عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

نصح به أولا نفسه وبنى عليه تدبير أمره لينظروا فيقولوا ما أردنا لنا إلا ما أراد لنفسه ليكون أدعاهم إلى القبول وابعث على الاستماع منه ليؤمنوا (١) ، أي هم أعدائي (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [٧٧] استثناء منقطع ، أي لكن رب العالمين هو (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [٧٨] إلى (٢) صلاح الدارين (٣) ، وجاء بالفاء في (فَهُوَ) بعد خلقني للإيذان أن هدايته وجدت عقيب خلقه ونفخ الروح فيه فهدى إلى (٤) الاهتداء بدم الحيض في البطن امتصاصا ، ثم هداه إلى معرفة الثدي عند الولادة وهداه لكيفية الارتضاع إلى غير ذلك من المصالح الدينية والدنيوية.

(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [٧٩] أي هو الذي يحييني بطعامه ويربيني بشرابه.

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١))

(وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [٨٠] من المرض وإنما أضاف المرض إليه ولم يقل أمرضني تأدبا مع ربه أو لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في الطعام والشراب وغيرهما.

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي) في الدنيا (ثُمَّ يُحْيِينِ) [٨١] في الآخرة.

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) وهي ما يندر منه من الصغائر (يَوْمَ الدِّينِ) [٨٢] أي يوم الجزاء وهي مكفرة له لكنه قال ذلك تواضعا لله ، لأن استغفار الأنبياء تواضع لربهم وهضم لأنفسهم ، وعلق المغفرة ب (يَوْمَ الدِّينِ) وإن وجدت هنا لأن فائدتها تظهر ثم ، وقيل : المراد من الخطيئة قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ)(٥) و (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)(٦) للصنم ، وهي أختي لسارة ، وهذا ربي للكوكب (٧) ، وقيل : الكلمات المذكورة من التعريض بهم وبأحوالهم لأن الأنبياء معصومون من الخطايا (٨).

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦))

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) أي الحكم بالحق بين الناس ، وقيل : نبوة (٩) ، لأن النبي ذو حكم بين عباد الله (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [٨٣] أي وفقني لعمل الصالحين انتظم به في جملتهم أو ألحقني بآبائي المرسلين.

(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ) أي ذكرا جميلا وثناء حسنا (فِي الْآخِرِينَ) [٨٤] أي في الأمم بعده ، فكل الأمم يتوالاه ويحبه.

(وَاجْعَلْنِي) وارثا (مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [٨٥] وَاغْفِرْ لِأَبِي) أي وفقه (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) [٨٦] عن طريق الهداية.

(وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩))

(وَلا تُخْزِنِي) أي لا تفضحني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) [٨٧] أي يوم يبعث العباد من قبورهم لما علموا أنه مغفور ، ويجوز أن يكون الضمير ل (الضَّالِّينَ) ، أي لا تخزني يوم يبعث الضالون وأبي منهم وقد استغفرت له.

قوله (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ) بدل من (يَوْمَ يُبْعَثُونَ (وَلا بَنُونَ [٨٨] إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [٨٩] استثناء منقطع ، تقديره : لكن حال من (أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) تنفعه وهي سلامة القلب وليست من الجنس الأول وإنما

__________________

(١) ليؤمنوا ، ح ي : ليتيقنوا ، و.

(٢) إلى ، ح ي : أي ، و.

(٣) الدارين ، ح ي : للدارين ، و.

(٤) إلى ، ح ي : أي ، و.

(٥) الصافات (٣٧) ، ٨٩.

(٦) الأنبياء (٢١) ، ٦٣.

(٧) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٤٧٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٧١.

(٨) نقل المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٤ / ١٧١.

(٩) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٦٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٧٦.

٢٠١

وجب تقدير المضاف ليتحصل به معنى الاستثناء وهو الحال أو متصل فيحمل الكلام على المعنى بأن يجعل (الْمالُ وَالْبَنُونَ) في معنى الغني ، كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم ولأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه ، ويجوز أن يكون «من» مفعولا ل (يَنْفَعُ) ، أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلا (١) أتى الله بقلب سليم بأن يصرف المال في الطاعة وبأن يرشد البنين إلى الصلاح فانه ينتفع بهما سليم القلب ، والقلب السليم هو الفارغ عن آفات المعاصي والكفر وفتنة المال والبنين.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣))

ثم قال تعالى (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت (لِلْمُتَّقِينَ) [٩٠] لأن الجنة تكون (٢) قريبة من موقف السعداء يوم القيامة ينظرون إليها.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي كشفت (لِلْغاوِينَ) [٩١] أي للضالين عن الإسلام ، لأن النار تكون بارزة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم يساقون إليها.

(وَقِيلَ) أي يقال (لَهُمْ أَيْنَ ما) أي أين الذي (كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) [٩٢] في الدنيا.

(مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) أي ينفعونكم بنصرهم لكم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [٩٣] أي هل ينفعون أنفسهم بانتظارهم ، لأن العابد والمعبود كلهم وقود النار.

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨))

(فَكُبْكِبُوا) أي جمعوا (فِيها هُمْ) أي الآلهة (وَالْغاوُونَ) [٩٤] أي العبدة ، يعني يلقون فيها منكبين على رؤوسهم مرة بعد مرة حتى يستقروا في قعرها ، ويدل عليه تكرير الكب وهي الكبكبة.

(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) [٩٥] أي أتباعه العاصون من الناس أو شياطينه من جنسه.

(قالُوا) أي الداخلون فيها ، والواو للحال في (وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) [٩٦] أي يخاصم بعضهم بعضا ، ويقول العابدون للمعبودين (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٩٧] أي بين ، قيل : «إن» مخففة (٣) ، أي إنا كنا في ضلالة بينة بعبادتكم ، وقيل : «إن» نافية واللام بمعنى «إلا» (٤).

قوله (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) [٩٨] ظرف ل (مُبِينٍ) ، أي إذ نجعلكم مثله في العبادة.

(وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (٩٩))

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [٩٩] الذين اقتدينا بهم كإبليس وقابيل القاتل لأخيه ، لأنه أول من سن القتل وعمل بالمعاصي وسائر الشياطين فيومئذ يشفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون في أصدقائهم فيقول المشركون تأسفا.

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤))

(فَما) أي فليس (لَنا مِنْ شافِعِينَ) [١٠٠] كما نرى للمؤمنين شفعاء من النبيين والملائكة (وَلا) من (صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [١٠١] كما نرى لهم أصدقاء ، والصديق من يهمه ما أهمك بشرط الدين ، والحميم هو القريب الخاص ، وإنما جمع الشافعين ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ، ويجوز أن يراد ب «الصديق» الجمع ،

__________________

(١) رجلا ، وي : رجل ، ح.

(٢) تكون ، وي : يكون ، ح.

(٣) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٤) ولم أجد له مأخذا في المصادر التي راجعتها.

٢٠٢

فلما يئسوا من الشفاعة قالوا (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي رجعة إلى الدنيا (فَنَكُونَ) بالنصب على أن «لو» ههنا بمعنى التمني ، كأنه قيل فليت لنا كرة فأن نكون (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [١٠٢] أي فنؤمن فيشفع لنا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة لعابدي غير الله حيث لا ينفعهم معبودهم بل يتبرأ منهم (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٠٣] بأنبيائهم.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) لمن كفر (الرَّحِيمُ) [١٠٤] من آمن.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٩))

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠))

(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [١٠٥] أي نوحا وإنما جمع ، لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ) في النسب لا في الدين ، وإنما أنث (كَذَّبَتْ) ، لأن القوم مؤنثة وتصغيرها قويمة (أَلا تَتَّقُونَ) [١٠٦] أي اتقوا وآمنوا.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [١٠٧] بينكم وبين ربكم (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [١٠٨] فيما أمركم به (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) على الإيمان (مِنْ أَجْرٍ) أي جعلا (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما جعلي وثوابي (إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [١٠٩] فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [١١٠] فيما أمركم به ، وكررت لتوكيد التقوى والطاعة في نفوسهم.

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢))

(قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) إنكارا (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [١١١] من الرذالة وهي الدناءة والخسة والضعف ، والواو للحال و «قد» بعدها مضمرة ، وإنما سموهم بالأرذلين لاتضاع حرفتهم كالحجامة والحياكة وقلة مالهم ، وهذا لا يضر الإيمان.

(قالَ) نوح (وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [١١٢] أي وأي شيء علمي بأعمالهم من الصناعات فأزدريهم لأجلها وإنما أطلب منهم الإيمان وإنما قال هذا ، لأنهم قد طعنوا مع استرذالهم (١) في إيمانهم ، أي لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا بهوى وغفلة ، أو المعنى : نفي علمه باخلاصهم (٢) في العمل لله والاطلاع على سر أمرهم ، أي ما على إلا اعتبار الظواهر دون التفتيش عن أسرارهم والشق عن قلوبهم.

