرا ومعجبا بما فيهما من المال له دون أخيه قائلا (٥)(أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) [٣٤] أي أنصارا وحشما.

(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦))

(وَدَخَلَ) الكافر (جَنَّتَهُ) أفردها إرادة للروضة (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والإعجاب بما له (قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ) أي تنعدم (هذِهِ) مشيرا إلى جنته المثمرة (أَبَداً [٣٥] وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ) أي القيامة (قائِمَةً) أي كائنة (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) أي والله لئن رجعت (إِلى رَبِّي) أي إلى الآخرة بزعمك (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها) أي من جنتي في الدنيا عنده ، وقرئ «منها» مفردا (٦) ، أي من جنتي (مُنْقَلَباً) [٣٦] تمييز ، أي مرجعا في الآخرة ، قال ذلك استهزاء ، وقيل : ادعاء لكرامته على الله (٧) ، يدل عليه إقسامه بقوله (وَلَئِنْ رُدِدْتُ)

__________________

(١) أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٣٦٦.

(٢) أسباب ، وي : أبواب ، ح.

(٣) بستانين ، ح ي : بساتين ، و.

(٤) «ثمر» : قرأ عاصم وأبو جعفر ويعقوب بفتح الثاء والميم وأبو عمر بضم الثاء وإسكان الميم ، والباقون بضم الثاء والميم. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٥) نقله عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٧.

(٦) «منها» : قرأ المدنيان والمكي والشامي بزيادة ميم بعد الهاء مع ضم الهاء على التثنية ، والباقون بحذف الميم وفتح الهاء على الإفراد. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٧) وهذا مأخوذ عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٧.

٤٧

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧))

(قالَ لَهُ) أي للكافر (صاحِبُهُ) المسلم (وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي يراجعه الكلام باستفهام التقرير (أَكَفَرْتَ) أي صرت كافرا (بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) أي من آدم وهو من تراب (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي من مني (ثُمَّ سَوَّاكَ) أي عدلك وكملك (رَجُلاً) [٣٧] أي إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال ، فجعله كافرا بالله جاحدا لنعمه لشكه بالبعث (١).

(لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨))

قوله (لكن) باثبات الألف وحذفها (٢) ، استدراك لمضمون قول الكافر ، أي أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد لا أقول كما تقول أنت ، بل أقول (هُوَ اللهُ رَبِّي) أي خالقي ورازقي (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) [٣٨] قوله (لكِنَّا) أصله «لكن أنا» ، حذفت الهمزة بعد نقل الحركة إلى النون الأولى ، وأدغمت في الثانية وهو ضمير الشأن ، أي الشأن الله ربي ، والجملة خبر «أنا» والراجع إليه منها ياء الضمير في «ربي».

(وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩))

(وَلَوْ لا) أي هلا (إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ) أي الأمر (ما شاءَ اللهُ) بمعنى الأمر الذي شاءه (٣) الله كان ، يعني هلا قلته عند دخولك جنتك إذ أعجبك (٤) حسن جنتك لتشكره على أنعامه ، لأنه إقرار بأن كل خير فيها انما حصل بمشية الله ، والأمر كله بيده إن شاء تركها عامرة وإن شاء خربها (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي بعونه لا بقوتي اعترافا بأن ما قويت به على عمارتها ، انما هو بمعونته لا بنفسك ، وبذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعطي خيرا فيقول عنده ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم ير فيه مكورها» (٥) ، قوله (إِنْ تَرَنِ) شرط مجزوم ب (إِنْ) ، أي إن رأيتني (أَنَا أَقَلَّ أَنَا) ضمير فصل يقع بين المبتدأ والخبر المعرفتين أو إذا كان الخبر مشابها بالمعرفة كأفعل التفضيل ليفصل بين كونه نعتا وخبرا ، و (أَقَلَّ) مفعول ثان ل «ترى» ، والمفعول الأول ياء المتكلم فيه ، يعني إن ترني أقل (مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) [٣٩] في الدنيا فتكبرت وتعظمت عليه.

(فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠))

(فَعَسى) أي لعل (رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) هذه في الآخرة (وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنتك في الدنيا (حُسْباناً) جمع حسبانة وهي الصاعقة أو مصدر بمعنى (٦) الحساب وهو الحكم بتخريبها (مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ) أي فتصير (صَعِيداً زَلَقاً) [٤٠] أي أرضا ملساء يزلق عليها قدم.

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١))

(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) أي غائرا ذاهبا في الأرض (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) [٤١] أي حيلة تدركه بها ، المعنى : أني أرجو أن يرزقني الله جنة أفضل من جنتك ويهلك جنتك.

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢))

(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) أي أهلكت ثمرته (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) ندما وتحسرا كما هو عادة النادمين (عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) أي في عمارتها (وَهِيَ خاوِيَةٌ) أي خالية ساقطة (عَلى عُرُوشِها) أي على دعائمها (٧) ، ثم سقط الكروم عليها ، قيل : «أرسل الله نارا عليها فأحرقتها» (٨)(وَيَقُولُ) الكافر (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) [٤٢] فتذكر

__________________

(١) بالبعث ، ح ي : في البعث ، و.

(٢) «لكن» : قرأ الشامي وأبو جعفر ورويس باثبات الألف بعد النون وصلا ، والباقون بحذفها ، وأجمعوا على إثباتها وقفا اتباعا للرسم. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٣) شاءه ، ح ي : شاء ، و.

(٤) إذ أعجبك ، وي : إذا أعجبك ، ح.

(٥) انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠٠. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٦) بمعنى ، ح ي : لمعنى ، و.

(٧) على دعائمها ، ح : دعائمها ، وي.

(٨) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٨.

٤٨

موعظة أخيه فعلم أنه أتى من جهة شركة بربه فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله جنته.

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣))

(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ) بالتاء والياء (١) ، أي جماعة (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من عذابه ، وقيل : معناه لا يقدر أحد غير الله أن ينصره وهو القادر على نصرته ، لكنه لا ينصره لاستحقاقه الخذلان بكفره (٢)(وَما كانَ مُنْتَصِراً) [٤٣] أي ممتنعا بنفسه منه.

(هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

(هُنالِكَ) ظرف لما قبله ، أي عند مجيئ العذاب أو في القيامة ، قوله (الْوَلايَةُ) بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر الملك والسلطان أو بالفتح في الدين ، وبالكسر في الأمور (٣) ، وهي مبتدأ ، خبره (لِلَّهِ) أي الولاية لله وحده لا يملكها غيره ، ويجوز أن يكون (هُنالِكَ) من هذه الجملة ، فيكون خبر (الْوَلايَةُ) و (لِلَّهِ) صلتها ، والمعنى في ذلك المقام : النصرة لله وحده لا يستطيعها أحد سواه ، وهو تقرير لقوله (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) ، قوله (الْحَقِّ) بالرفع صفة (الْوَلايَةُ) ، والجر صفة (لِلَّهِ)(٤)(هُوَ خَيْرٌ) أي الله أفضل (ثَواباً) لمن آمن به (وَخَيْرٌ عُقْباً) [٤٤] أي أفضل عاقبة له من جنة الكافر في الدنيا ، وال «عقب» بضم القاف وسكونها (٥) والعقبى كلها بمعنى العاقبة ، والمنصوبان تمييزان ، والمعنى : ثواب الله وعاقبته خير للمؤمنين من الدنيا وما فيها.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥))

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) أي بين للناس وصف لهم (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية هو (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي التف وتكاثف بسبب الماء (نَباتُ الْأَرْضِ) حتى خالط بعضه بعضا (فَأَصْبَحَ) أي فصار (٦) النبات (هَشِيماً) أي متفرق الأجزاء ليبسه (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) أي تثيره فتذهب (٧) به ، شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الفناء والهلاك بحال نبات حسن فيبس فتكسر ففرقته الريح فانعدم (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من الإنشاء والإفناء (مُقْتَدِراً) [٤٥] أي قادرا.

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

قوله (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يتجمل بهما هنا ، فيه تزهيد للمؤمنين فيها وتوبيخ للمفتخرين بها ، يعني الزينة التي يفتخر (٨) بها الأغنياء ليست من زاد (٩) الآخرة (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أي الأعمال الصالحات التي يبقى ثمرتها للإنسان ، وقيل : «الصلوات الخمس» (١٠) ، وقيل : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» (١١)(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) أي أفضل (ثَواباً) من هذه الزينة (وَخَيْرٌ أَمَلاً) [٤٦] أي أفضل ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى أو أفضل مما يرجو الكافر من الثواب وهو النار ، روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على قومه وقال : «خذوا جنتكم ، قالوا : يا رسول الله أمن عدوه حضر؟ قال : لا بل من النار ، قالوا : وما جنتنا من النار؟ قال : سبحان الله إلى آخر الكلمات» (١٢) ، وهن الباقيات الصالحات ، وقال أيضا : «لأن أقول سبحان الله إلى آخره أحب إلي

__________________

(١) «ولم تكن» : قرأ الأخوان وخلف بياء التذكير ، والباقون بتاء التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٢) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٢٠٩.

(٣) «الولاية» : كسر الواو الأخوان وخلف وفتحها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٤) «الحق» : قرأ أبو عمرو والكسائي برفع القاف ، والباقون بخفضها. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٥) «عقبا» : أسكن القاف عاصم وخلف وحمزة ، وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٩٢.

(٦) فصار ، ح ي : صار ، و.

(٧) فتذهب ، ح ي : فيذهب ، و.

(٨) يفتخر ، ح و : يفخر ، ي.

(٩) من زاد ، و : بزاد ، ح ي ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٧١.

(١٠) عن مسروق ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠١.

(١١) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠١.

(١٢) انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

٤٩

مما طلعت عليه الشمس» (١).

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧))

(وَ) اذكر (يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ) بالتاء مجهولا وبالنون معلوما (٢) ، أي اذكر يوم نزيلها عن أماكنها ونذهب بها بأن نجعلها هياء منبثا (وَتَرَى الْأَرْضَ) يا إنسان (بارِزَةً) أي طاهرة ليس عليها ما يسترها مما كان عليها (وَحَشَرْناهُمْ) أي جمعنا أهل الإيمان والكفر إلى الموقف (فَلَمْ نُغادِرْ) أي لم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً) [٤٧] تحت الأرض.

(وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨))

(وَعُرِضُوا) أي الخلائق يوم القيامة (عَلى رَبِّكَ) أي على حكمه (صَفًّا) أي مصطفين يرى كل واحد منهم لا يحجب أحد أحدا كما يعرض الجند على السلطان هنا ، فيقال لهم ثمه (لَقَدْ جِئْتُمُونا) فرادى ، أي عراة لا شيء معكم (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وجاء ب (حَشَرْناهُمْ) بعد (نُسَيِّرُ) و (تَرَى) إيذانا بأن الحشر يكون قبل تسيير الجبال وبروز الأرض ليعاينوا تلك الأهوال العظام ، قوله (بَلْ) إضراب عن صدق الوعد الذي دل عليه (لَقَدْ جِئْتُمُونا) أي ما ظننتم أن نصدق (٣) الوعد بالبعث بل (زَعَمْتُمْ) يا كفار مكة (أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) [٤٨] أي وقتا لإنجاز ما وعدتم من البعث على ألسنة الرسل ، قالت عائشة رضي الله عنها : «قلت يا رسول الله! كيف يحشر الله الناس يوم القيامة؟ قال : عراة حفاة ، قالت : قلت والنساء؟ قال : والنساء ، قالت : قلت يا رسول الله! أنستحيي؟ قال : يا عائشة! الأمر أشد من ذلك لن يهمهم أن ينظر بعضهم إلى بعض» (٤).

(وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي أعطي كتاب كل امرئ بيمينه أو بشماله (٥) ، وهو الكتاب الذي كتبنا فيه أعمالهم وأحوالهم قبل وجودهم وبعده للحساب (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي خائفين مما في الكتاب عند مشاهدتهم ما فيه من قبائح أعمالهم (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) أي ينادون يا هلكتنا التي هلكتنا بها دون غيرها من الهلكات (ما لِهذَا الْكِتابِ) أي ما باله (لا يُغادِرُ) أي لا يترك (صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) من الزلل تصدران عن جانبيهما (٦)(إِلَّا أَحْصاها) أي عدها وأثبتها فيه ، قيل : «الصغيرة كالتبسم والكبيرة كالقهقهة» (٧) ، وقيل : «الصغيرة كالمسيس والكبيرة الزنا» (٨)(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) من خير وشر (حاضِراً) أي مثبتا في كتابهم (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [٤٩] أي لا يكتب عليه ما لم يعمله أو لا ينقص من ثواب عمله ولا يزيد في عقابه.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠))

(وَ) اذكر (إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الذي ألحق بهم وجعل يتعبد معهم (كانَ مِنَ الْجِنِّ) أي لا من الملك حقيقة ، لأن له زرية ولا ذرية للملك ، قيل : إنه كلام مستأنف كالتعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين ، كأنه قيل : ما باله لم يسجد؟ فقيل : كان من الجن خلق من نار السموم ولم يكن من

__________________

(١) انظر البغوي ، ٣ / ٥٧١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(٢) «نسير» : قرأ المكي والبصري والشامي بتاء مثناة مضمومة مع فتح الياء المشددة ورفع لام «الجبال» ، والباقون بالنون المضمومة مع كسر الياء المشددة ونصب لام «الجبال». البدور الزاهرة ، ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٣) نصدق ، وي : يصدق ، ح.

(٤) روى مسلم نحوه ، الجنة ، ٥٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٧٣.

(٥) بشماله ، و : شماله ، ح ي ؛ وانظر أييضا السمرقندي ، ٢ / ٣٠٢.

(٦) جانبيهما ، و : جانيهما ، ح ي.

(٧) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٧٤.

(٨) عن سعيد بن جبير ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٧٤.

