عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي

عيون التفاسير للفضلاء السماسير - ج ٣

المؤلف:

شهاب الدين أحمد بن محمود السيواسي


المحقق: الدكتور بهاء الدين دارتما
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار صادر
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
9953-13-157-0

الصفحات: ٣٤٩

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩))

(وَأَنَّكَ) بكسر «إن» على الابتداء وبفتحها (١) على العطف على «أن لا تجوع» ، وجاز للفصل وهو لك ، إذ لا تدخل «أن» على «أن» والواو نائبة عن أن لك أنك (لا تَظْمَؤُا) أي لا تعطش (فِيها وَلا تَضْحى) [١١٩] أي لا يصيبك حر الشمس في الجنة إذ لا شمس فيها وأهلها في ظل ممدود ، والمراد ذكر الأقطاب من الأفعال التي يدور عليها كفاف الإنسان وعيشه من غير احتياج إلى الكسب مستجمعة في الجنة لآدم كي لا يتعدى عنها إلى غير ما أمر به ، وإنما ذكرها (٢) بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والظمأ والعرى والضحو لتعليم سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتجنب (٣) الموقع فيها كراهة لها.

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠))

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ) أي أنهى إليه الوسوسة ، وإذا قيل وسوس له فمعناه لأجله ، قوله (قالَ) بيان ل «وسوس» ، أي قال (٤) الشيطان (يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) أي الخلود ، لأن من أكل منها خلد بزعمه (٥)(وَ) على (مُلْكٍ لا يَبْلى) [١٢٠] أي لا يفني وهو أكل الشجرة.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١))

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما) أي ظهرت (سَوْآتُهُما) أي عوراتهما (وَطَفِقا) أي عمدا (يَخْصِفانِ) أي يلزقان (عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) أي على سوآتهما بورق التين للستر (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) بمخالفة أمره (٦) بأكله من الشجرة (فَغَوى) [١٢١] أي فخرج بالعصيان من أن يكون راشدا في فعله ، لأن الغي خلاف الرشد ، قيل : «لا يجوز أن يقال آدم عاص بل عصى آدم ، إذ المعصية لم يكن عادة له» (٧) ، والمعنى : أنه جهل لطلبه الخلد بأكل المنهي عنه ، لأنه خلاف طريق العقل.

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه النبوة بعد التوبة (٨)(فَتابَ عَلَيْهِ) أي قبل توبته وقربه إليه بقوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)(٩)(وَهَدى) [١٢٢] أي وفقه لحفظ التورية وعمل التقوى.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣))

(قالَ) الله لآدم وحواء (اهْبِطا) أي أنزلا (مِنْها) أي من الجنة (جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) وجمعا هنا نظرا إليهما وإلى ذريتهما ، والمراد بالعداوة هي التي بين بني آدم من ظلم بعضهم بعضا وتضليل بعض بعضا أو عداوة ذرية آدم وإبليس ، وكذا جمعا في قوله (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) على لفظ الجماعة لكونهما أصلي البشر وسببي نشأتهم فكأنهما البشر فخوطبا مخاطبتهم وقال (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) يا بشر أو ذرية آدم وحواء إن يأتكم (مِنِّي هُدىً) أي كتاب ورسول شريعة (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) أي كتابي ورسولي (فَلا يَضِلُّ) باتباعه إياهما في الدنيا (وَلا يَشْقى) [١٢٣] في الآخرة ، قيل : «أجار الله تابع القرآن أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة» (١٠).

__________________

(١) «وأنك» : قرأ نافع وشعبة بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها. البدور الزاهرة ، ٢٠٨.

(٢) ذكرها ، ح و : ذكر ، ي.

(٣) يتجنب ، ح ي : تجنب ، و.

(٤) قال ، ح و : ـ ي.

(٥) بزعمه ، ح و : لزعمه ، ي.

(٦) أمره ، ح و : أمر ربه ، ي.

(٧) ذكر ابن قتيبة نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٥.

(٨) التوبة ، ح ي : توبته ، و.

(٩) الأعراف (٧) ، ٢٣.

(١٠) عن ابن عباس ، انظر البغوي ، ٤ / ٣٦.

١٠١

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤))

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي عن كتابي ورسولي ولم يؤمن (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ضيقا وهو عذاب القبر أو النار أو كسب الحرام أو سلب القناعة عنه حتى لا يشبع أو عدم الاهتداء لوجوه الخير ، وقال الحسن : «هو الزقوم الضريع والغسلين في النار» (١)(وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) [١٢٤] عن الهداية أو أعمى البصر.

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥))

(قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [١٢٥] أي بحجتي أو بالعين ، قيل : «إنه يحشر بصيرا من قبره فاذا سيق إلى المحشر عمي» (٢).

(قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))

(قالَ) الله تعالى (كَذلِكَ) أي كما فعلت أنت بنفسك فعلنا بك (أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها) أي تركت العمل بها أو تعلمتها فنسيتها (وَكَذلِكَ) أي مثل تركك آياتنا (الْيَوْمَ تُنْسى) [١٢٦] أي تترك على عماك أو في النار (وَكَذلِكَ) أي مثل ما جزينا المعرض عن آياتنا (نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) أي أشرك (وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ) أي بمحمد والقرآن (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أي (٣) تركنا إياه في العمى أو في النار (أَشَدُّ) من تركه بآياتنا وأشد ضررا (وَأَبْقى) [١٢٧] أي أدوم من ضرر ضيق المعيشة في الدنيا.

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨))

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) أي أيعرضون عن كتابي ورسولي ولم يبين الله لقريش الذين كانوا يتجرون إلى الشام ويبصرون في طريقهم الهالكين بالعذاب أو فاعل (يَهْدِ) ، قوله (كَمْ أَهْلَكْنا) الآية ، يعني ألم يرشد لهم هذا الكلام بمعناه وهو (كَمْ أَهْلَكْنا (قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) أي يمرون على منازلهم (إِنَّ) أي لأن (فِي ذلِكَ) أي في هلاكهم بالعذاب (لَآياتٍ) أي لعبرات (لِأُولِي النُّهى) [١٢٨] أي لذوي العقول من الناس.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩))

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بتأخير العذاب عن هذه الأمة إلى يوم القيامة (لَكانَ) العذاب (لِزاماً) أي لازما بهم كما لزم بمن كان قبلهم من الأمم عن التكذيب ، قوله (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) [١٢٩] عطف على (كَلِمَةٌ) ، أي لو لا كلمة وأجل مسمى ، أي مضروب بوقت وهو يوم القيامة لكان العذاب ملازما غير مفارق عنهم.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠))

(فَاصْبِرْ) يا محمد (عَلى ما يَقُولُونَ) أي أهل مكة فيك ، وهذا منسوخ بآية السيف (٤)(وَسَبِّحْ) أي صل (بِحَمْدِ رَبِّكَ) في موضع الحال ، أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) وهي صلوة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) وهي صلوة العصر والظهر ، قوله (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) يتعلق بقوله (فَسَبِّحْ) بعد أي سبح من ساعات الليل جمع إنى كمعا وأمعاء ، والمراد صلوة المغرب والعشاء (وَأَطْرافَ النَّهارِ) بالنصب عطف على ما قبله من الظروف ، أي سبح فيها وهي صلوة المغرب وصلوة الفجر على التكرار لإرادة الاختصاص كما في قوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى)(٥) لصلوة العصر عند بعض المفسرين ، وقيل : سمي

__________________

(١) انظر البغوي ، ٤ / ٣٦.

(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٥٨.

(٣) أي ، و : وهو ، ح ي.

(٤) أخذه المفسر عن البغوي ، ٤ / ٣٨ ؛ وانظر أيضا هبة الله بن سلامة ، ٦٤ ؛ وابن الجوزي ، ٤٣.

(٥) البقرة (٢) ، ٢٣٨.

١٠٢

وقت الظهر أطراف النهار ، لأن للنهار طرفين ، طرف النصف الأول انتهاء وهو وقت الظهر عند الزوال ، وطرف النصف الثاني ابتداء ، وهو وقت الظهر إلى العصر (١) ، وإنما جمع بعد إرادة المثنى لأمن اللبس لقوله في موضع آخر (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ)(٢) ، وقيل : جمع باعتبار أجزاء النهار (٣) ، جعل كل جزاء منه طرفا أو المراد ساعات النهار (لَعَلَّكَ تَرْضى) [١٣٠] بما تعطي من الشفاعة والترجي للمخاطب ، قيل : ولن يرضى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخليد أحد من أمته في النار (٤) ، عن جرير بن عبد الله : «كنا جلوسا عند رسول الله عليه وسلم فرأى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فان استطعتم أن لا تغلبوا عن صلوة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) الآية» (٥).

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١))

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) أي العمل الصالح الخالص خير لك فاعمل بما أمرت ولا تنظرن بالرغبة إلى ما أعطيناه رجالا من أهل مكة (أَزْواجاً) أي أصنافا ، حال من ضمير (بِهِ) ، و «من» للبيان في (مِنْهُمْ) أي من الأولاد والأموال ، قوله (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) نصب على الذم أو بدل من (أَزْواجاً) ، أي ذوي زهرتها وهي البهجة والزينة (لِنَفْتِنَهُمْ) أي لنبتليهم (فِيهِ) أي فيما أعطيناهم من الأموال والأولاد فزادوا كفرا وطغيانا فنعذبهم لوجود الكفر أو لقلة الشكر (وَرِزْقُ رَبِّكَ) أي ثوابه في المعاد (خَيْرٌ) لك (وَأَبْقى) [١٣١] مما رزقوا من هذه الزينة في الدنيا ، لأنه في معرض الزوال ، قيل : من ظن أن نعمة الله في مطعمه ومشربه وملبسه فقد قل علمه وحضر عذابه (٦) ، روي في سبب نزول هذه الآية : أن ضيفا نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن عنده شيء من الطعام فبعث إلى يهودي أن يبيعه شيئا من الطعام إلى أجل ، فقال اليهودي لا والله إلا برهن ، فأرسل درعه الحديد إليه ، فعزاه الله تعزية عن الدنيا بقوله (لا تَمُدَّنَّ) الآية (٧).