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦))

(إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي) أي ما جزاؤهم إلا عليه وإن كان لهم عمل سيء ، لأنه يعلم أسرارهم (لَوْ تَشْعُرُونَ) [١١٣] ذلك ولكنكم تجهلون ، إذ لو علمتم لما عبتموهم.

(وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) [١١٤] باتباع شهواتكم وتطييب نوسكم بطردهم لصحة إيمانهم عندي (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [١١٥] بلغة تفهمونها وببيان يتميز به الحق من الباطل ثم أنتم أعلم بشأنكم.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن هذه الدعوة (يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [١١٦] أي المقتولين بالحجرة.

(قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١))

(قالَ) نوح داعيا عليهم (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) [١١٧] وهذا ليس باخبار له عن تكذيبهم ، إذ لا يخفى عليه

__________________

(١) طعنوا مع استرذالهم ، ح : طعنوا لاسترذالهم ، ي ، أبغضوا مع استرذالهم ، و؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٧٤.

(٢) باخلاصهم ، ح ي : باصلاحهم ، و.

٢٠٣

شيء في الأرض ولا في السماء ولكنه أراد أني لا أدعوك عليهم لما آذوني ، وإنما أدعوك لأجل دينك.

(فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) أي احكم (فَتْحاً) بينا ، لأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك (وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [١١٨] فَأَنْجَيْناهُ) أي نوحا (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [١١٩] أي في السفينة المملوة من الرجال والنساء والخيل وغيرها من كل حيوان زوجين ذكر وأنثى.

(ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) [١٢٠] أي بعد من أنجيناهم في السفينة من بقي ممن لا يركب السفينة ، و (بَعْدُ) مبني على الضم بعد حذف المضاف إليه مع النية.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة لمن استكبر عن قبول الحق (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٢١] بنوح من قومه ، قيل : من آمن به منهم ثمانون نفسا من الرجال والنساء (١).

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦))

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨))

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [١٢٢] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) [١٢٣] أي هودا ومن قبله من الرسل.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ [١٢٤] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [١٢٥] فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [١٢٦] وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [١٢٧] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) أي بكل طريق أو الجبل ، وال «ريع» المكان المرتفع بفتح الراء وكسرها لغتان (آيَةً) أي علامة (تَعْبَثُونَ) [١٢٨] أي تسخرون وتلعبون لمن مر بكم وهو حال من ضمير (تَبْنُونَ) ، وقيل : «بنوا بروج الحمام ولعبوا بها» (٢).

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠))

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) أي مآخذ الماء ، جمع مصنعة ، وقيل : «كالقصور العالية» (٣) ، أي الحصون (٤)(لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) [١٢٩] أي ترجون الخلود في الدنيا.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) أي أخذتم بشدة أحدا (بَطَشْتُمْ) أي عاقبتم بسيف أو سوط فكان ذلك ظلما وعلوا ، ولذا قال بطشتم (جَبَّارِينَ) [١٣٠] قيل : الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب ولا يتفكر في العاقبة (٥).

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥))

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [١٣١] وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ) أي أعطاكم (بِما تَعْلَمُونَ) [١٣٢] أي ما تعرفون من كل خير ، فيه مبالغة في تنبيههم على نعم الله تعالى حيث أجملها ، ثم فصلها وعددها عليهم بقوله (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [١٣٣] وإنما قرنهم بالأنعام ، لأن البنين هم الذين يعينونهم على حفظها.

(وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [١٣٤] لمصالحكم ومنافعكم فعرفهم المنعم بتعديد ما يعلمون من نعمه ، أي فهو قادر على الثواب والعقاب كما قدر على التفضل عليكم بهذه النعم فاتقوه.

قوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [١٣٥] زيادة تهديد لهم.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧))

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ) أي خوفتنا بالعذاب (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) [١٣٦] أي المخوفين به ، فلا

__________________

(١) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٧٨.

(٢) ذكر سعيد بن جبير ومجاهد نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٧٠.

(٣) ذكر مجاهد نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٧١.

(٤) عن الكلبي ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٧١.

(٥) اختصره من الكشاف ، ٤ / ١٧٦ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٧١.

٢٠٤

نصدقك وهو أبلغ من «أم لم تعظ» في قلة اعتدادهم (١) لوعظه ، إذ المعنى سواء علينا وعظك أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه.

(إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) [١٣٧] بفتح الخاء وإسكان اللام مصدر ، أي ما خلقنا إلا كخلق من تقدمنا في الموت والحيوة فلا بعث ولا حساب أو الخلق بمعنى الاختلاق ، أي ما هذا الاختلاق والافتراء إلا كاختلاق المتقدمين وافترائهم ، وبضم الخاء واللام أو بسكونه (٢) اسم للعادة ، أي ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحيوة إلا عادة الناس لا يزالون عليها في قديم الدهر أو ما هذا الذي نعتقد من الدين إلا عادة الأولين الذين كانوا يدينونها ونحن بهم مقتدون.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩))

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [١٣٨] فَكَذَّبُوهُ) أي هودا (فَأَهْلَكْناهُمْ) بالريح الشديدة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي لعبرة لمن يعمل عمل الجبارين (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٣٩] فلو كان أكثرهم مؤمنين لما أهلكناهم ، والآية تخويف لهذه الأمة كيلا يعملوا عمل هؤلاء.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤))

(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥))

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) لمن عصاه (الرَّحِيمُ) [١٤٠] لمن تاب وأطاعه.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [١٤١] أي صالحا ومن قبله من الرسل (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ [١٤٢] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ [١٤٣] فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [١٤٤] وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) [١٤٥].

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨))

قوله (أَتُتْرَكُونَ) إنكار لأن يكنوا مخلدين (فِي ما) أي في الخير الذي هو ثابت (هاهُنا) يعني في الحيوة الدنيا (آمِنِينَ) [١٤٦] من الموت والزوال والعذاب ، وفسر الخير بقوله (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [١٤٧] وَزُرُوعٍ) وهذا أيضا إجمال وتفصيل ، وإنما عطف (وَنَخْلٍ) على (جَنَّاتٍ) مع أن الجنة تعم النخل وغيره تفضيلا له (طَلْعُها هَضِيمٌ) [١٤٨] أي حملها طري ينحل في الفم ويتفتت ، قيل : الطلع ما يطلع ويخرج من النخل كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو (٣) ، وهو من التمر كالعنقود من العنب ووصفه بال (هَضِيمٌ) لأنه يهضم الطعام أو للعطف ، لأن الهضيم هو اللطيف الضامر وطلع أناث النخل فيه لطف وفي طلع ذكوره جفاء وطلع البرني ألطف من طلع اللون ، وقيل : طلع النخل ما يبدو من الكم ، والهضيم اللين النضيج (٤) ، كأنه قال ونخل قد أرطب تمره.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢))

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ) أي تنقبون منها (بُيُوتاً فارِهِينَ) [١٤٩] وقرئ «فارهين» (٥) ، والفراهة النشاط ، أي ناعمين وفرحين.

__________________

(١) اعتدادهم ، ح ي : اعتمادهم ، و؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٧٧.

(٢) «خلق» : قرأ نافع والشامي وعاصم وحمزة وخلف بضم الخاء واللام ، والباقون بفتح الخاء وإسكان اللام. البدور الزاهرة ، ٢٣٢.

(٣) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٤ / ١٧٨.

(٤) وفي هذا الموضوع أقوال كثيرة ، انظر القرطبي ، ١٣ / ١٢٨.

(٥) «فارهين» : قرأ الشامي والكوفيون بألف بعد الفاء ، والباقون بحذفها. البدور الزاهرة ، ٢٣٢.

٢٠٥

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [١٥٠] أي أطيعوا أمري ، فان في طاعة أمري طاعة الله (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) [١٥١] أي المشركين (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بالمعاصي والشرك (وَلا يُصْلِحُونَ) [١٥٢] وهم تسعة رهط منهم لا يوجد منهم صلاح ما ، بل فسادهم فساد مصمت لا خير فيه ، ولهذا ذكره بعد قوله يفسدون.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥))

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [١٥٣] أي من الذين (١) سحروا مرارا وغلب على عقلهم فوعظهم صالح فلم يؤمنوا وطلبوا آية على صدقه وهي خروج ناقة عشراء من هذه الصخرة فتلد سقبا ، أي ولدا ، وأبدل من جمل (إِنَّما) قوله (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [١٥٤] أنك رسول الله ، فخرج ناقة عشراء كأعظم ما يكون وولدت ولدا مثلها في العظم ، قيل : «كان مصدرها ستين ذراعا» (٢) ، ثم (قالَ) صالح (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ) أي نصيب من الماء تشربه وكانت تشرب جميع الماء (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [١٥٥] لا تشرب فيه الماء.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦))

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) أي بضرر أو بعقر (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [١٥٦] أي في يوم عظيم ، وإنما وصف اليوم بالعظم ، لأنه إذا عظم الوقت لحلول العذاب فيه كان موقعه في النفس من العظم أشد ، روي : أن مسطعا رماها بسهم في مضيق في شعب فأصاب رجلها فسقطت ، ثم ضربها قدار (٣) ، وروي أيضا : أن عاقرها قال لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين ، فاستؤذن رجالهم ونساؤهم وصبيانهم فرضوا (٤).