٥٠

الملائكة (١)(فَفَسَقَ) أي خرج (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) والفاء للسببية ، أي كونه من الجن سبب فسقه ، ولو كان ملكا لم يفسق عن أمر ربه ، أي عن طاعته ، لأن الملك معصوم دون الجن والإنس (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) أي أتتخذون إبليس يا بني آدم (وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) والهمزة فيه للإنكار ، أي أعقيب فسقه عن أمري تستبدلونه وذريته وتطيعونهم دوني (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) أي أعداء ، والواو للحال (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [٥٠] تمييز ، أي بئس البدل إبليس وذريته لمن ظلم واستبدلهما وأطاعهما بدل طاعة الله ، قيل : «يتوالدون كما يتوالد ابن آدم» (٢) ، وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض بيضة فتنفلق البيضة عن جماعة من الشيطان (٣).

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١))

قوله (ما أَشْهَدْتُهُمْ) إشارة إلى غناه تعالى عن خلقه ونفي مشاركتهم في الألوهية ، أي ما أحضرت شركائي بزعمكم (خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأعتضد بهم في خلقهما (وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض (٤) عندي لعدمهم وعدم حاجتي إليهم (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) عن الدين أي متخذهم (عَضُداً) [٥١] أي أعوانا أعتضد بهم ، وضع «المضلين» موضع ذما لهم بالإضلال فاذا لم يكونوا أعوانا لي في الخلق فما لكم تتخذونهم شركائي في العبادة ، وهم ليسوا بشركائي (٥) في الألوهية.

(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢))

(وَيَوْمَ يَقُولُ) بالنون والياء (٦) ، أي اذكر يوم يقول الله للكفار ، يعني يوم القيامة (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أنهم شركائي ، أي ادعوهم ليشفعوا لكم لأنكم أشركتموهم معي في الطاعة لزعمكم أنهم يشفعون لكم (فَدَعَوْهُمْ) أي آلهتهم (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي لم يجيبوهم ولم يشفعوا لهم (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) [٥٢] أي مهلكا ، من وبق يبق إذا هلك ، يعني جعلنا بينهم واديا من أودية جهنم ، هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا ، وهم الأصنام وعابدوهم ، وقيل : «معنى (مَوْبِقاً) عداوة» (٧) ، وقيل : جزاء بينهم فلا يشفع لهم المعبودون إذا كانوا عزيرا وعيسى والملائكة ، لأن هؤلاء في الجنة وهم في النار (٨).

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون (النَّارَ) حين أمروا بالسوق إليها (فَظَنُّوا) أي أيقنوا (أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) أي واقعون فيها (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) [٥٣] أي معدلا وانصرافا ، لأنها أحاطت بهم من كل جانب.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤))

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي بينا (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي من جنس كل مثل مثلنا لهم ليتذكروا به (وَكانَ الْإِنْسانُ) وهو النضر بن الحارث أو جميع الناس (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [٥٤] في أمر البعث ، تمييز ، أي خصومة بالباطل ، يعني جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء.

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥))

(وَما مَنَعَ) أي لم يمنع (النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) محله نصب ب (مَنَعَ) ، أي الإيمان بالله وبرسوله (إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي طريق الفلاح ، يعني الإسلام أو القرآن (وَ) إن (يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ) أي ولا الاستغفار (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ) محله رفع (٩)

__________________

(١) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٢١٠.

(٢) عن قتادة ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٧٥.

(٣) نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٧٥.

(٤) بعض ، ح ي : بعضهم ، و.

(٥) بشركائي ، ح و : شركائي ، ي.

(٦) «يقول» : قرأ حمزة بالنون ، والباقون بالياء التحتية. البدور الزاهرة ، ١٩٣.

(٧) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٣ / ٢١١.

(٨) اختصره المفسر من الكشاف ، ٣ / ٢١١.

(٩) رفع ، ح و : الرفع ، ي.

٥١

فاعل (مَنَعَ) بتقدير المضاف ، أي إلا انتظار (١) أن تأتيهم (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) وهي الهلاك فيرونها عيانا ، قيل : هذا فيمن قتل من المشركين ببدر وأحد (٢)(أَوْ) انتظار أن (يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) أي عذاب الآخرة (قُبُلاً) [٥٥] أي أصنافا بضمتين ، جمع قبيل ، وبفتحتين مستقبلا ومقابلا ، وبكسر القاف وفتح الباء (٣) فجأة أو مقابلة.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦))

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين بالجنة (وَمُنْذِرِينَ) للكافرين بالنار (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الرسل (بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا) أي ليبطلوا (بِهِ الْحَقَّ) الذي معهم ، والدحض الزلق ، من إدحاض القدم ، وهو إزلاقها عن موطئها (وَاتَّخَذُوا آياتِي) أي القرآن (وَما أُنْذِرُوا) أي الذي خوفوا به من العذاب أو إنذاري (هُزُواً) [٥٦] أي سخرية ، يعني موضع استهزاء ، وجدالهم : قولهم للرسل إن أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة وغير ذلك.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧))

(وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام على سبيل التوبيخ ، أي من أشد ظلما (مِمَّنْ ذُكِّرَ) أي وعظ (بِآياتِ رَبِّهِ) أي بالقرآن ، ولهذا ذكر الضمير في (أَنْ يَفْقَهُوهُ) بعد (فَأَعْرَضَ عَنْها) أي عن الآيات ولم يتذكر حين ذكر بها ولم يعمل بها (وَنَسِيَ) عاقبة (ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الكفر والمعاصي ولم يتفكر في أن المنسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء ، قوله (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) تعليل لإعراضهم ونسيانهم ذلك (٤) ، أي جعلنا أعمالهم على قلوبهم (أَكِنَّةً) أي أغطية (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي لئلا يفقهوا القرآن (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي ثقلا وصمما لا يسمعونه (وَإِنْ تَدْعُهُمْ) شرط أو (أَنْ) بمعنى «لا» للنهي ، أي لا تدعهم يا محمد (إِلَى الْهُدى) أي طريق الفلاح وهو دين الإسلام (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) [٥٧] و (إِذاً)(٥) جواب وجزاء ، أما كونه جوابا فلأن قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) الآية في معنى لا تدعهم إلى الهدى على تقدير كون «إن» شرطا ، ثم نزل حرصه عليه‌السلام منزلة قوله ما لي لا أدعوهم؟ فأجيب بقوله (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا)(٦) ، وأما كونه جزاء فلأنه يدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول على معنى أنهم جعلوا ما هو سبب لوجود الاهتداء سببا لانتفائه بالإعراض عن دعوته.

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨))

(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ) للمؤمنين وهو البليغ في (٧) المغفرة (ذُو الرَّحْمَةِ) وهو الموصوف بالرحمة لهم خاصة في الآخرة باعطائهم الثواب ، وذي الرحمة في الدنيا لهم ولغيرهم بالرزق وغيره من النعم (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) أي في الدنيا (بِما كَسَبُوا) من الذنوب (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) فيها من غير إمهال لإفراطهم في عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكنه لم يجعل (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) وهو يوم بدر أو يوم القيامة ، فيعذبون فيه (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ) أي من غيره (مَوْئِلاً) [٥٨] أي ملجأ ومنجى ، من وال إذا نجا وواءل إليه إذا التجأ إليه.

