تفسير ابن عرفة - ج ٢

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٥٣

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ).

[٢٦ / ١٢٧] وقال في سورة العقود (قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) [سورة المائدة : ٨] فراعى هنا لفظ (قَوَّامِينَ) فناسب اقترانه لقوله (بِالْقِسْطِ) وراعى هناك اسم الجلالة فقدمه لشرعه ، وأجاب الزبير بأن آية النساء قبلها الأمر بالعدل ، قال تعالى (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) فناسب تقديمه ، وآية المائدة قبلها الأمر بالطهارة ، ثم تذكير العبد بنعم الله عليه ، ثم أمره بتقواه فناسب تقديم اسم الله.

قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما).

ابن عرفة : الظاهر أن الجواب محذوف ، أي فهو مصدق أوامره إلى الله والله أولى به ، فلا يقولوا هذا أغنى فلا يشهد ، وهذا فقير فلا نشهد عليه بل أقيموا الشهادة لله بالقسط والعدل ولا تظلموا أحد.

قوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا).

قال أبو حيان : إما أن المعنى كراهية أن تعدلوا بين النساء فلا تطيعوا أنفسكم وأهواءكم كراهية العدل بين النساء ، أو فلا تطيعوا أنفسكم إرادة أن لا تعدلوا.

ابن عرفة : فما قالوا هم في عين التعليل ، وما قاله أبو حيان تعليل النهي.

قال ابن عطية : احتج للحاكم أن يرشد الضعيف بما ينفعه ويشد عضده.

قال ابن عرفة : حكى لنا القاضي ابن عبد السّلام عن القاضي أبي عبد الله محمد ابن الخباز ، أنه تحاكم عنده رجلان طويل وقصير ، فظهر من القصير نباهة وحذق ، ومن الطويل فتور ومكنة ، فقال له القاضي أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم المعروف بابن الخباز : ما اسمك؟ فقال له الطويل : اسمي فارس ، فقال له : يا فارس ما لك يغلبك هذا الفويرس.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

قال ابن عرفة : إما أن يريد بالأمر الثاني : الأيمان العقلية والشرعية ، والظاهر أن يراد لوازمه الشرعية كالصلاة والزكاة والحج ؛ لأنه لا يلزم من الأمر الأول الأمر بها ، فإن قلت : هلا قيل : ورسله بلفظ الجمع أخص وأعم فائدة ، واجب وأقيس إما بأن الرسل لما كانت مقاصده واحدة ، فكلهم يدعون أن الإيمان بالله وتوحيده وما يجب له وما يستحيل عليه كانوا كالرسول الواحد ، وإما بأن الرسول أعم من الرسل ، كما قال

٦١

الزمخشري : في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [سورة مريم : ٤] أنه أعم من العظام.

قال الزمخشري : فإن قلت : لم قال في الأول نزل ، وفي الثاني أنزل؟ وأجاب بأن القرآن نزل منجما في عشرين سنة ، وغيره من الكتب نزل دفعة واحدة.

ابن عرفة : وعادتهم يردون عليه بقوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(١) [سورة الفرقان : ٣٢] ، وأجيب : بأن نزل ظاهر في النزول معرفا وهو الغالب عليه ، وقد يختلف فيطلق أحيانا على إنزال في مرة واحدة لكن ذلك قليل ، ولا يقر في معناه الأصلي وإطلاقه عليه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا).

ابن عطية : قال قتادة ، وأبو العالية في اليهود والنصارى : (آمَنُوا) اليهود بموسى والتوراة ، ثم آمنوا النصارى بعيسى والإنجيل ، (ثُمَّ كَفَرُوا) من النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ، وضعفه ابن عطية ، ووجه ابن عرفة بأحد وجهين :

إما بأن ابن عطية محمله على أشخاص اليهود والنصارى ، ونحن نحمله على مجموع الفريقين باعتبار الكل لا الكلية ، والمجموع من حيث هو ، وأن بعضهم آمن ثم كفر ببعض الآخر وهم النصارى آمنوا ثم كفروا ، وإما أن يجري على مقتضى حديث" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (٢) " فهم ولدوا مؤمنين ثم كفروا.

قوله تعالى : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً).

الكفر يزيد وينقص باعتبار متعلقه وطرقه ، ولذلك قال تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [سورة الأنعام : ١] فأجمع الظلمات وأفرد النور.

قوله تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ).

__________________

(١) أثبتها في المخطوط بقوله : وقالوا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ١٣٠٣ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ١٢٩ ، ومالك بن أنس في موطأ مالك رواية يحيى الليثي حديث رقم : ٥٦٦ ، ومالك بن أنس في موطأ مالك برواية مصعب الزهري حديث رقم : ٥٧٨ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٧٠٠٩ ، وأبو داود الطيالسي في مسنده حديث رقم : ٢٤٧٠ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ١٠٦٣.

٦٢

قيل لابن عرفة : هل يجوز التمثيل بآيات القرآن؟ أما في مقام الوعظ والتذكير فجائز مثل (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [سورة البقرة : ٨٣] ، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) [سورة البقرة : ٤٥] ، (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) [سورة هود : ٩٠] وأما في غيره فممنوع كقول بعضهم ، وقد سئل عن شيء فعله لم يفعله (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [سورة الكهف : ٨٢].

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ).

ابن عرفة : المفعول محذوف تقديره : أما (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) الدوائر الراء زائدة ، وأما الذين يتربصون به مستقبلات الأمور من خير أو شر وهو ظاهر سياق الآية ، ولا يبعد أن يريد الجميع فيكون على نوعين فمن سمع منهم على المؤمنين خبرا يسوؤه فهو يتربص بهم دائرة السوء ، ومن لم يسمع شيئا فإنه يتربص الأمر المستقبل على الإطلاق ، وأسند الفتح إليه ، ولم يسند إليه المصيبة مع أن الجميع من [٢٦ / ١٢٨] عند الله تشريفا للفتح واعتناء به.