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢))

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) أي أهل بيتك وقومك مع ائتمارك بها (وَاصْطَبِرْ) أنت وهم (عَلَيْها) أي على الاتيان بها وشدتها عند ضيق المعيشة ولا تهتم بأمر الرزق ، روي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل نقص في الرزق أمر أهله بالصلوة (٨)(لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) لخلقنا ولا لنفسك ، إنما نسألك العبادة (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) وإياكم (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلتَّقْوى) [١٣٢] أي لأهل التقوى وهي الجنة لا لأهل الدنيا.

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣))

(وَقالُوا) أي قال (٩) المشركون من أهل مكة (لَوْ لا) أي هلا (يَأْتِينا) محمد (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) كموسى وعيسى لتكون علامة لنبوته ، فقال الله تعالى (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) [١٣٣] أي بيان ما في الكتب المتقدمة من التورية والإنجيل والزبور وغيرها من أنباء الأمم ، فانهم اقترحوا الآيات ، فلما أتاهم لم يؤمنوا بها فعجلنا لهم العذاب والهلاك أيريدون أن يكون حالهم كحال هؤلاء المكذبين ، وقيل (١٠) : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ) برهان (١١)

__________________

(١) اختصره من البغوي ، ٤ / ٣٨.

(٢) هود (١١) ، ١١٤.

(٣) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٤) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٥) رواه البخاري ، التوحيد ، ٢٤ ؛ ومسلم ، المساجد ، ٢١١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٥٨ ؛ والبغوي ، ٤ / ٣٨.

(٦) قد أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٣٩.

(٧) عن أبي رافع مولى رسول الله ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٥٩ ؛ والواحدي ، ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ؛ والبغوي ، ٤ / ٣٩ ؛ والكشاف ، ٤ / ٥٢.

(٨) وهذا منقول عن البغوي ، ٤ / ٣٩.

(٩) قال ، و : ـ ح ي.

(١٠) معناه ، + و.

(١١) برهان ، و : بيان ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٥٢.

١٠٣

ما في تلك الكتب وهو القرآن ، فان ما فيه ما فيها وهو برهان عليها ، لأنها ذهبت من غير كونها معجرات (١) وهو معجزات على مرور الأزمان لا يذهب يشهد على حقية ما فيها كشهادة الحجة على تبريز المجمع إليه (٢).

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤))

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ) أي أهل مكة (بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) أي قبل بعثة الرسول أو القرآن (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) مع الآيات (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ) يوم بدر (وَنَخْزى) [١٣٤] يوم القيامة.

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))

(قُلْ كُلٌّ) أي كل واحد منا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) أي منتظر للعاقبة وهي ما يؤول إليه الأمر يوم القيامة ، وقيل : منتظر لهلاك صاحبه أنا أنتم (٣) ، وذلك أن كفار مكة قالوا نتربص بمحمد ريب المنون ، أي الموت ووعدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العذاب فنزل «قل كل متربص» (٤) ، أي أنتم متربصون بمحمد الموت ومحمد متربص العذاب (فَتَرَبَّصُوا) أنتم ، أي انتظروا بموته (فَسَتَعْلَمُونَ) إذا أنزل بكم العذاب (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ) أي المستقيم (وَمَنِ اهْتَدى) [١٣٥] من الضلالة بهداية الله تعالى نحن أم أنتم ، وفيه تهديد شديد لهم.

__________________

(١) من غير كونها معجزات ، و : ـ ح ي.

(٢) لعله اختصره من الكشاف ، ٤ / ٥٢.

(٣) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٦٠.

(٤) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٦٠.

١٠٤

سورة الأنبياء

مكية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١))

قوله (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ) أي للمشركين (حِسابُهُمْ) أي اقترب منهم وقت حسابهم ، وهو يوم القيامة ، فاللام بمعنى من أو لتأكيد إضافة الحساب إليهم واتصف يوم القيامة بالقرب إما لأنه مقترب عند الله لأنه لا يخلف وعده وإما لأن كل آت وإن طالت أوقات استقباله قريب وإما لأن ما بقي من الدنيا أقصر مما سلف منها بدليل ختم النبوة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نزل لتحذير منكري البعث من أهل مكة (١)(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) أي والحال أنهم في جهل عما يفعل بهم من الحساب والجزاء فيه (مُعْرِضُونَ) [١] عن الاستعداد لمقام الحساب أو معرضون عن تنبيه المنبه وهو القرآن.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢))

(ما يَأْتِيهِمْ) أي المشركين (مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي منزل شيئا بعد شيء وهو القرآن المنزل على الرسول آية بعد آية وسورة بعد سورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والوعظ لعلهم يتعظون فيؤمنون (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) أي ما يأتيهم شيء من القرآن إلا استمعوه بالاستهزاء وهو معنى قوله (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [٢] حال من ضمير «استمعوا» ، أي يسخرون به.

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣))

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي غافلة عما يراد منه بالتأمل والتبصر بقلوبهم حال أخرى لهم (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي أخفوا التناجي بينهم في هدم أمره ، وبالغوا فيه بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم (٢) ، قوله (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من واو (وَأَسَرُّوا) وهو قولهم (هَلْ هذا) أي ما محمد (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) في المأكل والمشرب وكل ما يحتاج إليه البشر والموت (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) وهو معجزته ، لأنه ساحر ومعجزته سحر ، أي أتحضرون السحر (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [٣] وتعاينون أنه سحر فاعتقدوا أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، وإن من يدعي الرسالة وجاء بالمعجزة فهو ساحر ، فأسروا هذا الحديث كالتشاور فيما بينهم والتحاور في طلب الطريق في هدم أمره وفي تثبيط الناس عن الإيمان به.

(قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤))

قوله (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرئ «قال» بالألف (٣) إخبارا منه أن ربه يعلم القول ، أي السر

__________________

(١) نقل المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٤١.

(٢) لتناجيهم ، ح ي : تناجيهم ، و.

(٣) «قال» : قرأ حفص والأخوان وخلف بفتح القاف وألف بعدها وفتح اللام ، والباقون بضم القاف وحذف الألف وسكون اللام. البدور الزاهرة ، ٢١٠.

١٠٥

والجهر (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) وإذا علم القول علم الفعل لا يعزب عنه شيء فيهما (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [٤] بمقالتهم وأحوالهم.

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي هم نقضوا أقوالهم في القرآن ، فقالوا بعد قولهم أنه سحر هو أضغاث أحلام ، أي أخلاط أحلام كاذبة رآها في النوم ، وضغث الحلم ما ليس له تأويل ، والضغث حزمة يكون فيه تخليط من النبات (بَلِ افْتَراهُ) أي اختلقه من تلقاء نفسه (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي كذاب فما يأتي به كذب ، ويعبر عن الكذب بالشعر ومنه قولهم أحسن الشعر أكذبه ، ثم قالوا بعد اختلافهم في القرآن (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) أي بعلامة (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [٥] يعني كما أتي الرسل من قبله بها فنزل قوله (١)(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار مكة (مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلها عند اتيان الرسل بالآيات التي اقترحوها فلذلك (أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [٦] أي يصدقون إذا جاءتهم الآيات ، يعني لا يؤمنون لأنهم أطغى منهم ولا نريد أن نهلكهم بالاستئصال ، لأن هذه الأمة موعودة أن لا تستأصل إلى قيام الساعة ، فلذلك لم نعطهم مقترحهم.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧))

ثم نزل جواب هل هذا إلا بشر مثلكم (٢) وهو قوله (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ولم نرسل (٣) إليهم ملائكة بالرسالة ، قرئ بالنون وبالياء مجهولا (٤)(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي أهل التورية والإنجيل يريد علماء أهل الكتاب ، فانهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشرا وإن أنكروا نبوة محمد عليه‌السلام (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [٧] ذلك وإنما أحالهم على أولئك ، لأنهم كانوا مشاركين ومخالطين في معاداة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨))

قوله (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) أعلم الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كالرسل المتقدمين ، أي ما جعلنا الأنبياء قبلك جسدا ، أي أجساما (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) ولا يشربون ولا يمشون في الأسواق (وَما كانُوا خالِدِينَ) [٨] في الدنيا وهو رد لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويعيش ويموت فهو بشر مثلنا ، ولو كان رسولا لما أكل ولا مات كالملك ، ووحد الجسد لإرادة الجنس أو بتأويل ذوي الجسد.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) أي النجاة للأنبياء والهلاك للمشركين (فَأَنْجَيْناهُمْ) أي الأنبياء (وَمَنْ نَشاءُ) من المؤمنين (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [٩] أي المشركين بالعذاب.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) يا كفار مكة (كِتاباً) أي القرآن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي عزكم وشرفكم ، يعني شرف العرب ، وإنما عبر بالذكر ، لأن الشريف يذكر بالثناء الحسن أو ذكر ما تحتاجون إليه من أمر دينكم أو هو تذكرة لكم لترجوا من رحمته وتخافوا من عذابه (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [١٠] أي ألا تفهمون أن فيه شرفكم وموعظتكم فتؤمنون به.