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

(وَتِلْكَ الْقُرى) مبتدأ مع صفته (أَهْلَكْناهُمْ) خبره ، أي تلك القرى المتقدمة من قبل أهل مكة ، والمراد

__________________

(١) إلا انتظار ، ح ي : الانتظار ، و.

(٢) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٣) «قبلا» : قرأ أبو جعفر والكوفيون بضم القاف والباء ، وغيرهم بكسر القاف وفتح الباء. البدور الزاهرة ، ١٩٣.

(٤) ذلك ، وي : ـ ح.

(٥) إذا ، ح ي : إذن ، و.

(٦) إذا ، + ي.

(٧) في ، ح و : ـ ي.

٥٢

أصحاب القرى كعاد وثمود وقوم لوط أهلكناهم (لَمَّا ظَلَمُوا) مثل ظلم أهل مكة (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ) بضم الميم وفتح اللام (١) ، أي لإهلاكهم (مَوْعِداً) [٥٩] أي وقتا معلوما لا يتأخرون عنه كما جعلنا لأهل مكة يوم بدر ، وهو بفتح الميم وكسر اللام الهلاك وفتحهما كذلك وإنما أشار لهم إلى تلك القرى ليعتبروا فيؤمنوا.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠))

قوله (وَإِذْ قالَ مُوسى) عطف على قوله (وَإِذْ قُلْنا) عطف على قصة ليعتبروا بها ، أي واذكر إذ قال موسى بن عمران (لِفَتاهُ) أي لعبده وإنما قال لفتاه تعليما للأدب ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ، ولا يقل عبدي وأمتي» (٢) ، وقيل : «هو يوشع ابن نون النبي ، وإنما قيل «فتاه» ، لأنه كان يخدمه ويأخذ منه العلم» (٣) ، روي : أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه أنعام الله عليهم ، فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله لهم ، فرقت القلوب وذرفت العيون ، فقالوا يا موسى! أي الناس أعلم؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه حيث لم يرد العلم إلى الله تعالى فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين ، وهو الخضر ، وكان في أيام أفريدون الملك قبل موسى فبقي إلى أيام موسى ، فقال : يا رب! أين أطلبه وكيف لي به؟ قال : اطلبه على الساحل عند الصخرة ، وخذ حوتا مملوحا يكون زادا لك ، فحيث فقدت الحوت فهو هناك ، ففعل (٤) ، وقال لفتيه (لا أَبْرَحُ) من برح يبرح بمعنى لا يزال ، وهو من الأفعال الناقصة يقتضي الخبر وهو محذوف لدلالة الحال عليه فهو حال السفر ، أي لا أزال أسير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) وهو المكان الذي وعد الله موسى لقاء الخضر وهو ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) [٦٠] أي أو أسير دهرا طويلا حتى أجده ، والحقب بضم القاف وسكونه (٥) «ثمانون سنة» (٦) ، وقيل : هو الدهر وجمعه أحقاب (٧) ، فذهبا يمشيان وقال موسى لفتيه إذا فقدت الحوت فأخبرني.

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١))

(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي بين البحرين وجلسا على شاطئ البحر ، وفيه الصخرة ، وفيه من الحيوة التي لا يصيب ماؤها شيئا (٨) ميتا إلا حيي (٩) ، قيل : «وضع يوشع الحوت على الصخرة فرقد موسى وتوضأ يوشع من تلك العين ، فأصاب الحوت شيء من ماء الوضوء فاضطرب الحوت وخرج من المكتل ، ووقع في البحر ولما نسي يوشع عند الرحيل حمل الحوت أو إخبار موسى عن حاله ، ونسي موسى تذكره نسب النسيان إليهما» (١٠) ، فقيل (نَسِيا حُوتَهُما) في جواب «لما» (فَاتَّخَذَ) الحوت (سَبِيلَهُ) أي طريق الحوت (فِي الْبَحْرِ سَرَباً) [٦١] مفعول ثان ل «اتخذ» ، وهو الثقب تحت الأرض ، قيل : إذا لم يكن له منفذ يقال له سرب ، وإذا كان له منفذ يقال له نفق (١١) ، وإنما قال (فِي الْبَحْرِ سَرَباً) ، لأن الله تعالى أمسك جرية الماء على الحوت ، فقام الماء عليه مثل الطاق فصار للحوت سربا ولموسى أو للخضر معجزة.

(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢))

(فَلَمَّا جاوَزا) أي الموعد وهو الصخرة تلك الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع ولم

__________________

(١) «لمهلكهم» : قرأ شعبة بفتح الميم واللام ، وحفص بفتح الميم وكسر اللام ، والباقون بضم الميم وفتح اللام. البدور الزاهرة ، ١٩٤.

(٢) رواه البخاري ، العتق ، ١٧ ؛ ومسلم ، الألفاظ ، ١٣ ، ١٥.

(٣) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٣ / ٢١٢.

(٤) اختصره من الكشاف ، ٣ / ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٥) ولم أجد لهذه القراءة أصلا في المصادر التي راعتها.

(٦) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٨٢ (عن عبد الله بن عمر).

(٧) اختصره المفسر من البغوي ، ٣ / ٥٨٢.

(٨) شيئا ، وي : ـ ح.

(٩) حيي ، ح ي : يحيى ، و.

(١٠) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٥٨٢ ـ ٥٨٣.

(١١) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

٥٣

ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت (قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) وهو ما يعد للأكل أول النهار والعشاء ما يعد له آخره (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا) أي والله لقينا من هذا السفر الذي سرناه بعد مجاوزة الصخرة (نَصَباً) [٦٢] أي تعبا ، فذكر فتاه حين عند طلب موسى الحوت ما رأى منه.

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣))

(قالَ) لموسى (أَرَأَيْتَ) أي أخبرني (إِذْ أَوَيْنا) أي نزلنا (إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) عند الصخرة وإنما نسي ذلك يوشع (١) ومثله ينبغي أن لا ينسي لكونه أمارة لهما على مطلوبهما الداعي إلى الخروج لأجله ، لأن الشيطان قد شغله بوسوسته فتفرق فكره فاعتراه النسيان ، يدل عليه (وَما أَنْسانِيهُ) بضم الهاء وكسرها (٢) ، أي الحوت (إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) يعني أمر الحوت لك وهو بدل من الهاء في (أَنْسانِيهُ) ، (وَما أَنْسانِيهُ)(٣) الجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وذلك قوله (وَاتَّخَذَ) أي موسى أو الحوت (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) [٦٣] أي سبيلا عجيبا وهو كونه سبيل السرب ، ونصبه مفعول ثان ل (اتَّخَذَ) مثل سربا فيما مر ، ويجوز أن يكون (عَجَباً) من آخر كلام يوشع تعجبا من حاله في رؤية تلك العجيبة ونسيانه لها ، فيكون مصدر الفعل محذوف ، أي أعجب من ذلك عجبا.