قوله تعالى : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ).

ألم تكن لنا قدرة على أن ننصر المؤمنين عليكم فلو قاتلناكم معهم لا نتصروا واستولوا عليكم فالمعنى : ألم نستول عليكم بقدرتنا على قتالكم الموجب لانتصار المؤمنين عليكم.

قوله تعالى : (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

قال ابن عرفة : المناسب إليهم أن يقال : ونمنع المؤمنين منكم كما تقول : منعت الأسد من زيد ، فلا تقل : منعت زيدا من الأسد.

قيل لابن عرفة : ولم قال : ونمنع المؤمنين؟ لاحتمال أن يكون المؤمنون غالبين أو مغلوبين ، وهذه العبارة أخص وأصرح من المعنى من غير احتمال ، فقال ابن عرفة : لنا معنى هذا ، ونكفكم من القتال عن المؤمنين ، فالصواب أن يقال : ونكف المؤمنين عنكم باحتمال أن يكون من السبب المتعاكس فمن امتنع منك امتنعت منه.

قوله تعالى : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

أي باعتبار ظهور الحكم وبروز متعلقه ، وإلا فالحكم قديم أزلي.

قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

٦٣

قوله تعالى : (لِلْكافِرِينَ) بأن الكافرين فاعل في المعنى ، وشبه مفعول أعطى والفاعل هو المقدم في الرتبة مقدم في اللفظ ، وهذا إذا كان باعتبار الفعل والوجود فيكون في الآخر فقط ، وإلا فقد استولوا على المؤمنين في الدنيا في غزوة أحد وغيرها ، وإن كان باعتبار الحكم الشرعي فهو في الدنيا والآخرة.

قيل لابن عرفة : قد قال أشهب : إن الكافر إذا ملك المؤمن عتق عليه ، ويكون ولاؤه له ، أفترى له عليه سبيل عند أشهب؟.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ).

قال ابن عرفة : التأكيد بأن إنما يصح إذا كان المخاطب منكرا وطرأت عليه مخايل الإنكار ، والتأكيد هنا مصروف إلى ظنهم أن خداعهم مؤثر ونافع لهم ، وقوله (يُخادِعُونَ) على حذف مضاف تقديره : يخادعون رسل الله ويخادعون أولياء الله ، فإن أريد فالتشريف من جهة واحدة وهو التعبير باسم الله عن اسم رسول الله ، وإن أريد الثاني فالتشريف من جهتين ؛ لأنه تشريف لأولياء الله والتشريف لأوليائه تشريف لرسوله من باب أحرى.

ابن عرفة : والمنافقون إن كانوا معلومين للمؤمنين كانت الآية تقبيحا لفعلهم وتحذيرا منه ، وإن كانوا مجهولين فهي تقبيح لفعلهم فقط ، ابن عطية : ومخادعتهم لأولياء الله فيظنونهم غير أولياء ، أو لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى ، فرده ابن عرفة بما روى مسلم في صحيحه في كتاب ذكر المنافقين عن مجاهد عن ابن عمر عن ابن مسعود ، قال" اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم ، فقال أحدهم : أترون الله يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا ، فأنزل الله تعالى (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ) [سورة فصلت : ٢٢] " الآية قال ابن عرفة : وجرى بين شيخنا الفقيه أبي عبد الله محمد بن سليمان بن علي ، وابن الصباغ في القضية اختلاف : هل المنافقون مخاطبون بفروع الشريعة أو لا؟ ووقع بينهما في ذلك تنازع كثير منهم السلطان ابن الحسن ، والتحقيق أن الخلاف في خطاب الكفار بالفروع إن كان باعتبار الباطن كما يقول الأصوليون من أنه راجع إلى تضعيف العذاب في الآخرة ففيه نظر ، قلت : لا نظر فيه لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

قوله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ).

٦٤

ابن عرفة : المرائي يظهر التجلد والاجتهاد في العبادة ، فكيف يفهم أنه مراء وهو كسلان ، ثم أجاب : بأنهم في ابتداء الصلاة كسالى ، فإذا شرعوا فيها الاجتهاد والنشاط ، قال ابن العربي : ومن صلى ليراه الناس فيقدمونه شاهدا فصلاته صحيحة.

ابن عرفة : فعل العبادة لله مستتبعا للرياء فهي صحيحة ، وإن فعلها لمجرد الرياء فقط فهي باطلة.

قوله تعالى : (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ).

أي لا مع المؤمنين ولا مع المنافقين بأن المراد لا هم مع المؤمنين في الحقيقة ولا هم مع الكافرين في ظاهر الأمر ، قال : والإشارة الأولى إما للمؤمنين ، وإما للكافرين ، والثانية كذلك ، وتقدم لنا في الميعاد ترجيح كون الأولى للكافرين والثانية للمؤمنين ليكون ختم عليهم بمنتهى الإيمان ، ولو كانت الأولى للكافرين لكانوا ممن ختم عليهم بعدم الكفر فيحتمل أن يكونوا آمنوا في آخر أمرهم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

الخطاب للمؤمنين وهو من يعمل مطلق الإيمان ، والكافرين أولياء إما مع المؤمنين أو دونهم فوقع النهي عن الثاني [٢٦ / ١٢٨] دون الأول ؛ لأنه أشد فرتب عليهم الوعيد الأشد ، أو يجاب بأن الجزء الذي اتخذوهم فيه أولياء يشاركون فيه المؤمنين ، فكانوا اختصوهم به واتخذوهم فيه دونهم كما تقدم في قوله تعالى : (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) [سورة البقرة : ٦١] مع أنهم لم يطلبوا الاستبدال بل يطلبون ذلك مع غيره ، فتقدم الجواب بأنه عند الاستعمال ينقصون من أكلهم من الأول فكأنهم استبدلوا ذلك الجزء الذي نقصوه.

