عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

الأكبر» (١)(هُوَ) أي الله تعالى (اجْتَباكُمْ) أي اختاركم لدينه ونصرته (وَما جَعَلَ) الله (عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق (٢) ، بل فتح عليكم باب التوبة إن أجرمتم وأذنبتم وفسح بأنواع الرخص وبالكفارات إن عجزتم ، المعنى : أنه جعله واسعا من غير كلفة فرخص الإفطار في السفر وفي الحضر بالمرض وفي القعود في الصلوة عند العلة والإيماء فيها عن الضرورة ، قوله (مِلَّةَ أَبِيكُمْ) نصب على الاختصاص ، أي أعني بالدين ملة أبيكم أو اتبعوا ملة أبيكم (إِبْراهِيمَ) بدل من «أبيكم» ، لأنه ملة سمحة سهلة لا عسرة فيها ، ولم يكن أبا لكل الأمة ، بل كان أبا للنبي (٣) عليه‌السلام ، فكان أبا لأمته ، لأن أمته في حكم أولاده (هُوَ) أي الله تعالى (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) أي إبراهيم ، والأول أصح بدليل قوله (مِنْ قَبْلُ) أي قبل القرآن ، يعني في الكتب المتقدمة (وَفِي هذا) أي القرآن أيضا ، والجملة بدل من قوله (اجْتَباكُمْ) ، وإنما سماكم الله (٤) بهذا الاسم الأعز (لِيَكُونَ الرَّسُولُ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (شَهِيداً) أي شاهدا (عَلَيْكُمْ) بأنه بلغكم وبأنكم صدقتموه (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي على سائر الأمم أن الرسل قد بلغتهم الرسالة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أتموها في مواقيتها (وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أدوها عن طيبة نفس (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي ثقوا به في كل الأمور واعبدوه لما خصكم بهذه الكرامة (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي الله ناصركم في الدين فلا تطلبوا النصرة من غيره ولا الولاية منه (فَنِعْمَ الْمَوْلى) هو ، أي المتولي عليكم هو الله تعالى ينجيكم من بأس الأعداء (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [٧٨] ينصركم فلا يغلبه أحد.

__________________

(١) ذكر عبد الله بن المبارك نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ١٣٤.

(٢) أي من ضيق ، و : أي ضيق ، ح ي.

(٣) للنبي ، ح و : النبي ، ي.

(٤) الله ، ح ي : ـ و.

١٤١

سورة المؤمنون

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١))

عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد أنزلت علي عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة» (١) ، أي عمل بها ، ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [١] إلى قوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، أفلح أي دخل في الفلاح وهو الظفر بالمراد الصالح ، و (قَدْ) فيه لإثبات المتوقع و «لما» نقيضة «قد» ، أي لنفيه ولا شك أن المؤمن يتوقع هذه البشارة وهي الأخبار بثبوت الفلاح لهم ، والمؤمن هو الناطق بالشهادتين بالإخلاص.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢))

قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [٢] وصفهم الذي به يستحقون الفلاح ، أي الذين هم في صلوتهم خاضعون متواضعون لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ، قيل : الخشوع في الصلوة خشية القلب (٢) و «إلزام البصر موضع السجود» (٣) ، وأضيفت الصلوة إلى المؤمنين دون الله ، لأن المصلي هو المنتفع بها وحده لكونها ذخيرته ، والمصلى له غني عن الحاجة إليها والانتفاع بها.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣))

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ) أي عن كل باطل (مُعْرِضُونَ) [٣] لا يلتفتون إليه ، قيل : «كل كلام أو عمل لا يحتاج إليه فهو لغو». (٤)

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦))

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ) المفروضة في أموالهم (فاعِلُونَ) [٤] أي مؤدون (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) [٥] عن الحرام (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) الأربع (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من السراري ، ولم يقل «من» (٥) مكان «ما» ، لأنه قد يجري بعض العقلاء كغير العقلاء وهم الإناث في كثير من الأشياء (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [٦] عن إتيانهن في المأتي المشروع ، لأنه حلال لهم.

(فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧))

(فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب (وَراءَ ذلِكَ) أي بعد ذلك مع فسحته وهو إباحة أربع من الحرائر ومن الإماء ما شاؤا (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [٧] أي المعتدون من الحلال إلى الحرام.

__________________

(١) رواه الترمذي ، تفسير القرآن ، ٢٤ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤٠٧.

(٢) وقد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٩٤.

(٣) عن قتادة ، انظر الكشاف ، ٤ / ٩٤.

(٤) عن قتادة ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠٨.

(٥) في ، + ح.

١٤٢

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨))

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ) جمع أمانة وقرئ بها (١) ، وهي كل ما يؤتمن عليه كأموال وأسرار (وَعَهْدِهِمْ) وهو المعاهد عليه من جهة الله أو من جهة الخلق (راعُونَ) [٨] أي حافظون من الخيانة وبالوفاء ، قيل : الراعي هو القائم على الشيء بحفظ وإصلاح (٢) ، وأمانة السر أولى بالحفظ.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩))

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) وقرئ بالجمع (٣)(يُحافِظُونَ) [٩] أي يداومون برعاية أوقاتها وباتمامها من غير سهو عنها ، والمراد من الصلوة : هو المفروضة والنوافل الراتبة وأصحابها الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وكررت لأنها أعظم العبادات بعد الإيمان.

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

ثم بين ثوابهم فقال (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) [١٠] أي (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) أي منازل الكفار من الجنة ، لأن لكل واحد من المؤمن والكافر منزلين ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فالمؤمن يرث منزل الكافر من الجنة والكافر يرث منزل المؤمن من النار ، و (الْفِرْدَوْسَ) هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر بناؤه لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر ، قيل : لم يكن أحد من أهل الجنة إلا وله نصيب في الفردوس (٤) ، لأن فيه بساتين كثيرة وأشجارا كثيرة عليها حيطان (هُمْ فِيها) أي في الفردوس ، وأنثه بتأويل الجنة (خالِدُونَ) [١١] لا يخرجون عنها.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢))

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ سُلالَةٍ) أي خلاصة سلت (مِنْ) لابتداء الغاية ، أي أخذت من بين الكدر من جميع الأرض ، فقوله (مِنْ طِينٍ) [١٢] بيان ل (سُلالَةٍ) ، والسلالة : الماء الذي انسل من بين الأصابع إذا عصر الطين ، وقيل : «الإنسان ابن آدم ، لأنه من نطفة سلت من طين ، والطين هو آدم» (٥) ، فقوله (مِنْ طِينٍ) صفة ل (سُلالَةٍ) و (مِنْ) للابتداء.

(ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣))

(ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي ابن آدم (نُطْفَةً) يعني جعل الله جوهر الإنسان أولا طينا ثم جعل جوهره نطفة (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) [١٣] أي في مستقر مكنت فيه هي وهو الرحم ، أي أحرزت.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤))

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي حولناها قطعة دم (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أي حولناها مضغة لحم (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) ف «خلقنا» هنا بمعنى صيرنا ، ولذلك عدي إلى مفعولين ، واتيان الفاء في المواضع الثلاثة لكون الأول سببا للثاني فيترتب ترتب السبب على المسبب ، فأفاد معنى التعقيب فيها (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي حيوانا بنفخ الروح فيه بعد الجماد وناطقا بعد البكم وسميعا بعد الصمم وبصيرا بعد كونه أكمه (فَتَبارَكَ اللهُ) أي تعاظم وتعالى عن الشريك (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [١٤] أحسن المقدرين تقديرا وتفصيلا ، والمراد

__________________

(١) «لأماناتهم» : قرأ المكي بغير ألف بعد النون على الإفراد ، والباقون بالألف على الجمع. البدور الزاهرة ، ٢١٧.

(٢) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٩٥.

(٣) «صلواتهم» : قرأ الأخوان وخلف بغير واو بعد اللام على التوحيد ، وغيرهم بواو بعدها على الجمع. البدور الزاهرة ، ٢١٧.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤٠٩.