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥))

(قالَ) موسى (ذلِكَ) أي اتخاذه سبيله (ما) أي الذي (كُنَّا نَبْغِ) بحذف الياء وإثباتها (٤) ، أي نطلبه ، لأنه أمارة للظفر بالطلبة من لقاء الخضر (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما) أي رجعا في درجهما وهو الطريق الذي جاءا منه (قَصَصاً) [٦٤] أي يقصان ، يعني يتبعان آثارهما اتباعا أو حال من ضمير «فارتدا» بمعنى مقتصين فأتيا الصخرة (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) قائما يصلي عند الصخرة ، وعليه كساء صوف وهو الخضر ، قيل : «كان من بني إسرائيل أو كان ممن ترك الملك وزهد في الدنيا» (٥) ، ثم وصفه بقوله (٦)(آتَيْناهُ رَحْمَةً) أي نبوة وشفقة (مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي مما يختص بنا من العلم (عِلْماً) [٦٥] وهو مفعول به ، وأراد به علم الباطن وهو الإخبار عن الغيوب باذنه تعالى ، فسلم عليه موسى ، فقال : وعليك السّلام يا نبي بني إسرائيل ، قال : ومن أعلمك أني نبيهم؟ قال : الذي أعلمك بمكاني.

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦))

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) [٦٦] بضم الراء وسكون الشين وبفتحهما (٧) ، أي علما ذا رشاد أرشد به ديني لا يقال إنه كان ممن دونه ، فكيف يأخذ منه العلم وهو أعلم منه لأنا نقول أمر الله موسى بذلك فلا ذلة له ، وقيل : أخذ العلم من آخر للزيادة مطلوب إذا لم يكن عند الشخص (٨) ، وقيل : لا نقيضة للنبي في أخذ العلم من نبي آخر مثله (٩).

__________________

(١) ذلك يوشع ، و : يوشع ذلك ، ي ، يوشع ، ح.

(٢) «أنسانيه» : ضم الهاء حفص وكسرها غيره ووصلها ابن كثير وحده. البدور الزاهرة ، ١٩٤.

(٣) وما أنسانيه ، وي : ـ ح.

(٤) «نبغ» : أثبت الياء وصلا المدنيان والبصري والكسائي وفي الحالين ابن كثير ويعقوب ، وحذفها الباقون في الحالين. البدور الزاهرة ، ١٩٤.

(٥) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٨٤.

(٦) ثم وصفه بقوله ، و : وصف ، ح ، ـ ي.

(٧) «رشدا» : قرأ البصريان بفتح الراء والشين وغيرهما بضم الراء وسكون الشين. البدور الزاهرة ، ١٩٤.

(٨) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٩) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٣ / ٢١٤.

٥٤

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧))

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [٦٧] أي قال الخضر لموسى لا تصبر صحبتي لأنك ترى ما تنكره وإنما قال ذلك على وجه التأكيد ، لأن ظاهره مناكير ، والرجل الصالح لا سيما إذا كان نبيا لا يصبر إذا رأى ذلك ويأخذ في الإنكار.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨))

ثم عذره في عدم صبره فقال (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) [٦٨] تمييز ، أي لم يحط به خبرك ، أي علمك أو مصدر من غير لفظ الفعل ، لأن (لَمْ تُحِطْ بِهِ) بمعنى لم تخبر حقيقته.

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩))

(قالَ) موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) رجا موسى استطاعة صبره معه بعد إظهاره عدمها له لحرصه على العلم وازدياده ، فوعده الصبر معلقا بمشية الله ، قوله (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [٦٩] في محل النصب عطف على (صابِراً) ، وغير عاص لك زاده في الجواب حرصا على طلب العلم (١) ، وإنما استثنى ، لأنه لم يكن على ثقة فيما التزم وهذا عادة الصالحين.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠))

(قالَ) الخضر لموسى (٢)(فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) لأخذ العلم (فَلا تَسْئَلْنِي) بتشديد النون مع الياء وبدونها ، والتخفيف مع الياء وبغير الياء (٣)(عَنْ شَيْءٍ) رأيته مني وأنكرته في نفسك (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) [٧٠] أي حتى أظهر لك منه توضيحا لحقيقته ووجه صحته ويزول عنك إنكارك به ، وهذا من آداب المتعلم والعالم ، فقيل : شرطه للتعلم (٤).

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١))

(فَانْطَلَقا) أي ذهب موسى والخضر يمشيان في ساحل (٥) بحر ورد تلميذه إلى بني إسرائيل (حَتَّى إِذا رَكِبا) أي دخلا (فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) جزاء الشرط ، أي ثقبها (٦) ، قيل : «ذهبا إلى ساحل البحر يطلبان السفينة ، فمرت بهما سفينة فاستحملا صاحبها ، وقال أهل السفينة له : إنا لا نعرفهما فلا يدخلان علينا فقال : سيماهما سيما الزهاد فحملهما بغير نول» (٧) ، وقيل : «إنه عرف الخضر فأذن لهما ليدخلا فيها ، فلما بلغوا اللج أخذ الخضر الفأس فخرقها ، فاقتلع لوحا من قبل البحر فسد موسى الخرق بثيابه» (٨)(قالَ) له موسى (أَخَرَقْتَها) أي السفينة (لِتُغْرِقَ أَهْلَها) يا خضر وهم أحسنوا بنا ، قرئ بالتاء معلوما من أغرق ، وبفتح الياء والزاء وضم (٩) أهلها فاعلا (١٠) ، من غرق (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) [٧١] أي أتيت شيئا عظيما ، من أمر يأمر إذا عظم.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣))

(قالَ) الخضر لموسى (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [٧٢] قالَ) موسى (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) أي

__________________

(١) على طلب العلم ، ح ي : ـ و.

(٢) لموسى ، ح : ـ وي.

(٣) «فلا تسألني» : قرأ المدنيان والشامي بفتح اللام وتشديد النون ، والباقون باسكان اللام وتخفيف النون ، وأجمعوا على إثبات الياء في الحالين إلا ابن ذكوان فله الإثبات والحذف وصلا ووقفا. البدور الزاهرة ، ١٩٤.

(٤) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٥) يمشيان في ساحل ، و : ـ ح ي.

(٦) ثقبها ، وي : نقبها ، ح.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٠٧ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢١٥.

(٨) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٢١٥.

(٩) وضم ، ح و : ورفع ، ي.

(١٠) «لتغرق أهلها» : قرأ الأخوان وخلف بياء تحتية مفتوحة وفتح الراء ورفع لام «أهلها» ، والباقون بتاء مثناة مضمومة مع كسر الراء ونصب لام «أهلها». البدور الزاهرة ، ١٩٤.