قوله تعالى : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً).

قال أبو حيان : السلطان هو الحجة ، ويحتمل التذكير فالمعنى البرهان والثبات وهو مذكر ، وإما لأن الحجة هي الدليل المستعمل الواقع في الوجود الخارجي ، والبرهان هو الدليل الأعم من كونه استعمل أو لم يستعمل به بل الاستعمال والتذكير فيه أولا ؛ لأن لازم الأعم لازم الأخص.

قال ابن عرفة : وفي الآية اللف والنشر بقوله (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً) راجع لقوله (لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) ، وقوله (مُبِيناً) [سورة النساء : ١٧٤] راجع لقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة النساء : ١٧٣] فمن اتخذتم أولياء

٦٥

بالإطلاق ترتب لله عليه حجة مطلقا ومن اتخذهم من دون الله ترتب عليه حجة واضحة.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ).

قال ابن عرفه : الألف واللام إما للعهد فلا يتناول منافقي الجنس ، وإما للجنس فتتناولهم ، والظاهر عدم تناول اللفظ لهم ؛ لأن أولئك معصيتهم أشد لمشاقتهم رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم واستهزائهم به.

قوله تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً).

هو موضع لا ينفع فيه النصير فلذلك لم يقل : ولم يكن لهم نصير ، قال الفخر : في مفهومها حجة لأهل السنة بإثبات الشفاعة للعصاة.

قيل لابن عرفة : إنه مفهوم اللقب ، فقال : بل مفهوم الصفة ؛ لأن الضمير لهم عائد على المنافقين.

قال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا).

قال ابن عرفه : الحكم على المعنى المشتق من وصف إن كان باعتبار ذاته فالاستثناء منفصل ، فإن كان باعتبار وصفه فهو منقطع.

قوله تعالى : (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

الألف واللام للعهد ، يريد المؤمنين إيمان أو أبناءهم ، أو الصحابة أبا بكر وعمر الذين صمموا على الإيمان ودعوا إليه.

قوله تعالى : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ).

الألف واللام للجنس فيتناول أعلاهم ولو نالهم ، وهو المعبر عنهم بكونهم معهم ، قلت : وسألت الأستاذ القارئ أبا العباس أحمد بن مسعود البلنسي المعروف بابن الحاجة : كيف توقف على يؤت فقال (يُؤْتِ) إلا البزي فإنه يقف عليها بالياء.

قوله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ).

قال الزمخشري : والشكر سبب في الإيمان.

قال ابن عرفة : هذا جار على مذهبه ؛ لأنه يقول : شكر المؤمن واجب عقلا ، والجواب عندنا أنه إنما قدم الشكر على الإيمان أنه يستلزم الإيمان بالفعل ، ثم قال (وَآمَنْتُمْ) أي دمتم على الإيمان فشكرتم يستلزم تقدم إيمانهم ثم دوامهم عليه.

٦٦

قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً).

إما منعما كما قال (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [سورة إبراهيم : ٧] ، أو من باب المشاكلة مثل (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) [سورة آل عمران : ٥٤] عليما بمن آمن وشكر فيجازيه ، ومن كفر فيعاقبه.

قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ).

قال ابن عرفة : المحبة في الشاهد ضد الكراهة ، وهل هما على طرفي النقيض ، أو لا والظاهر أن بينهما واسطة فنفي المحبة يستلزم الكراهة ، بل يبقى محتملا ، وأما في الغالب فهما على طرفي النقيض ، هذا باعتبار الدليل العقلي ، وأما باعتبار الأمر الشرعي واللغوي فهو يقتضي ذم الجهر بالسوء من القول ، والسوء إما الأمر المؤلم فقط ، أو الأمر المؤلم المذموم ، فإن كان الأول بالاستثناء فهو منفصل ، وإن كان الثاني فهو منقطع ؛ لأن انتصار المظلوم لنفسه مؤلم غير مذموم شرعا ، ولا يدخل الغيبة في الآية ؛ لأنها إن تحدث الإنسان بها مع الناس فهو خبر بالسوء ، وإن تحدث بها مع نفسه فليست بغيبة.

قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ).

ابن عرفة : هذا بدل ؛ لأن إبداء الخير أعلى من إخفائه ، وإخفاؤه أعلى من العفو عن السوء ، فالإحسان في الظاهر لمن ظلمك أعلى ، ثم الإحسان إليه ، ثم العفو في السر عن الظلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ).

عبر عنهم بلفظ المضارع ، ثم قال و (الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَ) رسله [سورة النور : ٦٢] فعبر بلفظ الماضي ؛ لأن الإيمان مأمور مطلوب به فجعل كالواقع المحقق ، والكفر منهي عنه فجعل كأنه لم يقع.

قوله تعالى : (هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا).

أي كفرا محققا يقينا [٢٦ / ١٢٩] لا شك فيه بخلاف من وحد الله وجحد بعض الصفات كالمعتزلة ، فإن في كفرهم نظر ، أو لذلك اختلف العلماء فيهم.

قوله تعالى : (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ).

فمن أطاع في شيء وعصى في شيء لا يحيط ، ثم عصيانه ثواب ما أطاع فيه.