١٤٣

تفصيل خلق الإنسان وترك ذكر المميز وهو تقدير لدلالة الخالقين عليه ، وهو تمييز أفعل التفضيل لا تأكيد ، لأنه ينصب اسما منكرا على التمييز خاصة ، و (أَحْسَنُ) بدل من (اللهُ) وليس بصفة ، لأنه نكرة وإن أضيف ، لأن المضاف إليه عوض من كلمة «من» ، روي : «أن عبد الله بن أبي السرح كاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلم بذلك قبل إملائه ، فقال له رسول الله عليه وسلم : اكتبه هكذا أنزلت ، فقال عبد الله إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إلي فلحق بمكة مرتدا ، ثم أسلم بعد الفتح» (١) ، وقيل : هذه الرواية غير صحيحة لأن هذه الاية مكية وارتداده كان بالمدينة (٢).

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد تمام خلقكم (لَمَيِّتُونَ) [١٥] أي تموتون عند انقضاء آجالكم (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [١٦] أي تحيون بعد الموت فلا تكونوا منكرين بذلك كما لا تنكرون ابتداء خلقكم وذكر الحيوتين لا ينفي الثالثة وهي حيوة القبر.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧))

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) هذا ذكر قدرة خلق هو أعظم من خلقهم ليستدلوا به أنه قادر على بعثهم بعد الموت ، أي خلقنا سبع سموات مع ما فيها من النيرات التي تطلع وتغرب ، وسميت «طرائق» لتطارق بعضها فوق بعض ، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة كطارقة النعل أو هي طرق الملائكة أو الكواكب ، لأن سيرها فيها ، قيل : «كل سماء غلظها مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء كذلك» (٣)(وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) [١٧] أي لا نغفل عن خلق السموات وحفظهن من أن يقع عليهم أو الخلق الناس ، أي إنما خلقها فوقهم ليفتح عليهم الارزاق وما ينفعهم من أنواع المنافع.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨))

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) أي بتقدير ووزن يأمنون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة ، أي بمقدار يكفيهم في مصالحهم ومعاشهم ، قيل : «ليست سنة بأمطر من سنة ولكن الله يصرفه حيث يشاء» (٤)(فَأَسْكَنَّاهُ) أي فأدخلنا ذلك الماء (فِي الْأَرْضِ) فأخرجنا منه ينابيع ، قيل : منه الغدران والركايا (٥) وكل ماء في الأرض من السماء (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي على إزالته (لَقادِرُونَ) [١٨] بأن يغور في الأرض فلا يقدر عليه فيموتون مع دوابهم عطشا فيجب عليهم أن يستعظموا نعمة الماء بشكر منعمه دائما ويخافوا بغارها إذا لم يشكروه عليها.

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩))

(فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي بالماء (جَنَّاتٍ) أي بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) أي أنواعها سوى النخيلة والأعناب (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [١٩].

(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠))

قوله (وَشَجَرَةً) نصب عطف على (جَنَّاتٍ (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) بكسر السين وفتحها (٦) ، هو جبل فلسطين أو جبل بين مصر وأيلة ، ومنه نودي موسى ، وأضيف طور إلى بقعة تسمى بسيناء وبسينين وتلك الشجرة شجرة الزيتون ، وخص الأنواع الثلاثة النخل والعنب والزيتون بالذكر ، لأنها أكثر الأشجار نفعا عندهم (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) بضم التاء وكسر الباء من الإنبات ، فالباء زائدة فيه ليدل على ملازمة الإنبات للدهن ،

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١٠.

(٢) أخذه المؤلف عن السمرقندي ، ٢ / ٤١٠.

(٣) عن مقاتل والكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١٠.

(٤) عن ابن مسعود ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١١.

(٥) قد أخذه المصنف عن السمرقندي ، ٢ / ٤١١.

(٦) «سيناء» : كسر السين المدنيان والمكي والبصري ، وفتحها سواهم. البدور الزاهرة ، ٢١٨.

١٤٤

وبفتح التاء وضم الباء من النبات (١) ، قوله (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [٢٠] بالجر عطف على (بِالدُّهْنِ) ، وهو الإدام وهو ما يؤكل بالخبز وإن لم يصبغ اللقمة.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١))

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) أي في الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي لعظة لمن يعتبر بها (نُسْقِيكُمْ) بضم النون وفتحها (٢)(مِمَّا فِي بُطُونِها) أي من ألبانها التي تخرج من بين فرث ودم (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) أي في ظهورها من الأصواف والأشعار (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [٢١] من لحومها وأولادها وألبانها.

(وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣))

(وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [٢٢] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) كما أرسلناك إلى قومك (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) [٢٣] أي اتقوه ووحدوه.

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥))

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أشرافهم (مِنْ قَوْمِهِ) أي من قوم نوح (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يأكل ويشرب كما تأكلون وتشربون (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) بالرسالة ويترأس (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي يرسل إلينا رسولا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا) أي بالتوحيد الذي يدعونا إليه (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [٢٤] إِنْ) أي ما (هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا (بِهِ) ليتبين لكم أمره (حَتَّى حِينٍ) [٢٥] أي حتى يموت أو يفيق من جنونه فننجو منه ، فلما لم يؤمنوا به دعا عليهم بعد العلم به.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) أي أعني عليهم باهلاكهم (بِما كَذَّبُونِ) [٢٦] أي بسبب تكذيبهم إياي.

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧))

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي إلى نوح (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمنظر منا ، يعني بحفظنا ، لأنه كان يعمل في الفلك ولا يخطئ في عملها ولا يفسد عليه مفسد عمله ، وهو نصب على الحال (وَوَحْيِنا) أي بالهامنا إليك ، كيف تصنع أو بأمرنا (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا (وَفارَ التَّنُّورُ) أي نبع الماء من أسفله وهو لنوح أو كان لآدم فصار إلى نوح ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته (فَاسْلُكْ فِيها) أي ادخل في السفينة (مِنْ كُلٍّ) بالتنوين وبغيره (٣) ، أي من كل أمتي (زَوْجَيْنِ) من كل حيوان (اثْنَيْنِ) الذكر والأنثى ، روي : أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض (٤)(وَأَهْلَكَ) أي وادخل أهل بيتك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ) أي وجب (الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي العذاب ، قرن ب «على» السبق الضار كما قرن باللام السبق النافع في قوله (سَبَقَتْ لَهُمْ) من (الْحُسْنى)(٥) ، قيل : هو ابنه كنعان (٦)(وَلا تُخاطِبْنِي) أي لا تراجعني بالدعاء (فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بترك الإيمان (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) [٢٧] بالطوفان ، وإنما نهاه عن الدعاء لهم النجاة

__________________

(١) «تنبت» : قرأ المكي والبصري ورويس بضم التاء وكسر الباء ، والباقون بفتح التاء وضم الباء. البدور الزاهرة ، ٢١٨.

(٢) «نسقيكم» : قرأ نافع والشامي وشعبة ويعقوب بالنون المفتوحة ، وأبو جعفر بالتاء المفتوحة ، والباقون بالنون المضمومة. البدور الزاهرة ، ١٨٠.

(٣) «كل» : قرأ حفص بتنوين «كل» ، وغيره بلا تنوين. البدور الزاهرة ، ٢١٨.

(٤) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٩٩.

(٥) الأنبياء (٢١) ، ١٠١.

(٦) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٤١٢.

١٤٥

لحكمة اقتضت إغراقهم وهي علم المفسدة في استبقائهم لكونهم ظالمين بعد لزوم الحجة البالغة عليهم.

(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨))

ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أنفع له فقال (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ) أي ركبت (أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) من أهل الإيمان (عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ) ولم يقل فاذا استويتم فقولوا لأنه نبيهم فكان قوله قولهم مع الإشعار بفضل النبوة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [٢٨] أي المفسدين بالشرك والمعصية.

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩))

(وَقُلْ) إذا نزلت من الفلك إلى البر أو إذا دخلت فيها (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً) بالكسر مع الفتح بطن الفلك ، وبالفتح مع الضم مصدر (١) ، أي إنزالا (مُبارَكاً) وبركته النجاة فيها (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) [٢٩] بكسر الزاء وبعد إغراق الكافرين وإنجاء المؤمنين.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١))

قال (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في هلاك قوم نوح ونجاته مع المؤمنين (لَآياتٍ) أي لعبرات لمن بعدهم (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) [٣٠] أي وقد كنا لمختبرين الناس بالطاعة والمعصية أو كنا مهلكين قوم نوح بالبلاء ليعتبر من بعدهم (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) [٣١] وهم قوم عاد.

