تفسير ابن عرفة - ج ٢

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٥٣

جزاؤه لا الجزاء من حيث هو مثل ما إذا سألت عن قيام زيد فأنت سائل عن زيد القائم بالتضمن وهذه فائدة دقيقة فنأملها نصب أن إما الله تعالى قوله : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ابن عرفة : لما أتوا بالغا صار جواب الشرط ماضيا لفظا ومعنى لتحقق عندهم وأنكروا (أَخٌ) ليأتون مع الضمير بلام الاختصاص على جهة التبرئ منه والبعد عنه أي (أَخٌ لَهُ) فقط لاعتقادهم أنه يشاركه في السرقة التي يتم براءة منها قوله (فَأَسَرَّها) إضمار على شريطة التفسير ، وفسره قوله (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) الزمخشري : أسرها أبدل عام أظهرها واستبعده ابن عرفة لقوله : (وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ).

قوله تعالى : (خَلَصُوا نَجِيًّا).

أي نعت لقد رأي نومه (نَجِيًّا) أو يصدر فيتعارض فيه المجاز والإضمار ولابن عبيده شارح سيبويه أنه جمع نجيه فهو جمع الجمع.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ).

أضاف الأب إليهم دونه لا يساعد من الرجوع إليه أو لأنهم لم يحزنوا لحزنه.

قوله تعالى : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ).

أي فلن أفارق الأرض مفعول له ولأمر لأن الفعل لا يتعدى إلى ظرف المكان المختص إلا بواسطة في قوله : (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ) فأن ظاهره أنه جعل قسم الشيء قسما له لأن أذن الأب إنما هو بحكم الله ، وأجيب : بأن المراد أو حكم الله لي بغير ذلك.

قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها).

سؤال القرية إما حقيقة فيكون خرقا للعادة لأنه شيء وروده ، ابن عرفة : بأن الأمور الخفية لا تحتاج فيها لسؤال ما لا يعقل لإطلاعه على الغيوب بالوحي ، وإما أن يراد وسئل أهل القرية بنكرة سيبويه ، أو له كناية ، وقبل القرية اسم للجماعة ، ابن عرفة : فإن قلت : لم قدم سؤال الغير والمناسب العكس لأن الغير أقرب إليه وأهون وإنما يبدوا في الأمور لحين فالجواب : أن هذا أبعد عن التهمة إشارة إلى نعم السؤال فإنه إذا ابتدأ بالآباء قد يكون تنبيها منهم بأول مهلة على عدم الافتقار على من قدم معهم بخلاف ما لو بدءوا بالقادمين معهم فإنه قد يتوهم أنهم أرادوا الاقتصار على سؤالهم فقط.

قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).

٤٠١

ذكر ابن عصفور في الشرح الكبير عن الجمل أن هذه الآية مما يجوز فيها حذف المبتدأ وإثباته وحذف الخبر وإثباته ، قال : والتقدير فأمري صبر جميل أو فصبر جميلا مثل لي قال الخولاني : وهو خلاف ما قال ابن هشام في شرح الإيضاح وابن مالك فإنهما قالا لا خلاف أن المصدر المنصوب على إضمار الفعل المتروك إظهاره إذا ارتفع على الابتداء يجب حذف خبره ولو ارتفع على الخبر أوجب حذف مبتدأيه كقوله :

شكى إلي جملي طول السرا

صبرا جميلا فكلانا مبتلى

على رواية من رواه صبر جميل (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) إن قلت : كيف تأسف على يوسف وأن فيه مع تقادم عهده كان مضيا عنده [...] ، وأجاب ابن عرفة : بأنه عليه‌السلام كان يظن أن يوسف هلك حسبما ذكره الزمخشري أنه أي ملك الموت في النوم فسأله هل قبضت روح يوسف فقال لا وأخوه بنيامين قد أخبرني أنه محبوس وقالوا له : إن يوسف أكله الذئب وتأسف الإنسان على من مات وانقطع منه أشد من تأسفه على من هو حي محبوس يرجو رجوعه ويطمع فيه.

قوله تعالى : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ).

أن الحزن سبب في البكاء إذ البكاء سبب في الحزن ، البياض فهو من إقامة السبب مقام السبب.

قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً).

ابن عرفة القسم على الأمر المحقق جاز بلا خلاف واختلف في القسم على المظنون واختيار ابن الحاجب ، لأنه قال : ومن حلف على ما شك فيه فتبين علاقة [....] سلم ، قلت : والظاهر أن الظن كذلك وهو أنهم أقسموا على أمر مظنون أو لم يكن منه شيء لأنهم أقسموا على أنه لا يزال فيما يستقبل من الزمان يذكر يوسف حتى شارف الهلاك أو يهلك وهو لم يهلك بذلك ولا شارف الهلاك ، لأن حزنه هذا لم يق هذه إلا يسيرا واجتمع يوسف فإذا كان حزنه الماضي على طول زمانه وهو ثمانون سنة لم يهلك به ولا تشارف الهلاك فاحرى هذا ، قيل له : إنه اتصاف إلى ما حكى فصار كثيرا وإنضاف إليه حزنه على الأخوين الآخرين ، فقال : إنما المعتبر ما أقسموا عليه وهو يوسف.

قوله : (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أَوْ) مانعة الجمع فقط وأنسب مانعة الجمع والخلق.

٤٠٢

قوله تعالى : (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ).

انظر في آل عمران في قوله (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) [سورة آل عمران : ٥٢] قال الجوهري في الصحاح : وتحسست من الشيء أي تحرّيت خبره وحسست له أحسّ بالكسر أي رفعت له وحسست بالخير وأحست به أي تعقبته وقال زيد بن جدعان حين ارتد يوم الحمل اذهبوا في ثيابي ولا تحسوا عني أي لا [...] ابن عطية : تحسسوا أي استقصوا ويعربوا والتحسيس طالب التي [...] ، وقوله من يوسف متعلق بمحذوف يعمل فيه تحسسوا حقيقة من أمر يوسف ، أبو حيان : وفيه نظرة لم يبين وجة النظر ، فقال ابن عرفة : لعله يريد أن من إنها بي بمعنى عن لأن هذا إنما يتعدى باللام أو بمن قلت وهذا لا يصح لأن الجوهري قال في الصحاح وحسست عن الشيء تخبرت خبره.

قوله تعالى : (مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ).

إن قلت : قال في سورة الأنبياء (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة الأنبياء : ٨٣] فأكد أيوب شكواه بأن هؤلاء لم يؤكد وأن المناسب كان العكس لأن هؤلاء يخاطبون يوسف الذي لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وأيوب يشكو لحاله إلى الله تعالى العالم بخفيات الأمور ، فأجيب : بأن سبب الشكوى في أيوب أشد من سبب الشكوى في إخوة يوسف لكن لما ورد أن الدود أكل جميع بدنه حتى وصل إلى قلبه [...] الزمخشري قيل : أنها الجنة الخضر أريد الفسق ، وقيل : كانت هي المقل ، ابن عرفة ودهن المقل.