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

(فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) [١٥٧] على عقرها لا ندامة توبة ، بل ندامة خوف من نزول العذاب بهم أو ندموا عند معاينة العذاب وهو ليس بتوبة.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) المعهود وهو عذاب يوم عظيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ) أي أكثر قوم صالح (مُؤْمِنِينَ) [١٥٨] به.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [١٥٩] بالنقمة والتوبة.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥))

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [١٦٠] إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [١٦١] إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [١٦٢] فيما بين الله وبينكم من الوحي (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [١٦٣] وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [١٦٤] أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) [١٦٥] استفهم منهم لوط عليه‌السلام استفهام إنكار ، وأراد من (الْعالَمِينَ) الناس ومن الاتيان الفاحشة ، أي أتطئون الذكور من بين أولاد آدم عليه‌السلام مع غلبة إناثهم على ذكورهم في الكثرة أو أنتم مختصون بهذه الفاحشة ولا يفعلها غيرهم ، فعلى هذا «العالمون» كل ما ينكح من الحيوان ، أي يطأ.

__________________

(١) أي من الذين ، ح : أي الذين ، وي.

(٢) عن أبي موسى ، انظر الكشاف ، ٤ / ١٧٨.

(٣) نقله عن الكشاف ، ٤ / ١٧٨.

(٤) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٤ / ١٧٩.

٢٠٦

(وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨))

(وَتَذَرُونَ) أي تتركون (ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ) قوله (مِنْ أَزْواجِكُمْ) تبيين لما خلق لكم أو تبعيض فيراد بما خلق لكم العضو المباح منهن ، وهو محل الحرث ، لأنهم كانوا يفعلون هذا الفعل أيضا من نسائهم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) [١٦٦] أي متجاوزون الحلال إلى الحرام وهذا الفعل منه.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن الإنكار علينا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [١٦٧] من قريتنا.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) [١٦٨] أي المبغضين ، والقلى البغض الشديد وهو صفة لخبر محذوف ل «إن» ، أي إني لعملكم ، قال (١) من القالين ولو جعل هذا خبر العمل (الْقالِينَ) في (لِعَمَلِكُمْ) فلزم تقديم الصلة على الموصول.

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣))

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) [١٦٩] من الفواحش (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) [١٧٠] من العذاب (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) [١٧١] أي الباقين في العذاب وهو صفة ل (عَجُوزاً) وهي امرأته ، أي إلا عجوزا مقدرا غبورها مع قومها ، وإنما استثناها لأنها كانت معينة على الفواحش راضية بها والمستثنى منه هو الأهل ، لأن الزوجة من الأهل (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) [١٧٢] أي أهلكناهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) أي على شذاذهم ، وهم الذين كانوا خارجين من بلادهم حين ائتفكت بهم (مَطَراً) أي حجارة من السماء (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) [١٧٣] أجمعين ولم يرد قوما بأعيانهم ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي مطرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦))

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٧٤] بلوط (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [١٧٥] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) [١٧٦] «الأيكة» علم لبلد أو شجر ، روي : أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وهو شجر الدوم (٢) ، وقرئ «ليكة» بلا ألف ولام (٣) ، فمن قرأ «ليكة» أراد بها البلد فلا ينصرف للتعريف والتأنيث.

(إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨))

قوله (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) [١٧٧] ظرف لقوله «كذب» ، قيل : لم يكن شعيب من أصحاب الأيكة ، ولذا لم يقل أخوهم بل كان من أصحاب مدين (٤) ، عن النبي عليه‌السلام : «ان شعيبا أخا مدين أرسل إلى مدين وإلى أصحاب الأيكة» (٥) ، ولذا قال في موضع آخر (إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً)(٦) ، وكان أصحاب الأيكة يطففون فأمرهم بتقوى الله وإطاعة نفسه ، ونهاهم عن التطفيف بقوله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) [١٧٨] بينكم وبين ربكم.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢))

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [١٧٩] وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [١٨٠] أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي

__________________

(١) قال ، ح و : لقال ، ي.

(٢) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٨١.

(٣) «الأيكة» : قرأ المدنيان والمكي والشامي «ليكة» بلام مفتوحة من غير همز قبلها ولا بعدها ونصب التاء ، والباقون باسكان اللام وهمزة وصل قبلها وهمزة قطع مفتوحة بعدها وجر التاء ، وحمزة على أصله وصلا ووقفا. البدور الزاهرة ، ٢٣٢ ـ ٢٣٣.

(٤) اختصره من البغوي ، ٤ / ٢٧٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٨٢.

(٥) انظر الكشاف ، ٤ / ١٨١. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٦) الأعراف (٧) ، ٨٥ ؛ هود (١١) ، ٨٤ ؛ العنكبوت (٢٩) ، ٣٦.

٢٠٧

أتموه (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) [١٨١] أي الناقصين الكيل والوزن عند الأخذ والعطاء.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) [١٨٢] بكسر القاف وضمه (١) ، أي بميزان العدل.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي حقوقهم ، والبخس النقص بالظلم وهو يدل على أن أصحاب الأيكة أهل مدين ، لأنه قال فيهم كما قال هنا (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [١٨٣] أي لا تسعوا فيها بالمعاصي ، والعثي هو الفساد والهلاك وكذا العيث ، يقال عثي وعاث ، أي فسد وهو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع.

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) [١٨٤] هي الخلقة ، أي ذوي الجبلة ، يعني اتقوا الذي خلقكم وخلق من تقدمكم.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦))

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ [١٨٥] وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فاثبتوا له شيئين كلاهما مناف للرسالة عندهم ، أحدهما التسحير والآخر البشرية ، وقصدوا أن الرسول لا يجوز أن يكون مسحرا ولا بشرا ، وقالوا (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) [١٨٦] أي ما نظنك إلا من الكاذبين ، ويجوز أن كون «إن» مخففة دخلت في فعل الظن الذي يدخل على المبتدأ والخبر واللام في ثاني مفعوليه لكونه خبرا في المعنى.

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨))

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) بالسكون والحركة (٢) جمع كسفة وهي القطعة (مِنَ السَّماءِ) أي السحاب ، والمراد العقوبة (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [١٨٧] أنك نبي فادع ربك أن يسقط علينا كسفا من السماء.

(قالَ) شعيب (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) [١٨٨] أي إليه الحكم والمشية وهو أعلم بعملكم من نقصان الكيل والوزن وبما تستحقون من العقاب إن يرد يسقطه وإن يرد يعذبكم بعذاب آخر.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

(فَكَذَّبُوهُ) أي شعيبا بالعذاب (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وهو ان أصابهم حر شديد بستة أيام متوالية فأخذهم بأنفاسهم حيث لم ينفعهم ظل ولا ماء ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة فدخلوا تحتها ، لأنهم وجدوا فيها بردا ونسيما ، فأمطرت عليهم نارا محرقة فاحترقوا بها (إِنَّهُ) أي إن عذاب يوم الظلة (كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [١٨٩] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) لمن نقص في الكيل والوزن (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) [١٩٠] به.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [١٩١] أي للعاصي والمطيع وإنما كرر هذه القصص في القرآن تقريرا للمعاني في النفوس وتثبيتا لها في الصدور ، لأنه أثبت للذكر وأبعد للنسيان وليكون أبلغ في الوعظ والزجر.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤))

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) [١٩٢] أي إن القرآن لمنزل (٣) إله الخلق كلهم.

__________________

(١) «بالقسطاس» : كسر القاف حفص والأخوان وخلف ، وضمها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٣٣.

(٢) «كسفا» : فتح السين حفص ، وأسكنها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٣٣.

(٣) لمنزل ، ح ي : لتنزل ، و.

٢٠٨

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [١٩٣] أي جبريل ، لأنه أمين على الوحي وهو بالرفع فاعل (نَزَلَ) على قراءة التخفيف ، وقرئ «نزل» مشددا ونصب «الروح» (١) ، ومعناه : جعل الله الروح الأمين نازلا به ، ومحل الجملة نصب على الحال.

(عَلى قَلْبِكَ) أي على قدر قلبك حفظا وفهما ، يعني حفظه قلبك وفهمك إياه على مرادك وأثبته فيك إثبات ما لا ينسى (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [١٩٤] أي المخوفين.

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦))

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [١٩٥] قيل : إن علقت الباء في (بِلِسانٍ) ب (الْمُنْذِرِينَ) كان المعنى من الذين أنذروا بهذا اللسان وهو لغة قريش وهم خمسة ، هو وصالح وشعيب وإسمعيل ومحمد عليهم الصلوة والسّلام أجمعين ، وإن علقت الباء فيه ب «نزل» كان معناه نزله بلغة العرب لتنذر به ، ولو نزله بلغة العجم لقالوا كيف نؤمن بما لا نفهمه ، وتعذر الإنذار به ، لأن الرجل إذا كلم بلغة لقنها أولا ونشأ عليها كان قلبه متوجها إلى معاني الكلام دون ألفاظه ، وإن كلم بغير تلك اللغة وإن كان عارفا بها كان نظره أولا في ألفاظها ثم في معانيها ، فهذا تقرير قوله «نزل به على قلبك» (٢).