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣))

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) ولم يقل إليهم مع أن حق الإرسال أن يعدى ب «إلى» ، لأن الأمة أو القرية جعلت موضعا للرسالة مجازا فقرنت ب «في» لا أن حقه التعدى ب «في» ، أي بعثنا فيهم (رَسُولاً) أي هودا (مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي قال لهم اعبدوه ووحدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) [٣٢] أي اتقوا وآمنوا به عطف على قوله «نوح» بقوله (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي بالبعث (وَأَتْرَفْناهُمْ) أي أنعمنا عليهم بنعم كثيرة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قوله (ما هذا) مقول القول ، أي قالوا ما هود (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [٣٣] منه.

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤))

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [٣٤] «إذن» جواب شرط محذوف ، أي إنكم إن أطعتموه إذن تخسرون عقولكم وتغبنون آراءكم.

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥))

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ) أي صرتم (تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ) كرر للتأكيد المستحسن لوقوع الفصل بالظرف بين الأول والثاني (مُخْرَجُونَ) [٣٥] خبر عن الأول ، أي أيعدكم بأنكم مخرجون من قبوركم إذا متم ودفنتم في الأرض.

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦))

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ) أي بعد جدا ، اسم فعل ، فاعله مضمر فيه ، أي بعد التصديق (لِما تُوعَدُونَ) [٣٦] من البعث (٢) ، وقيل : الفاعل «ما» واللام زائدة لبيان المستبعد ، فلا محل ل (هَيْهاتَ) من الإعراب على تقدير الفعل (٣) ،

__________________

(١) «منزلا» : قرأ شعبة بفتح الميم وكسر الزاي ، وغيره بضم الميم وفتح الزاي. البدور الزاهرة ، ٢١٨.

(٢) أو بعد كونه ، + و.

(٣) لعل المفسر اختصره من الكشاف ، ٤ / ١٠١.

١٤٦

وقيل : بمعنى المصدر (١) ، تقديره : البعد لما توعدون فهو مبتدأ وخبر ، روي : هيهات بالفتح والضم بتنوين وغيره وبالسكون على الوقف (٢).

(إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧))

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) أي ما الحيوة إلا الحيوة (الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي نحيى ونموت بعد الحيوة (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [٣٧] بعد الموت كما تزعم يا هود.

(إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨))

ثم قالوا (٣)(إِنْ هُوَ) أي (٤) ما هود (إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) [٣٨] أي بمصدقين بالبعث.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠))

(قالَ) هود (رَبِّ انْصُرْنِي) على إهلاكهم (بِما كَذَّبُونِ [٣٩] قالَ) الله تعالى (عن ما (قَلِيلٍ) أي عن زمان قليل ، و «ما» زائدة لتأكيد قلة المدة (لَيُصْبِحُنَّ) أي ليصيرن على تكذيبهم (نادِمِينَ) [٤٠] واللام في جواب القسم المحذوف.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١))

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) أي صيحة جبرائيل (بِالْحَقِّ) أي العذاب الواجب الوقوع (فَجَعَلْناهُمْ) أي صيرناهم (غُثاءً) أي يابسا أو هلكى كغثاء السيل لا ينتفع به وهو ما يحمله السيل على وجهه من الزبد والورق والعود ، قوله (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [٤١] مصدر منصوب بفعل وجب حذفه ، لأنه من المصادر التي وضعت مواضع أفعالها ، ومعناه : بعدا بعدوا ، أي هلكوا من رحمة الله ، يعني فأهلكناهم بالعذاب في الدنيا.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢))

(ثُمَّ أَنْشَأْنا) أي خلقنا (مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) [٤٢] كقوم صالح ولوط وشعيب.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣))

(ما تَسْبِقُ) أي تتقدم (مِنْ أُمَّةٍ) أي أمة (أَجَلَها) يعني لا تموت قبل أجلها المكتوب لها ، وهو الوقت الذي عين لهلاكها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) [٤٣] بعد أجلها ساعة.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) منونا ، مصدر من المواترة ، وهي التعاقب في موضع الحال ، أي متواترين واحدا بعد واحد ، وقرئ «تترى» بغير تنوين بمعنى المنون ، فألفه بدل من التنوين ، والتاء بدل من الواو (٥) ، لأنه فوعل لا تفعل ، إذ لا وجود له اسما في الكلام ، وقيل : هو فعلى (٦) ، أي وترى من تواتر الخبر فألفه للتأنيث ، لأن الرسل جماعة ، والمعنى : أرسلنا الرسل إلى أممهم تابعا بعضهم بعضا (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا) القرون (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الهلاك (وَجَعَلْناهُمْ) بعد إهلاكهم (أَحادِيثَ) يتحدث بها الناس بعدهم للتعجب والعبرة ،

__________________

(١) وهذا الرأي مأخوذ عن الكشاف ، ٤ / ١٠١.

(٢) «هيهات» معا : قرأ أبو جعفر بكسر التاء فيهما ، والباقون بفتحها ، ووقف عليهما بالهاء البزي والكسائي ، والباقون بالتاء. البدور الزاهرة ، ٢١٨.

(٣) ثم قالوا ، ح ي : ـ و.

(٤) قالوا ، + و.

(٥) «تترى» قرأ المكي والبصري وأبو جعفر بالتنوين وصلا وبابداله ألفا وقفا ، والباقون بحذفه وصلا ووقفا. البدور الزاهرة ، ٢١٩.

(٦) نقله المفسر عن الكشاف ، ٤ / ١٠١.

١٤٧

قيل : «لو بقي واحد منهم لم يكونوا أحاديث» (١) ، والأحاديث جمع أحدوثة كالأعجوبة ، وقيل : اسم جمع للحديث لمعنى الخبر (٢)(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [٤٤] أي أهلكناهم جميعا.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦))

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) التسع (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) [٤٥] أي بحجة ظاهرة كالعصا والحية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وغير ذلك (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا) أي تعظموا عن الإيمان والطاعة (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [٤٦] أي متكبرين.

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧))

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ) أي أنصدق (لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) في البشرية ووصف بالمثل الاثنان ، لأنه بمعنى المصدر (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) [٤٧] أي والحال أنهم ، يعني بني إسرائيل مسخرون ذليلون لنا.

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨))

(فَكَذَّبُوهُما) أي موسى وهرون (فَكانُوا) أي صار قوم فرعون (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) [٤٨] في البحر بالغرق.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي التورية (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [٤٩] أي قوم موسى بالتورية ، يعني بالعمل بشرائعها ومواعظها.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ) أي عيسى آية (وَأُمَّهُ آيَةً) أي عبرة لبني إسرائيل بعد موسى ، لأن عيسى تكلم في المهد وأحيى الموتى ، ومريم ولدته من غير مسيس ، وهما آيتان قطعا ، فيكون هذا من قبيل الاكتفاء بذكر إحديهما (وَآوَيْناهُما) أي أنزلناهما (إِلى رَبْوَةٍ) بفتح الراء وضمها (٣) ، أي إلى مكان مرتفع ، هو بيت المقدس ، قيل : إنه كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا (٤)(ذاتِ قَرارٍ) أي أرض سهلة مستوية يستقر عليها ساكنوها (وَمَعِينٍ) [٥٠] أي ذات ماء جار ظاهر على وجه الأرض ، من المعن وهو الإسراع أو من عانه إذا أدركه بعينه ، فالميم زائدة.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١))

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) قيل : هو خطاب لمحمد (٥) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته على سبيل التغليب (٦) ، وقيل : خطاب للمرسلين (٧) ، أي قلنا لكل منهم ذلك ليتبعهم الأمم ، وفيه إعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصي به ، فحقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الحلالات (٨) وقيل : الطيبات من الرزق هي الحلال والصافي والقوام ، أي الذي لا يعصى الله فيه والذي لا ينسى ذكره والذي يحفظ العقل والبدن (٩)(وَاعْمَلُوا صالِحاً) أي عملا خالصا (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [٥١] أي قبل أن تعملوا ، قيل : إن عيسى عليه‌السلام كان يأكل من غزل أمه ، وكان رزق نبينا عليه‌السلام من الغنائم وهو أطيب الطيبات (١٠) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» (١١).

__________________

(١) عن الكلبي ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٤١٤.

(٢) نقله المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ١٠٢.

(٣) «ربوة» : فتح الراء الشامي وعاصم وضمها سواهما. البدور الزاهرة ، ٢١٩.

(٤) قد أخذه المفسر عن الكشاف ، ٤ / ١٠٢.