قوله تعالى : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ).

ابن عطية : يؤخذ عنه أن الكيل على البائع ولو كان على المبتاع لقالوا فاسمح لنا بالوفاء في الكيل ، وقال مالك : الكيل على البائع ، وقال فيما إذا قطع يد رجل أو رجله أنه ليس له أن يلي القصاص لنفسه بل تنبيهه من له .... (١) بذلك قال مالك : وجزاء ذلك النائب على المقتص له ومذهب غيره أنه المقتص فيه ، وحجة مالك : أنه بنفس الجنايات صارت اليد للمجني عليه وأجره قطعها عليه وحجة المخالف أن المجني عليه ، يقول للجاني اعطني يدا عوضا عن يدي ولا يمكن إعطاؤها إلا مقطوعة فبغى فيها حق التوفية وهو القطع ، ابن عرفة : فجعل مالك الجزاء [...] المالك على المقتص له ومذهب غيره الحق للمجني عليه فيها قبل القطع بدليل أنه في أوسط كتاب الديات

__________________

(١) طمس في المخطوطة.

٤٠٣

فمن قطع يد رجل أو فقأ عينه فقطع آخر عين القاطع إن قبل المجني عليه أن غيره من يفعل في القاطع [٤٢ / ٢٠٧] الجزاء أو نص في الخصوم بأحد الفعل في الخطأ فهذا يدل على أنه تعلق هذه بها قبل القطع.

قوله تعالى : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ).

قلت لابن عرفة : فرق بين الاستفهام ، أبو جعفر [...] هذا السؤال هل الهمزة في تفيد له محطة بأن هل لا يسئل هنا إلا الجاهل والهمزة يهملها من بين من لا يعلم ومن يعلم على سبيل التقرير والتوبيخ رده بقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [سورة الغاشية : ١] قال : إلا أن يريد أن (هل) الاستفهام من الهمزة لكثرة حروفها ، قلت : وقال صاحب الإسناد أبو العباس أحمد ابن القصار المعروف أن (هل) في الاستفهام بمنزلة قد في الخبر أعني إنها لا ينال بها إلا عن شيء متوقع ، وهذا قد تلخص للتوقع إذا دخلت إليها همزة الاستفهام وأنشدوا .......

سائل فوارس يربوع بشدّتنا

أهل روانا بسفح القاع ذي الأكم

قوله تعالى : (إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قدره الزمخشري : (إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) فأنت يوسف ، وابن عطية : إنك غير يوسف أو أنت يوسف.

قوله تعالى : (قالَ أَنَا يُوسُفُ).

احتج بها ابن مالك على أن العلم أعرف من المضمر لأن الخبر محل الفائدة إما يعرف الشيء بما هو أحل منه ، ابن عرفة إن أراد الإعراف قبل الإخبار علم وليس هو كذلك في الآية وأن أراد الإعراف بعد الإخبار فليس هو مراد النحويين بقولهم أن هذا الشيء أعرف من هذا الشيء لأن خبر المبتدأ عندهم لا يكون إلا مجهولا فلا يعتبر معلوما إلا بعد الإخبار.

قوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا).

ابن عرفة : إن قلت : لم أكدوا هذا بالقسم وهو أمر واقع محقق ، وأجاب : بأنه لما كانت فيه غرابة بوقوع الإخبار على خلاف ما كانوا يظنون ، أكده بالقسم والأثرة في الدنيا بالصبر على المنزلة ، وفي الآخرة بكثرة الثواب وحمله الفخر على الدنيا فقط ، وقوله (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) قال : والتفضيل نوعان فتفضيل يوجب الخزي للمفضول لتفضل المسلم الكافر وتفضيل لا يوجبه كتفضيل الأعلم على العالم فلما قالوا : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ) أي فضلك الله أجابهم يوسف بأن ذلك التفضيل لا يوجب لهم تحريما ولا نقيضه بل تم نزل منزلتهم شريفه.

٤٠٤

قوله تعالى : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ).

ابن عرفة : جعل خروج (الْعِيرُ) موجبا لوجدانه ريح يوسف ، وليس كذلك إنما الموجب خروجهم بالثوب فوجدان الريح من لوازم الخروج بالثوب لا من لوازم مطلق الخروج فلم عدل عن اللازم النسبي إلى اللازم الأعم ، قال : والجواب : أن ملك مبالغة في وجدان الريح لأنه إذا كان الموجب له مطلق الخروج للسيارة فأحرى أن يوجبه الخروج بالثوب ، فإن قلت : لم قال (لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) وهلا قال أثم ريح يوسف ، والجواب : قال فهو أبلغ لأن الوجد أن يكون بالقلب والتذكير ويرويا يوميه فهو أضعف من الشم ، قلت : جواب بوجهين : الأول : أن هذا من وجه أن المسألة إشارة إلى أنه وجد فسألته التي كاد يجب عليها ، والثاني : أنه تلطف في الإخبار بما يدل على مبادي الشم ولو صرح لهم بالشم لبالغوا في شدة الإحكام عليه وكان بعضهم يحكي عن سيدي أبي محمد عبد الله المرجاني أنه كان يقول : ما يدرك لعادات الصديق إلا صديق لا يعرف دلائل الولي الأولى لا يستلذ برائحه المسك كاستلذاذ الخضري بها والخضري العطار ضده أنفس مما هو عند غيره لعله بقدرها فيوسف وإن كان صديقا نبيا ، وأبوه يعقوب كذلك فلذلك أدرك مماثله وأما رآته ولم يذكرها أحد من أهله الذين معه لأنهم ليسوا بأنبياء إذ هم حفدته وقرابته وإما أساءوه فلم يحض حينئذ منهم أحد بل كانوا عند يوسف.

قوله تعالى : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ).

إنما قال جهدته والآية عد من قرابته وهم غير معصومين لأن النبي لا يتصف بالضلال ولا ببينة لا يجوز عليه وفيه دليل على أن هذا لما كان يقال للأنبياء من أهلهم وغيره لأنه أصيب في ولده بسببهم وهم مع ذلك ينكرون عليه حزنه.

قوله تعالى : (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ).

الزمخشري : طرح البشير القميص على وجه يعقوب أو الفاعل ويعقوب ، ابن عرفة : طرح أي ألقاه على وجهه بلين ورفق (أَلْقاهُ) أي وضعه على وجهه من بعد وكلاهما من قوى وقوله : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) لا يبعد أن يكون جواب قسم مقدر لأنه فهم عنهم الإنكار وقوله : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أن (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لما رأيتكم في ذلك الزمخشري : (لَوْ لا) تفنيدكم لصدقتموني ورده ابن عرفة : بأنه بمعنى الأول فلا فائدة فيه ، أبو حيان لو لا تفنيدكم لقلت لكم أجد ريح يوسف ، ورده ابن عرفة : بأنه قد قال ذلك قال ولهذا كانوا يفندون على الحريري في قوله في المقامة الدينارية :

٤٠٥

وحق مولى أبدعته خلقته

لو لا التقى لقلت جلّت قدرته

وقال : ذلك مما أحرز منه وقع فيه إلا أن يجاب بأن المراد لقلت جلت قدرته وعظمته معتقدا ذلك.

قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ).

إن قلت : خطابهم عام في الاستغفار والأصل تقديمه ، والجواب : أنه أخر قصد العموم والاستغفار من ذلك الذنب وغيره فلذا قالوا : (ذُنُوبَنا) ولو قدموا السبب لكان في ذلك الاستغفار مقصور على سببه ، فإن قلت : يوسف دعا بالمغفرة في الحال ، فقال يغفر الله لكم ويعقوب ومدهم بالدعاء بها فقال : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) فما السر في ذلك؟ فالجواب : أن يوسف لشدة ما فعلوا به مع ما [...] له لأن من الملك [...] أن يقع عندهم منه هلع وجوب أن هو وعدهم بالمغفرة ولم يخبرهم ذلك لهم في الحال فلذلك (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) وأما يعقوب فهو من أمره في أمن ومعاتبة فإن قلت : هلا قال (أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ) ربما فهو أقرب لإيقاع الأمن والطمأنينة لهم ، قلنا : أضافه إلى نفسه لاختصاصه حينئذ بفرصة منه حيث جمع عليه [...] ، فإن قلت : حذفه من الجملة الأولى ما ذكر في الثانية وهو المفعول الأول لاستغفر ، ومن الثانية ما ذكر في الأولى وهو المفعول الثاني لاستغفر فالأصل استغفر لنا ربنا ذنوبنا (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ذنوبكم فما السر في ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

إن قلت : الرحمة سبب المغفرة لأنه إذا أحس له ورق عليه ستره والأصل تقديم السبب ، والجواب من وجهين : أنه قدم الاهتمام تقديم المغفرة وأما التذكر الرحمة مرتين أولا باللزوم وثانيا بالمطابقة ، قال ابن العربي في رحلته بل في قانون التأويل بل سمعت بعض الزهاد يقول : إن الله رد على موسى أمه في لحظة ، ورده يوسف على يعقوب في مدة طويلة قال فيه سبعة أوجه من الحكمة ، الأول : أن أم موسى كانت ضعيفة لأنها أنثى وكان يعقوب قويا لأنه ذكر ، الثاني : رمي موسى كان من الله ، وذهاب يوسف كان من الناس لأنه استحفظه إخوته فخانوا فيه فأدب لأن لا يستحفظ أحد غير الله ، الثالث : أن أم موسى وثقت بوعد الله ، ويعقوب بقي يرجى شفقة الإخوة ، الرابع : أن أم موسى وعدها الله بإنجازه وعده ، ويعقوب لم يكن له من الله وعد ، الخامس : أن موسى رمي صغيرا فسبب إليه كفيلا ، السادس أن يوسف لو قال حين أخرج من الجب أنا حر وابن نبي وهؤلاء إخوتي وهذه قريتي لما اشتروه ولكنه

٤٠٦

استسلم فأسلمه الله تعالى إلى الحكمة ، السابع : أن إخوة يوسف قال (اطْرَحُوهُ أَرْضاً) والأرض أم إلا رمي ومفره فلم يق بمضيعه ، وموسى رمي في البحر فلم يكن له به من هلكته أو نجاة فكانت النجاة السابقة في علم الله.

قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ).

ابن عرفة قال : أولا فلما دخلوا عليه فأضمره لتقدم ذكر يوسف بالقرب وهنا لما بعد ذكره ووقع الفصل ليعقوب أظهره ، وأيضا فإن يعقوب هنا أول ما دخل عليه خلاف الأول فإن الأوفى تكرر دخولهم عليه ، ابن عرفة : وكان بعضهم يقول إذا قلت : لما قام زيد قام عمرو يكون نصا في أن الأول سببا في الثاني ، وإذا قلت : قام زيد فقام عمرو وقد يكون الأول سببا وقد لا يكون والدخول ليس سبب حسي.

قوله تعالى : (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ).

يحتمل أن يريد مجرد الدخول فقط أو الدخول السكنى والإنابه وصيغة افعل هنا للإكرام والمشتبه للترك.

قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً).

ولم يقل ساجدين لأن إخوته [٤٢ / ٢٠٨] أحد عشر مع أبويه فلذلك غير مجمع الكثرة.

قوله تعالى : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ).

أي هذا مدلول تأويلها ، قالوا : والمجرور متعلق برؤيا ، وقيل : تأويل ابن عرفة معلقة بتأويل بني على صحة أن الرؤيا كانت قبل التأويل بهذا ولم يرد في ذلك حتى صحح.

قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي).

الإحسان أكثر من الإنعام لأنه مشتق من الحسن فالشكرية أقوى ، فإن قلت : فهلا قال في الفاتحة صراط الذين أحسنت إليهم لأنه دعا ، وإنما يدعو الإنسان بالوصف [...] ، قلنا : الأنعام هناك قدر مشترك بين [...] المسلمين والطائعين منهم وأتى فيه بالمعنى الأعم الذي اشتركوا فيه بخلاف الإحسان فإنه لم يحصل لجميعهم وهو المفسر في الحديث بقوله" أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" ، قيل لابن عرفة : دلالة في أنهم ما خروا له سجدا إلا بعد دخولهم مصر ، ولم يسجدوا له عند أول [...]

٤٠٧

فإنهم له مع أنهم كانت تحيتهم السجود ، فقال : لأنه خرج هو وفرعون مصرا عن ملكها فأخروا السجود حتى انفردوا بيوسف وحده.

قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).

قال الفخر : احتج بها المعتزلة على أن الشر ليس مخلوقا لله ولا أراده ، وأجيب : بأن إسناده للشيطان تأدب منه وعلى مذهب الأشعري القائل بالكسب كما نقول قتل زيد عمرا وأفاد ذلك من فعل الله ، ابن عرفة : وفي هذا احتراس روعي منه لحجته إخوته ويحتمل أن يقول بكون قوله من السجن توريه وإيماء للجب لصدقه على السجن الحقيقي بالمطابقة وعلى الجب مجازا.

قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ).

ابن عرفة : إن قلت لم ذكر متعلق لعلم ولم يذكر متعلق الملك ، فالجواب : إن الملك كله في نفسه شريف فلذلك لم يحتج أن يقول رب قد آتيتني ملك مصر والعلم منه الشريف والساقط فلذلك ذكر متعلقه ، فإن قلت : لم قدم الملك على العلم ، والأولى العكس لوجهين أحدهما : أن العلم أشرف لأن الملك أمر دنيوي والعلم موصل إلى الآخرة ، الثاني : أن العلم سبب في ذلك لأنه به حصل له الملك وهو تأويله لرؤيا الملك ، فالجواب : أنه قصد في الآية التي في ذكر الأوصاف النسبية في محل الشكر أو قدم الملك لأنه نعمة ظاهرة لجميع الخلق ، والعلم بتأويل الأحاديث نعمة خفية لم تظهر إلا لبعضهم ، إن قلت : لم ذكر هاتين النعمتين في وصف الشكر وترك النعمة العظمى ، وهي النبوة وهي أولى بأن يذكرها ويشكر عنها ، فالجواب : إنه في مقام النأي به والتعليم لغيره فذكر النعمة التي شارك فيها غيره ليقتدي به من حصل له شيء منها يشكر عليه ، وأما النبوة فصاحبها معصوم لا يحتاج تنبيهه للشكر عليه بوجه.