(وَإِنَّهُ) أي ذكر القرآن (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [١٩٦] أي لمثبت في كتبهم وهم الأنبياء قبلك.

(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧))

قوله (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) بالرفع ، فيجوز أن يكون (أَنْ يَعْلَمَهُ) بدلا من (آيَةً) إذا كان «كان» تامة و (آيَةً) فاعلها أو هي الناقصة واسمها ضمير الشأن ، و (آيَةً) مبتدأ خيره (أَنْ يَعْلَمَهُ) ، أي القرآن أو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما خبر «كان» ، هذا إذا قرئ «لو لم تكن» بالتاء مؤنثا ولو قرئ بالياء مذكرا فنصب «آية» (٣) خبر «كان» واسمها (أَنْ يَعْلَمَهُ) ، نزل حين أرسلوا إلى يهود المدينة رسولا يسألهم عن نعت النبي عليه‌السلام ، فقال هذا زمان خروجه ونعته كذا (٤) ، فقال تعالى بالاستفهام للتقرير أيشكون (٥) فيه ولم يكن لهم علامة أن يعلمه (عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [١٩٧] ابن سلام وأصحابه كانوا يخبرون بنعت (٦) النبي عليه‌السلام في كتبهم وكان أخبارهم أية على صدقه.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨))

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) [١٩٨] جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح ، أي لا يبين الكلام بعجمة في لسانه ، والأعجمي مثله والياء فيه لزيادة التأكيد وهو ياء النسبة ، أي لو نزلناه على غير عربي اللسان.

(فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩))

(فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) أي على العرب ، وجواب «لو» (ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) [١٩٩] لعدم فهمهم كلامه ولا نفوا من اتباعه ، فلذا لم يفعل الله ذلك ، قيل : هذا منة من الله حيث كلمهم بلغتهم ليفهموه فيؤمنوا به (٧).

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١))

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي مثل ذلك السلك الذي وضعناه على الأعجمين من تنزيل القرآن عليهم فرضا ومن

__________________

(١) «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» : قرأ المدنيان والمكي والبصري وحفص بتخفيف الزاي ورفع الحاء من «الروح» والنون «الأمين» ، والباقون بتشديد الزاي ونصب الحاء والنون. البدور الزاهرة ، ٢٣٣.

(٢) نقل المصنف هذا المعنى عن الكشاف ، ٤ / ١٨٣.

(٣) «أو لم يكن اية» : قرأ الشامي بتاء التأنيث في «يكن» ورفع التاء في «آية» ، والباقون بياء التذكير ونصب «آية». البدور الزاهرة ، ٢٣٣.

(٤) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٧٦.

(٥) أيشكون ، و : أيشكوا ، ح ، أشكوا ، ي.

(٦) بنعت ، ح و : ببعث ، ي.

(٧) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٤٨٤.

٢٠٩

عدم إيمانهم به سلكناه (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) [٢٠٠] من العرب ، أي أدخلنا الشك والشرك في قلوبهم من نزوله ، لأنا قررنا القرآن في قلوبهم ومكناه بلسان عربي مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا فصاحته وإنه معجز لا يعارض بكلام مثله ، فلم يتغيروا عما هم عليه من جحوده فهم (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [٢٠١] في الدنيا أو في الآخرة وهذه الجملة وقعت مقررة لمضمون (سَلَكْناهُ) في قلوب المجرمين من التكذيب بالقرآن.

(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤))

(فَيَأْتِيَهُمْ) العذاب (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [٢٠٢] به فيتمنون الرجوع والإمهال (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) [٢٠٣] أي مؤخرون من التعذيب.

قوله (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) [٢٠٤] تبكيت لهم بانكار وتهكم ، نزل حين استبطؤا العذاب بعد الوعد به (١).

(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨))

ثم قال تعالى (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ [٢٠٥] ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) [٢٠٦] من العذاب (ما أَغْنى عَنْهُمْ) أي ما ينفعهم (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) [٢٠٧] في الدنيا ، المعنى : إن طال تمتعهم سنين كثيرة بنعيم الدنيا فانهم لا ينتفعون به عند مجيء العذاب بعد إقامة الحجة عليهم ، يدل عليه قوله (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) [٢٠٨] أي رسل ينذرونهم ، وإنما تركت الواو بعد إلا ههنا لأن الأصل أن تعزل الواو إذا وقعت الجملة صفة ل «قرية» حذرا عن شبهة العطف ، وإذا زيدت كانت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.

(ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١))

قوله (ذِكْرى) مصدر أو مفعول له ، أي إلا لها منذرون يذكرون ذكرى أو لأجل الموعظة والتذكر ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه ذكرى ، أي تذكرة لهم (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) [٢٠٩] فنهلك قوما بالظلم ، أي من غير إقامة الحجة بارسال الرسل إليهم.

قوله (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) [٢١٠] نزل حين قال المشركون إن محمدا كاهن وما ينزل عليه من جنس ما يتنزل به على الكهنة من الشيطان (٢) ، فكذبهم الله تعالى بقوله (وَما يَنْبَغِي) أي ما جاز (لَهُمْ) النزول بالقرآن (وَما يَسْتَطِيعُونَ) [٢١١] أي لا يتسهل لهم ذلك.

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))

(إِنَّهُمْ) أي لأنهم (عَنِ السَّمْعِ) أي استماع كلام أهل السماء (لَمَعْزُولُونَ) [٢١٢] أي لمحجوبون لاحتراقهم بالشهب.

قوله (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) نزل حين دعي إلى دين آبائه (٣) أو خطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد غيره (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) [٢١٣] وإن كنت كريما عليه فكيف بغيرك.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤))

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [٢١٤] أي الأقرب فالأقرب من قومك ولا تحابهم في الإنذار ، روي : أنه عليه‌السلام لما نزلت جمع قومه وقال : «يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف افتدوا أنفسكم من النار ، فاني لا أغني عنكم من الله شيئا» ، ثم قال : «يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا فاطمة بنت محمد

__________________

(١) لعل اختصره المؤلف من الكشاف ، ٤ / ١٨٤.

(٢) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ١٨٥.

(٣) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٤٨٥.

٢١٠

ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار ، فاني لا أغني عنكن من الله شيئا» (١).

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦))

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) أي ألن جانبك وتواضع (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [٢١٥] الذين يشارفون الدخول في الإيمان أو المؤمنين باللسان مطلقا بعد الإنذار عشيرتك وغيرهم (فَإِنْ عَصَوْكَ) أي خالفك الأقربين ولم يتبعوك (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [٢١٦] من الشرك (٢) وغيره من المعاصي ، فالفاء للجزاء.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨))

قرئ بالواو عطفا على الجزاء وبالفاء (٣) بدلا عنه قوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [٢١٧] أي ثق به وفوض أمرك إليه فانه يكفيك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم ، والتوكل تفويض الرجل أمره إلى مالك الأمور كلها القادر على النفع والضر ، والعزيز هو القادر للأعداء ، والرحيم هو الناصر للأولياء برحمته و (الَّذِي يَراكَ) وصف واتباع للرحيم بما هو سبب الرحمة ، وهو ذكر ما يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ، أي الذي يراك (حِينَ تَقُومُ) [٢١٨] متهجدا أو إلى جميع مهامك.

(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

(وَ) يري (تَقَلُّبَكَ) من قيام وركوع وسجود (فِي السَّاجِدِينَ) [٢١٩] أي المصلين إذا كنت إماما لهم في الصلوة أو المراد ب (السَّاجِدِينَ) وتقلبه فيهم المتهجدون من أصحابه وتصفح أحوالهم ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون كيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) بقولك (الْعَلِيمُ) [٢٢٠] بفعلك ونيتك.

(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢))

قوله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) [٢٢١] نزل حين قالوا أن الشياطين تلقي السمع على محمد (٤) ، و «من» كلمة تضمنت الاستفهام ودخل عليها حرف الجر ، وحق الاستفهام أن يصدر في الكلام فيقال أعلى زيد مررت ولا يقال على أزيد مررت ، ولكن تضمنته ليس بمعنى أنه اسم فيه معنى الحرف ، بل معناه : أن الأصل أمن ، فحذف حرف الاستفهام واستعمل على حذفه كما يقال في «هل» أصله أهل ، ومعناه : أقد فاذا دخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك ، كأنك تقول أعلى من تنزل (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [٢٢٢] أي كذاب فاجر ، وهم الكهنة الذين كانت تسترق الجن السمع فتلقيه إليهم.