(٥) لمحمد ، و : بمحمد ، ح ي.

(٦) أخذه المؤلف عن السمرقندي باختصار ، ٢ / ٤١٥.

(٧) نقل المصنف هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ١٥٠.

(٨) أي من الحلالات ، و : أي الحلالات ، ح ي.

(٩) اختصره المؤلف من الكشاف ، ٤ / ١٠٣.

(١٠) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤١٥.

(١١) رواه مسلم ، الزكوة ، ٦٥ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٤١٥.

١٤٨

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢))

قوله (وَإِنَّ) عطف على (كُلُوا) ، قرئ بكسر «إن» على الابتداء ، وبالفتح على ولأن متعلقا ب (فَاتَّقُونِ) ، وب «أن» مخففة من الثقيلة (١) ، أي ولأن الشأن (هذِهِ أُمَّتُكُمْ) يعني هذه الملة وهي دين الإسلام (أُمَّةً واحِدَةً) حال ، أي دينا واحدا عليه جميع الأنبياء والمؤمنون بهم (وَأَنَا رَبُّكُمْ) أي إلهكم الذي شرعته لكم (فَاتَّقُونِ) [٥٢] أي خافوا عذابي وأطيعوني.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣))

(فَتَقَطَّعُوا) أي تفرقوا (٢) ، يعني الأتباع (أَمْرَهُمْ) أي دينهم الذي أمرتهم به (بَيْنَهُمْ زُبُراً) بفتح الباء وضمها (٣) ، أي قطعا ، يعني جعلوا دينهم أديانا مختلفة فتحزبوا (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ) من الدين (فَرِحُونَ) [٥٣] أي راضون بباطلة معتقدون على أنه الحق.

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

ثم سلى نبيه عليه‌السلام وهددهم بقوله (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم (فِي غَمْرَتِهِمْ) أي في جهلهم وعمايتهم (حَتَّى حِينٍ) [٥٤] أي حتى يقتلوا أو يموتوا على الباطل ، وفيه نهي للنبي عليه‌السلام عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره.

(أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

(أَيَحْسَبُونَ) أي أيظنون (أَنَّما نُمِدُّهُمْ) أي أن الذي نعطيهم إياه ونزيدهم (بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [٥٥] نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) أي في الطاعات وجملة (نُسارِعُ) خبر «أن» و «ما» موصولة اسمها والراجع من خبر «إن» إلى اسمها محذوف ، تقديره : نسارع به بمعنى لا نسارع لهم به فيما (٤) فيه نفع وإكرام (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [٥٦] أي لا يعقلون كالبهائم أن ذلك استدراج ومكر لزايادة الإثم ، ولكنهم يتوهمون أن تعجيلنا ذلك لرضانا عنهم.

(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩))

ثم أخبر عن المسرعين في الخيرات والأعمال الصالحات من المؤمنين فقال (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [٥٧] أي من عذابه خائفون (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي بالقرآن (٥)(يُؤْمِنُونَ) [٥٨] أي يصدقون (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) [٥٩] معه غيره ، أي يوحدونه ويعبدونه بالإخلاص.

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) أي يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات (وَقُلُوبُهُمْ) أي والحال أن قلوبهم (وَجِلَةٌ) أي خائفة أن لا يقبل منهم (٦)(أَنَّهُمْ) أي لأنهم (إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) [٦٠] يعني يوقنون بعثهم بعد الموت للحساب والجزاء ، وخبر (إِنَّ الَّذِينَ (أُولئِكَ) أي الموصوفون بهذه الصفات (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي في الأعمال الصالحة ويرغبون فيها أشد الرغبة خوفا عن فوتها ، وقيل : التسارع في الخيرات التقلل من الدنيا وترك الاهتمام بها (٧)(وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [٦١] أي لأجل الخيرات فاعلون السبق لنيلها في الدنيا والآخرة نزل منزلة اللازم بلا تقدير المفعول ، وقيل : سابقون الناس لأجلها بتقدير المفعول (٨).

__________________

(١) «وَإِنَّ» : قرأ الكوفيون بكسر الهمزة وتشديد النون ، والشامي بفتح الهمزة وتخفيف النون ، والباقون بفتح الهمزة وتشديد النون. البدور الزاهرة ، ٢١٩.

(٢) تفرقوا ، ح ي : فرقوا ، و.

(٣) نقل المؤلف هذه القراءة عن السمرقندي ، ٢ / ٤١٥.

(٤) لهم ، + و.

(٥) بالقرآن ، و : القرآن ، ح ي.

(٦) منهم ، ح ي : ـ و.

(٧) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٨) أخذ المؤلف هذا المعنى عن الكشاف ، ٤ / ١٠٤.

١٤٩

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي لا نظلم منهم أحدا بل نأمر كل نفس بقدر طاقتها وإن لم تبلغ السابقين (وَلَدَيْنا كِتابٌ) أي عندنا كتاب حاضر هو اللوح (يَنْطِقُ بِالْحَقِّ) بما سطر فيه من الأعمال والأقوال (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [٦٢] أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣))

(بَلْ قُلُوبُهُمْ) أي قلوب أهل مكة (فِي غَمْرَةٍ) أي في غفلة (مِنْ هذا) أي من الإيمان (١) أو من الذي أعد لهم من العذاب أو من الوصف الذي ذكرنا للمؤمنين (وَلَهُمْ) أي للمؤمنين (أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي سوى ما عملوا من الخيرات (هُمْ لَها عامِلُونَ) [٦٣] بعد فيثابون ، لأنها صارت عادة لهم فلا يفطمون عنها فيأتيهم الله بالعذاب.

(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥))

قوله (حَتَّى إِذا أَخَذْنا) «حتى» فيه هي التي يبتدأ بها الكلام وهو الجملة الشرطية (مُتْرَفِيهِمْ) أي متنعميهم (بِالْعَذابِ) وهو قتلهم بالسيف يوم بدر أو بالجوع حين دعا عليهم النبي عليه‌السلام ، وهم أهل قريش حين قال : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف عليه‌السلام» (٢) ، فقحطوا حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) [٦٤] جواب (إِذا) الشرطية ، و (إِذا) فيه بمعنى الفاء الجزائية ، أي يصيحون ويتضرعون إلى الله استغاثة حين نزل بهم العذاب قلنا (لا تَجْأَرُوا) أي لا تصرخوا (الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) [٦٥] من عذابنا.

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦))

(قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي القرآن يعرض عليكم (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) [٦٦] أي ترجعون إلى شرككم.

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))

(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي متعظمين بالبيت العتيق (٣) ، واستكبارهم به أنهم كانوا يقولون لا يغلب أحد علينا ، لأنا أهل بيت الله ويفتخرون به ولم يسبق ذكر البيت لكونه معلوما عندهم أو الضمير في (بِهِ) للقرآن أو لمحمد عليه‌السلام ، أي مكذبين به ، لأنهم إذا سمعوا القرآن أو رأوا محمدا عليه‌السلام كذبوهما وازدادوا كبرا ، قوله (سامِراً) حال بعد حال ، قيل : هو اسم جمع كالحاضر (٤) ، والسمر الحديث بالليل ، لأنهم كانوا يسمرون بالقرآن وطعنه حول البيت بالليل ، وكذا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطعنه بتسميته شاعرا أو ساحرا ، وقوله (تَهْجُرُونَ) [٦٧] حال أخرى ، من هجر إذا ترك ، أي تهجرون الإيمان بالله والقرآن ، والهجر بالفتح الهذيان وهو ترك الصواب وبالضم الفحش في المنطق.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨))

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أي القرآن ، والتدبر إحضار القلب للفهم ، يعني أفلم يحضروا قلوبهم في القرآن ليعلموا أنه الحق فيؤمنوا به وبمن جاء به (أَمْ جاءَهُمْ) أي بل أجاءهم من الأمان من العذاب (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) [٦٨] أي الأمم المتقدمة ، ولذلك أنكروه ، والمعنى : بل أجاءهم من الأمر الشديد ما لم يأت أباءهم الأولين كابراهيم وإسمعيل وأولاده حين خافوا الله وآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه ، فان هؤلاء من عدنان وقحطان.

__________________

(١) بالقرآن ، + ي.

(٢) رواه مسلم ؛ المساجد ، ٢٩٤ ، ٢٩٥ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٥٣.

(٣) العتيق ، ح ي : ـ و.