قوله تعالى : (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

أي مبتدعها ، قال ابن عباس : ما كنت أعرف ما معنى (فاطِرَ) حتى اختصم إلي أعرابيان في بير فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتداتها.

قوله تعالى : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً).

قيل لابن عرفة : فيه سؤالان الأول الشيء معصوم [.....] على الإسلام وهلا دعا بأن على النبوة فأجاب بوجهين : أحدهما أن الدعاء يكون لوجهين إما لتحصيل المطلوب وأما لإظهار التذلل والخضوع ، وذلك فيما هو محقق الوقوع عند الداعي الثاني أن هذا على سبيل التعليم لغيره ، كما قال : قل ما سواكم ربي لو لا دعاؤكم وأن

٤٠٨

الإنسان لا يركن إلى الواقع بل يدعو ما استطاع ، السؤال الثاني أن الإيمان أخص من الإسلام (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [سورة الحجرات : ١٤] ، ولحديث ابن عمر" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله أنه ، وتقم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت ، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وتؤمن بالقدر خيره وشره فمن حصل الإيمان حصل الإسلام" بخلاف العكس ألا ترى أن القدرية ليسوا بمؤمنين مع أن بعضهم يظهر له من التقشف والعبادة ما لم يظهر على بعض المؤمنين ، فقال ابن عرفة : أما الآية فإنما ذلك فيها باعتبار الظاهر فالأعراب ظهر منهم الاقتفاء بالنبي وذلك هم الإسلام ، وكذبوا في قولهم آمنا وانظر حديث أبي موسى وبلال في الأعرابي القائل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم" ألا تنجز لي ما وعدتني به فقال له : أبشر فقال له : أكثرت علي من أبشر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي موسى وبلال : إن هذا قد رد البشرى فاقبلا فقالا : نعم ثم توضأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفل في لحيته ووضوئه وقال لهما أفرغا منه على وجوهكما وأيديكما وبشرهما ، بالجنة" أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، وكذلك الأعرابي الذي جذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برواية بشدة حتى أثر في عنقه وطلب منه أن يعطيه ابن عرفة : وأما الحديث فالإسلام أخص ولا سيما على مذهب أهل السنة القائلين بأن المعاصي في المشيئة وأنه مؤمن مع وجود أنه تارك للصلاة والزكاة فليس بمسلم ، والمعنى أنهم يقولون أنه كافر فترى الإسلام عنده أخص لا يصدق إلا على الطائع فما طلب يوسف إلا الأخص.

قوله تعالى : (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ).

قال الزمخشري : هذا تهكم بهم ، ابن عرفة أراد أنه ما يقال ما كنت تدري قيام زيد ، وما كنت تعرف الفقه إلا لمن يظن به علم ذلك والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا طريق له إلى معرفة ذلك إلا من الوحي فإتيانه بالقصة على الوجه الأكمل الصحيح من أدل دليل على صدقه فالمخالف فيه مخالف للضرورة.

قوله تعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).

هذا تمهيد عذر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قد يتوهم أن عدم إيمانهم سبب تقصير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التبليغ لهم لأن الملك إذا أمر حاجبه أن يبلغ أمرا إلى الرعية فيسر لهم أسباب القبول فلم يمتثلوا لقربهم منه في التقصير.

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ).

٤٠٩

أي بالتمكن لا بالفعل بمعنى أنهم متمكنون من النظر في هذه الآيات فلو نظروا وتأملوا لتذكروا بالفعل فآمنوا.

قوله تعالى : (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قرئ والأرض بالرفع على الابتداء وخبره يمترون عليها فعلى الرفع يكون في الآية الحذف من الأول لدلالة الثاني ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعلمونها أو يرونها ، والأرض يمرون عليها.

قوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا).

ابن عرفة : إن قلت : كلما ورد فعلى هذا مصدرا بكلمة قل مثل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [سورة الإخلاص : ١] ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [سورة الفلق : ١] هل أمر به بتبليغ الضمير القول والمقول له فيقرا عليهم الآية بكمالها ، ويصير كأنه يقول لهم : قيل لي (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) ، أو قل هذه سبيل ، أو أمر بتبليغ المقول له فقط فيقرأ عليهم الآية ويحذف منها كلمة (قُلْ) ، فالجواب : إن القرآن كله هو مأمور تبليغه فما نزلت معه كلمة (قُلْ) أمر بتبليغ القول والمقول له وما لم ينزل معه كلمة (قُلْ) أمر فيه بتبليغ المقول له فقط والسبب في ذلك أنه إن فهم من الحاضرين الامتثال بأمره لم يحتج إلى التصريح بأنه أمر بأن يترك لهم ذلك وإن فهم عنهم عدم الركون إلى مجرد قوله أسند ذلك لمرسله ، وعينه ولأنه إنما أمر يحكي ذلك عنهم لهم ، ابن عرفة :

والإشارة إلى القصة أو الحالة والظاهر أن (سَبِيلِي) مبتدأ وهو خبر لأنه أعرب ولأن المبتدأ منحصر في الخبر وقد فرق القرافي وغيره بين زيد صديقي وصديقي زيد ، فالخبر لا بد أن يكون أعم من المبتدأ وذكر ابن هشام في شرح الإيضاح في قوله (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) [سورة الأنفال : ١٤] فالمراد الإخبار بأنه ليس سبيله إلا هذه وليس المراد الإخبار بأنه ليست هذه إلا سبيله لأنها سبيل غيره من الأنبياء ونقل بعض الطلبة : [...] شارح البرهان أنكر التفريق بين زيد صديقي ، وصديقي زيد ، وقال : لم يرد ذلك عن العرب ولا عن النحويين ، ورده ابن عرفة [...] من أن الخبر لا بد أن يكون أعم من المبتدأ.

قوله تعالى : (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).

حكى الزمخشري في (أَنَا) ثلاثة أوجه : أحدهما : قال (أَنَا) تأكيد الضمير في أدعوا (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) معطوف عليه ، قلت لابن عرفة : هذا لا يصح لأن الهمزة للمتكلم وحده وحرف العطف مشترك في الإعراب والمعنى ، فقال لي أنت إذا تمنع أن

٤١٠

تجوز أقوم أنا وزيد ، قلت له نعم ، ومن قال بجوازه ما أظن أنه يجوز أصلا للتناقص ، فقال لي لا يخالف أحد في أن ذلك جائز وإنما الذي قاله الزمخشري بعيد من ناحية أن يخرج عن التمثلة في الإيمان لأنه ليس على بصيره.