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١))

(وَكَمْ قَصَمْنا) أي كسرنا (مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهلها (كانَتْ ظالِمَةً) أي كافرة ، والقصم بالقاف الكسر بانفصال

__________________

(١) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٦٢.

(٢) أخذ المفسر هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٤٣.

(٣) نرسل ، ح ي : أرسل ، و.

(٤) «نوحي» : قرأ حفص والأخوان وخلف بالنون المضمومة وكسر الحاء ، والباقون بالياء التحتية المضمومة وفتح الحاء. البدور الزاهرة ، ٢١٠.

١٠٦

ظاهر وبالفاء بانفصال خفي ، يعني كثيرا من أهل القرى الظالمين أهلكناهم بظلمهم (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) [١١] خير منهم فسكنوا ديارهم.

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢))

(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي لما رأى المهلكون بحاسة البصر عذابنا (إِذا هُمْ مِنْها) أي من القرية (يَرْكُضُونَ) [١٢] أي يهربون مسرعين ، الركض تحريك الرجلين على الفرس للعدو.

(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣))

فثم قالت الملائكة لهم (لا تَرْكُضُوا) أي لا تهربوا كهيئة الاستهزاء ، والقول محذوف (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ) أي نعمتم وخولتم (فِيهِ) من أمر دنياكم (وَمَساكِنِكُمْ) التي كنتم فيها (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) [١٣] أي يسألكم الناس عن نوازل الخطوب عليكم بأعمالكم الخبيثة وعن فعلكم (١) نبيكم من القتل وغيره وعدم إيمانكم به.

(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤))

فثم (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [١٤] بترك الإيمان بنبينا وقتله ، فاعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ، روي : «أن قرية من قرى اليمن اسمها حصورا قد جاءها رسول من الله فكذبوه وقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم وهزمهم» (٢) ، فقالت لهم الملائكة ذلك حين انهزموا من منازلهم.

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

(فَما زالَتْ تِلْكَ) أي كلمة الويل وهي قولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ دَعْواهُمْ) خبر «ما زالت» ، وهي بمعنى الدعوة ، أي نداؤهم إذ المولول كأنه ينادي ويقول يا ويل تعال ، فهذا وقتك (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي مثل حصيد وهو الزرع المحصود ، ووحد لتقدير المثل وهو مفعول ثان ل «جعلنا» ، وكذلك (خامِدِينَ) [١٥] وتعدد المفعول الثاني كما يتعدد الخبر ، وقيل هما في حكم المفرد نحو هذا حلو حامض (٣) ، أي مز ، وقيل (خامِدِينَ) صفة (حَصِيداً)(٤) ، ومعناه صائفين مثل الرماد لا يتحركون.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦))

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف الخلائق والعجائب (لاعِبِينَ) [١٦] حال من ضمير الفاعل في (خَلَقْنَا) ، أي ما خلقناها (٥) لاهين بها أو عبثا بغير شيء ، بل لمصالح دينية ودنيوية من نظر واعتبار واستدلال لعبادنا بها على وحدانيتنا ومن المنافع والمرافق التي لا تعد مما يحتاجون إليه وليكون خلقنا حجة لنا عليهم يوم القيامة.

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧))

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي لعبا أو زوجة وولدا بلغة اليمن ، لأنهما للرجل لهو يلهو بهما (لَاتَّخَذْناهُ) أي اللهو (مِنْ لَدُنَّا) أي من عندنا لا من عندكم ، يعني من الملائكة أو من الحور لا من الإنس ، وهو رد لقول النصارى في المسيح أنه ابن الله ، واليهود في عزير أنه ولد الله ، ثم قال (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) [١٧] أي إن كنا نفعله ولسنا نفعله ، ويجوز أن يكون (أَنْ) نافية ، أي ما كنا فاعلين لاستحالته في حقنا.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

قوله (بَلْ نَقْذِفُ) إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه منه لذاته ، وبيان لكذبهم وبطلان قولهم في حقه تعالى ،

__________________

(١) وعن فعلكم ، ح ي : أي عن فعلكم ، و.

(٢) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٦٤.

(٣) نقل المؤلف هذا الرأي عن الكشاف ، ٤ / ٥٦.

(٤) وهذا القول مأخوذ عن البيضاوي ، ٢ / ٦٦.

(٥) خلقناها ، و : خلقناهما ، ح ي.

١٠٧

أي من عادتنا واقتضاء حكمتنا أن نرمي (بِالْحَقِّ) أي الإيمان (عَلَى الْباطِلِ) أي على الكفر أو الحق قول الله أنه لا ولد له ، والباطل قولهم اتخذ الله ولدا (فَيَدْمَغُهُ) أي فيدحضه به ويمحقه ، والدمغ كسر للدماغ بالضرب على الرأس وهو مقتل (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي هالك وزائل ، المعنى : أنا نبين الحق من الباطل فيبطله الحق ، لأن الباطل لا يعارض الحق ولكن الحق يغلب عليه فيدمغه (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أي لكم يا معشر النصارى شدة العذاب (مِمَّا تَصِفُونَ) [١٨] الله تعالى به من الولد ومما لا يجوز عليه.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩))

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الخلق (وَمَنْ عِنْدَهُ) من الملائكة المكرمين (لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي لا يتعظمون (عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) [١٩] أي لا يعيون عن طاعته ، من استحسر وحسر بمعنى أعيا ، وإنما قال (وَمَنْ عِنْدَهُ) وهو منزه عن المكان ، لأنه ما أراد بقربهم به من حيث المكان ، بل أراد تنزلهم عنده بمنزلة المقربين عند الملوك لكرامتهم عليه وفضلهم على خلقه.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [٢٠] أي لا يضعفون ولا يسكتون ولا يملون ، لأن التسبيح لهم كالنفس لبني آدم ، فيه إشارة إلى أن تسبيحهم متصل دائم.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١))

قوله (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) إضراب عن المشركين بالإنكار عليهم والتوبيخ ، لأن (أَمِ) بمعنى بل والهمزة الاستفهامية ، أي هم لا يعبدون الله بل اتخذوا من دونه آلهة منسوبة إلى الأرض ، لأن آلهتهم كانت من جواهر الأرض كالحجر والذهب والفضة وغيرها (هُمْ يُنْشِرُونَ) [٢١] بالاختصاص ، أي يحيون لا غير ، يعني هل تحيي تلك الآلهة شيئا من الأموات فلذلك اتخذوها آلهة يعبدونها ، فيه تجهيل لهم وزيادة توبيخ حيث لم يدعوا إحياء أصنامهم شيئا وبيان لعجزها وعدم صلاحها للألوهية ، لأن العاجز لا يكون إلها وهم سموها آلهة (١).

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢))

قوله (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) تنزيه لنفسه عن الشريك بالنظر العقلي ، أي لو كان في السموات والأرض آلهة شتى غير الله الذي هو خالقهما (٢) لهلكتا وهلك من فيهما لوجود التمانع ، لأن كل أمر بين اثنين لا يجري على نظام واحد سيما إذا كانا حكيمين كاملين لاستواء جهتي الحكمة المقتضية للمصلحة فيه ، أي في ذلك الأمر فلا بد من إيقاع إحدى الجهتين حسب ، فلم يكن التدبير مستويا فلا بد أن يختار أحدهما خلاف الآخر لغلبة الألوهية بالذات فيفسد كما ترى أن الرعية تفسد (٣) بتدبير الملكين لحدوث التغالب والتخالف بينهما ، قوله (إِلَّا اللهُ) صفة ل (آلِهَةٌ) لا بدل لفساد المعنى ، لأنه حينئذ يصير لو كان فيهما إلا الله لفسدتا ، إذ المبدل في حكم السقوط ولأن ما قبله موجب ، ولا يجوز نصبه على الاستثناء ، لأنه يصير المعنى أن عدم فسادهما لوجود الله تعالى مع الآلهة فيهما وهو لا يفيد التوحيد ، ففي الآية دلالة على أن مدبرهما لا بد أن يكون واحدا ، وإن ذلك الواحد لا يكون إلا الله ، قوله (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ) عن ما (يَصِفُونَ) [٢٢] من الشريك والولد كأنه نتيجة دليل التمانع المذكور قبله.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣))

(لا يُسْئَلُ) الله (عن ما (يَفْعَلُ) ويحكم سؤال إنكار ، لأنه المالك حقيقة ، فيفعل ما يشاء في خلقه من المغفرة

__________________

(١) وهم سموها آلهة ، ح ي : ـ و.

(٢) لفسدتا أي ، + و.

(٣) تفسد ، وي : يفسد ، ح.