(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣))

(يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي يقذف الجن إلى الكهنة ما يستمعون عن استراق السمع وهو في محل النصب على الحال أو في محل الجر صفة لكل أفاك ، لأنه في معنى الجمع ، ويجوز أن يكون مستأنفا ، أي هم يلقون السمع (وَأَكْثَرُهُمْ) أي الكهنة أو الشياطين (كاذِبُونَ) [٢٢٣] لأنهم يخلطون معه كذبا كثيرا ، عن النبي عليه‌السلام : «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» (٥) ، وإنما قال «أكثرهم» لأن البعض قد يصدق.

__________________

(١) أخرج البخاري نحوه ، الوصايا ، ١١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٨٦.

(٢) من الشرك ، ح و : ـ ي.

(٣) «وَتَوَكَّلْ» : قرأ المدنيان والشامي بالفاء ، وغيرهم بالواو. البدور الزاهرة ، ٢٣٣.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) رواه مسلم ، السّلام ، ١٢٢ ، ١٢٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٨٧.

٢١١

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤))

قوله (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) [٢٢٤] بالتخفيف والتشديد (١) ، نزل فيمن كان يقول الشعر ويقول نحن نقول كما يقول محمد (٢) ، واتبعهم غواة على ذلك والغاوون هم المشركون أو الشياطين أو السفهاء والشطار ، وهم شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأبو عزة الجمحي ومسافع بن عبد مناف ، كانوا يهجعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجتمع الأعراب من قومهم عليهم لاستماع أشعارهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦))

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ) من أودية الكلام وفنونه (يَهِيمُونَ) [٢٢٥] من هام الرجل أو البعير إذا ذهب على وجهه لا يدري أين يذهب ، أي يمضون عن الحد مدحوا أو هجوا ، لأنهم لقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق يفضلون أجبن الناس وأبخلهم ويهجون أشرف الناس وأجودهم.

(وَأَنَّهُمْ) أي أن الشعراء (٣)(يَقُولُونَ) في أشعارهم فعلنا وصنعنا (ما لا يَفْعَلُونَ) [٢٢٦] ونفعل ونصنع تخرصا وكذبا.

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))

قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل حين نزل (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) لاستثناء المؤمنين منهم كحسان وابن رواحة وكان غالب شعرهم توحيدا (٤) ، وذكر الله فقالوا يا رسول الله قد نزلت هذه الآية والله يعلم أنا شعراء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه وإن الذي ترمونهم به نضح النبل» (٥) ، وكان يقول لحسان : «قل وروح القدس معك» (٦) ، أي ناصرك إلا الذين صدقوا الله ورسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالإخلاص (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) في جميع الأحوال أو في أشعارهم من توحيده وثنائه وتنزيهه وحكمته وموعظته ومدح أنبيائه وأوليائه (وَانْتَصَرُوا) أي هجوا الكفار اقتصاصا (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي هجوا ، لأن الكفار بدؤوهم بالهجا ، ولا شك أن الشعر كلام فحسنه كحسنه وقبيحه كقبيحه ، ولا بأس الشعر بما هو الحق مدحا كان أو ذما ، ثم أوعد شعراء الكفار وهددهم بما هم أهيب وأهول فقال (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [٢٢٧] أي أي مرجع يرجعون مع الخسران إلى النار ، فان فيه وعيدا بليغا للمتأملين بقوله (سَيَعْلَمُ) وبقوله (ظُلِمُوا) وإطلاقه ، وبقوله (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وبابهامه ، وكان السلف الصالح يتواعظون بها ويخافون شدتها ، قوله (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) صفة مصدر محذوف منصوب بفعل بعده لا ب «يعلم» لأنه استفهام ، تقديره : ينقلبون انقلابا أي منقلب ، قالوا : إن من عمل سيئة فهو من الذين ظلموا ، وتفسير الظلم بالكفر ليس بتحقيق ، لأنه يفضي إلى أمن الظالم وزيادة ظلمه.

__________________

(١) «يتبعهم» : قرأ نافع باسكان التاء وفتح الباء ، وغيره بتشديد التاء مفتوحة وكسر الباء. البدور الزاهرة ، ٢٣٣.

(٢) اختصره المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢٨٢.

(٣) أي أن الشعراء ، و : أي الشعراء ، ح ي.

(٤) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٢٨٣.

(٥) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٦ / ٣٨٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٨٣.

(٦) رواه أحمد بن حنبل ، ٤ / ٢٩٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٨٣ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٨٨.

٢١٢

سورة النمل

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١))

(طس تِلْكَ) أي هذه الآيات التي في هذه السورة هي (آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) [١] أي مظهر وهو اللوح ، ولا فرق بينه وبين قوله (آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)(١) ، لأن الواو لا تقضي الترتيب فهو من باب توسعة الكلام وإبانته أنه خط فيه كل ما هو كائن فيبينه للناظر فيه أو الكتاب (٢) المبين السورة أو القرآن ، كرر للتأكيد وإبانتهما أنهما يبينان (٣) ما أودعاه من العلوم والأحكام ، والعطف فيه كعطف إحدى الصفتين على الأخرى للتأكيد نحو (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ)(٤) ، وإضافة ال (آياتُ) إليهما على سبيل التفخيم بها ، لأن المضاف يكسب التعظيم من العظيم المضاف إليه ، ونكر الكتاب المبين ليبهم بالتنكير للتفهيم له.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

قوله (هُدىً وَبُشْرى) نصب على الحال أو هادية (لِلْمُؤْمِنِينَ) [٢] من الضلالة بالعمل بها ومبشرة لهم بالجنة ، والعامل فيها ما في «تلك» من معنى الإشارة أو رفع خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ال «آيات» أو خبر بعد خبر ، والأكثر قرأ «بشرى» بالتفخيم لا بالإمالة (٥).

(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣))

قوله (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) أي يعطونها (وَهُمْ) أي الموصوفون بهذه الصفات (بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث والجزاء (٦)(هُمْ يُوقِنُونَ) [٣](٧) حق الإيمان ، لأنهم الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، والجملة معطوفة على الصلة.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤))

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي بالبعث (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) بأن متعناهم بطول العمر وسعة الرزق مجازاة لكفرهم فاتبعوا شهواتهم واعتقدوا أعمالهم القبيحة حسنة فيفروا عن التكاليف الشاقة لا أنا أمرناهم (٨) بالفواحش وحسناها إليهم (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) [٤] أي يتحيرون في الضلالة ، العمه التحير والتردد كما هو حال الضال عن الطريق.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥))

(أُوْلئِكَ) أي الموصوفون بهذا الوصف (الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) أي القتل أو الأسر يوم بدر (وَهُمْ فِي

__________________

(١) الحجر (١٥) ، ١.

(٢) أو الكتاب ، وي : والكتاب ، ح.

(٣) يبينان ، ح ي : يبنان ، و.

(٤) غافر (٤٠) ، ٣.

(٥) أخذ الفسر هذه القراءة عن السمرقندي ، ٢ / ٤٨٨ ـ ٤٨٩.

(٦) والجزاء ، و : ـ ح ي.

(٧) كما هو ، + و.

(٨) لا أنا ، وي : لا أن ، ح.

٢١٣

الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) [٥] أي أشد الناس خسرانا ، لأنهم لو آمنوا لكانوا من الشهداء على جميع الأمم ولاستحقوا (١) النجاة والثواب.

(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦))

ثم قال تعالى (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) الموصوف بالهداية والبشارة (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) [٦] أي إنك يا محمد لتلقنه من عند الله الحكيم في أمره العليم بأعمال خلقه تمهيدا لما يسوقه من الآيات بعد.

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧))

قوله (إِذْ قالَ مُوسى) نصب ب «اذكر» مقدرة (لِأَهْلِهِ) أي لزوجته ومن معها عند مسيره من مدين إلى مصر (إِنِّي آنَسْتُ) أي رأيت (ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي بخير الطريق على قوة الرجاء ، لأنه قد ضل عنها ، وقيل : لم يكن مع موسى غير امرأته إلا أنه لما عبر عنها بالأهل خاطب بلفظ الجمع (٢)(أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) الشهاب الشعلة ، والقبس النار المقبوسة ، كلاهما بالتنوين صفة وموصوف وبالإضافة (٣) كاضافة ثوب جز (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) [٧] أي تدفعون البرد بحرها.