قوله تعالى : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

انظر هل فيه تعريض لكفار قريش هذا بناء على أن المراد بقوله (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أهل الكتاب وأما ما إن قلنا : إن المراد به مشركوا مكة فلا حاجة للتعريض هنا لأنه قد تقدم التنصيص على شركهم.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ).

أفادت من أول أزمنة القبلية فهي أبلغ من قيل قبلك.

قوله تعالى : (إِلَّا رِجالاً).

احتج بها المعتزلة بمذهبهم في إنكار نبوة النساء عقلا ونحن نجوزها لو لا أن الشرع لم يرد بها. [٤٣ / ٢٠٩] وأجاب أصحابنا بأنه نفيت في الآية الرسالة ولا خلاف أن النساء ليست فيهن رسولة المقصود من الرسالة التبليغ إلى الناس وليس ذلك في شأن النساء. قوله : (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) قال ابن عطية : إن يعقوب لم يكن ساكنا بالبادية أعني بيت العمود وهي بيت الشعر ، وإنما كان ساكنا بقرية من قرى الشام وهي بادية بالنسبة إلى أرض مصر لكن مصر جدا ابن عرفة ذكره معاذ بن جبل الغزي ، وقال : أنه يستفيق من صلاة العشاء الآخرة ، وابن رشد يريد في جماعة لأن الحاضرة فيها المستأجر يجتمع فيها الناس ، وقال بعض المصريين : إن يعقوب عليه‌السلام كان من أهل العمور فيرد الإشكال في الآية ، لكن يجاب : بأن الصواب أن يعقوب لم يثبت أنه كان رسولا وإنما الثابت أنه كان نبيا.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ).

ابن عرفة : كان بعضهم يقول يحتمل أن يراد به السير في الأمكنة أو في الأزمنة ففي الأمكنة هو السير في الأرض حقيقة وقطع مفاوزها للتفكر والاعتبار ، وفي الأزمنة هو أن ينظر في الكتب أخبار الأمم السابقة وما جرى لهم.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ).

٤١١

قال ابن عرفة : ذكر ابن خروف في شرح سيبويه أنه حتى التي هي حرف ابتداء لا يلزمها الغاية ولا يحتاج إلى ما تكلفه المفسرون من أن التقدير هنا يوحي إليهم فتراخى نصرهم (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ).

قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا).

أي نسبوا في قولهم إلى الكذب وقرئ بالتخفيف فيبكي للفاعل والمفعول فعلى قراءة التشديد الظن إما على بابه لأن الرسل لما أخبروا المؤمنين بالنصر على الكفار في المستقبل وطال ذلك ارتابوا فظن الرسل أنهم قد كذبوا ولم يصدر منهم تكذيب حقيقة لأنهم مؤمنون.

قوله تعالى : (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

ابن عرفة : إن قلت هلا اسند الإنجاء لعموم المؤمنين كما نفى رد البأس من عموم المجرمين فكان يقال : فالجواب أنه إشارة إلى قول أهل السنة من أنه لا ينجينا من الله شيء وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فننحي من نشاء بجانبه بعد آتيه إلى الإيمان ولا يرد بأسنا عمن أتصف بالإجرام الثابت الدائم عليه اللازم إلى الخاتمة فلذلك عبر عنه بالاسم وذكر ابن عطية في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) ما لا ينبغي أن يقال على رءوس العوام ولا على غيرهم فمن أراد فلينظر فيه.

قوله تعالى : (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

ابن عرفة : يحتمل أن يريد غيره بالفعل أو بالإمكان والقوة وإن كانت بالفعل والمراد (عِبْرَةٌ) كما لأولي العقول النافعة ولا يلزم عليه الحلف في الأخير لأنه لو اتعظ به جميعهم واعتبروا لآمنوا كلهم فإن كان المراد أنه بحيث يعتبروا به من عامله ونظر فيه فيكون المراد به جميع أولي الألباب والحقيقة ثابتة لهم لكنهم لم يحصل لجميعهم الاعتبار بالفعل وأشار الفخر إلى هذا.

قوله تعالى : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

هذا تأكيد المدح بما يشبه الذم مثل :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

الزمخشري : (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي الذي قبله من الكتب السماوية ، وقال ابن عطية : في قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) [سورة الأنعام : ٩٢] يحتمل أنه يراد بما بين يديه المستقبل باعتبار يوم القيامة.

٤١٢

سورة الرعد

قوله تعالى : (المر) نقل الفخر عن ابن عباس : أنها عبادة عن إن الله القوي الرحمن الرحيم أرى ، يقول ابن عطية : إنها عبارة عن أنا أعلم وأرى فالهمزة في أنا واللام في الله والميم في أعلم والراء في أرى فعلى هذه (المر) أسم لتلك الجملة والإعراب هنا على قول غيره بكون (المر) مبتدأ وخبره تلك آيات والرابط الإشارة لأن (المر) اسم هذه السورة كلها.

قوله تعالى : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ).

ابن عرفة : إن قلت : إلى لأنها الغاية ومن لابتدائها فالأصل تقديم المجرور بمن لأن الابتداء متقدم على الانتهاء ، فأجابه الطلبة : بأن التقديم للاهتمام به وإن النزول إنما هو بسببه ومن أجله وإليه ، ورده ابن عرفة : بأن هذا صير هنا لأن البداية باسم الله تعالى أولى وأهم ، قال وإنما الجواب : أن المتقدم على ستة أنواع أحدها للتقدم بالشرف وعندنا قاعدة أخرى وهي أن الوجود أشرف من العدم ولا شك من الشيء النزل هو أبعد الإنزال معدوم من محل الابتداء الإنزال وموجودة وفي عمل انتهائه فلهذا قدم لأنه أشرف لوجود المنزلة وقد قال له إن القرآن لم ينزل في اللوح المحفوظ وأما الكلام القديم الأزل فيستحل فيه النزول لأنه ليس بصوت ولا حرف وتلك الأحرف والأصوات المنزلة انعدمت بلا شك من اللوح المحفوظ ووجدت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما بقي في اللوح المحفوظ الكلام بما يلغي ولو بقيت هي بنفسها لما صدق فيها أنها نزلت ، وسئل ابن عرفة : عن جمع الصحابة لآية النور هل كان باجتهاد منهم ، فقال : لا إنما هو توقيف حفظوه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجتمعوا وجمعوه ووضعوا كل آية في محلها كيف سمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو لا أنه توقيف لما كان قوله مده آيتان أبغير قوله (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [سورة هود : ١٤] ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) [سورة البقرة : ٢٨٢] كلها آية.

قوله تعالى : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ).