١٠٨

والعقوبة ولاستحالة جواز الخطأ عليه ، ويجوز السؤال عنه على سبيل الاستكشاف والبيان كقوله (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ)(١) الآية (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [٢٣] لأنهم عبيده حقيقة فيسأل عما يفعلون من العدل والجور لإمكان الخطأ منهم ، فيقول لهم لم فعلتم في كل شيء فعلوه.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤))

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) وإنما كرره استعظاما لكفرهم حيث جعلوا له شريكا فأنت (قُلْ) لهم يا محمد وصفتم الله بأن له شريكا (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ذلك ، أي كتابكم الذي فيه عذركم (هذا) أي الوحي المنزل إلي من ربي ، يعني القرآن (ذِكْرُ) أي خبر (مَنْ مَعِيَ) على ديني إلى يوم القيامة وهم أمته (وَذِكْرُ) أي وخبر (مَنْ قَبْلِي) من الأمم الماضية والكتب السابقة للأنبياء ، فراجعوا إلى القرآن والتورية والإنجيل وسائر الكتب ، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدا أم لا ، فلما لم يرجعوا عن كفرهم أضرب عنهم بقوله (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) أي لا يصدقون القرآن لجهلهم ، وقيل : لا يعلمون التوحيد (٢)(فَهُمْ مُعْرِضُونَ) [٢٤] عن النظر فيما يجب عليهم أو مكذبون بالحق الذي هو القرآن والتوحيد.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

ثم بين ما أمر من التوحيد في جميع الكتب للرسل كما أمر في القرآن لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) بالياء مجهولا وبالنون معلوما (٣) على التعظيم ، أي نحن نوحي إليه كما نوحي إليك (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [٢٥] أي وحدوني ولا تشركوني.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧))

ونزل لما قال بعض الكفار الملائكة بنات الله (٤)(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) فنزه نفسه عن ذلك بقوله (سُبْحانَهُ) أي سبحان الله عن وصفهم بالولد (بَلْ) هم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [٢٦] أكرم الله تعالى بعبادته ، والعبودية تنافي الولادة وهم يتبعون لقوله و (لا يَسْبِقُونَهُ) أي الله (بِالْقَوْلِ) أي بقولهم ، يعني لا يتقدمون قوله بقولهم بل يأتون بمرداه ولا يخالفونه (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [٢٧] أي عملهم مبني على أمره لا يعملون عملا لم يؤمروا به ، لأنهم عارفون مراقبون.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨))

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الدنيا (وَلا يَشْفَعُونَ) أي الملائكة (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الله تعالى أن يشفع له من أهل الإيمان (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [٢٨] أي هم مع هذا كله من هيبته خائفون لا يأمنون من مكره ، لأنهم عاينوا من الآخرة فيخافون عاقبة الأمر.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) أي من الملائكة أو من جميع الخلق فرضا (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله (فَذلِكَ) أي القائل به (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [٢٩] أي المشركين وهو تهديد لمشركي مكة (٥) ليمتنعوا عن (٦) شركهم.

__________________

(١) آل عمران (٣) ، ٤٠.

(٢) لعله اختصره من السمرقندي ، ٢ / ٣٦٦.

(٣) «نوحي» : قرأ حفص والأخوان وخلف بالنون المضمومة وكسر الحاء ، والباقون بالياء التحتية المضمومة وفتح الحاء. البدور الزاهرة ، ٢١٠.

(٤) نقله عن البغوي ، ٤ / ٤٧ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٦٦.

(٥) لمشركي مكة ، وي : للمشركين ، ح.

(٦) عن ، ح ي : من ، و.

١٠٩

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠))

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالواو بعد الألف الاستفهامية وبغير الواو (١) ، أي ألم يخبروا في الكتاب (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا) أي جنساهما (رَتْقاً) أي شيئا مرتوقا فهو مصدر بمعنى المفعول أو ذات رتق بمعنى ملتزقتين منضمتين (فَفَتَقْناهُما) أي ففرقناهما (٢) وأبنا إحديهما عن الأخرى بالهواء فجعلنا السماء سبعا والأرض سبعا وعلم الكفار ذلك بكتابهم وهو القرآن المعجز ، فوجب تصديقه ، وقيل : «رتقهما وفتقهما أن السموات كانت لا تمطر فأمطرت ، وإن الأرض كانت لا تنبت فأنبتت» (٣)(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أي الماء النازل من السماء ، يعني جعلنا الماء سببا لحيوة كل شيء حي ، والنبات داخل فيه ، فدلهم بذلك على توحيده ولذا قال بعده (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [٣٠] أي أفلا يوحدون بعد رؤية هذه العجائب.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١))

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) جمع راسية ، من رسا إذا ثبت ، أي جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ) أي لأن لا تميل ، فحذف «لا» لأمن اللبس ، وقيل : كراهة أن تميد (٤)(بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض والرواسي (فِجاجاً) أي أودية واسعة ، والفج هو الشق بين الجبلين (سُبُلاً) أي طرقا ، بدل من (فِجاجاً) ، وهي في الأصل وصف ل «سبيلا» لقوله لتسلكوا منها سبلا فجاجا ، أي طرقا واسعة لكنه قدم هنا على السبل إيذانا بأنه تعالى خلقها على تلك الصفة ، فالسبل بيان لما أبهم ثمه (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) [٣١] أي لكي يهتدوا إلى مصالحهم.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) عن استراق السمع بالشهب أو عن الوقوع عليهم كقوله (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ)(٥)(وَهُمْ) أي الكفار (عَنْ آياتِها) أي آيات السماء من الشمس والقمر والنجوم (مُعْرِضُونَ) [٣٢] أي عن الاستدلال بها بالنظر فيها على صانعها ، فيتركون الشرك ويوحدون الله الذي هو أهل التوحيد ، وأوضح ذلك بقوله (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي الظلمة والضوء والنيرات كلها (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) أي في (٦) جنس الفلك وهو السماء وكل مستدير فلك في كلام العرب ، و (كُلٌّ) مسبتدأ ، وخبره (يَسْبَحُونَ) [٣٣] أي كل واحد منها في مجاريها يسيرون بسرعة أو (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) مبتدأ وخبر ، و (يَسْبَحُونَ) الجملة في محل النصب على الحال من الشمس والقمر لا غير لاختصاص السباحة بهما.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

قوله (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) نزل حين قال المشركون : إن محمدا يموت فيشمتون بموته (٧) ، فنفى الله عنه الشماتة بالموت ، فقال قضى الله أن لا يخلد في الدنيا بشر لا أنت ولا هم ، فاذا كان كذلك فان مت أنت أيبقي هؤلاء وهو معنى قوله (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [٣٤] أي أفهم الخالدون إن مت ، فأنكر الخلود لهم ، لأن كل البشر عرضة للموت ، وأوضح ذلك بقوله (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) أي

__________________

(١) «أَوَلَمْ يَرَ» : قرأ المكي بحذف الواو والباقون باثباتها. البدور الزاهرة ، ٢١٠.

(٢) أي ففرقناهما ، وي : أي فرقناهما ، ح.

(٣) ذكر عكرمة وعطية نحوه ، انظر البغوي ، ٤ / ٤٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٦٦.

(٤) نقل المؤلف هذا المعنى عن السمرقندي ، ٢ / ٣٦٧.

(٥) الحج (٢٢) ، ٦٥.

(٦) في ، و : ـ ح ي.

(٧) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٢ / ٣٦٧ ؛ والكشاف ، ٤ / ٦٠.

١١٠

بالشدة والرخاء ، قوله (فِتْنَةً) مصدر مؤكد لقوله (١)(نَبْلُوكُمْ) من غير لفظه ، أي نختبركم اختبارا بما يجب فيه الصبر من البلايا وبما يجب فيه الشكر من النعم (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [٣٥] فنجازيكم على حسب ما وجد منكم من الشر والخير.

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦))

قوله (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) نزل حين مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبي سفيان وأبي جهل ، فقال أبو جهل لأبي سفيان : هذا نبي بني عبد مناف كالمستهزئ به فقال تعالى (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) أي ما يتخذك الكفار (٢) بقولهم هذا نبي بني عبد مناف (إِلَّا هُزُواً) مفعول ثان ل «يتخذون» ، يعني يتخذونك مهزوء ويقولون سخرية (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يعيبهم أو الذكر عام للخير والشر ، قوله (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) الجملة في محل النصب على الحال ، أي يتخذونك هزوا وهم بالذي ذكر فيه توحيده وهو القرآن (هُمْ كافِرُونَ) [٣٦] أي جاحدون أو ذكره توحيده الذي يجب أن يذكر به ، فهم أحق بأن يتخذوا هزوا منك لأنك على الحق وهم مبطلون ، وقيل : كفرهم بذكر الرحمن قولهم ما نعرف بالرحمن إلا مسيلمة الكذاب (٣).

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧))

ثم استعجل كفار قريش نزول العذاب الموعود لهم فقال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسانُ) أي آدم (مِنْ عَجَلٍ) أي بعجلة من غير ترتيب الأطوار كترتيب ذرية آدم بأن قيل له كن فكان ، والعجل هو الإسراع قبل الوقت ، وقيل : معناه عجلا (٤) ، وهو حال من (الْإِنْسانُ) ، أي حال كونه عاجلا في فعل شيء لما روي : «أن آدم لما خلق فبلغت الروح رأسه أبصر ثمار الجنة فقام إليها قبل أن يبلغ الروح رجليه» (٥) ، وقيل : (مِنْ) بمعنى مع (٦) ، أي خلق مع صفة العجلة فيه للابتلاء ، ولذلك استعجل الكفار نزول العذاب كما استعجل آدم القيام فقال تعالى (سَأُرِيكُمْ آياتِي) أي نقماتي (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [٣٧] بالاتيان بها فهم نهوا عن الاستعجال مع كون العجلة مخلوقة فيهم فكأن فيه تكليف ما لا يطاق وليس كذلك ، لأن الله تعالى أعطاهم القدرة التي بها استطاعوا أن يصدوا نفوسهم عن مراداتها ، وقيل : الآيات آثار الأمم الماضية المعذبة ومنازلهم من قوم نوح وهود وثمود ولوط وصالح (٧) ، وكانت قريش يسافرون في البلدان فيرون تلك الآثار والمنازل ، ونزل حين وعدهم الله البعث فسألوا عنه على وجه الاستهزاء والإنكار (٨) ، وقيل : كانوا يستعجلون القيامة (٩).