٥٥

بالذي نسيته أو بنساني ، وهو الترك ، يعني لا تؤاخذني بما تركت وصيتك أول مرة (وَلا تُرْهِقْنِي) أي لا تغشني ، من رهقه إذا غشيه أي لا تكلفني (مِنْ أَمْرِي عُسْراً) [٧٣] وأمره اتباعه إياه ، أي لا تعسر على متابعتك ويسرها علي ، فاني أريد صحبتك ولا سبيل لي إليها إلا بالعفو وترك المناقشة ، قيل : «جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة فقال الخضر لموسى عليهما‌السلام ما علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا ما نقص هذا العصفور من هذا البحر» (١).

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤))

(فَانْطَلَقا) ٧٤) بعد الخروج من السفينة (حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) عطف على الشرط بالفاء ، أي فقتل عقيب اللقاء غلاما ، اسمه خشنوذ أو حسين ، لم يبلغ الحنث ، وكان قتله بضرب رأسه الحائط ، وقيل : أضجعه وذبحه بالسكين (٢) ، قيل : إنه طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا (٣) ، وجزاء الشرط (قالَ) موسى (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) بالألف وبعيرها مشددا (٤) ، أي لم تذنب قط ، لأنها لم تبلغ الحنث أو مطهرة من الذنوب ، لأنه لم يرها قد أذنبت (بِغَيْرِ نَفْسٍ) لم تقتل (٥) نفسا فتقتص منها (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) [٧٤] أي منكرا وهو أعظم من الأمر ، لأنه لا سبيل إلى تداركه بخلاف الأول.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧))

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [٧٥] توبيخ لموسى على ترك الوصية وزيادة «لك» هنا لزيادة العتاب على تركها ، وكان في الأول معذورا (٦) ، لأن في الأول كانت منه نسيانا (٧) ، ولذلك (قالَ) موسى (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه الكرة أو المسألة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي لا تكن صاحبي بل أبعدني عنك إن اتبعتك (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي) مخففا ومشددا (٨)(عُذْراً) [٧٦] أي انتهيته فما أبقيت لي عذرا أعتذر به في صحبتك واتباعك ، لأني لم أحفظ وصيتك ، روي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله أخي موسى استحيى ، فقال ذلك» (٩)(فَانْطَلَقا) أي ذهبا بعد ما شرطا ذلك (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وهي أنطاكية أو الأبلة ، وهي أبعد الأرض من السماء (اسْتَطْعَما أَهْلَها) أي طلبا منهم الطعام ضيافة ، قيل : لم يسألاهم ولكن نزولهما عندهم كالسؤال منهما (١٠)(فَأَبَوْا) أي امتنعوا (أَنْ يُضَيِّفُوهُما) أي من تضييفهما يقال ضيفته ، أي أنزلته ضيفا ، قيل : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ، ولا يعرف لابن السبيل حقه (١١)(فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) أي يميل إلى أن يسقط ويشارفه ، فالإرادة مجاز هنا ، لأنها ممتنعة عن الجماد لكونها نزوع النفس إلى شيء مع حكم فيه بالفعل أو عدمه ، والإرادة من الله هي الحكم (١٢) ، يقال انقض الشيء بمعنى أسرع سقوطه (فَأَقامَهُ) الخضر بالإشارة بيده ،

__________________

(١) أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٠٧.

(٢) عن سعيد بن جبير ، انظر الكشاف ، ٣ / ٢١٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧.

(٣) وقد نقله عن البغوي ، ٣ / ٥٨٧.

(٤) «زكية» : قرأ الشامي والكوفيون وروح بغير ألف بعد الزاي مع تشديد الياء ، والباقون بألف بعد الزاي مع تخفيف الياء. البدور الزاهرة ، ١٩٤.

(٥) تقتل ، ح و : يقتل ، ي.

(٦) ما يأت منه ، + و.

(٧) لأن في الأول كانت منه نسيانا ، ح ي : ـ و.

(٨) «لدني» : قرأ المدنيان بضم الدال وتخفيف النون ، ولشعبة وجهان : الأول إسكان الدال والثاني اختلاس ضمة الدال وكلا الوجهين مع تخفيف النون ، والباقون بضم الدال وتشديد النون. البدور الزاهرة ، ١٩٥.

(٩) انظر الكشاف ، ٣ / ٢١٦. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(١٠) قد أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٣٠٨.

(١١) نقله المفسر عن الكشاف ، ٣ / ٢١٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٨٩.

(١٢) هي الحكم ، ح ي : أي الحكم ، و.

٥٦

وقيل : مسحه بيده فاستوى (١) وقيل : نقضه فبناه (٢) ، وقيل : كان طوله في السماء مائة ذراع (٣) ، فلما أقام الجدار (قالَ) له موسى عليه‌السلام لضرورة الحاجة إلى الطعام (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [٧٧] أي لو طلبت على عملك جعلا لا ندفع به ألم الجوع عنا ، قرئ «لتخذت» بغير ألف وكسر الخاء وإظهار الذال من التخذ بمعنى الأخذ من باب علم ، و «لتخذت» بادغام الذال في التاء وكسر الخاء ، و «لاتخذت» بالألف وفتح الخاء وإظهار الذال وكذلك بادغام الذال في التاء (٤).

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))

(قالَ) الخضر (هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) أي هذا السؤال سبب الفراق بيننا لعدم صبرك وتعمدك به ، فقال موسى : أخبرني بعلم ما لم أستطع عليه صبرا قبل المفارقة فقال (سَأُنَبِّئُكَ) أي أخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [٧٨] أي بعلم ما يؤول إليه ذلك حقيقة.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩))

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) أي لفقراء وضعفاء وكانوا عشرة إخوة خمسة منهم زمني وخمسة (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) بها مؤاجرة طلبا للكسب (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي السفينة لخوف الغصب يدل عليه (وَكانَ وَراءَهُمْ) أي قدامهم (مَلِكٌ) كافر اسمه جلندى (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صالحة (غَصْباً) [٧٩] أي غاصبا ، مصدر في موضع الحال ، ويجوز أن يكون تمييزا أو مفعولا له ، وخوف الغصب سبب لإرادة عيبها لكنه أخر لقصد العناية بذكرها مقدما ، قيل : «فيه دليل على أن للوصي أن ينقص مال اليتيم إذا رأى فيه صلاحا كما رأى أن يدفع من ماله شيئا إلى سلطان ظالم ليدفعه عن بقية ماله» (٥).

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠))

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) أي مقرين (٦) بتوحيد الله (فَخَشِينا) أي خفنا (أَنْ يُرْهِقَهُما) أي يكلفهما (طُغْياناً) أي ضلالة (وَكُفْراً) [٨٠] فيتبعاه بعد الإيمان لمحبتهما إياه وإنما خشي الخضر من ذلك ، لأن الله أعلمه بحاله فأمره بقتله إياه.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١))

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) بالتشديد والتخفيف (٧) ، أي يعوضهما (رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) أي من ذلك الغلام (زَكاةً) أي صلاحا ونقاء من الذنوب وهو تمييز (وَأَقْرَبَ رُحْماً) [٨١] بضم الحاء وسكونها (٨) ، أي رحمة ، تمييز ، وهي البر بوالديه ، فأبدلهما الله تعالى بغلام مسلم ، وقيل : «بجارية ولدت منهما ، ثم تزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم» (٩) ، وقيل : «ولدت سبعين نبيا» (١٠) ، وقيل : قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير من قضائه فيما يحب (١١).