استدل به ابن عبد السلام على أن السماء بسيطة إذ لو كانت كروية لما احتج المد بها ، قوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ) لأن الكورة مرفوعة بغير عمد إذ يعتمد بعضها على بعض ، ابن عرفة : وهذا لا حجة فيه لأن الثاني : هنا لا يعرفون ولا يقطعون بكونها كروية أو بسيطة إنما يصح هذا لو كانوا يقطعون بأحد الأمرين ، فيقال لهم : (بِغَيْرِ عَمَدٍ) ليفهم كمال القدرة واختلفوا هل للسماء أعمدة أم لا؟ فقيل : لها وهو جبل قاف وهذا القائل

٤١٣

يجعل الضمير بها عائد على العمد فيكون المعنى أنها مرفوعة بعمد غير مرئية وهذا لا يصح والصواب مذهب الجمهور الظاهر كقوله : (بِغَيْرِ عَمَدٍ) والضمير عائد على السماوات.

قوله تعالى : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي).

انظر سورة (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [سورة نوح : ١] أو قال الفخر هنا مجاري القمر ثمانية وعشرون لأنه يقطع الفلك في شهر ومجاري الشمس بمائة وثمانون لأنه يقطع الفلك في سنة. ابن عرفة وجهه أن السنة ثلاثمائة وستون يوما ونصفها مائة وثمانون فهو في نصف السنة سيقطع ستة بروج صاعدا أو طابق يغشى في ظل تلك البروج فما يجاريها في الحقيقة إلا ستة بروج ، قلت : وتمشي كل يوم درجا وكذا هو في حجرة الاستطراب مطابقة ومقاربة مائة وثمانون درجة ، قلت : ومن العجل به ذكر العشرون وغيرهم أن بعض الأقاليم الستة عندهم ستة أشهر منها فضاء خالص ، ومنها ستة أشهر ليل خالص وهذا مذكور في علم الهيئة ، قال الشيخ عبد الخالق المنجم : وجهه أن الشمس إذا طلعت على أفقهم تدور به أول يوم ثم ترتفع في محل طلوعها درجة وتدور به وفي اليوم الثالث ترتفع درجة أخرى وتدور بهم ولا تزال ترتفع ثلاثة أشهر فإذا انتهت إلى حدها رجعت هابطة كل يوم درجة وتدور بالفلك حتى تنتهي إلى أفقهم عند انتفاء ستة أشهر ثم تحط درجة أخرى عن الفهم فيظهر الظلام ولا تزال تحط حتى ينتهي إلى حدها دون ثلاثة أشهر أخر ثم تأخذ في الصعود حتى تصل إلى أفقهم عند انقضاء ستة أشهر ، قال : وهذا في موضع يقال له الجزء الخالدات يكون أشد القطبين إما الشمالي أو الجنوبي على حسب رؤوسهم أعني في وسط السماء عندهم والقطب الآخر وبه الأرض فيكون نهارهم ستة أشهر وليلهم كذلك وثم [...] والزوال عندهم ذا عقب الآخر وبعد ارتفاع الشمس عن أفقهم درجة واحدة وآخرون رأوا لهم عندها محاذاتها للأفق وذلك بحسب اختلاف [...] لأنا إذا أخذنا [...] عرضه سنة وستون درجة وأسقطنا عرضه من ارتفاع وإلى الحمل بقي سبعة أربعة وعشرون وهي مثل الميل سواء فهذا الباب الزوال فيه عند محاذات الشمس الأفق فإن كان عرض البلد خمسة وستون فأسقطه يبقي خمسة وعشرون اسقط منها الميل بقي درج واحد وهو ارتفاع زوال ذلك البلد [.....] الليل عندهم ثلث ساعه وهذه البلاد كلها قرية من [...] الظلمات في الجنوب شديدة البرد جدا أو لا يعمرها أحد ، قال عبد الخالق : وكنت أسمع من الشيوخ إن في الأرض خمسة أقوال قيل : كروية وقيل : بسيطة وقيل : إنها تشبه مكعب وقيل : منزلة حملة السيف الذي تقلد به وإنها تشبه حلقه محيطة [٤٣ /

٤١٤

٢١٠] بهذا العالم كاحاطة الجملة من يقلد بالسيف ، وقيل : إنها سنة ممكنة ومن أجل ذلك وضعوا الاسطرلاب الحوتي الجنوبي ، قال : والصحيح عندهم إنها كورية وإن السماء كورية.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ).

أي بسطها ، ابن عرفة : استدل بعضعم بهذا على أن الأرض بسيطة ولا دليل له في ذلك لأن أقليدس الهندي قال : إن الكرة الحقيقة لا يكون إقامة الزوايا والخطوط عليها بوجه ونحن نجد الأرض يقام عليها الخطوط وغير ذلك وتراها مستوية وذلك من أول دليل على إنها وإن كانت كورية فإنها ليست كالكورية الحقيقية بل أعلاها مستو كبعض الكور التي تكون مسطحها مستويا.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) [سورة المرسلات : ٢٧] قلت لابن عرفة : ما الحكمة في الرواسي مع أن جعل الأرض وحدها من غير رواسي أبلغ في كمال قدرة الله تعالى لأنه ربما يتوهم المتوهم أن ثباتها لأجل الرواسي ولو كانت دونها لمالت بأهلها ولو ثبتت فقال : أو [.....] وهو أن [...] في غاية الثقل والأرض معها وهما في الفضاء يحملها نور على ظهر حوت تحملها معا أبلغ في كمال القدرة.

قوله تعالى : (وَأَنْهاراً).

قيل لابن عرفة : لم جمع الأنهار جمع قلة والرواسي جمع كثرة مع أن الأنهار فيما نشاهد أكثر من الرواسي ، فأجيب : إما بأنها لم يسمع فيها إلا جمع القلة وإما إشارة إلى أن أنهار الدنيا على كثرتها بالنسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة تافهة لأنه قادر على خلق أضعاف أضعافها.

قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ).

قيل : إنه معطوف على قوله : (رَواسِيَ) فيكون متعلقها يجعل الأول ، وقيل : إنه متعلق بجعل الثاني ، ورده ابن عرفة : بأن فيه الفصل بين المعطوف وحرف العطف ، قال ابن عصفور في شرحه الكبير : ما نصه ولا يجوز الفصل بين حرف العطف والمعطوف إلا بالقسم أو بالظرفية أو الجار والمجرور بشرط أن يكون حرف العطف على أزيد من حرف واحد وجعل هنا معطوف على جعل الأول يفصل بين الواو وفيه بالمجرور ، قلت لابن عرفة : هذا جيدا لأن يجاب بأنه من عطف الجمل فيكون تأسيسا.

٤١٥

قوله تعالى : (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).

قيل : ذكر وأنثى واستبعده ابن عرفة وقال : لا تجده في الأشجار إلا في النخل والزيتون والتين وأما العنب وغيره فليس فيه ذكر والصحيح أن المراد بالزوجين نوعين.