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠))

(وَيَقُولُونَ) سائلين (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [٣٨] فيما تعدنا من أنا نبعث فقال تعالى (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ) أي لا يدفعون (عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ) لكون أيديهم مغلولة يومئذ (وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) لإحاطتها بهم (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [٣٩] أي لا يمنعون عما نزل بهم من العذاب في الآخرة ، وجواب «لو» محذوف وهو لامتنعوا من الشرك ولما استعجلوا بقولهم متي هذا الوعد (بَلْ تَأْتِيهِمْ) الساعة أو النار (بَغْتَةً) أي فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي فتحيرهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي رد الساعة أو النار (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [٤٠] أي

__________________

(١) لقوله ، وي : بقوله ، ح.

(٢) ما يتخذك الكفار ، ح ي : ما يتخذونك ، و.

(٣) أخذه المصنف عن الكشاف ، ٤ / ٦١ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٦٧ ؛ والبغوي ، ٤ / ٥٠.

(٤) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٥) ذكر نحوه سعيد بن جبير والسدي ، انظر البغوي ، ٤ / ٥١ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٦١.

(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.

(٧) قد أخذ المؤلف هذا المعنى نقلا عن السمرقندي ، ٢ / ٣٦٨.

(٨) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٥١.

(٩) وقد نقله عن البغوي ، ٤ / ٥١.

١١١

يمهلون بتأخير العذاب عنهم إلى أجل معلوم.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢))

ثم سلى نبيه بقوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزأ بك قومك فصبروا (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [٤١] أي فنزل العذاب بهم مجازاة لاستهزائهم ، فاصبر أنت و (قُلْ) للمستهزئين (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) أي يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي من عذابه إن نزل بكم ، يعني لا يمنعهم إلا هو (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) [٤٢] أي تاركون توحيده وقرآنه.

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))

(أَمْ لَهُمْ) الميم صلة ، أي ألهم (آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ) من العذاب (مِنْ دُونِنا) مجاوزة منعنا وحفظنا ، ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي الأصنام أو عابدوها (نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) أي المنع عن نفوسهم ، فكيف ينصرون عابديهم (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) [٤٣] أي لا يجارون من عذابنا ويأمنون ، لأن المجير صاحب لمجاره.

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤))

(بَلْ مَتَّعْنا) أي أجلنا ومهلنا (١)(هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) من قبلهم (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي الأجل في التمتع فاغتروا فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ، وذلك أمل كاذب (أَفَلا يَرَوْنَ) أي أفلا ينظر أهل مكة (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أي أرض الكفار ، أي نأخذها ونفتحها بقوة الإسلام ، قوله (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) بتسليط المسلمين عليها وردها دار الإسلام حال من ضمير (نَأْتِي) ، يعني ننقص ما حول مكة من أراضي أهل الحرب لمحمد (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغلبة والقتل والسبي بأمرنا ونصرتنا إياه (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) [٤٤] أم نحن ، أي الغالب هو الله وهم المغلوبون.

(قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

(قُلْ) يا محمد (إِنَّما أُنْذِرُكُمْ) أي أخوفكم (بِالْوَحْيِ) أي بما نزل إلي من القرآن ، فوجب عليكم اتباعه بالسمع والطاعة (وَلا يَسْمَعُ) بالتاء وضمها وكسر الميم ونصب (الصُّمُّ) والخطاب للنبي عليه‌السلام ، وبالياء وفتحها مع فتح الميم (٣) ، والفاعل ما بعده وهو إخبار عن الكفار (٤) ، أي لا يقبل الصم (الدُّعاءَ) إلى الإيمان ، يعني يتصاممون بالجسارة والجرءة من آيات الإنذار (إِذا ما يُنْذَرُونَ) [٤٥] أي وقت الإنذار بها.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦))

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ) أي إن أصابتهم عقوبة قليلة (مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) الذي خوفوا به (لَيَقُولُنَّ) عند نزولها بهم (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [٤٦] أنفسنا بترك طاعة ربنا فيعترفون بظلمهم ويذلون.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) أي ذوات العدل لكشف ظلمهم وظهور عدلنا لهم ، قيل : وصفت الموازين بالقسط مبالغة (٥) ، وهو مصدر بمعنى العدل كرجل عدل ، والمراد ميزان العدل ، قيل : «له لسان وكفتان يوزن فيه

__________________

(١) ومهلنا ، ح ي : وأمهلنا ، و.

(٢) لمحمد ، وي : بمحمد ، ح.

(٣) «وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ» : قرأ الشامي بتاء فوقية مضمومة وكسر الميم ونصب ميم «الصم» ، والباقون «يسمع» بياء تحتية مفتوحة وفتح الميم ورفع ميم «الصم». البدور الزاهرة ، ٢١١.

(٤) عن الكفار ، و : من الكفار ، ح ي.

(٥) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٦٢.

١١٢

الحسنات والسيئات في أحسن صورة وأقبحها» (١) ، والحكم للغالب في الوزن وفي التساوى لفضل الله تعالى ، روي : «أن داود عليه‌السلام يسأل ربه أن يريه الميزان فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب ، فغشي عليه ، ثم أفاق فقال : إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة» (٢) ، وقيل : يوزن صحائف الأعمال (٣)(لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) أي نضع لأجله (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) من الظلم (وَإِنْ كانَ) العمل (مِثْقالَ حَبَّةٍ) أي زنة حبة ، قرئ بنصب «مثقال» ف «كان» ناقصة ، وبالرفع ف «كان» تامة (٤) ، أي إن حصل للعبد مثقال حبة (مِنْ خَرْدَلٍ) عملا ، وهو صفته ، وجزاء الشرط (أَتَيْنا) أي جئنا (بِها) وأحضرناها (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [٤٧] أي مجازين أو محصنين والباء زائدة و «نا» فاعل (كَفى) و (حاسِبِينَ) حال منه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) أي التورية (وَضِياءً) أي مضيئا وهو التورية أيضا حال من (الْفُرْقانَ) ، وزيد الواو بين الوصفين ليدل على شدة الوصف بهما ، وقيل : (الْفُرْقانَ) هو الفارق بين الحق والباطل (٥) ، والضياء نور البصيرة في دينهم (وَذِكْراً) أي عظة (لِلْمُتَّقِينَ) [٤٨] يعني آتيناهما التورية الفارقة بين الحلال والحرام ونورا مخرجا من الظلمات وموعظة للذين يتقون الشرك.

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩))

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) صفة ل «المتقين» كاشفة لهم ، أي الذين يخافون الله في الخلاء كخوفه بين الناس ، وقيل : الذين يعملون لربهم في غيب منه (٦)(وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ) أي من أهوالها (مُشْفِقُونَ) [٤٩] أي خائفون.

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

(وَهذا) القرآن (ذِكْرٌ) أي موعظة أو ذكر ما يحتاج إليه الناس في دينهم ومصالحهم (مُبارَكٌ) وبركته كثرة منافعه وغزارة خيره من المغفرة والنجاة لمن آمن به وقرأه وعمل بما فيه (أَنْزَلْناهُ) إليكم ، ثم قال باستفهام توبيخ وتعيير (أَفَأَنْتُمْ لَهُ) أي للقرآن (مُنْكِرُونَ) [٥٠] يا أهل مكة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١))

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أي اهتداءه ومعرفته لوجوه الصلاح (مِنْ قَبْلُ) أي قبل بلوغه حين خرج من السرب وهو صغير ، وقيل : «قبل موسى وهرون» (٧) ، فالرشد النبوة (وَكُنَّا بِهِ) أي بابراهيم (عالِمِينَ) [٥١] أنه أهل لما آتيناه إياه ، فيه إشارة إلى أن الأشياء لا تصدر عن إبراهيم إلا باختيار من الله وإنه عالم بجزئياتها.

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢))

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) أي اذكر وقت قوله لهم (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) أي التصاوير ، يعني الأصنام (الَّتِي أَنْتُمْ لَها) أي لأجل عبادتها (عاكِفُونَ) [٥٢] أي مقيمون ، وفيه تحقير لآلهتهم وتجهيل لهم ، والتمثال الصنم (٨).

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤))

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) [٥٣] فنحن نعبدهم لذلك اقتداء بهم وهو جواب العاجز عن الاتيان بالدليل حيث قلدوا آباءهم في عبادتهم التماثيل ، ولذا (قالَ) إبراهيم (لَقَدْ كُنْتُمْ) أيها المقلدون (أَنْتُمْ) تأكيد لاسم

__________________

(١) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٦٩ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٦٣ (عن الحسن).

(٢) نقله المصنف عن الكشاف ، ٤ / ٦٣ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٥٣.

(٣) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٦٣.

(٤) «مثقال» : قرأ المدنيان برفع اللام ، والباقون بنصبها. البدور الزاهرة ، ٢١١.

(٥) أخذه عن البغوي ، ٤ / ٥٤.

(٦) نقله المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٦٩.

(٧) عن مقاتل ، انظر السمرقندي ، ٢ / ٣٧٠.

(٨) وتجهيل لهم والتمثال الصنم ، و : وتجهيل لهم ، ي : ـ ح.

١١٣

«كان» ليصح عطف (وَآباؤُكُمْ) عليه ، أي أنتم مع آبائكم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [٥٤] أي في خطأ ظاهر لا يخفى على كل عاقل.