__________________

(١) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٣ / ٢١٦.

(٢) وهذا منقول عن الكشاف ، ٣ / ٢١٦.

(٣) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٢١٦.

(٤) «لاتخذت» : قرأ المكي والبصريان بتخفيف التاء الأولى وكسر الخاء من غير ألف وصل ، والباقون بألف الوصل وتشديد التاء الأولى وفتح الخاء. البدور الزاهرة ، ١٩٥.

(٥) عن الفقيه أبي الليث ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠٩.

(٦) مقرين ، ح ي : موحدان ، و.

(٧) «أن يبدلهما» : قرأ المدنيان والبصري بفتح الباء وتشديد الدال ، والباقون باسكان الباء وتخفيف الدال. البدور الزاهرة ، ١٩٥.

(٨) «رحما» : ضم الحاء الشامي وأبو جعفر ويعقوب وأسكنها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٩٥.

(٩) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٠٩ ؛ والبغوي ، ٣ / ٥٩١.

(١٠) عن جعفر بن محمد عن أبيه ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩١.

(١١) قد أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٥٩١.

٥٧

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ) اسمهما أصرم وصريم (يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) أي مال مدفون من ذهب وفضة وهو الظاهر لاطلاقه ، وقيل : «إنه صحف علم» (١) ، وقيل : «إنه لوح من ذهب مكتوب فيه «عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله» (٢)(وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) فحفظا بصلاح أبيهما في مالهما وأنفسهما ، روي : «أن الله يحفظ بالعبد الصالح ولده وولد ولده وعشيرته وأهل دويرات حوله» (٣) ، وقيل : «كان بيهما وبين الأب الصالح سبعة آباء» (٤)(فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي كمال عقلهما (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً) مفعول له ، أي لرحمة (مِنْ رَبِّكَ) لهما بصلاح أبيهما ، قيل : أسند الخضر عليه‌السلام الإرادة هنا إلى الله لاختصاص التبليغ إليه تعالى ، وأسندها إلى نفسه في جانب العيب فانه فعله حقيقة بأمره تعالى ، وأسندها إلى نفسه بتشريك الغير في طلب الخير منه تعالى لأنها في معنى الدعاء الذي يحتاج إلى الاستعانة في استجابته (٥)(وَما فَعَلْتُهُ) أي ما فعلت ما رأيت مني يا موسى (عَنْ أَمْرِي) أي باختياري أو من تلقاء نفسي ، بل أنا عبد مأمور فعلته بأمر الله تعالى ، وهذا إيضاح لما أشكل على موسى وتمهيد للعذر في فعله المنكر ظاهرا ، وهكذا الطريق بين المرشد والمسترشد في إزالة الشكوك والشبه عنه شفقة له (ذلِكَ) أي العلم الذي أخبرتك به (تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [٨٢] كرره تأكيدا لحفظه تأويله ، وإنما قال هنا «تسطع» وقبله «تستطع» جمعا بين اللغتين ، يقال اسطاع واستطاع بمعنى أطاق ، روي : أن موسى عليه‌السلام لما فارق الخضر قال له : أوصني ، فقال : لا تطلب العلم لتحدث به الناس واطلبه لتعمل به (٦) ، قيل : إن الخضر عليه‌السلام ميت الآن لقوله تعالى (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)(٧)(٨) ، وقيل : حي وسبب حيوته أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحيوة وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وشرب وصلى شكرا لله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد عنه ولم يشرب (٩).

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣))

قوله (وَيَسْئَلُونَكَ) عطف على قصة موسى ، أي يسألك الكفار امتحانا (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) قيل : «إنه كان نبيا» (١٠) ، وقيل : ملكا (١١) ، سئل النبي عليه‌السلام عنه فقال : «لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا ، أحب الله فأحبه الله ، وناصح الله وناصحه الله» (١٢) ، قيل : ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة والهيبة ، وسخر له النور والظلمة ، فاذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه (١٣) ، «وسمي بذي القرنين لبلوغه قرني الشمس مشرقها ومغربها» (١٤) ، وقيل : «لدخوله النور والظلمة» (١٥) ، وقيل : لأنه كانت له ذوابتان

__________________

(١) عن سعيد بن جبير ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٠٩ (عن مقاتل ومجاهد).

(٢) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٠٩ ـ ٣١٠ ؛ والكشاف ، ٣ / ٢١٧.

(٣) عن محمد بن المنكدر ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩٢.

(٤) عن جعفر بن محمد الصادق ، انظر الكشاف ، ٣ / ٢١٧.

(٥) لعل المؤلف اختصره من البيضاوي ، ٢ / ٢١.

(٦) قد نقله المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٩٢.

(٧) الأبياء (٢١) ، ٣٤.

(٨) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٥٩٢.

(٩) قد أخذه المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥٩٢.

(١٠) عن عكرمة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣١٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٥٩٣ ؛ والكشاف ، ٣ / ٢١٨.

(١١) أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٢١٨.

(١٢) انظر البغوي ، ٣ / ٥٩٣ ، ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث المعتبرة التي راجعتها.

(١٣) قد أخذه عن الكشاف ، ٣ / ٢١٨.

(١٤) عن الزهري ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣١٠.

(١٥) عن فارس ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩٣.

٥٨

حسنتان (١) ، وقيل : كان له قرنان تواريهما العمامة (٢) ، واسمه الإسكندر بن فلقوس الرومي ، وكان بعد ثمود ، وعاش ألفا وستمائة سنة ، قيل : إنه بعد ما خرج من الظلمة توفي بشهر زور ودفن بها (٣) ، ثم أمر تعالى النبي أن يجيب عليهم بقوله (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ) أي سأذكر لكم (مِنْهُ) أي من حاله (ذِكْراً) [٨٣] أي خبرا من عند الله.