قال الزمخشري : كالأبيض والأسود ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير فإنها في أصلها زوجين ثم تفرعت فصارت أزواجا.

قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ).

أي يليه مكانه فيصير أسود مظلما كما كان أبيض مشرقا ابن عرفة : والأول فاعل في المعنى وهو على إضمار فعل أي ويغشى النهار الليل ، قلت لابن عرفة : ويحتمل أن يراد في الآية الزمان الذي بين الفجر وطلوع الشمس على القول بأنه من النهار فهو إشارة إلى أن الليل يخالط النهار في ذلك الزمان باعتبار النزع وفي الآية باعتبار النعمة.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ).

انظر هل هذا تقديري أو هو إن إذا لا تدخل إلا على المحقق الوقوع وإن تدخل على المشكوك فيه والتعجب من هؤلاء محقق وقوعه لأنهم أنكروا البعث وخالفوا مع علمهم أن الله خلقهم وأوجدهم ومن أوجد المخلوقات من عدم فهو قادر على إعادتها ، قال : وعادتهم يجيبون بأن التعجب إنما يكون مما خفي سببه كلا فلا يتعجب إلا خفي عليه السبب والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم بأن ذلك الواقع منهم إرادة الله وقدرته عليهم فهو في خاصيته لا يعجب منهم فضلا عن أن يكون تعجبه منهم مخففا بدليل قوله تعالى : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [سورة هود : ٧٣] ، وقوله تعالى : (فَعَجَبٌ) قال ابو حيان : أنه ... وخبره كونهم (أَإِذا) الثاني أن محل الفائدة في عجب لأنه المجهول و (قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً) هو الملعوم.

قوله تعالى : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

يحتمل أن يريد بالجديد ما يلحقه عدم ويحتمل أن يريد ما لم يسبق بوجود وهذا هو الأظهر لأجل لغتهم فهم يجعلون الإعادة كأنها خلق آخر لم يسبق بوجود السنة فلذلك فهو هنا ومذهب أهل السنة أن الإعادة ممكنة عقلا واقعة سمعا وهلا تعاد الأجسام متحيزا أو قائما بالمتحيز فالأولى إن كانت متحيزة فهي أجسام وإن لم تكن متحيزة فلا تشغل نفسها ولا بد لها من أجسام تحل منها فلا [...] إعادة الأجسام خلافا [...] وغيرهم.

٤١٦

وقوله : (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) قال ابن عطية : (وَزَرْعٌ) معطوفة على أعناب ، قال أبو حيان والنخيل صنوان وغير صنوان يتبع من عطفه على أعناب ، قال ابن عرفة : وهذا لا يصح لأنه لا يجوز أن يقول مررت بزيد وعمرو والعاقل ، قال أبو حيان : وإنما يكون حفظا على الجواز ، ورده ابن عرفة ثلاثة أوجه الأول : أن التبعية على الجواز إنما وردت في الخفض ولم نره في الرفع إلا قليلا ، حكى المبرد منها [.....] في شرحه بها ، قال في ميت منها أنه رفع على الجواز. الثاني : أن الخفض على الجواز لا يجوز إلا قليلا وهو مع الواو كل [...] قلت : [...] ابن رشد في المقدمات قوله (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [سورة المائدة : ٢] وقوله : (شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) [سورة الرحمن : ٣٥] حفظا على الجواب.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ).

أي كفروا بحمد الخاصة والعامة وهذا دليل على أن منكر البعث كافر ، ابن عرفة : واشتملت الآية على اللفظ العام والإيهام ثم التفسير لأن قوله : (أُولئِكَ) لا يدل في أعناقهم تفسير للعذاب النازل بهم وهذا من باب ذكر السبب عقب سببه لأن الكفر سبب في غل الأعناق فهلا عطف الفاء المتقضية للسبب والتزامه ، قال والجواب : أن السبب على ثلاثة أنواع ظاهر وخفي ومتوسط وإنما يحتاج إلى الفاء في المتوسط والخفي وأما هذا فظاهر كونه سببا فيما بعده فلا يحتاج في عقد إلى ما بين كونه سببا ، ابن عرفة : والآية عندي من باب القلب والأصل فيها أولئك أعناقهم في الأغلال لأن الأغلال محيطة بأعناقهم كإحاطة الظرف بالمظروف فأعناقهم هي المظروف وقد قالوا إن القلب لا يجوز إلا في العموم ، فإن قيل : في الكلام ، قلت له : قد جعلوا منه مأمن مفاتحه أسوا بالمعصية أولي القوة ، قال : وانظر هل هذا إلا على التوزيع أي كل واحد في عنقه أغلال ، قلت : إن في سورة الحاقة (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) [سورة الحاقة : ٣٢] فدل أنه على التوزيع لكل واحد على آخر فأجابه بأن ذلك في رؤسائهم وقد تقوم مقام سلاسل مقدرة في عنق كل واحد من رؤسائهم حتى لا يظهر منه شيء.

قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قال ابن مالك : إن الجملتين إن كانتا متقاربتين عطفتا وإن كانت الثانية مفسرة للأولى لم يحتج إلى حرف العطف ، فقولهم : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) تفسير لقوله : (أَصْحابُ النَّارِ) وتأكيد هو في موضع الحال ، وقال ابن رشد : في المقدمات في قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [سورة التوبة : ٦١]

٤١٧

فإنما عطفها وإن كانت الثانية مفسرة للأولى لم يحتج إلى حرف العطف ، وقولهم (هُمْ فِيها خالِدُونَ) قال ابن مالك : إن الجملتين إن كانت متقاربتين عطفا وإن كانت الثانية مفسرة للأولى لم يحتج إلى حرف العطف فقوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) تفسير لقوله (أَصْحابُ النَّارِ) أو تأكيدا على سبيل التشنيع عليهم وإن هذه المقالة لغرابتها صارت كأنها مقالة أخرى مغايرة لإذايتهم النبي فكذلك عطفه ، قيل لابن عرفة : ابن عصفور قال في شرح مقربه من أول باب الفاعل لما ذكر أن قوله (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [سورة يوسف : ٣٥] قال وقد تعطف الجملة المفسرة نحو قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران : ٥٩] قال قوله (كُنْ) تفسيرها لما قبله.

قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ).

ابن عرفة : انظر هل المراد أنهم طلبوا السيئة فقط ، قلت : تقدم السيئة على مثل هذا في قوله تعالى : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) [سورة الأحزاب : ٤٩] وهي إنك إذا قلت جاء زيد قبل عمرو فإنما دل على تقدم مجيء زيد ويحتمل أن عمرو جاء بعده أو معه ولم يجيء بدليل قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [سورة الكهف : ١٠٩] لأن تمام الكلمات محال ووقوع السبب بعد الطلاق منفي بالإجماع وكان بعضهم [...] على البراذعي في قوله في التهذيب ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل فإن أخره بعده بجزاء لأن الأصل في المدونة فإن الغسل قبل وضوئه أجزأه فكان يقول يقتضي لفظ المدونة لأن ذلك الغسل أجزأه ، قال ثم يتوضأ لأن الغسل.] ٤٣ / ٢١١] يقوم مقام الوضوء بالإجماع لحديث" وأي وضوء أعم من الغسل" قلت له : الظاهر أنهم طلبوا السيئة فقط لأن الحسنة بعدها ما تأتيهم إلا وقد هلكوا ، فقال يحتمل أن يهلكوا من غير استئصال.