٦٧

قيل لابن عرفة : قال هنا (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) فعبر بسوف وهي أبلغ في التنفيس من السين ، وقال حد هذا (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ) [سورة النساء : ١٦٢] ، ثم قال (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) [سورة النساء : ١٦٢] فعبر بالسين ، فأجيب بأن هذه فيمن حصل مطلق الإيمان بالله ورسوله أعم من أن يكون أطاع في الفروع أو عصى فناسب الإتيان بسوف المقتضي لكمال تراخي جورهم ، وهذا إشارة لمذهب أهل السنة القائلين بوجود إنفاذ الوعيد في طائفة من عصاة من المؤمنين وأنهم يعذبون قبل ذلك ، والآية الأخرى فيمن حصل الإيمان وفروعه فناسب أنها خبر لما يقول على قرب الثواب الذي ينالهم في المستقبل.

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ).

قال الزمخشري : روي أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عارم ، قالوا : يا رسول الله إن كنت صادقا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى فنزلت الآية ، وقرأ ابن عامر وابن كثير تنزل بالسكون ، والباقون (تُنَزِّلَ).

قال ابن عرفة : وقراءة التخفيف لا تناسب السبب على ما تقدم للزمخشري في أنزل وينزل.

ابن عرفة : وتضمنت الآية أمرين :

أحدهما : الإخبار بنعت اليهود.

والثاني : كمال التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصة موسى معهم.

قال ابن عطية : ولقد حدثني أبي عن أبي عبد الله محمد النحوي أنه كان يقول مسألة العلم بالله ... (١) المعتزلة.

قال ابن عرفة : هذه خطابة وحاصله أن العلم بالله سبب في التشبيه ، فكما أن علم الله حاصل مع اعتقاد نفي التشبيه والمماثل فكذلك الرؤية لا يلزم منها التشبيه ، وحاصله أنه دليل لا يستقل نفسه بل باستحضار قواعد دقيقة وهو أن الرؤية لا تستدعي الجهة والمكان خلافا للمعتزلة.

قال ابن عرفة : وقوله (فَقالُوا) ليس بمعطوف على (سَأَلُوا ؛) لأنه بيان له والأصل في الجملة المبنية أن يؤتى بها غير معطوفة فهو معطوف على فعل مقدر تقديره أخبروا ، فقالوا : أرنا الله جهرة.

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٦٨

قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ).

ابن عطية : لم يكن الذين ضعفوا عن المعنى إلى المناجاة فيمن اتخذ العجل.

قال ابن عرفة : أراد أن الضمير عائد عليهم باعتبار النوع والصنف ، أو باعتبار فعل هؤلاء ، ورضي الآخرون بذلك.

قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ).

بنقض ميثاقهم.

قوله تعالى : (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

أي لا يقبل الحل شرعا.

قوله تعالى : (وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ).

قال ابن عرفة : إن قلت : قتل الأنبياء أبدا لا يكون إلا بغير حق ، فما الفائدة في هذا؟ قلت : المراد بأنهم لو سئلوا لقالوا : قتلهم بغير حق.

قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

إن كان القليل راجع إلى الأشخاص فهو على بابه ؛ لإمكان التجزئة والتبعيض فيهم وإن رجع إلى الإيمان فهو بمعنى العدم مثل : مررت بأرض قل ما تنبت البقل ؛ لأن الإيمان لا يتجزأ ويحتمل أن يرجع إلى الجميع.

قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ).

قال ابن عرفة : إنما لم يقل : وقتلهم المسيح ؛ لأنه لم يقتل ، وإن قتله إنما هو بقولهم ودعواهم لكلّ منهم شيء.

قوله تعالى : (رَسُولَ اللهِ).

قال الزمخشري : قالوه على وجه الاستهزاء ، ويجوز أن يكون موضع الذكر الحسي مكان ذكرهم القبيح رفعا لعيسى عليه الصلاة والسّلام ، وقال ابن عطية : هو إخبار من الله تعالى.

قال ابن عرفة : فإذا بنينا على أنه يجوز أن يكون من كلامهم فيؤخذ منه عندي أن الشاهد يحكم من حيث المحكوم عليه موصوفا بصفة أن شهادته بالحكم لا تستلزم شهادته بذلك ، [...] رجلا بالشريف أو بالفقيه فإن كانت وقعت ، فقال الفقيه أبو عبد الله محمد بن سلامة : أن ذلك يستلزم شهادة الشاهد بها ، وقال القاضي ابن عبد

٦٩

السّلام : لا يلزم أن يكون شاهدا بها ، قال بعض الطلبة : ينبغي أن نفرق بين كون الوثيقة بخط الشاهد أو بخط غيره ، فقال ابن عرفة : لا فرق بينه وغيره.

قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ).

قال ابن الخطيب : القول أنه شبه شخص واحد قتلوه سفسطة.

ورده ابن عرفة بورود [٢٦ / ١٢٩] المعجزات على يدي الأنبياء ، ومن جملتها الفاشية تشبيه أحد الشخصين في الآخر حتى كما يصير كأنه هو ، قال ابن الخطيب : وادعى اليهود بالنقل المتواتر أنه قتل ، فقال ابن عرفة : إنما ادعوا تواتر قتل ذات شبيهة بعيسى لا قتل عيسى محققا ، وهذا أحسن من جواب ابن الحاجب عنه بأن أصل التواتر عندهم باطل ، وذكره ابن عطية.

قال ابن عطية : وروي أن أولئك القاتلين لم يستحب عليهم أمر مع عيسى فصلبوا شخصا وأبعدوه عن الناس حتى تغير ولم تثبت له صفة ثم قربوا الناس منه.

قال ابن عرفة : هذه الآية ترد لقوله (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) فدل على أن القاتلين شبه لهم لا لغيرهم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ).