(٤) أخذ المفسر هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ١٠٥.

١٥٠

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩))

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بل ألم يعرفوا نسب رسولهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمانته وخلقه (فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [٦٩] أي جاحدون حسدا وهو استفهام توبيخ وإنكار عليهم لإعراضهم عنه بعد معرفة إياه بصحة نسبه وصدقه وعقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش.

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون وهم يعلمون أنه بريء منها (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ) أي القرآن والرسالة من عند الله أن لا يعبدوا إلا الله وما فيه من الشرائع للإسلام وهو يخالف أهواءهم (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [٧٠] أي جاحدون وأقلهم لا يكرهونه ، لأن فيهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه.

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١))

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ) أي الله أو القرآن (أَهْواءَهُمْ) بأن شرعت الشرائع أو نزل القرآن بمراداتهم (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) أي لانقلبت باطلا لا قوام لها ، لأنه لم يكن إلها يقدر أن يمسكهما من أن تزولا أو لهلكت بالشرك ولم تؤخر بمجيء الله بيوم القيامة (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) أي بما يذكرهم ويخوفهم وهو القرآن ليؤمنوا به (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) أي وعظهم بالقرآن (مُعْرِضُونَ) [٧١] بترك الإيمان به.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢))

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) أي أتدعوهم يا محمد إلى الباطل أم تسألهم جعلا يمتنعون لذلك عن الإيمان (فَخَراجُ رَبِّكَ) أي ثوابه (خَيْرٌ) أو رزقه من الحلال خير من جعلهم ، قرئ في الموضعين «خراجا» ف «خراج» و «خرجا» ف «خرج» و «خرجا» ف «خراج» (١) ، والفرق بينهما أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [٧٢] أي أفضل المعطين الرزق لأهله.

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣))

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [٧٣] وهو دين الإسلام لا عوج فيه.

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤))

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي البعث (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) [٧٤] أي عادلون عن الدين المستقيم.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥))

قوله (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ) أي من قحط وجوع ، نزل حين جاء أبو سفيان إلى النبي عليه‌السلام وسأل منه أن يدعو ربه ليرفع القحط عن قريش ، فقال ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : بلى ، فقال : قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فدع ربك ليدفع عنهم الضر ، فأراد النبي عليه‌السلام أن يدعو الله ليكشف الضر عنهم ، فقال الله تعالى لو رحمناهم وكشفنا عنهم الضر ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة الرسول والمؤمنين (٢) ، فقوله (لَلَجُّوا) جواب (لَوْ) ، أي لتمادوا (فِي طُغْيانِهِمْ) وكفرهم (يَعْمَهُونَ) [٧٥] أي يتحيرون ويترددون.

__________________

(١) «خراجا» ، «فخراج» : قرأ الشامي باسكان الراء وحذف الألف فيهما ، والأخوان وخلف بفتح الراء وإثبات الألف فيهما ، والباقون في الأول كابن عامر ، وفي الثاني كحمزة ومن معه. البدور الزاهرة ، ٢١٩.

(٢) نقله عن الكشاف ، ٤ / ١٠٦.

١٥١

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦))

(وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ) أي الكفار (بِالْعَذابِ) أي الأسر والقتل ببدر (فَمَا اسْتَكانُوا) من استفعل من الكون ، ومعنى «استكان» انتقل من كون إلى كون ، أي ما انتقلوا من حالهم وما خضعوا (لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [٧٦] أي لم يتضرعوا وعادوا إلى كفرهم ، ولم يقل «وما تضرعوا» كقوله (فَمَا اسْتَكانُوا) ليدل على أن من عادتهم أن لا يتضرعوا.

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))

(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) كالجوع الذي هو أشد من القتل ببدر والأسر (إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [٧٧] أي آيسون من كل خير ورزق ، وقيل : الإبلاس السكوت مع التحير (١).

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨))

ثم ذكر ما ينبههم به على الاستدلال العقلي ليؤمنوا بالله ويوحدوه من قوله (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ) أي خلق (السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لتعرفوا هذه النعم وتشكروا ربكم ، وإنما خص هذه الثلاثة لتعلق أكثر المنافع الدينية والدنيوية بها ، فمن لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [٧٨] أي لم تشكروه لا قليلا ولا كثيرا.

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩))

(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ) أي خلقكم (فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [٧٩] في الآخرة.

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠))

(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي ذهابه ومجيؤه بأمره (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [٨٠] صنع ربكم فتوحدوه وتؤمنوا بالبعث الذي أخبركم عنه بالقرآن.

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢))

(بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ [٨١] قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا) أي صرنا (تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [٨٢] أي انبعث بعد ما كنا ترابا وعظاما.

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))

(لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا) الوعد (مِنْ قَبْلُ) أي قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنْ) أي ما (هذا) القول (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [٨٣] أي أحاديث (٢) بالكذب.

(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤))

(قُلْ) يا محمد لكفار مكة (لِمَنِ الْأَرْضُ) تحت السماء (وَمَنْ فِيها) من أنواع الخلق (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٨٤] أن أحدا يفعل ذلك غير الله.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥))

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) لا غير (قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [٨٥] أي ألا تتعظون فتذكرون الأدلة الدالة على الصانع فتؤمنون بأنه قادر على إعادة الخلق بعد الموت.

__________________

(١) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٤ / ١٠٧.

(٢) أحاديث ، ح ي : أحاديثهم ، و.

١٥٢

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧))

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [٨٦] سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [٨٧] أي أفلا تخافونه فلا تشركوا به ولا تعصوا رسله.

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨))

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي خزائنه وقدرة خلقه (وَهُوَ يُجِيرُ) أي يغيث ويؤمن من العذاب (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي لا يغاث عليه أو هو يقضي ولا يقضى عليه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [٨٨] ذلك.

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩))

(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [٨٩] أي تخدعون بالشيطان والهوى وتصرفون عن الإيمان بالحق ، قرئ «لله» باللام دون الألف وهو مطابق لقوله (لِمَنِ الْأَرْضُ) ، وقوله «الله» مطابق قوله (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ) وكذا قوله «الله» الأخير مطابق لقوله (مَنْ بِيَدِهِ) ، وقرئ الآخيران (١) باللام أيضا حملا على المعنى ، لأنك إذا قلت من رب هذا فكأنك قلت لمن هذا ، فالجواب باللام ليوافق الجواب السؤال.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١))

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ) أي بالتوحيد أو بالقرآن (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [٩٠] في ادعائهم الشريك لله وتكذيب الرسل ، وأكد كذبهم بقوله (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) أي من شريك (٢) ، قوله (إِذاً) يدخل على جواب وجزاء وهو (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) ولم يتقدمه شرط لكن قوله (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) يدل على شرط محذوف ، تقديره : ولو كان معه آلهة لانفرد كل إله بما خلق واستبد به دون الإله الآخر (وَلَعَلا) أي لغلب (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) كما ترون حال ملوك الدنيا ولاختل نظام العالم بالتماس بعضهم قهر بعض وبطلب الجمع إلى أمر نفسه كل ما خلق بالاستيلاء ، فحيث لم يختل ، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء (سُبْحانَ اللهِ) وتعالى ، أي تنزيها له (عن ما (يَصِفُونَ) [٩١] له من الشريك والولد.

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي عالم السر والعلانية (فَتَعالى) أي تنزه (عن ما (يُشْرِكُونَ) [٩٢] به مما لا يعلم شيئا من الغيب والشهادة ، قرئ «عالم» بالجر نعت لله في قوله (سُبْحانَ اللهِ) وبالرفع (٣) خبر المبتدأ المحذوف.

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤))

(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي) بزيادة «ما» والنون المؤكدتين أو إن تريني (ما يُوعَدُونَ) [٩٣] من العذاب ، فأمر نبيه عليه‌السلام أن يطلب أن لا يقارنه معهم في العذاب بعد علمه بالوعد أنه تعالى يفعله بهم ، يعني إن تريني عذابهم البتة في الدنيا أو في الآخرة (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي) معذبا (فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [٩٤] بعذابهم ، وكرر (رَبِّ) لفضل تضرع له وإنما أمره بهذا الدعاء مع أنه معصوم هضما لنفسه وإظهارا لعبوديته.