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤))

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي قوينا ليسير فيها ، قيل : «سخر له السحاب وبسط النور فكان الليل والنهار عنده سواء» (٤)(وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي من أسباب كل شيء ، يعني من أغراضه ومقاصده في ملكه (سَبَباً) [٨٤] أي طريقا موصلا إليه ، أي إلى مراده.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦))

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) [٨٥] بقطع الهمزة وإسكان التاء ، أي فألحق سببا سببا لأنه يتعدى إلى مفعولين وبوصل الهمزة وتشديد التاء (٥) ، أي سار طريقا نحو المغرب (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي بلغ قوما في جهته ليس وراءهم أحد (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي في عين ماء ذي طين وحمأ أسود ، وقرئ «حامية» (٦) ، أي حارة ، الأول من الحمأة وهي الطين الأسود ، والثاني من الحمى وهي حرارة النار ، روى أبوذر رضي الله عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنها تغرب في عين حامئة» (٧) ، وفي رواية : «في عين الله الحامية» (٨) ، لو لا ما بزغها من أمر الله لاحترقت الأرض من البزغ وهو الإغراب ، قيل : إنه مجاز (٩) ، إذ يمتنع غروبها في العين حقيقة ، لأنها أعظم من الدنيا خمسين مرة ، وقيل : بمائة وعشرين مرة والقمر بثمانين مرة (١٠) ، وإنما ذلك في رأي العين كراكب البحر (وَوَجَدَ عِنْدَها) أي عند غروبها (قَوْماً) من المؤمنين والكافرين عليهم جلود السباع لا طعم لهم إلا ما تحرقه الشمس عن غروبها وترميه العين عند ذلك فيأكلونه ، وقيل : كانوا كلهم كافرين (١١)(قُلْنا) بالوحي أو بالإلهام (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) [٨٦] أي أنت مخير في أمرهم بعد الدعوة إلى الإسلام أما أن تعذب من أبي وكفر بالقتل ، وأما أن تحسن من لم يأب وآمن وعمل بما يقتضيه الإيمان بالأنعام عليه ، قيل : كان يطبخ من كفر ويعطي ويكسي من آمن (١٢) ، وقيل : يحسنه بالعفو والأسر وسماهما إحسانا في مقابلة القتل (١٣).

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧))

(قالَ) ذو القرنين (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) بكفره (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل في الدنيا (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) في الآخرة (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) [٨٧] أي شديدا بالنار.

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨))

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) برفع (جَزاءً) بلا تنوين للإضافة ، أي له جزاء المثوبة الحسنى ،

__________________

(١) نقله المفسر عن البغوي ، ٣ / ٥٩٣.

(٢) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٣ / ٥٩٣.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٤) عن علي ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩٣ ـ ٥٩٤.

(٥) «فأتبع» : قرأ الشامي والكوفيون بقطع الهمزة وإسكان التاء وغيرهم بوصل الهمزة وتشديد التاء. البدور الزاهرة ، ١٩٦.

(٦) «حمئة» : قرأ الشامي وشعبة والأخوان وأبو جعفر وخلف بألف بعد الحاء وإبدال الهمزة ياء خالصة وصلا ووقفا ، والباقون بحذف الألف وتحقيق الهمزة. البدور الزاهرة ، ١٩٦.

(٧) رواه أحمد بن حنبل ، ٥ / ١٦٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢١٨.

(٨) أخرجه أبو داود ، الحروف ، ٣٤ (رقم الحديث : ٤٠٠٢).

(٩) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(١٠) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

(١١) قد أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣١١.

(١٢) لعله اختصره من الكشاف ، ٣ / ٢١٩.

(١٣) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٣ / ٢١٩.

٥٩

وهي الجنة أو للإضافة ، بل لالتقاء الساكنين ، ف (الْحُسْنى) بدل من (جَزاءً) المبتدأ و (لَهُ) خبره ، وبنصبه منونا (١) ف (الْحُسْنى) مبتدأ و (لَهُ) خبره ، و (جَزاءً) مصدر فعل محذوف ، أي يجزى به جزاء في موضع الحال من ضمير (آمَنَ) ، وقيل : معناه : له الخلال الحسنى يجازى بها جزاء أو له جزاء الفعلة الحسنى بالإضافة ، وهي كلمة الشهادة (٢)(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) [٨٨] أي أمرا ذا يسر ، يعني لا نأمر بما يصعب عليه بل بما يسهل.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠))

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) [٨٩] أي سار ذو القرنين طريقا نحو المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي موضع طلوعها (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) قيل : «هم الزنج» (٣)(لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها) أي أمام الشمس (سِتْراً) [٩٠] أي بناء يحصنهم من حرها ، لأن أرضهم لا تحمل الأبنية ولهم سروب يدخلونها عند طلوع الشمس ، فاذا ارتفع النهار (٤) خرجوا إلى معاشهم في ساحل البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم ، وقيل : الستر اللباس (٥) ، أي لا يلبسون اللباس من حر الشمس ، وهم أكثر من جميع أهل الأرض ، قيل : «هم قوم عراة يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى» (٦).

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١))

(كَذلِكَ) أي أمر ذي القرنين كما وصفناه تعظيما لأمره فهو خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : معنى (كَذلِكَ) لن نجعل لهم سترا كما جعلنا لكم سترا من الحصون والجبال والأبنية والثياب (٧) ، فعلى هذا هو صفة موصوف مذكور قبله ، أي سترا مثل ذلك الستر (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) أي لدى ذي القرنين من الجند والآلات وأسباب الملك (خُبْراً) [٩١] أي علما ، تمييز ، وقيل : مصدر من غير لفظ فعله (٨) ، أي أخبرناه خبرا ذكره تكثيرا لذلك.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣))

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) [٩٢] أي أخذ طريقا (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) بضم السين وفتحها (٩) ، أي طرفي الجبلين بمنقطع بلاد الترك سد ذو القرنين ما بينهما السد ، بالفتح عمل الإنسان ، وبالضم خلق الله تعالى ، وقيل : معناهما واحد (١٠) ، و (بَيْنَ) نصب ، بأنه اسم ، مفعول به لقوله (بَلَغَ) ، لأنه من الظروف المستعملة أسماء وظروفا (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أي من قبلهم (قَوْماً) من الترك (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) [٩٣] أي لا يفهمون كلام أحد ، لأن لغتهم مجهولة وقرئ «لا يفقهون» بضم الياء وكسر القاف أيضا (١١) ، أي لا يفقهون غيرهم قولا إلا بمشقة من إشارة ونحوها ، لأنهم كالبكم أو بالترجمان بينه وبينهم.

__________________

(١) «فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» : قرأ حفص والأخوان ويعقوب وخلف بفتح الهمزة منونة مع كسر التنوين وصلا للساكن ، والباقون بالرفع من غير تنوين ولحمزة عن الوقف تسهيل الهمزة مع المد والقصر مثل بناء ودعاء ولهشام عند الوقف إبدال الهمزة ألفا مع القصر والتوسط والمد ثم تسهيلها بالروم مع المد والقصر وله إبدالها واوا خالصة مع القصر والتوسط والمد وكل منها مع السكون المحض والإشمام وله القصر مع الروم وهذا على القول برسمها بواو وأما على القول بعدم رسمها على واو فلا يكون له إلا خمسة القياس. البدور الزاهرة ، ١٩٦.

(٢) قد أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٣ / ٢١٩.

(٣) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣١١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ٢١٩.

(٤) و ، + ح.

(٥) قد نقله المصنف عن الكشاف ، ٣ / ٢١٩.

(٦) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٣ / ٥٩٥.

(٧) أخذ المفسر هذا المعنى عن الكشاف ، ٣ / ٢١٩.

(٨) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٩) «السدين» : فتح السين المكي والبصري وحفص ، وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ١٩٦.

(١٠) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٥٩٦.

(١١) «يفقهون» : قرأ الأخوان وخلف بضم الياء وكسر القاف ، والباقون بفتحهما. البدور الزاهرة ، ١٩٦.

٦٠