قال ابن عرفة : الشك مناقض الظن فلا يصح استثناؤه منه لا منفصلا ولا متصلا ، وأجيب : بأنه لما اختلف المؤمنون في الأمر شكوا ثم صاروا إلى الظن بأن بعضهم شك وبعضهم ظن ، وإما بأنهم ظهرت لهم أمارات تفضي إلى الظن فلقصر إيمانهم لم يحصل لهم ظن ، وإنما أنتجت لهم الشك ، وإما أن يريد الشك اللغوي وهو مطلق التردد الأعم من التساوي والترجيح فلا ينافي الظن.

قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ).

ابن عرفة : تضمنت الآية عقوبتهم على كفرهم بوجهين :

الأول : تناقضهم في كفرهم به أولا ثم بما هم به حيث لا ينفعهم الإيمان.

الثاني : تقديمهم على ذلك في الدار الآخرة.

الزمخشري : (لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) تشبيه صفة لموصوف محذوف تقديره : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ).

ابن عرفة : أي وإن فيهم أحد لا يقول ليؤمنن به قبل موته ؛ لأن جملة القسم لا يصح أن تقع وصفا لعدم احتمالها الصدق والكذب ، وقال أبو حيان : قال المختصر

٧٠

هذا لا يصح ، وقد ذكره سيبويه وأسند بقوله : إن أحدا لا ينزل ذلك ، وأجاب ابن عرفة بأن أحدا هنالك موصوف بالنفي ، فكأنه منفي ، وأما هنا فهما لفظان لفظة أحد ولفظة إلا أن إيجاب للنفي.

قيل لابن عرفة : وهذا من العلم الباقي على عمومه مثل (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة النساء : ١٧٦] ، فقال ابن عرفة : بل هو مخصوص بالمجانين منهم وغير المكلفين.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً).

ابن عرفة : يوم إما متعلق ب (لَيُؤْمِنَنَ) لكونه أقرب له في اللفظ ، أو معمولا لشهيدا لكونه أقرب له في المعنى ؛ لأن التقدير : يكون شهيدا عليهم يوم القيامة.

قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا).

التنكير إما للتقليل إن كانت الآية تخويفا وإنذارا ، أو للتعظيم إن أريد التشنيع على أهل الكتاب والتقبيح لفعلهم.

قوله تعالى : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ).

ابن عرفة : اختلف الأصوليون في قول الراوي نهى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم من كذا ، هل يفيد التحريم والكراهة؟ وهذه الآية دالة على التحريم ووقعت هذه الآية في المدونة مغلوطا فيها ، فقال في كتاب المأذون : وأكلهم الربا وهو الأخص من الأخذ ، واحتج بها السهر ماجي في شرح التهذيب على أن المسلم إذا مات عنده اليهودي له مال ، فإنه لا يرث عنه لتعاملهم بالربا وهو محرم عليهم.

قيل لابن عرفة : أجراه بعضهم كذلك في النصراني ومذهبنا جوازه.

ابن عرفة : هو نص المدونة في كتاب الولاء.

قوله تعالى : (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ).

إن قلت : هلا قيل هنا : وقد نهوا عنه كما قال في الربا؟ وأجيب : بأن أخذ الربا يكون برضى المأخوذ منه واختياره ، وأكل المال بالباطل لا يكون إلا غضبا أو نحوه من غير رضا ربه ، فمعلوم أنه منهي عنه ؛ لأنه مما أجمعت الملل على تحريمه وتحريم الربا خفي فاحتيج إلى ذكر المنهي عنه.

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ).

٧١

ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق تقبيح فعل اليهود عقبه باستدراك فعل بعضهم وإخراجه عنهم ، وبالغ في منهم بأمرين :

أحدهما : لفظة الرسوخ في العلم يفيده إلا أن يريد المؤمنين من غيرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأجاب : بعض الطلبة بأنه عطف العام على الخاص.

ورده ابن عرفة : بأنه لو كان كذلك من عطف الموصوفات مع أن الزمخشري جعله من باب عطف الصفات.

قال ابن عرفة وإنما يجاب بأنه لا يلزم من استلزام الأخص استلزام الأعم له.

قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ).

ابن عرفة : كلام الزمخشري هنا أحسن من كلام ابن عطية فإنه أطيب في تخطيه قراءة (الْمُقِيمِينَ) مع أن القراءة السبعية مجمعون عليها ، وصوب قراءة والمقيمون مع شذوذها فوهم كلامه أن السمع غير متواتر.

قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

إما تكرار ، أو الأول في مؤمني اليهود ، وهذا [٢٦ / ١٣٠] في المؤمنين بمحمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، وإيمانهم باليوم الآخر يستلزم إيمان محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بالوحي إلى من قبله مع أنه أشرف ، والمشبه بالشيء لا يقوى قوته ، وأجاب ابن أبي حمزة عنهم ؛ لأنه إنما يعلم من جهته ، وأما العقل فيجوز خاصة ولا يوجبه بوجه.

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ).

الآية ، ذكرها البخاري في أول كتابه ، وأورد شارحه أو شراحه سؤالا ، كيف شبه الوحي للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بالوحي إلى من قبله مع أنه أشرف والمشبه بالشيء لا يقوى قوته؟ وأجاب ابن أبي حمزة عنهم.

قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).

قال المازني في شرح البلقيني في أول كتاب الطهارة : الآية حجة على المعتزلة في قوله : إن الله لا يكلم موسى مباشرة بل بواسطة ، خلق له الكلام في السيرة ؛ لأنه أكده بالمصدر ، ورده ابن عبد السّلام بأن التأكيد بالمصدر لإزالة الشك عن الحديث ، لا عن المحدث عنه فالكلام واقع حقيقة هل من الله أو غيره؟ نظر آخر وأجاب ابن عرفة بأن التأكيد بالمصدر وإن كان لإزالة الشك عن الحديث فلا بد فيه من مراعاة كونه واقعا من

٧٢

فلان فهو لإزالة الشك عن حديث فلان ، ولو لا ذلك لما قال البيانيون في قول الشاعر بروح بن زنباع :

بكى الخز من روح وأنكر جلده

وعجت عجيجا من جذام المطارف

إنه من ترشيح المجاز ؛ لأن المطارف جمع مطرف ، وهو ثوب مرقع من خلق له وجذام قبيلة روح.