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦))

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ) أي ما تقوله لنا أبالجد والصدق (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) [٥٥] بنا بقولك هذا ، وإنما استفهموه بذلك لأنهم حسبوا أن ما قاله لهم (١) على وجه الملاعبة والممازحة ، فأضرب عنهم مخبرا أنه بالجد لا بالهزل مثبتا لواحدانية الله وربوبيته وحدوث الأصنام وبطلانها بأن (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) أي الأصنام ، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون عبادة الخالق لكل شيء (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ) أي على الذي ذكرته لكم من أن خالق الأرض والسماء ربكم ورازقكم واحد لا شريك له (مِنَ الشَّاهِدِينَ) [٥٦] بصحته ومبرهن عليه كما يبرهن الشاهد على شهادته.

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))

(وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) أي لأكسرنها (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا) أي ترجعوا عنها (مُدْبِرِينَ) [٥٧] أي ذاهبين إلى عيدكم ، وكانوا قد وضعوا طعام عيدهم لدى أصنامهم لزعمهم التبرك عليه ، فاذا رجعوا من عيدهم أكلوه ، قيل : «إنما قال إبراهيم هذا سرا من قومه وحين قال ذلك سمع رجل منهم فحفظه عليه» (٢) ، فلما خرج القوم من الكنيسة دخل على الأصنام إبراهيم والطعام لديهم فقال استهزاء بهم ألا تأكلون فلم يجيبوه ، فقال ما لكم لا تنطقون فضرب على رؤوسهم بالقدوم (فَجَعَلَهُمْ) بفأس في يده (جُذاذاً) بضم الجيم وكسرها (٣) ، جمع جذيذ وهو الهشيم ، أي قطعا من الجذ وهو القطع (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) أي إلا الصنم الأكبر منها لم يكسره وتركه على حاله وعلق الفأس في عنقه ، وقيل : ربطه بيده وكان اثنان وسبعون صنما أكبرها من ذهب مكلل بالجواهر ، وفي عينيه باقوتتان تتقدان وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من حجر و (٤) خشب وغيرهما (٥)(لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ) أي إلى الصنم الكبير (يَرْجِعُونَ) [٥٨] أي يسألونه عن كاسرها وغرضه من رجوعهم إليه ، إنهم إذا رجعوا إليه تبين أنه عاجز لا ينفع ولا يضر فظهر أنهم في عبادتهم (٦) على جهل عظيم أو لعلهم يرجعون إلى التوحيد من الشرك عند تحقق عجز آلهتهم عندهم.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠))

فلما رجعوا من عيدهم ودخلوا كنيستهم نظروا إلى آلهتهم منكسرة ، فسأل بعضهم بعضا عن ذلك بأن (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) [٥٩] بكسرهم (قالُوا) أي قال من سمع قوله (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي يعيبهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) [٦٠] أي هو إبراهيم أو مرفوع ب (يُقالُ) ، والمراد الاسم لا المسمى ، أي يقال له هذا الاسم ، والجملتان بعد (فَتًى) صفتاه ، والأولى واجبة الذكر لسمع ، إذ لا يقال سمعت ذيدا.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١))

(قالُوا) أي قال نمرود وأتباعه (فَأْتُوا) أي جيئوا (بِهِ) ظاهرا (عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) [٦١] عليه بما

__________________

(١) قاله ، + وي.

(٢) عن مجاهد وقتادة ، انظر البغوي ، ٤ / ٥٥.

(٣) «جذاذا» : كسر الجيم الكسائي وضمها غيره. البدور الزاهرة ، ٢١١.

(٤) بعضها من ، + ح.

(٥) قد أخذه المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٥٦.

(٦) عبادتهم ، ح ي : عبادته ، و.

١١٤

يعرفون منه لئلا نأخذه بلا بينة فجاؤا به إلى نمرود وأصحابه.

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣))

(قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا) الكسر (بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [٦٢] قالَ) إبراهيم (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أي عظيمهم عندكم ، وهذا صفة الكبير وصفه به على وجه الاستهزاء بهم ، ونسب الكسر إلى الكبير ليكون تبكيتا لهم ، ثم أمرهم بسؤال جميع الأصنام إثباتا للحجة عليهم فقال (فَسْئَلُوهُمْ) عن حالهم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [٦٣] أي يتكلمون حتى يخبروا من فعل ذلك بهم وأنتم تعلمون أنهم عجزة عن النطق والعاجز لا يعبد ولا يصح أن يكون إلها.

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤))

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي إلى أصحابهم ولاموهم (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) [٦٤] بنسبة الكسر إلى إبراهيم أو بسؤالكم إياه وآلهتكم حاضرة فسألوها أو بعبادتكم من لا ينطق.

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦))

(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) أي ردوا إلى كفرهم بعد اعترافهم بالظلم من قولهم نكس المريض إذا عاد إلى مرضه الأول بعد العافية أو المعنى : ثم طأطؤا رؤوسهم حياء وخجلا حين لزمتهم الحجة ، ثم قالوا له (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) [٦٥] أي عاجزون عن النطق فكيف نسألهم (قالَ) إبراهيم (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) إن عبدتموهم (وَلا يَضُرُّكُمْ) [٦٦] إن لم تعبدوهم.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧))

(أُفٍّ لَكُمْ) بالتنوين وغيره (١) ، أي نتنا وقذرا لكم (وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قاله متضجرا ومتكرها منهم ومما يعبدون ، أي هذا التكره لكم ولآلهتكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [٦٧] أي لا تفهمون بعقولكم هذا المقدار الظاهر من أن من ليس له نطق ولا منفعة ولا مضرة لا يعبد ولا يكون ربا للخلق كيلا تعبدوا الأصنام وتعبدوا الله الذي خلقكم من العدم وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم ولما قطعوا عن المحاجة مع إبراهيم بالكلية.

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

(قالُوا) أي نمرود وأصحابه (حَرِّقُوهُ) بالنار لأنها أوجع (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ) أي انتقموا لأجلهم (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) [٦٨] النصر والانتقام.

ثم جمعوا حطبا كثيرا وأضرموا في نواحيه فصارت نارا عظيمة حتى إن الطير تحترق إذا مرت بها من فوقها وتسقط على الأرض ، روي : أن أحدا لم يقدر أن يقرب من النار ، فجاء عدو الله إبليس فدلهم على المنجنيق وهو أول منجنيق وضع في الدنيا ، فأوثقوا يدي إبراهيم ووضعوه في المنجنيق ، فثم قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ، فلما رمي به من المنجنيق في الهواء قال له جبرائيل : أفلا تسأل الله أن ينجيك منها؟ قال إبراهيم حسبي من سؤالي علمه بحالي (٢) ، قال كعب : «جعل كل شيء يطفئ النار عنه

__________________

(١) «أف» : قرأ المدنيان وحفص بكسر الفاء منونة وابن كثير وابن عامر ويعقوب بفتح الفاء بلا تنوين ، والباقون بكسرها بلا تنوين. البدور الزاهرة ، ١٨٥.

(٢) اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٧٢.

١١٥

إلا الوزغ ، فانه كان ينفخ» (١) ، ولذا أمر النبي عليه‌السلام بقتل الوزغ فقال : «كان ينفخ على إبراهيم» (٢) ، فلما أخلص (٣) قلبه لله تعالى ووقع في النار لم يحترق سوى وثاقه ، فثمه بكت الملائكة عليه وقالوا ربنا عبدك إبراهيم يحرق فيك ، فقال تعالى مخبرا عن حاله (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) [٦٩] أي ذا برد وذا سلام (٤) ، قيل : نزع الله طبعها الذي خلقها عليه من الحر والإحراق ، فذهبت حرارتها وبقيت إضاءتها (٥) ، فأخذته الملائكة من ضبعيه وأجلسوه على الأرض ، وضرب جبرائيل جناحه على الأرض فأظهر الماء العذب وروضة خضراء ووردا أحمر ونرجسا ، وأقام فيها سبعة أيام وجاءه ملك بقميص من حرير الجنة وطنفسة ، فألبسه القميص وأجلسه على الطنفسة وجعل يحدثه ويقول له إن ربك يقول لك أما علمت أن النار لا تضر أحبائي.

روي : أن نمرود خرج في اليوم الثالث مع حشمه على ربوة فنظر إلى النار فرأى في وسطها ماء وخضرة وشخصين حولهما ، فقال : فما لي أرى نفسين فيها ونحن رمينا إنسانا واحدا ، فرجع متحيرا (٦) ، روي : أنه نادى يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج من النار؟ قال : نعم ، قال : فاخرج منها فقام يمشي فيها حتى خرج منها ، فقال : يا إبراهيم من الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال ذلك ملك الظل ، أرسلني ربي ليونسني فيها ، قال : إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك قال لا يقبل الله منك ما لم تفارق دينك إلى ديني ، قال لا أستطيع ترك ملكي ولكن أذبح أربعة آلاف بقرة ، فذبحها له ، ثم كف عن إبراهيم ومنعه الله منه (٧) ، قيل : «ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة» (٨).

فقال تعالى (وَأَرادُوا بِهِ) أي بابراهيم (كَيْداً) أي حرقا (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [٧٠] أي الأذلين والمغبونين في اتفاقهم (٩) على كيده وهو الإحراق ، وقيل : الهالكين بتسليط البعوض عليهم وقتله إياهم (١٠).