(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨))

(فَلَمَّا جاءَها) أي موسى النار (نُودِيَ) موسى (أَنْ بُورِكَ) «أن» تفسير ، لأن في النداء معنى القول ، أي قيل له بورك ، ولا يجوز أن يكون مخففة ، لأنه لا بد من «قد» ، ولا يجوز إضمارها ، لأنها علامة لا تحذف ، قوله (مَنْ فِي النَّارِ) محله رفع ب (بُورِكَ) ، أي من يقرب من النار (وَ) بورك (مَنْ حَوْلَها) أو المكان محذوف فيهما ، أي بورك من في مكان النار ومن حول مكانها وهو البقعة التي ظهرت النار فيها ، ومعنى قوله تعالى (بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) بشارة بقضاء أمر عظيم ينتشر منه البركة في أرض الشام كلها ، وتلك البركة هي حدوث أمر ديني من تكليم الله موسى عليه‌السلام وإظهار المعجزات عليه فيها وإرساله إلى أباعد تلك البقعة لنشر بركة ذلك الخير فيها بنصر الله تعالى إياه ، والمراد ب «النار» هنا النور وهو نور رب العزة ، قيل : المراد بالمبارك فيهم موسى والملائكة الحاضرون ، والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض ، وفي ذلك الوادي وحواليها من أرض الشام (٤) ، وإنما قال سآتيكم بالسين إيذانا لأهله بعوده إليهم وإن أبطأ ، وإنما قال أو آتيكم ب «أو» دون الواو رجاء على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا لم يعدم إحديهما ثقة بالله الكريم إما هداية الطريق أو اقتباس النار ، لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده ، قوله (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [٨] من جملة ما نودي تعجيبا له.

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩))

(يا مُوسى إِنَّهُ) أي الشأن (أَنَا اللهُ) أو مكلمك يا موسى أنا والله بيان أو بدل و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [٩] صفتان له تعالى ، قيل : هذا جواب قول موسى من الذي يكلمني هنا حين سمع الخطاب ولم ير أحدا (٥).

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١))

قوله (وَأَلْقِ عَصاكَ) من يدك ، عطف على أن بورك فألقاها فصارت حية (فَلَمَّا رَآها) أي العصا (تَهْتَزُّ) أي تتحرك ، حال من هاء (رَآها (كَأَنَّها جَانٌّ) أي حية خفيفة أهلية ، وصارت عند فرعون ثعبانا وهي الحية الكبيرة الغير الأهلية ، وهي أيضا حال من ضمير (تَهْتَزُّ (وَلَّى مُدْبِراً) أي رجع موسى على ظهره هاربا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي لم يلتفت بعد هربه خوفا من الحية ، فقيل له (يا مُوسى لا تَخَفْ) من الحية (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) [١٠]

__________________

(١) ولاستحقوا ، ح و : ولا يستحقوا ، ي.

(٢) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ١٩٠.

(٣) «بِشِهابٍ قَبَسٍ» : قرأ بتنوين «شهاب» الكوفيون ويعقوب ، وبترك التنوين غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.

(٤) نقله المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٩١.

(٥) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

٢١٤

أي لا ينبغي أن يخافوا عندي ، لأنهم آمنون من عذابي ، وإنما خاف موسى لأنه ظن أن ذلك لأمر أريد به (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) أي لكن من ظلم من المرسلين نفسه بذنب صدر منه كآدم ويونس وداود وإخوة يوسف صلوات الله عليهم أجمعين ، فانه خاف مني (ثُمَّ بَدَّلَ) أي فعل (حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) أي توبة بعد ذنب (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [١١] أغفر له وأرحمه.

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢))

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي في جيب درعك ثم أخرجها (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي من غير برص ، قوله (فِي تِسْعِ آياتٍ) كلام مستأنف متعلق بمحذوف (١) ، أي اذهب في تسع آيات (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) ويجوز أن يتعلق بما قبله بتقدير مرسلا إلى فرعون في تسع آيات ، ويجوز أن يكون «في» بمعنى (٢) مع فيكون الآيات إحدى عشرة ، اليد والعصا والتسع وهي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة على أموالهم والجدب في بواديهم ، والنقصان في مزارعهم (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) [١٢] أي عاصين.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣))

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا) أي جاءهم موسى بآياتنا التسع (مُبْصِرَةً) حال من الآيات ، أي ظاهرة بينة جعل الأبصار للآيات مجازا وهي في الحقيقة لمن يتأملها (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [١٣] أي بين.

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

(وَجَحَدُوا بِها) أي بالآيات بعد المعرفة ، قوله (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) بتقدير «قد» حال من ضمير (جَحَدُوا) ، أي لما جاءتهم آياتنا واضحات أنكروها حال كونهم مستيقنين صدقها وإنها من الله تعالى (ظُلْماً) أي شركا (وَعُلُوًّا) أي تكبرا عن الإيمان بموسى يتعلقان ب (جَحَدُوا) ، والاستيقان أبلغ من الإيقان (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) [١٤] في الأرض بالكبر والمعاصي وكفران نعم الله تعالى بالجهل والغفلة عنه ، وهي الغرق في البحر.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥))

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) أي طائفة من العلم وهو علم القضاء ومنطق الطير (وَقالا) قيل : الأوجه فقالا لقولهم أعطيته فشكر لكن فيه حذفا ، تقديره : آتيناهما علما فعملا به (٣) ، وقالا (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا) بالنبوة والكتاب وتسخير الجن والإنس والشياطين وكلام الطير والبهائم والملك (عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) [١٥] وهم الذين لم يؤتوا علما وعملا مثل عملهما ، وفي الآية دليل على شرف العلم ، وإنه من أجل النعم وإن من أوتيه فقد أوتي فضلا على كثير من عباد الله.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦))

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي نبوته وعلمه دون المال من بين بنيه وكانوا تسعة عشر ابنا (وَقالَ) أي نادى (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) وأراد بنون التكلم نفسه وأباه تشهيرا لنعمة الله واعترافا بها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم المنطق ، قيل : أعطي سليمان ما أعطي داود ، وزيد له تسخير الجن والريح وفهم نطق الطير (٤) ، والمنطق كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد ، وما علم سليمان من منطق الطير هو ما يفهم (٥) بعضه من بعض من معانيه وأغراضه (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي مما يؤتي الأنبياء والملوك ،

__________________

(١) بمحذوف ، وي : لمحذوف ، ح.

(٢) بمعنى ، و : معنى ، ح ي.

(٣) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٤ / ١٩٢.

(٤) أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(٥) يفهم ، ح : يفهمه ، وي.

٢١٥

و (كُلِّ) هنا بمعنى التكثير لا للإحاطة (إِنَّ هذا) أي الذي ذكرناه من النعم الكثيرة التي أعطاناها الله تعالى (لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [١٦] أي الظاهر على ما أعطي غيرنا وهو وارد على سبيل الشكر والثناء لا على سبيل الفخر.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧))

(وَحُشِرَ) أي جمع (لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) في مسير كان له (فَهُمْ يُوزَعُونَ) [١٧] أي يساقون ويجمعون ، يعني يوقف ويمنع أولهم حتى يلحقهم آخرهم ليكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد ، وذلك للكثرة العظيمة ، من الوزع وهو الكف ، قيل : إن سليمان يستعمل جنيا عليهم يرد أولهم إلى آخرهم هكذا عادة القوافل والعساكر ، وكان معسكره مائة فرسخ في فرسخ ، وكان له بساط من ذهب وفضة وإبريسم نسجت له الجن فرسخا في فرسخ وفي وسطه يوضع منبره من ذهب وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فيقعد هو والأنبياء على كراسي الذهب والعلماء على كرسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظلله الطير بأجنحتها لدفع حر الشمس عنه وترفع البساط ريح الصبا بأمره فتسير به مسيرة شهر ، وزيد في ملكه أنه لا يتكلم أحد إلا حملت الريح كلامه إليه ، فبينما يسير هو رآه وجنده حراث ، فقال أوتي آل داود ملكا عظيما فنزل ومشى إليه ، وقال له لا تتمن ما لا تقدر عليه والله لتسبيحه واحدة يتقبلها الله خير مما أوتي آل داود ويتعلق بالوزع (١).

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨))

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) هي بالطائف أو الشام كثيرة النمل ، وإنما عدي (أَتَوْا) ب (عَلى) لا ب «إلى» ، لأنهم لما أتوا قريبا من الوادي من فوق أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي فخافوا حطمهم ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي كانت ملكة النمل لما رأت جند سليمان (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) أي ثقوبكم ، وإنما جعل الله خطابهم خطاب العقلاء حيث لم يقل أدخلن لما سمع لها قول كقولهم ، قوله (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بالتشديد نهي مستأنف لأجل نون التأكيد ، لأن جواب الشرط لا يأتي بنون التأكيد إلا قليلا أو بدل من الأمر بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمكم على طريقة قولك لا أي أرينك هنا (٢) ، وأصل الحطم الكسر ، والمراد هنا الإهلاك ، أي لا يهلكنكم (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [١٨] بهلاككم ، قالته لما علمت إن سليمان ملك عادل لا بغي فيه ولا فخر ، ولئن علم بها لم توطأ وسمعه سليمان من ثلاثة أميال لرفع الريح صوتها إليه.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) حال مقدرة ، لأن التبسم مبدأ الضحك ، أي تبسم شارعا في الضحك أو مؤكدة المعنى ضحك متعجبا (مِنْ قَوْلِها) وسببه شيئان (٣) دلالة قولها على ظهور رحمته وشفقة جنوده وسروره بما أعطاه الله من إدراكه لسمعه ما تكلم به الحكل ما لا يسمع له صوت من جنس الحيوان (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي) أي ألهمني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) وهو طلب التوفيق لزيادة العمل الصالح والتقوى والإيزاع من الوزع ، وهو الكف والربط ، أي اجعلني أزع شكر نعمتك (الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وأربطه عندي لا ينفلت (٤) عني حتى أكون لك

__________________

(١) لعل المفسر اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٤٩١ ؛ والكشاف ، ٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) أي لا تحضر هنا ، + و.