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

تعليل شرعي لا فعلي ؛ لأن بعثته جائزة عقلا وواقعة شرعا لقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء : ١٥] هذا هو مذهب أهل السنة.

قوله تعالى : (بَعْدَ الرُّسُلِ).

أعربه أبو حيان ، والزمخشري إما نصبا للحجة أو حالا منها ، وأبطله ابن عرفة : بأن الحجة ثابتة (بَعْدَ الرُّسُلِ) ، وأما قبلهم أو معهم فليست ثابتة ، فالصواب أنه متعلق بقوله (يَكُونَ) أي : (لِئَلَّا يَكُونَ) بعد الرسل للناس على الله حجة ثابتة مطلقا.

قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ).

ابن عرفة : يحتمل عندي أن يريد أنزله مع علمه ، ويريد بالعلم المعلوم والمصدر مضاف للمفعول ، والضمير عائد عليه ، أي أنزله مصاحبا المعلومة أي تصاحب المعجزات والآيات الدالة على صحته وهدف نبوة الرسول ، فهو إنزال القرآن وإنزال دليله وهو المعجزات معه.

قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ).

احترازا ؛ لأنه لما قال (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ) ، ثم قال (وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ) توهم أن فيه تقوية لشهادتهم واعتقادات صحيحة.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا).

دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ).

نفي للقابلية على سبيل المبالغة ، والمراد من مات منهم على الكفر لقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [سورة الأنفال : ٣٨].

٧٣

قوله تعالى : (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ).

من تأكيد الذم بما يشبه المدح ، كقولهم :

هو الكلب إلا أن فيه ملالة

وسوء مراعاة وما ذاك في الكلب

وفيه دليل لأهل السنة في أن الله يخلق الخير والشر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ).

قال ابن عطية : السورة مدنية فهو مما خوطب به جميع الناس بعد الهجرة ؛ لأن الآية دعاء إلى الشرع ، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام ونحوها لكانت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ،) فرده ابن عرفة ؛ لأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، قال : والجواب أن متعلق الخطاب إن كان جليا واضحا فإنه يخاطب به العموم ، وإن كان خفيا أو قريبا من الخفي خوطب به الخصوص ، ونظيره أن الشيخ إذا قرر للطلبة مسألة جلية فيقررها للجميع ، وإن كانت صعبة فيخص بها بعض الطلبة ، وقد هنا للتوقع ؛ لأنهم كانوا يتوقعون مجيء الرسل.

قوله تعالى : (بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ).

دليل على أن بعثه الرسل محض تفضل من الله تعالى وليست بواجبة كما تقول المعتزلة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَكْفُرُوا).

أي تدوموا على الكفر ، فإن كفرتم قبل ظهور المعجزات غير معتبر وإنما يعتبر بعدها.

قوله تعالى : (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ).

يحتمل أن يريد به التعمق في الدين كمن يمتنع من أكل اللحم ويتقشف.

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ).

قال بعضهم : يؤخذ أن ابن الملاعنة نسب إلى أمه.

قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) الآية.

قال ابن عرفة : القرآن وكلام المفسرين اقتضى أنهم أرادوا تعدد الآلهة باعتبار الكمية المنفصلة وكلام الأصوليين [٢٦ / ١٣٠] على النصارى اقتضاء نفي الكمية المتصلة.

٧٤

ابن عرفة : وكان الفقيه أبو سعيد الغبريني أخبرني أنه بحث مع النصارى في هذا وأنكر عليهم ، فأخذوا طرف الإحرام وطووه على ثلاثة ، ثم علوا فصار واحدا ، فكذلك قالوا : هؤلاء الثلاثة في واحد ، فإن قلت : لم قال (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) فمفهومه جواز قوله اثنان؟ فالجواب : أنه أوتي على سبيل دعواهم وهم ادعوا ثلاثة.

قوله تعالى : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).

ابن عرفة : الاستدلال بهذه الآية على نفي الولد أبلغ من استدلاله على نفيه بقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [سورة الإخلاص : ١ ، ٢] ؛ لأن هذه تضمنت نفي وجود الولد ، ونفي القابلية أبلغ من نفي الوجود.

قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

تضمنت الآية ثلاثة أمور دينية :

أحدها : إثبات الوحدانية ، والثانية : نفي الولد ، والثالثة : إثبات الصفات ما تضمنه قوله (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فإنه يقتضي الحياة والقدرة والعلم والإرادة ، فاقتضت الآية أيضا إثبات الكلام فإن هذا من القرآن وهو كلام الله ، أما القدرة فخلقه السموات والأرض وتخصيص أحدهما بصفة دون الأخرى دليل على الإرادة وكون فاعلها عالما.

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ).

قال ابن عطية : الاستنكاف هو التمنع من الشيء بأناقة واستحضار العلم والتنزه ، ومثاله : أن يضع طعاما لرجلين فيمتنعان من أكله ، أحدهما لكونه لم يقو على أكله أو هو صائم ، والآخر لكونه رأى مثل ذلك الطعام لا يليق به وأن أكله منه لا يليق في حقه ، وإنما يليق به ما هو أحسن منه وأسيغ ، فالاستنكاف أخص من الاستكبار والامتناع ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فيرد السؤال لما جاء هكذا ، ويجاب بأنه على وفق دعواهم إلا أن ابن عطية ذكر السبب في ذلك أنهم ادعوا رفع عيسى عن العبودية ، أي لن يستنكف عيسى أن يكون عبدا لله ، فقال : إنه لبس أن يكون عبدا لله ، قالوا : بلى فنزلت الآية ، قاله الزمخشري : فجعلوا فتنة العبودية له سببا له فأنكر عليهم ، وقيل له : إذا كان نبيكم على شرف منزلته وعلى قدره لا يأتي أن يكون عبد الله فكيف تقيمون أنتم ذلك عليه.