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١))

(وَنَجَّيْناهُ) أي إبراهيم وقومه من الإحراق ومن شر نمرود (وَلُوطاً) أي نجيناه وهو ابن أخي إبراهيم اسمه هاران مهاجرا (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [٧١] وهو أرض الشام بالخصب وكثرة الماء والثمار للمخلوقين ، وقيل : وصلت بركتها إلى العالمين ، لأن أكثر الأنبياء فيها بعثوا وانتشرت شرائعهم في العالم (١١) ، روي : أن إبراهيم قال للوط إني أريد أن أهاجر إلى الشام وهو أول من صدق بابراهيم واتبعه فخرجا مهاجرين من كوثى من أرض العراق إلى بيت المقدس (١٢) ، وروي : أنه نزل بفلسطين ومعه سارة ولوط بالمؤتفكة وبينهما يوم (١٣).

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢))

(وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم بعد نزوله فيها وطلب الولد منا (إِسْحاقَ وَ) وهبنا له أيضا ولد الولد (يَعْقُوبَ نافِلَةً) أي زيادة على سؤاله ، وقيل : «نافلة» معناه ولد الولد (١٤) ، وهو حال من (يَعْقُوبَ (وَكُلًّا) أي كل واحد منهم (جَعَلْنا صالِحِينَ) [٧٢] يعني أكرمناهم بالهداية إلى صراط مستقيم.

__________________

(١) انظر البغوي ، ٤ / ٥٩.

(٢) انظر البغوي ، ٤ / ٥٩. ولم أعثر عليه في كتب الأحاديث الصحيحة التي راجعتها.

(٣) الله ، + ح.

(٤) سلام ، و : سلامة ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٦٦.

(٥) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٦٦.

(٦) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٣٧٢.

(٧) أخذه عن البغوي ، ٤ / ٦٠.

(٨) عن شعيب الجبائي ، انظر البغوي ، ٤ / ٦٠.

(٩) اتفاقهم ، ي : إنفاقهم ، ح و.

(١٠) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٦٠.

(١١) قد أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٦٦ ـ ٦٧.

(١٢) نقله عن السمرقندي ، ٢ / ٣٧٢.

(١٣) نقله المفسر عن الكشاف ، ٤ / ٦٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٦١.

(١٤) أخذه عن الكشاف ، ٤ / ٦٧.

١١٦

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) أي قادة في الخير ، وقيل : جعلناهم أنبياء (١)(يَهْدُونَ) أي يدعون الخلق (بِأَمْرِنا) إلى ديننا وعبادتنا (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) وهي جميع الأعمال الصالحة (وَإِقامَ الصَّلاةِ) أي إتمامها ، وحذفت التاء من «إقامة» لإضافتها إلى الصلوة (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) المفروضة وغيرها (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [٧٣] أي مطيعين أمرنا.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤))

(وَلُوطاً) أي اذكر لوطا ، وقيل : هو نصب بفعل يفسره ما بعده وهو (٢)(آتَيْناهُ حُكْماً) أي علم الأحكام (وَعِلْماً) أي فقها في الدين ، وقيل : نبوة وفهما (٣) ليفصل بين الخصوم (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) وهي قرية سدوم (الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ) أي يعمل أهلها (الْخَبائِثَ) أي الأعمال القبائح كاللواطة والمكس ورمي البندق إلى الناس واللعب بالطيور ونحوها (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) [٧٤] أي عاصين.

(وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

(وَأَدْخَلْناهُ) أي لوطا (فِي رَحْمَتِنا) أي في الجنة أو في أهل رحمتنا ، وهم أهل الطاعة في الدنيا (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [٧٥] أي من (٤) المرسلين.

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦))

(وَنُوحاً) أي اذكر نوحا (إِذْ نادى) أي دعا على قومه (مِنْ قَبْلُ) أي قبل إبراهيم ولوط (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) نداءه (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) [٧٦] أي من تكذيب قومه والغرق والكرب أشد الغم ، قيل : كان نوح أطول الأنبياء عمرا وأشدهم بلاء (٥).

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))

(وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي على القوم (٦)(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بما أنذرهم نوح من الغرق (٧)(إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) أي قوم كفر (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) [٧٧] أي لم يبق منهم أحد لا صغير ولا كبير إلا هلك بالغرق.

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨))

(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي اذكرهما (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) بدل منهما والحرث كان زرعا أو كرما ، قوله (إِذْ نَفَشَتْ) بدل من (إِذْ يَحْكُمانِ) والنفش انتشار الغنم ليلا بلا راع ، أي دخلت (فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) فأكلته (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ) أي لحكمهما وحكم المتحاكمين (شاهِدِينَ) [٧٨] أي عالمين كيف كان لا يخفى علينا علمه

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩))

(فَفَهَّمْناها) أي الحكومة (سُلَيْمانَ) قيل : فيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان (٨) ، وذلك : أن الغنم دخلت في الزرع ورعته بلا راع ليلا فتحاكما إلى داود ، فقوم داود الزرع والغنم فاستوت قيمة الغنم مع قيمة ما أفسدته من الزرع ، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع فخرجا من عنده ومرا بسليمان النبي فأخبراه بحكم أبيه ،

__________________

(١) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٢) نقل المفسر هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٦٢.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٧٣.

(٤) من ، و : ـ ح ي.

(٥) نقله المؤلف عن البغوي ، ٤ / ٦٣.

(٦) أي على القوم ، ح و : ـ ي.

(٧) أي بما أنذرهم نوح من الغرق ، ح و : ـ ي.

(٨) أخذه المؤلف عن الكشاف ، ٤ / ٦٨.

١١٧

فقال : نعم ما قضي به ولو قضي غير هذا لكان أرفق بكما ، فرجع صاحب الغنم إلى داود عليه‌السلام ، فأخبره بما قال ابنه ، فدعاه فقال له : كيف رأيت قضائي؟ فقال : نعم ما قضيت ، فعزم عليه بالأبوة والنبوة ليحكم بينهما ، فدفع الغنم إلى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها وإلى صاحب الغنم الزرع يصلحه حتى إذا عاد الزرع إلى حاله الأولى ترادا ، فقال له داود القضاء هو ما قضيت فقضى داود بينهم بذلك ، وكان سليمان في ذلك اليوم ابن إحدى عشرة سنة (١) ، قيل : كان هذا الحكم في شريعتهم ، وأما شريعتنا فلا ضمان فيما أفسدته نهارا بلا راع ، وفيما أفسدته ليلا ففيه الضمان عند الشافعي رحمه‌الله ولا ضمان مطلقا عند أبي حنيفة رحمه‌الله إلا إذا ترسل تعمدا أو يكون معها سائق أو قائد (٢) ، وكان حكمهما بالوحي عند من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء ، فكان حكم سليمان ناسخا لحكم داود ، وقيل : كان حكمهما باجتهاد لإدراك فضيلة الاجتهاد عند من جوز الاجتهاد لهم وجوز الخطأ عليهم ، إذ لا قدرة للعبد أن يصيب الحق دائما إلا أنهم لا يقرون عليه (٣) ، والأول أصح لأنهما كانا على الصواب بدليل قوله (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أي حكم النبوة والفهم في القضاء ، قيل : كل مجتهد مصيب لظاهر الآية وللخبر حيث وعد الثواب للمجتهد على الخطأ وهو قول أبي حنيفة رحمه‌الله وأصحابه (٤) ، قال عليه‌السلام : «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» (٥) ، وقيل : ليس كل مجتهد مصيبا ، بل إذا أخلف اجتهاد المجتهدين في حادثة كان الحق مع واحد لا بعينه ، ولو كان كل مجتهد مصيبا لم يكن للتقسيم معنى (٦) ، وقوله عليه‌السلام : «إذا اجتهد فأخطأ فله أجر» لم يرد أنه يؤجر على الخطأ بل يؤجر على اجتهاده في طلب الحق ، لأنه عبادة ، والإثم موضوع عنه في الخطأ (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) أورد (مَعَ) للقران ، قوله (يُسَبِّحْنَ) بيان للتسخير ، فكأن قائلا قال : كيف سخرهن؟ فقال : يسبحن ، أي كلما يسبح يسبح معه الجبال بأن خلق الله فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى أو معناه يصلين معه إذا صلى (وَالطَّيْرَ) تسبح معه ، وقدم (الْجِبالَ) ، لأن تسبيحها أغرب لكونها جمادا ، والجملة في محل النصب على الحال ، و (الطَّيْرَ) مفعول معه (وَكُنَّا فاعِلِينَ) [٧٩] أي نحن فعلنا التسبيح والتفهيم بهما وهو بيان لقدرته العظيمة ، قال ابن عباس : «كان يفهم تسبيح الحجر والشجر والطير» (٧).

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) أي الدروع التي تلبس مسرودة (لِتُحْصِنَكُمْ) بالنون والتاء والياء (٨) ، أي ليحفظكم الله (مِنْ بَأْسِكُمْ) أي من شدة وقع السلاح فيكم ، وهو أول من صنع الدرع وسردها (فَهَلْ أَنْتُمْ) يا أهل مكة أو يا أهل بيت داود (شاكِرُونَ) [٨٠] جملة استفهامية ، والمراد بها الأمر ، أي اشكروا لله الذي هو رب هذه النعمة.

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١))

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر للحس بحركته ، يذكر ويؤنث (٩) ، أي سخرناها له (عاصِفَةً) أي شديدة الهبوب في عملها إن شاء سليمان حال لسخرنا مقدرة (تَجْرِي) أي

__________________

(١) اختصره المفسر من البغوي ، ٤ / ٦٣ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ٣٧٣.