(٣) شيآن ، ح ي : شأن ، و؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٩٤.

(٤) لا بنفلت ، ح : يتفلت ، وي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٩٤.

٢١٦

شاكرا دائما ، وإنما أدرج ذكر والديه لأن النعمة على الولد نعمة على الوالدين خصوصا إذا كان تقيا ، فانه ينفعهما بدعائه وشفاعته (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي تقبله مني (وَأَدْخِلْنِي) في الجنة (بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [١٩] أي اجعلني معهم فيها ، فوقف سليمان وجنوده بمكانهم ليدخل النمل مساكنهم ثم مضى بهم.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١))

(وَتَفَقَّدَ) أي سليمان (الطَّيْرَ) والتفقد عدم الوجدان بعد الطلب ، أي تطلب جملة الطير ليرى الهدهد الذي هو رئيس الهداهد فلم يره فيهم (فَقالَ ما لِيَ) بسكون الياء وفتحها (١)(لا أَرَى الْهُدْهُدَ) في جملة الطير ثم أدركه الشك في غيبته فقال (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) [٢٠] والميم صلة أو (أَمْ) بمعنى بل ، لأنه لاح له أنه غائب ، فأضرب عن ذلك ، فلما تحقق غيبته قال والله (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بنتف ريشه وذنبه وحبسه مع ضده ورميه في الشمس ، فلا يمتنع عن الهوام ، وإنما جاز له تعذيب الهدهد لأنه إذا سخر له الطير والتسخير لا يتم إلا بالتأديب والسياسة باذن الله تعالى (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ) أي لأقتلنه كيلا يبقى له نسل (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [٢١] أي برهان ظاهر على عذره ، قرئ بنون واحدة مع التشديد للتأكيد في القسم ، وبنون الإضافة معها ففيه ثلاث نونات في الحقيقة (٢) ، قيل : كيف صح حلفه على فعل الهدهد من أين علم أنه يأتي بسلطان مبين؟ أجيب بأنه يجوز أن يتعقب حلفه بالفعلين وحي من الله بأنه سيأتيه بسلطان مبين (٣).

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣))

(فَمَكَثَ) بفتح الكاف وضمها (٤) ، أي أبطأ في غيبته وقتا يسيرا (غَيْرَ) زمان (بَعِيدٍ) ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان ، وإنما طلبه سليمان لأن الهدهد كان قنقنه ، وهو الدليل الهادي والبصير بالماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة واسمه يعفور ، وكان سليمان عليه‌السلام إذا احتاج إلى الماء دل الهدهد على موضع الماء فتجيء الشياطين فتستخرجونه له.

روي : أنا لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج بجنوده فأقام بمكة ما شاء ، ثم عزم إلى صنعاء فرأى مكانا أعحبته خضرته فنزل ليتغدى ويصلي الظهر في وقعتها ، فأمر الهدهد بأن يرتفع وينظر في طول السماء وعرضها ، فارتفع فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه واسمه عنقير ، فوصف له يعفور ملك سليمان وما سخر له من كل شيء ، وذكر له صحابه ملك بلقيس وعظمه ، وقال : ما أظن ملك سليمان أعظم من ملكها فهل أنت منطلق معي تنظر ملكها؟ فقال أخاف أن يفقدني سليمان وقت الصلوة إذا احتاج إلى الماء ، فقال يسر صاحبك أن تأتيه خبر هذه الملكة ، فانطلق معه فنظر ملكها فمكث لذلك ، وقد جاء وقت الصلوة وأراد سليمان أن يصلي الظهر فلم يجد ماء فطلب الهدهد ليدل على الماء ويستخرج الشياطين الماء من تحت الأرض فتفقده لذلك ، فقال لسيد الطير وهو العقاب علي به فارتفع فنظر ، فاذا هو مقبل فقصد به فقال بحق الذي قواك علي إلا رحمتني فتركه وقال إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال وما استثنى ، قال بلى إن لم تأت بسلطان مبين ، قال نجوت إذن فجاء العقاب سليمان بالهدهد ، فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان ، فأخذ برأسه وجذبه إليه بشدة وتهدده ، فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ولطف به خوفا من الله (٥).

__________________

(١) «مالي» : فتح الياء ابن كثير وهشام وعاصم والكسائي ، وأسكنها غيرهم. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.

(٢) «أَوْ لَيَأْتِيَنِّي» : قرأ المكي بنونين ، الأولى مفتوحة مشددة والثاني مكسورة مخففة ، وغيرهم بنون واحدة مكسورة مشددة. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.

(٣) نقله المؤلف عن الكشاف مختصرا ، ٤ / ١٩٥.

(٤) «فمكث» : فتح الكاف روح وعاصم ، وضمها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.

(٥) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٩٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦.

٢١٧

(فَقالَ) الهدهد (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي أني أطلعت على قوم وعرفت من بلادهم وأحوالهم ما لا تعلمه أنت ولا أحد من جندك (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) اسم بلدة أو قبيلة لا تنصرف بالفتح لتعريفه وتأنيثه ، وقرئ بالجر مع التنوين (١) منصرف اسم لحي ، قوله (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [٢٢] متعلق بالمجيء ، وال «نبأ» الخبر الذي له شأن ، وال «يقين» العلم الذي لا يشوبه الشك والشبهة ، فبينه بقوله (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) أي تملك قومها واسمها بلقيس بنت شراحيل ، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ولم يكن له ولد غيرها فغلبت على الملك وأمها جنية لأنه ما كان يرى التزوج من الإنس (وَأُوتِيَتْ) تلك المرأة (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يليق بها من أسباب الدنيا من الأموال والجنود وغيرها (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [٢٣] أي سرير كبير بالنسبة إلى أبناء جنسها ، قيل : في وصف عرشها كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمكه ثمانين (٢) أو ثلاثين (٣) ، وكان من ذهب وفضة مكللا بالدر والزمرد والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، وكانت (٤) قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر وزمرد ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق.

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤))

ثم أخبر عن دينها بقوله (وَجَدْتُها وَقَوْمَها) مجوسا (يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ) أي يعبدونها (مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي عن طريق الهدى وهو الإسلام (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) [٢٤] أي لا يعرفون دين الحق ، وإنما خفي حالها على سليمان مع قربه منها لمصلحة رآها الله كما أخفي عن يعقوب مكان يوسف ، وإنما أنكر الهدهد سجودهم للشمس واهتدى إلى معرفة الله تعالى ووجوب السجود له ، لأنه ألهمه الله ذلك كما يلهم سائر الطيور والحيوانات المعارف اللطيفة التي لا يكاد العقلاء يهتدون بها (٥).

(أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥))

(أَلَّا يَسْجُدُوا) بالتشديد (٦) ، «أن» فيه ناصبة بدل من أعمالهم أو مفعول (يَهْتَدُونَ) و «لا» زائدة ، أي لا يهتدون أن يسجدوا أو تقديره : لئلا يسجدوا متعلقا بقوله «فصدهم السبيل أو ب «زين» ، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه : أن الهدهد قال عند ذلك لهم ألا يسجدوا ، «ألا» حرف التنبيه ، و «يا» حرف النداء والمنادى محذوف ، أي ألا يا قوم اسجدوا (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) أي المخبوء وهو ما غاب من الثلج والمطر والنبات والأشجار (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) [٢٥] أي يعلم سر أهلهما وجهرهم ، قرئ فيهما بتاء الخطاب وبياء الغيبة (٧).

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

قوله (اللهُ) خبر مبتدأ محذوف ، أي الذي يعلم ذلك الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي هو المستحق للعبادة لا غير ، قيل : من (أَحَطْتُ) إلى قوله (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [٢٦] من قول الهدهد (٨) ، والتخفيف والتشديد في (أَلَّا يَسْجُدُوا)

__________________

(١) «سبأ» : قرأ البزي والبصري بفتح الهمز من غير تنوين ، وقنبل باسكانها ، والباقون بكسرها منونة ، وأبدل الهمز وقفا حمزة وهشام ولهما تسهيله بالروم ولا يبدله السوسي وقفا لعدم سكون همزه أصالة. البدور الزاهرة ، ٢٣٤.

(٢) عن مقاتل ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٩٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٩٣.

(٣) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٢٩٨.

(٤) وكانت ، ح و : فكانت ، ي.

(٥) بها ، ح ي : لها ، و.