__________________

(١) «سَيَقُولُونَ لِلَّهِ» الثاني والثالث : قرأ البصريان بزيادة وصل وفتح اللام وتفخيمه ورفع الهاء من لفظ الجلال فيهما ، والباقون بحذف همزة الوصل وبلام مكسورة ولام مفتوحة مرققة وخفض الهاء من لفظ الجلالة فيهما ، ولا خلاف بينهم في الأول ، وهو : سيوقولون لله قل أفلا تذكرون أنه بلام مكسورة وأخرى مفتوحة رقيقة مع خفض الهاء. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

(٢) أي من شريك ، و : أي شريك ، ح ي.

(٣) «عالم» : قرأ المكي والبصريان والشامي وحفص بخفض الميم ، والباقون برفعها. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

١٥٣

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))

(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ) من العذاب (لَقادِرُونَ) [٩٥] وقد رآه ببدر وفتح مكة وغيرهما.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦))

(ادْفَعْ) أمر من الله لنبيه عليه‌السلام بالعفو عنهم أي ادفع (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) أي بالخصلة التي هي أحسن الخصال ، أي بحلمك جهلهم والإغضاء والصفح عن إساءتهم أو بالسلام إذا لقيتهم ، وقيل : ادفع بقول لا إله إلا الله السيئة (١) ، أي الشرك منهم ، وهذه منسوخة بآية السيف (٢) ، ثم هددهم بقوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) [٩٦] لنا من الشريك والولد فلا تعجل أنت.

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧))

(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) [٩٧] أي من وساوسهم التي يحثون الناس بها على المعاصي.

(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩))

(وَأَعُوذُ) أي وأعتصم (بِكَ رَبِّ) أي يا ربي (أَنْ يَحْضُرُونِ) [٩٨] أي من أن يحضروني مطلقا أو عند تلاوة القرآن أو عند الصلوة ، وأصله يحضرونني ، فحذف إحدى النونين بأن ، ثم حذف ياء المتكلم اكتفاء بالكسر ، (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي إنهم لا يزالون يشركون بالله إلى وقت مجيء الموت إليهم ، ف (حَتَّى) متعلق ب (يَصِفُونَ) ، وما بينهما اعراض لتأكيد إغضائه عنهم مستعينا بالله من أن يستزله الشيطان عن الحلم أو تقديره : أمهلهم في كفرهم حتى إذا حضر أحدهم الموت كافرا (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [٩٩] خطاب لله تعالى بلفظ الجمع للتعظيم ، أي الكافر يقول : ردوني إلى الدنيا ، وقيل : خطاب لملك الموت وأعوانه (٣).

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠))

(لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) أي خالصا (فِيما تَرَكْتُ) من الإيمان في الدنيا ، يعني لعلي اؤمن وأعمل فيه عملا صالحا يرضى به ربي ، روي عن النبي عليه‌السلام أنه قال : «إذا عاين المؤمن الملائكة قالت له نرجعك إلى الدنيا ، فيقول إلى دار الأحزان والهموم ، بل قدوما إلى الله تعالى ، وأما الكافر فيقول رب ارجعوني إلى الدنيا» (٤) ، فقال تعالى (كَلَّا) وهو ردع له عن طلب الرجعة واستبعاد لذلك ، أي إنه لا يرد إلى الدنيا أبدا (إِنَّها) أي مقالته وهي (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً (كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) تحسرا على تفريطه ، قيل : لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه أو هو قائلها وحده لا يجاب إليها ولا تسمع منه (٥)(وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) الضمير للجماعة ، أي من أمامهم حاجز يصدهم عن الرجوع وهو القبر (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [١٠٠] يعني لا يرجعون أبدا وهو إقناط كلي لهم عن الرجوع لما علم أنه لا رجعة بعد البعث إلا إلى الآخرة ، والبرزخ ما بين النفختين.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١))

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) وهي النفخة الأخيرة (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) أي لا ينفعهم النسب (يَوْمَئِذٍ) يعني إذا بعث الناس فلا أنساب بينهم يتواصلون بها أو يتفاخرون ، إذ الأنساب ينقطع بينهم يوم القيامة حيث يتفرقون للعقاب أو للثواب إلا نسب الدين لزوال التراحم والتعاطف بين الأقارب لشدة اليوم ، لأنه (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ

__________________

(١) أخذ المؤلف هذا المعنى عن السمرقندي ، ٢ / ٤٢٠.

(٢) نقله عن البغوي ، ٤ / ١٥٩ ؛ وانظر أيضا هبة الله بن سلامة ، ٦٧ ؛ وابن الجوزي ، ٤٥.

(٣) نقل المفسر هذا الرأي عن السمرقندي ، ٢ / ٤٢١.

(٤) انظر الكشاف ، ٤ / ١٠٩. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٥) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ١٠٩.

١٥٤

أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)(١)(وَلا يَتَساءَلُونَ) [١٠١] أي لا يسأل حميم حميما ولا يشكل هذا بقوله (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ)(٢) ، لأن للساعة مواطن لا يتساءلون في موطن ، إذ كل مشغول عن سؤال صاحبه بحاله لشدة الهول فلا يتعارفون ، وفي موطن يقفون فيتساءلون ، لأنهم فيه يتعارفون.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢))

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي أعماله الصالحة على الأعمال السيئة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [١٠٢] أي الناجون من العذاب في الآخرة.

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣))

(وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) المذكورة ، أي ثقلت أعماله السيئة على الأعمال (٣) الصالحة (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) قوله (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) [١٠٣] أي دائمون بدل من (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) ، ولا محل للبدل والمبدل منه ، لأن الصلة لا محل لها من الإعراب ، قيل : الكفار يأتون يوم القيامة بأعمال كجبال تهامة (٤) ، فاذا وزنوها لم تزن شيئا كقوله (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً)(٥).

(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤))

(تَلْفَحُ) من لفحته النار أو السموم إذا تغير منه لون البشرة ، يعني تنفخ وتحرق (وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها) أي في النار (كالِحُونَ) [١٠٤] أي عابسون بادية أسنانهم كما ترى الرؤوس المشوية ، والكلوح أن تتقلص (٦) الشفتان وتتشمر (٧) عن الأسنان ، روي عن النبي عليه‌السلام : «أن النار تشويه فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» (٨).

(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥))

ثم يقال لهم (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي ألم يقرأ القرآن الذي فيه بيان هذا اليوم وشدته (فَكُنْتُمْ بِها) أي بالآيات (٩)(تُكَذِّبُونَ) [١٠٥] أي تنكرون.

(قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨))

(قالُوا) أي أجابوا بقولهم (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا) أي ملكتنا (شِقْوَتُنا) وقرئ «شقاوتنا» (١٠) ، أي سوء العاقبة الذي كتب علينا في اللوح المحفوظ (وَكُنَّا) أي صرنا (قَوْماً ضالِّينَ) [١٠٦] عن الهداية ، فعند دخولهم النار يقولون (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) أي من النار (فَإِنْ عُدْنا) أي إن رجعنا (١١) إلى الكفر أو خالفناك (فَإِنَّا ظالِمُونَ) [١٠٧] فلا يجابون مدة الدنيا مرتين (قالَ) أي ثم يقول لهم ملك (اخْسَؤُا فِيها) أي ابعدوا في جهنم أذلاء ،

__________________

(١) عبس (٨٠) ، ٣٤ ـ ٣٦.

(٢) الصافات (٣٧) ، ٢٧ ؛ والطور (٥٢) ، ٢٥.

(٣) الأعمال ، ي : أعماله ، و ، أعمال ، ح.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٥) الكهف (١٨) ، ١٠٥.

(٦) تتقلص ، ح و : يتقلص ، ي.

(٧) وتتشمر ، ح و : ويتشمر ، ي.

(٨) أخرجه أحمد بن حنبل ، ٣ / ٨٨ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ١٦١.

(٩) أي بالآيات ، وي : أي الآيات ، ح.

(١٠) «شقوتنا» : قرأ الأخوان وخلف بفتح الشين والقاف وألف بعدها ، والباقون بكسر الشين وسكون القاف. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

(١١) أي إن رجعنا ، و : أي رجعنا ، ح ي.

١٥٥

والخسؤ زجر الكلب وإبعاده (وَلا تُكَلِّمُونِ) [١٠٨] في رفع العذاب عنكم فلا سبيل إليه فانقطع رجاؤهم ، ثم لا يتكلمون بعدها إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون.

(إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠))

قوله (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) وهم المؤمنون تعليل لاستحقاقهم ذلك العذاب ، أي لأن الشأن كان جماعة من المؤمنين (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [١٠٩] فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرئ (١) بضم السين من التسخير والخدمة ، أي سخرتموهم واستبعدتموهم ، وبالكسر بمعنى الهزء (٢) ، يؤكده قوله (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) ، يعني استهزأتموهم (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) أي أنساكم استهزاؤكم بهم (ذِكْرِي) أي ذكركم إياي والخوف مني والعمل بطاعتي (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) [١١٠] في الدنيا وهم جماعة من المسلمين كبلال وعمار وسلمان وصهيب ، كان المشركون يسخرون بهم وباسلامهم ويؤذونهم.

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣))

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) أي النعيم المقيم بصبرهم على أذاكم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) [١١١] بمطلوبهم ، قرئ بكسر «إن» وبفتحها (٣) على أنه مفعول الجزاء ، ثم قرئ (٤) (قال) أي الله وهو يسألهم و «قل» أمرا لمالك أن يسألهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) [١١٢] في الدنيا أو في القبر فاستقصروا مدة لبثهم وشكوا فيها و (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قرئ بالهمز وتركه قوله (٥)(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) [١١٣] أي الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم ونحن لا نعلم عن عدد تلك السنين ، لأنا مشغولون عن ذلك بما بنا من شدة العذاب ، قيل : «أنساهم ما كانوا فيه من العذاب ما بين النفختين» (٦).

(قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

(قالَ) أي المالك (إِنْ لَبِثْتُمْ) في الدنيا أو في القبر (إِلَّا) لبثا (قَلِيلاً) لأن أيام السرور قليلة وأيام المحنة طويلة (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [١١٤] مدة لبثكم لما أجبتم بهذا الجواب.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥))

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) أي نخلقكم عابثين أو للعبث ، أي لتلعبوا وتكونوا كالبهائم بل لحكمة اقتضت ذلك ، وهي أن تعرفونا وتعبدونا ، المعنى : أفحسبتم أنكم تهملون فلا تؤمرون ولا تنهون (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [١١٥] عطف على (أَنَّما) ، يعني أظننتم لا ترجعون إلينا في الآخرة فنجازيكم ، قرئ بفتح التاء وكسر الجيم وبضم التاء وفتح الجيم مجهولا (٧).

__________________

(١) قرئ ، و : ـ ح ي.

(٢) «سخريا» : قرأ المدنيان والأخوان وخلف بضم السين ، والباقون بكسرها. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

(٣) «أنهم» : قرأ الأخوان بكسر الهمزة ، وغيرهما بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

(٤) «قالَ كَمْ» : قرأ المكي والأخوان بضم القاف وإسكان اللام على الأمر ، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما على الماضي. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

(٥) «فسأل» : قرأ بالنقل المكي والكسائي وخلف في اختياره ، والباقون بالتحقيق. البدور الزاهرة ، ٢٢٠.

(٦) عن ابن عباس ، انظر الكشاف ، ٤ / ١١١.

(٧) «ترجعون» : قرأ الأخوان ويعقوب وخلف بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون بضم التاء وفتح الجيم. البدور الزاهرة ، ٢٢١.

١٥٦

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦))

(فَتَعالَى اللهُ) أي تعاظم عن الخلق بالبعث (الْمَلِكُ الْحَقُّ) أي الذي لا يزول ذاته ولا ملكه ، لأنه لا يخلق إلا لأمر كائن بالحق لا بالباطل (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [١١٦] أي السرير الذي ينزل منه الرحمة والبركة.

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧))

(وَمَنْ يَدْعُ) أي ومن يعبد (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) شرط ، وقوله (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي بدعائه معه ذلك تأكيد ل (إِلهاً آخَرَ) كيطير بجناحيه ، يعني صفة لازمة له ، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ، وقوله (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) جواب (مَنْ يَدْعُ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [١١٧] بيان للجزاء ، أي أنه لا يفلح من عذابه ووضع (الْكافِرُونَ) موضع الضمير ، لأن (مَنْ يَدْعُ) في معنى الجمع أو حسابه عند ربه عدم الفلاح.

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

قوله (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) أمر للنبي عليه‌السلام بأن يسأل المغفرة والرحمة لنفسه وللمؤمنين تعريضا للكفار ، أي يا رب تجاوز عني وعن جميع من آمن بي (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) [١١٨] أي أنت أرحم من غيرك وإنما جمع بين المغفرة والررحمة ، لأنه قد يوجد مغفرة بلا رحمة كما لأصحاب الأعراف ما داموا فيها.

١٥٧

سورة النور

مدنية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

قوله (سُورَةٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي ما أوحينا إليك سورة أو مبتدأ محذوف الخبر ، و (أَنْزَلْناها) صفة لها ، أي فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها وإنما اختصت بذكر السورة لارتفاعها بذكر الأحكام العظام (وَفَرَضْناها) بالتخفيف ، أي ألزمناكم العمل بما فيها من الفروض ، وبالتشديد (١) ، أي فصلنا أحكامها التي فيها (وَأَنْزَلْنا فِيها) أي في هذه السورة (آياتٍ) أي بالأمر والنهي (بَيِّناتٍ) أي بلغتكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [١] أي لكي تتعظوا فتؤمنوا.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢))

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) مبتدآن ، خبرهما محذوف عند سيبويه ، أي فيما فرضنا عليكم الزانية والزاني ، أي جلدهما أو الخبر (فَاجْلِدُوا) وأدخلت فيه الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي ، وهو متضمن بمعنى الشرط ، كأنه قيل من زنا فاجلدوه وهو حكم من ليس بمحصن فان حكم المحصن الرجم لا يقال أنه عام يتناول المحصن وغيره فيقتضي تعليق الحكم بهما جميعا ، لأنا نقول الزانية والزاني يدلان على معنى الجنسية وهو قائم في الكل والبعض ، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه كالمشترك يعني اضربوا (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وقدم الزانية على الزاني هنا لكونها مادة الجناية الناشئة عنها ، ومائة نصب على المصدر ، والجلد ضرب الجلد كقولك بطنه وظهره ورأسه ، وشرائط الإحصان ست عند أبي حنيفة رحمه‌الله : الإسلام والحرية والعقل والبلوغ والنكاح الصحيح والدخول ، فلا إحصان عند فقد واحد منها ، وعند الشافعي رحمه‌الله ليس الإسلام شرطا ، لأن النبي عليه‌السلام رجم يهوديين ، وحجة أبي حنيفة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أشرك بالله فليس بمحصن» (٢) ، وأجيب بأن المراد منه أنه ليس بمحصن باحصان الزنا (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) قرئ بالهمز بلا مد وبهما وبمجرد المد (٣) ، وهي المرحمة والشفقة ، أي لا يأخذكم اللين والميل في استيفاء حدود الله منهما ولكن تصلبوا (فِي دِينِ اللهِ) أي في حكمه اقتداء بالنبي عليه‌السلام أنه قال : «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» (٤) ، قوله (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) تهييج وإلهاب للغضب لله ولدينه في الحديث : «يؤتى بوال نقص من حد سوطا ، فيقال (٥) لم نقصت فيقول رحمة

__________________

(١) «فرضناها» : شدد الراء المكي والبصري ، وخففها غيرهما. البدور الزاهرة ، ٢٢١.

(٢) انظر الكشاف ، ٤ / ١١٣. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٣) «رأفة» : فتح الهمزة المكي وأسكنها غيره ، وأبدلها مطلقا السوسي وأبو جعفر وكذا حمزة وقفا. البدور الزاهرة ، ٢٢١.

(٤) رواه البخاري ، المغازي ، ٥٣ ؛ ومسلم ، الحدود ، ٨ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ١١٣.

(٥) لهم ، + ح.