قوله تعالى : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

٧٥

قال ابن عطية ، والزمخشري : وأخذوا منه أن الملائكة أفضل من سائر الأنبياء ومن عيسى.

قال الزمخشري : لأن علم البيان يقتضي أنك إذا قلت : لن يفعل هذا زيد ولا عمرو أن يكون عمرو أفضل من زيد.

قال ابن عرفة : وعادتهم يردون عليه بأنه يلزم عليه أن يكون العطف تأكيدا مع التأسيس أولا ؛ لأن نفي الصفة المرجوحة لا يستلزم نفيها عن الفاصل بخلاف العكس ، يقول : لا يشرب الخمر صالح ولا طالح ، قال ابن المنير : وهذا باعتبار الثواب في الدار الآخرة فقد تكون الملائكة في الدار الآخرة كما ورد أن إبراهيم ألقي في النار فلم يحترق ، وروي أن جبريل حمل على جناحيه قوم لوط ، فقال ابن عرفة : إنما التفضيل بينهم مطلقا في الدنيا والآخرة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ).

قال الذي يظهر أن الاستنكاف أخص من الاستكبار : فلا يلزم من حشر المستنكفين عن العبادة وتعذيبهم تعذيب المستكبرين ، فلذلك كان العطف تأسيسا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

ابن عطية : البرهان هو الحجة البينة الواضحة التي تعطي اليقين التام.

ابن عرفة : الدليل يطلق على الحجة المقيدة القطع ، وعلى المقيدة الظن والبرهان الاصطلاح إنما هو الحجة القطعية المقيدة لليقين ، وقد يطلق البرهان في اللغة على الدليل الأعم من إفادة القطع والظن والبرهان إنما يخاطب به الخواص الدليل خاطب به العوام وعليه قول الشاعر :

أقلد وجدي فالبرهان مهتدي

فما أضيع البرهان عند المقلد

وكان يمشي لنا أن الصواب غير ما قال ابن عطية : وهو أن يراد هنا بالبرهان الدليل الأعم من إعادة الظن أو للقطع لقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هي خطاب للجميع فيتناول الخواص والعوام.

ابن عرفة : هذا إن أريد بالبرهان القرآن ، ويكون عطف النور عليه من باب عطف الصفات ، فهو برهان ونور مبين.

٧٦

قيل لابن عرفة : يلزم التكرار فقال : لفظ المجيء يحتمل أن يكون خاص فوق أو عن يمين أو عن شمال أو من أمام ، فأفاد قوله (أَنْزَلْنا) كون محبة من فوق ، قال : ويحتمل عندي أن يكون على حذف مضاف ، أي : قد جاءكم ذو برهان [٢٦ / ١٣١] من ربكم وهو النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم بالنور المبين القرآن ، فلا يكون تكرارا بوجه ، قال : وقوله (نُوراً مُبِيناً) إشارة إلى أن منفعة القرآن متعدية لغيره وليست قاصرة عليه فهو نور في نفسه مبين لغيره ، قال : وفي الآية اللف والنشر والالتفات بالانتقال من الغيبة إلى التكلم لقوله (وَأَنْزَلْنا) بعد أن قال (مِنْ رَبِّكُمْ).

قوله تعالى : (وَاعْتَصَمُوا بِهِ) الظاهر عود الضمير على القرآن لقوله في حديث جابر في حجة الوداع" وقد تركت فيكم ما لا تضلوا بعده إن اعتصمتم كتاب الله عزوجل".

قوله تعالى : (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ).

قال ابن عرفة : الرحمة الجزاء على فعل الطاعة ، والفضل والزيادة على ذلك ، وقيل : الرحمة الإنقاذ من الشدائد والفضل والإنعام في غير شدة ، وقيل : الرحمة : الثواب الدنيوي ، والفضل : الثواب الأخروي ، وقيل : غير هذا ، والأولان هما الظاهران.

قوله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ).

قال ابن عرفة : الاستفتاء هو السؤال عما أنت جاهل به.

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ).

فيحتمل الماضي والحال.

قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ).

قال ابن عرفة : (امْرُؤٌ) فاعل بفعل مقدر دل عليه هلك ، قالوا : أو يكون (هَلَكَ) صفة لامرؤ وهو دال على الفعل المقدر ، فرد بأنه ما يفسر إلا ما يصح به العمل ، وإذا جعلت صفة لأمرؤ ما يصح له العمل فيه ، وأجيب : بأن المفسر السابق كما قالوا في المضمر أنه يفسره السابق دلالة الحال ، ورد بأنه إذا كان المضمر هلك فلا فائدة في ذكر (هَلَكَ) الذي هو صفة ، وأجيب بأن النعت عندهم يكون تأكيدا حجة واحدة وعشرة كاملة ، و (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [سورة النحل : ٥١] ، قال

٧٧

أبو حيان : فالألف واللام للعهد ، والثاني للتعيين وهو يشير إلى أنها للعهد في جنس أو شخص معين.

قوله تعالى : (وَهُوَ يَرِثُها).

ابن عرفة : هو من باب : عندي درهم ونصفه ، وفيه وجهان : أن الضمير عائد باعتبار لفظه دون معناه وهو المسمى بالاستخدام ، أو أنه على حذف مضاف أي ونصف ونحوه.

قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ).

وكذلك هذه الآية إما أن يراد ومثله يرثها ، يعود الضمير على لفظ الأخ دون معناه ؛ لأن من مات كيف يرث؟ قلت : وحاصل جواب العقباني أنه قال : القضايا الشرطية لا يشترط في جوابها الإفادة ، وإنما يشترط الإبداء بجوابها ، والجواب : (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) ، فإن قلنا : ما فائدة قوله (اثْنَتَيْنِ) بعد قوله (فَإِنْ كانَتَا؟) فأجاب أبو حيان عن الفارسي : بأنه أفاد اثنين بالإطلاق أعم من كونهما صغيرتين أو كبيرتين.

ابن عرفة : وتقدم لنا الجواب عنه بالفرق بين ذكر المطلق لا يفيد جواب الفارسي بعبارة أخرى فتأمله حاسر وبين ذكره مقيدا بالإطلاق فذكره لا يقيد قابل بالتقييد بالصغير والكبير ، والغني والفقير ، ثم أخبر عن ذلك الضمير بلفظ التثنية المطلق لا تقيد بشيء فالمحكوم عليه أعني المخبر عنه مطلق قابل للتقييد ، والمخبر به مطلق بعدم القبول للتقييد أي يقيد بالبقاء على الإطلاق ، وفرق بين المطلق لا يقيد وبين المطلق يقيد ، قلت : ونحوه ذكره ابن التلمساني شارح المعالم الفقهية في المسألة الخامسة من الباب الأول.

قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا).

قال أبو حيان : (أَنْ تَضِلُّوا) إما مفعول من أجله أي كراهة أن تضلوا ، قال ابن العربي : وفيها إشكال وهو أنه يلزم عليه الخلف في الخبر لاقتضائها أن بيان ذلك حسب وقوع الإضلال ، وقد نقل المفسرون أن عمر بن الخطاب جمع الصحابة رضوان الله عليهم ، ثم أرادوا أن يقضى في الكلالة ، فخرجت حبة فتفرقوا على غير شيء فقد وقع الضلال.

٧٨

ورده ابن عرفة بإعراب (أَنْ تَضِلُّوا) مفعولا به أي يبين لكم ضلالكم بين أعم وقوع الضلال منهم لعدم فهم الكلالة ، وقد وقع ذلك وهو اختلافهم فيها ، وأورد السهيلي أن الآية المتقدمة أول النساء وقع الإجماع فيها على أنها في الإخوة كلهم وهم لا يرثون إلا مع عدم الولد ، واكتفى بها بلفظ الكلالة عن النص على نفي الولد ، والوالد وهذه الآية اشترط فيها نفي الولد مع الأخت أيضا ترثه مع وجود البنت ، فهلا كان الأمر بالعكس ، ثم أجاب السهيلي بوجهين (١).

__________________

(١) انتهى الكلام في السورة ولم يذكر الوجهين.

٧٩

سورة العقود

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

قال ابن عرفة : كان بعضهم يقول : الوفاء هو الزيادة على الأمر الواجب [٢٦ / ١٣١] ، وهو الإتيان بالمطلوب وزيادة ، والمراد هنا : الإتيان بالقدر الواجب فقط ، والأمر للوجوب فكيف صح التكليف بإيجاب الزيادة عما كان التزمه ، وأجيب : بأن ذلك فيما يتعدى بغي فيقال : وفى الكيل ووفى الوزن ، وأما حيث يتعدى بالياء فإنما يراد به الإتيان بما كان التزمه فقط ، فيقال : وفى بدينه ووفى بعهده ، قلت : أو يجاب بأن ذلك وفى المشدد فهو المقتضي للزيادة لأجل المبالغة ، وأما المخفف فهلا قال : ويدخل في هذا جميع العقود والطلاق إن كان معلقا مثل : إن دخلت الدار فأنت طالق ، والوعد ؛ لأنه من العقود ، وكذلك بيع الخيار.

قال الزمخشري : والعقد العهد الموثق فشبه بعقد الحبل ، ونحوه قول الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

والعناج : حبل يربط في أسفل الدلو ، والكرب : حبل يربط على العرفين وهما عودان مصلبان في فم الدلو.

قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ).

قيل لابن عرفة : نقل بعضهم عن سيدي الشيخ الفقيه الصالح أبي محمد عبد الله المرجاني كان يقول : هنا فعل الطاعات سبب في تحليل الطيبات ، كما أن المعاصي والمخالفات سبب في تحريم المحرمات ، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [سورة النساء : ١٦٠] قالوا : فالعقود سبب في تحليل هذه الأشياء ، فقال ابن عرفة : إنما يصح هذا لو كان خيرا وليس كذلك ، بل هو أمر بالوفاء يحتمل الامتثال وعدمه ، وأكثر الناس عصاة لا يمتثلونه ، قلت : وذكرته لشيخنا أبي الحسن محمد بن أحمد المطرفي ، فقال : إنما سمعت أنا عن المرجاني أنه كان ما نصه قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ) بعد قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) تشديد وتشبيه على عدم المبالاة بالجاني في عقوبته على عدم الوفاء كأنه يقول : أما بهيمة الأنعام حلال لكم تسخرونها كيف شئتم وتعذبونها بالذبح والنحر متى شئتم من غير معصية منها لكم في أمر أو نهي ، ولا يسمون بقتلها جائرين ، وكل حكم فيها عدل ، فإن كان هذا وصفكم مع أملاككم التي ملكناها لكم فكيف وصفنا معكم ، وملكنا لهم بالاختراع لا بالتمليك ، و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإني لا أبالي بعقوبة من خان ولا بثواب من أوفى وأنتم لتمام ما

٨٠