(٦) «أَلَّا يَسْجُدُوا» : قرأ الكسائي وأبو جعفر ورويس بتخفيف اللام ولهم الوقف ابتلاء على ألايا معا ويبتدئون باسجدوا بهمزة مضمومة ، ولهم الوقف اختبارا كذلك على ألا وحدها ويا وحدها والابتداء أيضا اسجدوا بهمزة مضمومة ، أما في حالة الاختيار فلا يصح الوقف على ألا ولا على يا ، بل يتعين وصلهما باسجدوا ، والباقون بتشديد اللام. البدور الزاهرة ، ٢٣٤ ـ ٢٣٥.

(٧) «تخفون» ، «تعلنون» : قرأ حفص والكسائي بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة. البدور الزاهرة ، ٢٣٥.

(٨) لعل المؤلف اختصره من البغوي ، ٤ / ٢٩٩.

٢١٨

سواء في وجوب السجود لأن التخفيف أمر به والتشديد ذم على تركه ، والزجاج أوجبه مع التخفيف دون التشديد (١).

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧))

(قالَ)(٢) سليمان (سَنَنْظُرُ) أي نتأمل (٣)(أَصَدَقْتَ) فيما أخبرتنا به (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [٢٧] فيه ، والنظر هو التأمل والتصفح ، ثم دلهم الهدهد على الماء فاستخرجوا تواضؤا وصلوا ، ثم كتب سليمان كتابا إلى بلقيس ، فقال فيه من عبد الله سليمان بن داود إلى ملكة سبأ بلقيس «بسم الله الرحمن الرحيم» (السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى)(٤) أما بعد ف «لا (تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ)(٥) ، ثم ختمه بخاتمه وطبعه بالمسك.

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨))

ثم قال للهدهد (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ) بسكون الهاء للوقف أو هو لغة صحيحة ، وبكسرها ليدل على الياء المحذوفة ، وبياء في الوصل (٦)(إِلَيْهِمْ) بلفظ الجمع ، أي إلى بلقيس وقومها ، لأنه ذكرهم معها في قوله وجدتها وقومها (ثُمَّ تَوَلَّ) أي انصرف (عَنْهُمْ) بعد إلقاء الكتاب وقف قريبا منهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) [٢٨] أي ما يردون من الجواب فأخذ الكتاب وأتى بلقيس فوجدها راقدة في قصرها بمأرب ، وقد غلقت الأبواب وضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وألقى الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وقيل : نقرها فانتبهت فزعة وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع الحميري ، فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت خوفا من الخاتم لما فيه ملك سليمان ، ثم تأخر الهدهد يسيرا ، ثم جلست مع أشراف قومها وكانوا اثني عشر ألفا أو مائة ألف قائد مع كل قائد مائة ألف (٧).

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

و (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي الأشراف (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) [٢٩] أي مختوم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كرامة الكتاب ختمه» (٨) أو شريف لتصدره بالبسملة ، ثم قرأت عليهم ما في الكتاب وهو المذكور في المصحف لا غير في رواية مقاتل رضي الله عنه من قوله (٩)(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [٣٠] أَلَّا تَعْلُوا) «أن» فيه مفسرة للكتاب بدل منه ، ومعناه لا تتكبروا (عَلَيَّ) كالملوك وردوا جواب كتابي (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [٣١] أي طائعين منقادين.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢))

(قالَتْ) المرأة لقومها راجعة إلى استشارتهم واستطلاع آرائهم وتطييب قلوبهم واختبارهم باقامتهم معها في المعاونة (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أي أشيروا علي فيه (ما كُنْتُ) أي لست (قاطِعَةً) أي فاصلة (أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) [٣٢] أي تحضروني (١٠).

__________________

(١) نقله المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٩٧.

(٢) أي ، + و.

(٣) أي نتأمل ، و : ـ وي.

(٤) طه (٢٠) ، ٤٧.

(٥) النمل (٢٧) ، ٣١.

(٦) «فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ» : قرأ قالون ويعقوب وهشام بخلف عنه بكسر الهاء من غير صلة ، وأبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر باسكان الهاء ، والباقون بكسر الهاء مع الصلة وهو الوجه الثاني لهشام وضم حمزة ويعقوب هاء «عليهم». البدور الزاهرة ، ٢٣٥.

(٧) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ١٩٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٩٤.

(٨) انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٩٤ ؛ والبغوي ، ٤ / ٣٠٠. ذكره العجلوني في كشف الخفاء ، ٢ / ١٤٢.

(٩) انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٩٤.

(١٠) أي تحضروني ، ح ي : أي تحضرون ، و.

٢١٩

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥))

(قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) في الأجساد والآلات والعدد (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي شجاعة وبلاء في الحرب (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) أي ومع ذلك هو موكول إليك ، ونحن مطيعون لك لا حكم لنا عليك (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) [٣٣] أي مرينا بأمرك نتبع أمرك ولا نخالفك ، فلما أحست منهم الميل إلى المحاربة رأت هي الميل إلى المصالحة وزيفت قولهم وأرتهم الخطأ فيه بأن (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) بالقهر (أَفْسَدُوها) بالتخريب (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) ليستقيم أمورهم فذكرت لهم عاقبة الحرب ، قوله (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [٣٤] تصديق من الله لقولها أو هو من كلام بلقيس أرادت أن هذه عادتهم المستمرة التي لا تتغير فأرادت أن تدفعه عن ملكها فقالت (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) اختبارا بذلك إن كان سليمان ملكا من ملوك الدنيا أخذ الهدية وانصرف ، وإن كان نبيا لم يأخذها ولم نأمنه على بلادنا (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [٣٥] أي أنظر بأي شيء يرجع رسلي من قبول الهدية أو ردها وما يقال لهم فأهدت أربع لبنات من الذهب ، كل لبنة مائة رطل مع هدايا كثيرة مذكورة في التفاسير المطولة مع المنذر بن عمرو من قومها بكتاب فيه نسخة الهدايا ، وقالت له انظر إليه فان نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ، وإن رأيته بشا لطيفا ، فاعلم أنه نبي كريم فتفهم قوله ورد الجواب كما سمعت فانطلق الرسول بالهدايا ، وأقبل الهدهد نحو سليمان مسرعا يخبره الخبر فأمر سليمان أن يضربوا لبنات الذهب والفضة وأن يبسطوها من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ وأن يجعلوا الميدان حائطا من الذهب والفضة ، وجلس هو في الميدان وحوله الجن والإنس والشياطين والطير والوحش ، فلما دنا الرسل ونظروا إلى ما نظروا وبهتوا ورأوا الدواب تروث على اللبن من الذهب والفضة الذي بسطوه في طريقهم فرموا بما معهم من أربع لبنات حياء مما رأوا (١).

(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦))

(فَلَمَّا جاءَ) الرسول ومن معه (سُلَيْمانَ) نظر إليهم بوجه حسن وقال ما وراءكم فأخبر الخبر وأعطى كتابها فنظر فيه وعرف الهدايا وأروه إياها (قالَ) سليمان (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) أي أتزادونني بشيء حقير عندي ، وهو متاع الدنيا الدنية ، قرئ بنون واحدة مشددة مع الياء ، وبنونين بالتخفيف مع الياء في الوصل والوقف ، وبغيرها فيهما وبها في الأول (٢)(فَما آتانِيَ اللهُ) من النبوة والملك والغنا والوسع (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) من الدنيا لأنكم تفتخرون بزخارفها فرد الهدية عليهم وذكر الفاء دون الواو دليل على أن بلقيس لم تعرف ما آتاه الله سليمان من النبوة والملك ، قوله (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) [٣٦] إضراب عن الإنكار عليهم ببيان سبب حملهم على إمداده بمال أن أنتم تفرحون بشيء من الدنيا وتحزنون عليه ، ولا حاجة لي إليه بل حاجتي إلى إيمان قومكم وترك المجوسية ، والهدية اسم للشيء المعطى بالرفق والتلطف ، تضاف تارة إلى المهدي وتارة إلى المهدى إليه.

(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))

ثم قال لأمير المرسلين إليه (٣)(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ)(٤) بالهدية فان لم يحضروني (٥) مسلمين (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ

__________________

(١) اختصره المؤلف من البغوي ، ٤ / ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١٩٩. وقال الآلوسي في تفسيره : «وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها ، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلي القول يكذبه والله تعالى أعلم». انظر روح المعناني ، ١٩ / ٢٠٠. وقد ذكر مثل هذه الروايات في التورية ، انظر ، ١. قراللر RALLARIK.I ، ١٠ / ١ ـ ١٠.

(٢) «أتمدونن» : قرأ المدنيان وأبو عمرو وباثبات الياء وصلا ، وابن كثير وحمزة ويعقوب باثباتها في الحالين إلا أن حمزة ويعقوب يدعمان النون الأولى في الثانية مع المد المشبع وصلا ووقفا ، والباقون بحذفها في الحالين. البدور الزاهرة ، ٢٣٦.

(٣) ثم قال لأمير المرسلين إليه ، ح ي : ـ و.

(٤) قاله لأمير المرسلين إليه أي ارجع إليهم ، + و.

(٥) يحضروني ، ح ي : تحضروني ، و.

٢٢٠