١٥٨

لعبادك ، فيقال له أنت أرحم مني فانطلقوا به إلى النار ويؤتى بمن زاد سوطا فيقال له (١) لم زدت فيقول لينتبهوا عن معاصيك فيؤمر به إلى النار» (٢) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه : «إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة» (٣) ، فيجلد الرجل مجردا قائما ليس عليه إلا إزاره جلدا وسطا لا مبرحا ولا هينا مفرقا على الأعضاء كلها إلا الوجه والرأس والفرج ، والمرأة تجلد قاعدة ولا تنزع من ثيابها إلا الحشو والفرو ، وبهذه الآية استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الجلد حد غير المحصن بلا تغريب ، واحتج الشافعي رضي الله عنه على وجوب التغريب لقوله عليه‌السلام : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» (٤) ، قيل : إنه محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب (٥)(وَلْيَشْهَدْ) أي ليحضر (عَذابَهُما) أي حدهما (طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [٢] أقلهم واحد أو اثنان أو أربعة أو عشرة على الاختصاص ليكون ردء للإمام إن احتاج إليهم ولأنه أبلغ في الزجر وأفضح.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

قوله (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) نزل حين استأذن أصحاب الصفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينكحوا الزواني في المدينة ، وكانت لهن علامات يعرفن بها ، وكن أكثر أهل المدينة خيرا والمدينة غالية السعر وقد أصابهم الجهد والفاقة ، وقالوا إذا جاء الله بالخير نطلقهن وننكح المسلمات (٦) ، فمنعهم الله تعالى عن ذلك بهذه الاية ، ومعناها أن الزاني لا يرغب في نكاح الصالحة من النساء ، وإنما يرغب في فاسقة زانية من شكله أو في مشركة (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) أي وكذا لا يرغب في نكاحها الصالح من الرجال وينفر عنها ، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين ، فمعنيا الجملتين أمران متغايران ، أحدهما صفة الزاني والآخر صفة الزانية ، وقدم الزاني على الزانية فيها ، لأن الرجل أصل في النكاح من حيث إنه هو الطالب ومنه يبدأ الخطبة (وَحُرِّمَ ذلِكَ) أي نكاح الزانية ورغبته فيها (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [٣] الممدوحين عند الله لما فيه من التشبيه بالفساق وحضور مواقع التهمة والغيبة ، قيل : كان التحريم في أول الإسلام ثم نسخ بقوله (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ)(٧) ، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (٨) ، عن ابن مسعود أنه كان يحرمه ويقول : «إذا تزوج الزاني بالزانية فهما زانيان» (٩) ، وقيل : نسخه الإجماع (١٠).

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤))

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) الآية نزلت في حسان بن ثابت حين تاب مما قال في عائشة رضي الله عنها (١١) ، أي الذين يقذفون (الْمُحْصَناتُ) أي العفائف (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) يشهدون بالقذف (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) إن كان القاذف حرا ، وأربعين إن كان عبدا ، والمراد القذف بالزنا لذكره أربعة شهود فان القذف بغيره يكفي فيه شاهدان وإن كان المقذوف زانيا عزر القاذف ولم يحد إلا أن يكون المقذوف مشهورا بما قذف به فلا حد ولا تعزير ، ومعنى القذف بالزنا أن يقول الحر البالغ لمحصنة : يا زانية أو لمحصن يا زاني يا ابن الزاني يا ابن الزانية ، والقذف بغير الزنا أن يقول يا آكل الربوا يا شارب الخمر ، فعليه التعزير ولا يبلغ أدنى الحد ، أي حد العبد وهو أربعون ، بل ينقص منه ، وشرط إحصان القذف خمسة : الحرية والبلوغ والعقل والإسلام والعفة واجتماع

__________________

(١) له ، ح : ـ وي.

(٢) انظر الكشاف ، ٤ / ١١٣ ـ ١١٤.

(٣) انظر الكشاف ، ٤ / ١١٤.

(٤) أخرجه مسلم ، الحدود ، ١٢ ، ١٣ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ١١٤.

(٥) نقل هذا المعنى عن الكشاف ، ٤ / ١١٤.

(٦) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٤٢٦.

(٧) النور (٢٤) ، ٣٢.

(٨) اختصره من البغوي ، ٤ / ١٦٧ ؛ والكشاف ، ٤ / ١١٤ ـ ١١٥.

(٩) انظر البغوي ، ٤ / ١٦٧.

(١٠) أخذ المصنف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ١١٥.

(١١) نقله المفسر عن الكشاف ، ٤ / ١١٦.

١٥٩

الشهود في الشهادة شرط عند أبي حنيفة رحمه‌الله ، ويجوز أن يحضروا متفرقين عند الشافعي رحمه‌الله ، ولا يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم عنده خلافا لأبي حنيفة رحمه‌الله ويجلد القاذف كما يجلد الزاني إلا أنه لا ينزع عنه من الثياب إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو والقاذفة أيضا في كيفية الجلد مثل الزانية ، قوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ) أي للقاذفين (شَهادَةً أَبَداً) عطف على قوله (فَاجْلِدُوهُمْ) ، فرد بعضهم شهادة القاذف المحدود مؤبدا وإن تاب وحسنت حاله بهذه الآية لكن اسم الفسق يزول عنه إذا استأنف ، قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [٤] أي العاصون عند ربهم.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

ثم استثنى منه (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي بعد القذف وحده عن القذف (وَأَصْلَحُوا) حالهم بالعمل الصالح فيكون المستثنى منصوبا ، لأنه من كلام موجب ، وإن جعل الاستثناء من قوله (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) فلا وقف على (أَبَداً) ويكون المستثنى مجرورا بدلا من «هم» في (لَهُمْ) ، فيقبل شهادة القاذف المحدود إذا تاب وحسنت حاله عند جماعة ، منهم الشافعي رضي الله عنه ومالك رحمه‌الله فعندهما يتعلق رد الشهادة بنفس القذف ، فاذا تاب عن القذف عاد مقبول الشهادة ، وعند أبي حنيفة رحمه‌الله يتعلق الرد باستيفاء الحد فاذا شهد قبل الحد أو قبل استيفائه قبلت شهادته ، وإذا استوفى لم تقبل وإن تاب وتمسك الكل بالآية ، فأبو حنيفة رحمه‌الله جعل جزاء الشرط الجلد ورد الشهادة عقيب الجلد على التأبيد ، فكان القاذف مردود الشهادة في مدة حيوته ، وجعل قوله (وَأُولئِكَ) الآية كلاما مستأنفا غير داخل في حيز الجزاء ، كأنه حكاية حال الرامين عند الله و (إِلَّا الَّذِينَ) استثناء من «الفاسقين» ، ويدل عليه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [٥] يغفر ذنوبهم فلا ينسبون إلى الفسق بعد الجلد ورد الشهادة عنهم ، والشافعي رحمه‌الله جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا ، وهي تنتهي بالتوبة عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية ، وظاهر النص يدل على أن الجمل الثلاث جواب الشرط بالعطف ، تقديره : من قذف المحصنات فاجلدوه وردوا شهادته وفسقوه ، فتكون الجملة الثالثة في معنى الأمر ليصح العطف على ما قبله ، واعلم أن الكافر إذا قذف ، فتاب عن الكفر يقبل شهادته بالإجماع ، لأن المسلمين لا يعبأون بسب الكفار ، لأنهم شهروا بالعداوة والطعن بالباطل لأهل الإسلام فلا يلحق المقذوف عار وشين بقذفهم ، قيل : لا يجوز العفو عن القاذف بعد ثبوت الحد لا للإمام ولا للمقذوف ولا يصلح بمال ولا يورث الحد عند أبي حنيفة رحمه‌الله وإذا تاب قبل ثبوته قبل وسقط الحد (١) ، قيل : أمثل الضرب التعزير ثم ضرب الزنا ثم ضرب شرب الخمر ثم ضرب القاذف (٢) ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب وإنما عوقب صيانة للإعراض.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦))

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي يقذفون (أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ) يشهدون بالقذف (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) بالرفع صفة ل (شُهَداءُ) ، أي غير أنفسهم (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) والباء يتعلق ب (شَهاداتٍ) لا ب «شهادة» لئلا يفصل بينهما بالخبر ، وقرئ «أربع» (٣) بالنصب بفعل مضمر ، وخبر المبتدأ محمذوف ، تقديره : فشهادة أحدهم واجب أن يشهد أربع شهادات بالله ليدرأ عنه الحد إن لم يكن الاعتراف ، ومعمول (شَهاداتٍ) قوله (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [٦] واللام في الخبر يمنع فتح «إنه».

__________________

(١) نقل المؤلف هذا المعنى عن الكشاف باختصار ، ٤ / ١١٦.

(٢) ولم أجد له أصلا في المصادر التفسيرية التي راجعتها.

(٣) «أربع» : قرأ حفص والأخوان وخلف برفع العين من «أربع» ، وغيرهم بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢٢١.

١٦٠