(٢) اختصره من البغوي ، ٤ / ٦٤ ؛ والكشاف ، ٤ / ٦٨.

(٣) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٦٤.

(٤) أخذه عن البغوي ، ٤ / ٦٥.

(٥) أخرجه البخاري ، الاعتصام ، ٢١ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٦٥.

(٦) نقله المفسر عن البغوي ، ٤ / ٦٥.

(٧) انظر البغوي ، ٤ / ٦٥.

(٨) «لتحصنكم» : قرأ الشامي وحفص وأبو جعفر بتاء التأنيث ، وشعبة ورويس بالنون ، والباقون بياء التذكير. البدور الزاهرة ، ٢١٢.

(٩) وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر للحس بحركته يذكر ويؤنث ، وي : ـ ح.

١١٨

الريح (بِأَمْرِهِ) أي بأمر الله أو (١) بأمر سليمان من إسطخر (٢)(إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهي الشام فكانت تسير به وبجنده على البساط المعمول بأيدي الشياطين من الذهب في إبريسم ، وكان عرضه فرسخا في فرسخ حيث شاء ، ثم يعود من يومه إلى منزله ، وكان مقامه بتدمر مدينة بناها له الشياطين بالصفاح والعمد وألوان الرخام (٣)(وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) [٨١] أي نفعل كل شيء بمقتضى الحكمة أو عالمين بأمر سليمان وغيره.

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ) أي سخرنا منهم من يغوص في البحر فيخرج الجواهر (لَهُ) أي لسليمان (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) الغوص ، أي سواه كالقصور العالية والصناعات العجيبة (وَكُنَّا لَهُمْ) أي للشياطين (حافِظِينَ) [٨٢] لئلا يعصوه ولئلا يفسدوا عملهم ، لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل قبل الليل أفسدوه إن لم تشغلوا بغيره.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤))

قوله (وَأَيُّوبَ) اسم رجل من الروم وهو أيوب بن أموص بن زارخ بن روم بن عيصو بن إسحق بن إبراهيم ، وكان الله قد اصطفاه نبيا وبسط عليه الدنيا من أصناف المال كله من الإبل والبقر والغنم والخيل والحمر وغير ذلك ، وكان معه ثلاثة نفر من قومه آمنوا به وصدقوه ، رجل من اليمن ورجلان من بلده ، وكان له أهل وولد من رجال ونساء ، وكان برا تقيا رحيما بالمساكين يطعمهم ويكرم الضيف ويكفل الأيتام والأرامل وكان شاكرا لأنعم الله مؤديا حقه ، فابتلاه الله تعالى بكل بلاء كما يبتلي المؤمنين الصديقين لا على سخطة عليهم ولا لهوانه لهم ولكنه كرامة وخيرة لهم ، فاعلم النبي عليه‌السلام بخبره وصبره على بلاءه تسلية له عليه‌السلام ، وهو منصوب بفعل مقدر ، أي اذكره (إِذْ نادى رَبَّهُ) حين ابتلي بفقد جميع ماله وولده وتمزيق جسده وغير ذلك من البلايا ثلاث سنين أو سبع سنين أو أكثر من ذلك لا يقربه أحد غير زوجته رحمة صبرت معه بصدق مع ضيق عيشه بعد سعته حتى باعت ضفيراتها بشيء أكله ، أي دعا ربه (أَنِّي) أي بأني (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي الشدة وشكواه لم يخرجه عن الصبر ، فلذلك قال إنا وجدناه صابرا ، يعني أصابني البلاء الشديد فارحمني (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [٨٣] فَاسْتَجَبْنا لَهُ) نداءه (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) أي أولاده ، يعني أحيوا بعد ما ماتوا أو رزق ثوابهم (وَمِثْلَهُمْ) أي وآتيناه مثلهم (مَعَهُمْ) في الدنيا (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) لأيوب (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) [٨٤] أي وتذكرة لهم ليصبروا كصبره فيثابوا كثوا به ، قال ابن عباس : «إن الله تعالى رد على المرأة شبابها فولدت له ستة وعشرين ذكرا» (٤) ، وكان له سبعة بنين وسبع بنات (٥) أحياهم الله بأعيانهم.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ) أي اذكرهما وهو إسمعيل بن إبراهيم ، وإدريس جد نوح عليهم‌السلام (وَذَا الْكِفْلِ) هو إلياس أو نبي أو رجل صالح تكفل بصيام جميع نهاره وقيام جميع ليله وأن يقضي بين الناس ولا

__________________

(١) بأمر الله أو ، ح و : ـ ي.

(٢) إسطخر ، ح ي : إصطخر ، و.

(٣) «وعن مقاتل : نسجت له الشياطين بساطا ذهبا في أبريسم فرسخا في فرسخ ووضعت له في وسطه منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح وقد أكثر الأخباريون في ملك سليمان ولا ينبغي أن يعتمد إلا على ما قصه الله في كتابه وفي حديث روسل الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما كانت هذه الاختصاصات في غاية الغرابة من المعهود». انظر أبو حيان ، البحر المحيط ، ٦ / ٣٣٣.

(٤) انظر البغوي ، ٤ / ٧٩.

(٥) عن ابن يسار ، انظر البغوي ، ٤ / ٧٩.

١١٩

يغضب فوفى بذلك ، وإنما ذكره مع الأنبياء لأن عمله كعمله (كُلٌّ) أي كل واحد من المذكورين (مِنَ الصَّابِرِينَ [٨٥] وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) أي أكرمناهم بالنبوة أو بطاعتنا (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [٨٦] أي معهم في الجنة.

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧))

(وَذَا النُّونِ) أي اذكره وهو صاحب الحوت اسمه يونس بن متى (إِذْ ذَهَبَ) من قومه المرسل إليهم (مُغاضِباً) أي شديد الغضب عليهم ، لأنه وعظهم فلم يتعظوا ، وقيل : ذهب منهم كارها لدينهم ، وكان ضيق الصدر سريع الغضب وذلك أنه لما دعاهم إلى الإيمان بالله وترك الشرك كذبوه ووعدهم ثلاثة أيام بنزول العذاب بهم ، فأتاهم العذاب فأخلصوا لله بالدعاء فصرف عنهم وكان يونس اعتزلهم ينتظر هلاكهم فسأل بعض من مر علي من أهل تلك المدينة ، فلما علم أنهم لم يهلكوا كره أن يرجع إليهم مخافة أن ينسب إلى الكذب فذهب مغاضبا وكارها لذلك إلى الساحل فوجد قوما قد شحنوا سفينتهم ، فقال لهم : أتحملوني معكم فعرفوه وحملوه ، فلما ذهبت السفينة إلى وسط البحر تكفأت بهم ، فقال ملاحوها يا قوم أن فيكم رجلا عاصيا ، لأن السفينة لا تفعل هكذا من غير ريح إلا وفيها عاص ، فاقترعوا فخرج سهم يونس فقال أنا والله لعاص فتلفف في كسائه فرمى نفسه في البحر فابتلعه الحوت (١) ، فبقي في بطنه سبعة أيام (٢) ، وقيل : أربعين (٣) ، وقيل : يوما (٤)(فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن يونس أن لن نقضي عليه بالعقوبة (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) أي في ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل (أَنْ) أي بأن (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [٨٧] لنفسي بمغاضبتي ، قاله اعترافا بذنبه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مكروب يدعو يهذا التسبيح إلا استجيب له» (٥).

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨))

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) نداءه (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ) أي من غم الماء وبطن الحوت أو الذنب (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [٨٨] بالتخفيف والتشديد (٦) ، أي مثل ذلك الإنجاء ننجي الموحدين ، قيل : إنه بعث نبيا قبل ابتلاع الحوت وبعده (٧).

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩))

(وَزَكَرِيَّا) أي اذكره (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي دعاه (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي وحيدا بلا ولد يرثني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) [٨٩] أي أفضلهم رزقتني ولدا أو لم ترزقني إياه.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) نداءه (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لزكريا ولدا اسمه (يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي جعلناها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق وأحسنها وجها بعد أن كانت قبيحة الوجه وأصلحنا رحمها وكانت لا تلد لعقمها فصارت ولودا بعد العقم (إِنَّهُمْ كانُوا) أي الأنبياء الذين سبق ذكرهم ، وقيل : إن زكريا وامرأته ويحيى كانوا (٨)(يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي يبادرون في الأعمال الصالحة (وَ) كانوا (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي رغبة فيما عندنا ورهبة من عذابنا (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [٩٠] أي ذليلين متواضعين ، والخشوع الخوف اللازم للقلب بالمعرفة.

__________________

(١) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٢ / ٣٧٧.

(٢) عن عطاء ، انظر البغوي ، ٤ / ٨٣.

(٣) أخذه عن السمرقندي ، ٢ / ٣٧٧ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٤ / ٨٣.

(٤) ولم أجد له مرجعا في المصادر التي راجعتها.

(٥) روى الترمذي نحوه ، الدعوات ، ٨٢ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٤ / ٧٠.

(٦) «ننجي» : قرأ الشامي وشعبة بنون واحدة مضمومة وتشديد الميم ، والباقون بنونين الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة مع تخفيف الجيم. البدور الزاهرة ، ٢١٢.

(٧) نقل المؤلف هذا الرأي عن البغوي ، ٤ / ٨٤.

(٨) أخذه المفسر عن السمرقندي ، ٢ / ٣٧٨.

١٢٠