قوله تعالى : (خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ).

أي مضت من قبلهم قرون وقع لها من العذاب ما صيرها يضرب بها المثل لغيرها.

قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ).

قيل : المغفرة تأخير ذلهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، ابن عرفة : ويحتمل أن يزاد من علم الله أنه يؤمن بأن يغفر له حالة ظلمه ، وقال الغزنوي : إن هذه المنسوخ ، ورده ابن عرفة : بأنه خبر والأخبار لا ينسخ ، ونقل عن القاضي ابن عبد السلام أنه كان

٤١٨

يقول إن هذه الآية تدل على ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء لقوله : (لَذُو مَغْفِرَةٍ) وهو للتقليل ، ابن عرفة : إنما أخذه من كون المغفرة مصدر محذوف بالياء الدالة على الوحدة والعقاب مصدر منهم يقع على القليل والكثرة ، قال وإن ربك لغفار للناس لأفاد المبالغة ، قلت : وهو لابن عطية لأنه قال ما نصه والظاهر في معنى المغفرة هنا أنما ستره وأمها له لا غفره إلا ويبان الستر في لفظ المغفرة وإنها منكرة مقللة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) [سورة طه : ٨٢] قلت وذكر الزمخشري : في سورة فاطر في قوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) [سورة غافر : ٦١] إذا قال : (ذو) أدلّ على عظم فضله وكثرته ، ونحوه لأبن الخطيب في سورة الإسراء في قوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) [سورة الإسراء : ٢٦] ونحوه للقاضي عياض في الإكمال في قصة سعد بن أبي وقاص في الوصية حيث قال : قد بلغ بي من الوجع ما ترى وإفادة الحال ولا [...] إلا ابنه لي.

قوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى).

انظر هل المراد به الآدميات أو عموم الأنات ، فإن قلت : قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) قرينة في الخصوص ، قلنا : قد ذكر الفخر والآمدي أن العام إذا عقب بعضه بصفة من أصنافه فمذهب مالك والشافعي فإن على عموم وقال الثوري : هو مقصود على ذلك الصنف فقوله : (وَما تَغِيضُ) وإن كان لا يصدق إلا على الأرحام ولا يخصه وذكر المؤرخون أنه كان في بلد سلا عشرة ملوك ولدوا من بطن واحدة ، ابن عطية : وقع لمالك كما يدل على أن الحال عنده لا يختص ومذهب ابن القاسم أنها تحيض ، قيل لابن عرفة : يلزم من قولكم أنها تحيض أن يكون الحيض دليلا على برآة الرحم فكيف جعلتموه علامة على براءة الرحم في العدة والاستبراء ، فقال : إنما حكمنا بالمظنة ، فقلنا : هو مظنة براءة الرحم فخلفه بعض الأحيان لا يمدح كما أن ظهور الغم في زمن الشتاء مظنة لنزول المطر وقد يتخلف ، فإن قلت : لم قدم النقص على الزيادة ، قلنا : لأن الأصل عدم الزيادة.

قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ).

ابن عرفة : انظر هل المراد به القدرة وهي الإبراز من العدم إلى الوجود أو الإرادة وهي التخصص أو العلم وهو الكشف وإلا والظاهر أن المراد به الإرادة وإن (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) مراد لأنه أتى به عقيب قوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) وما تزاد هم حمل ناقص وحمل زائد وحمل معتدل ، فقال : (كُلُّ شَيْءٍ) ذلك مراد له كان

٤١٩

تخصيص الناقص بالنقص والزائد بالزيادة وإنما هو راجع بالإرادة والظاهر أنه من العمومات الغير المخصوصة ، كقوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

إن قلت : لم قال (يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) فخبر بالفعل وقال : (عالِمُ الْغَيْبِ) بخبر الاسم ، فالجواب : إن العلم الأول متعلقاته متعددة شيئا بعد شيء بدليل زيادة الحمل ونقصانه فلذلك عبر فيه بالفعل ، والعلم الثاني متعلقة الغيب والشهادة وهما لا يختلفان ولا يتحدان إلا باعتبار متعلقاتهما ولم يذكر في الآية غير مجرد الغيب والشهادة وهما على الإطلاق ثابتان لا يجدان فيهما باعتباره ذاتهما ، ابن عرقة : هذا عندي مثل : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [سورة الكهف : ٤٩] لأنه إذا علم الغائب قادرا على الشاهد ، والجواب : كالجواب وهو أنه قصد الإشعار بالتسوية وإن علمه بالغائب كعلمه بالشاهد ليس بينهما تعاون ، ابن عرفة : وقوله الغيب والشهادة ليس هو في موضع نصب لأن ابن عصفور نص في شرح مقربه على اسم الفاعل إنما يعمل إذا دل على الزمان فإن جرد عن الزمان لم يعمل ، كقوله : ألقيت كأسهم في قعر مظلمة ، و : (عالِمُ) هنا صفة لله تعالى فيستحيل فيه الزمان فهو هنا مجرد عن الأزمنة.

قوله تعالى : (الْكَبِيرُ).

كان بعضهم يقول : إنه وصف مشترك والتعال خاص لا يقال إلا لله.

قوله تعالى : (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ).

قال ابن بشير : القراءة في الصلاة على ثلاثة أقسام قراءة باللسان جهرا ، وقراءة به سرا ، وقراءة بالقلب ، وأنها تجري في الصلاة والظاهر أن المراد في الآية بالأسر أن يسمع نفسه أو يقرأ بقلبه لكي تدخل الأقسام الثلاثة فهو أبلغ و : (أَسَرَّ) مصدر في الأصل وهو خبر عن قوله : (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) والمصادر لا يكون إخبارا عن الحث فهو كقولك زيد عدل قال الكوفيون : أي ذو عدل وجعله البصريون نفس الضالة مبالغة ومجازا ، فالجواب : أنه ليس مثله وإنما جاز الإخبار هنا لأنه ليس خبرا عن الذات بل عن المجموع ، قيل لابن عرفة : هلا قال سواء عنده ولم يقل منكم ليعم الكلام الأنس والجن بل ذكر كان يكون أولى لأنهم أجهل وأشد مكرا واختفاء والشيطان فيهم فقال الجن أجسام لطيفة والإناء اللطيف الشفاف يرى ما في باطنه من ظاهره بخلاف الإنس فإن أجسامهم كثيفة فكان العلم بما في قلوبهم أبلغ فلذلك ذكرهم ليدل ذلك على العلم فأسرار الجن من باب آخر.

٤٢٠