تفسير ابن عرفة - ج ٢

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٥٣

قال ابن عرفة : واستدل الأصوليون بهذه الآية على أن الإجماع حجة.

قوله تعالى : (فَذُوقُوهُ).

إذا كان هذا ذواقا فما بالك بما فوقه من العذاب ، والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ).

قوله تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ).

ولم يقل : أدباركم إشارة إلى أن الإنسان كلف بفعل نفسه وبفعل غيره فهو أبلغ ؛ لأنه إذا ولى هو دبره كان ذلك سببا لتولي غيره ، فصح نفيه عن فعل غيره بهذا المعنى ، فينبغي له إذا رأى غيره ولى دبره أن لا يولى هو بل يقف ويقاتل ويناضل عمن ولى دبره ليرجع ويقاتل ، فما حكاه ابن عطية هنا لا يناسب ، وغزوة القادسية وغزوة مؤتة إنما ولوا فيها لقلة الناس حينئذ ، ولم يكن لهم قدرة على المقاتلة فلهم عذر حينئذ ، وإذا ولى أحد متحيزا إلى فئة مقاتلة لا شيء عليه ، وإن ولى إلى فئة واقفة غير مقاتلة فهو مأئوم.

قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

قال ابن عرفة. : عادتهم يقولون لأي شيء لم يقل فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ، كما قال (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) قال : والجواب أنه إنما خصص الثاني تشريفا للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم في إسناد الرمي إليه ، وأما القتل هنا فهو مستتر لغيره ، قال : ونظير إسناد الفعل لغير الله تعالى أن القاضي إذا رأى رجلا قتل آخر بأن استحضر مقام التوحيد لم يوجب عليه قصاصا ؛ لأن الأشياء كلها بخلق الله وقدرته ، وإن استحضر مقام التكليف واعتبر الأسباب العادية أوجب عليه القصاص أو الدية ، قال : ومعنى الآية وما رميت الرمي المؤثر إذ رميت الرمي العادي ولكن الله رمى الرمي المؤثر ، وإن لم يفهم كذلك لزم التناقض لتوارد النفي والإثبات على شيء واحد في حالة واحدة.

قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ).

ابن عرفة : الصواب في الآية أنها خطاب للكافرين.

قال الزمخشري : على سبيل التهكم بهم ، أي إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم ما طلبتم ؛ لأنهم دعوا الله ؛ فقالوا : إن كان محمد على الحق فانصره وإن كنا على حق فانصرنا.

٢٨١

قال ابن عرفة : لأن الآية تكون على وتيرة واحدة ؛ أي : وإن تنتهوا عما أنتم عليه ، وعلى التأويل الآخر وهو أنها خطاب للمؤمنين يختلف التقدير ؛ فيكون المراد : إن تطلبوا الحكم بينكم وبين الكفار فقد جاءكم الفتح ، وإن تنتهوا عن المشاجرة والمخاصمة في أمر الغنائم فهو خير لكم ، فمتعلق الفعل الثاني على هذا غير متعلق الفعل الأول ويؤيده [٣٦ / ١٧٨] أيضا قوله (وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ).

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

دليل على أن الإيمان غير الطاعة.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).

الظاهر أيضا في المنافقين ، ويحتمل أن يراد بها اليهود ؛ لقوله تعالى : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [سورة البقرة : ٩٣] والمراد السماع النافع.

قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ).

هذه الآية رد بها ابن هشام على كون الخبر أعم من المبتدأ ؛ لأن الصم البكم أخص من شر الدواب على الصم البكم العمي ، وعلى البكم العمي.

قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

إن قلت : من شرط المقدمين في علم المنطق أن يصدقا في النتيجة وهي هنا كاذبة ؛ لأنها تنتج : لو علم الله فيهم خيرا لتولوا وهم معرضون ، قال ابن عرفة : والجواب بأن القياس عند الأصوليين على ثلاثة أقسام : افتراضي ، وشرطي ، واستثنائي ، مثل الاستثنائي : لو كان هذا إنسانا حيوانا لكنه ليس بحيوان فليس إنسانا ، أو لكنه حيوان فهو إنسان ؛ لأنه ينتج نقيض المقدم أو عينه وهو في الآية قياس اقتراني أن سور الكبرى فيه إن كان كليا أنتج ، وإن كان مهملا لم ينتج مثال الأول لو كان هذا إنسانا لكان حيوانا ، وكلما كان حيوانا كان جسما ينتج كلما كان إنسانا جسما ، والمهمل هل هو [.....] مثل هذه الآية ؛ لأن المهمل في قوة الجزية فلا ينتج فلا يرد علينا ما أورده فيها ، قلت : وأجاب ابن عرفة وغيره : بأن الإسماع مختلف ، فالإسماع الأول : بمعنى الإجابة ، والثاني : بمعنى إفهام القول المأخوذ من السماع ، وأيضا فشرط إنتاج الشكل الثاني في المنطق قول المقدمة الثالثة كلية ، وأما إن كانت جزئية فلا يجتمعان.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

٢٨٢

كان بعضهم يقول : يحتمل رجوع الخيانة هنا إلى أمرين : خيانة فيما هو حق الله كقتل الحرابة فإنه حق لله لا يجوز فيه العفو.

وخيانة فيما هو حق لآدمي كقتل القصاص فإنه يجوز فيه العفو ، ويحتمل رجوعها إلى ثلاثة أمور : خيانة في حق الله الراجع للاعتقاد القطعي العقلي القلبي ؛ كقول المعتزلة : إن العبد يستقل بفعله.

خيانة في حق الله الراجع للاعتقاد الظني كاعتقاد صحة المعاد.

وخيانة فيما هو حق الآدمي مستفاد من الشرع.

ابن عرفة : كقتل القصاص ، والخيانة يتعدى إلى المخون بنفسه ، وإلى المخون فيه بحرف الجر ، كقوله : خان زيد عمرو في ماله ، فإن قلت : فلم عدى الفعل أولا للمخون له وثانيا للمخون فيه؟ ؛ لأنه قال (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) فعداه للمخون ، ثم قال (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) فعداه للمخون فيه بنفسه ، فما السر في ذلك؟ قال : والجواب أن الأول لما كان حقا لله كان كالمستعظم فيه ذا الحق فذكر ذو الحق وهو المخون دون المخون فيه ، ولما كان الثاني حقا للآدمي كان الاستعظام فيه أوقع في النفوس من استعظام صاحب الحق ؛ لأن حرمة المال ومحبته أوقع في النفوس من محبة صاحبه ، أو تقول في الأول لما كان المخون له أعظم مما فيه الخيانة وأشرف كان ذكره أبلغ في النفس بخلاف الثاني ، أو يجاب بأنه على حذف مضاف ؛ أي وتخونوا ذوي أماناتكم.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ).

قال ابن عرفة : قدم المال على البنين وهو عرف القرآن في غير ما موضع ، ولم يرد ما يخالفه في سورة آل عمران في قوله تعالى : (مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ) [سورة آل عمران : ١٤] ابن عرفة : وكان بعض الشيوخ يحكي أنه رأى بعض أهل السواد يمشي بأولاد كثيرين بعضهم يحمله على عنقه ، وبعضهم بين يديه ، وبعضهم يمشي معه ، ويقول : ارحموا من خالف كتاب الله عن ذلك ، فقال : الله يقول (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ) [سورة الكهف : ٤٦] فقدم المال على البنين ، وخالفت أنا نصه فقدمت البنين على المال.

قال ابن عرفة : وأخذوا من هذه الآية تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر ؛ لأن المال سبب في الفتنة.

قوله تعالى : (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ).

٢٨٣

لأن المال زينة الحياة الدنيا التي هي زائلة منفصلة والآخرة فيها الثواب الباقي.

قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً).

دليل على أن التقوى أخص من الإيمان خلافا لقول الإمام مالك رحمه‌الله في المتعة ، ويجيب الآخرون بأن المراد : تدوموا على إيمانكم.

قوله تعالى : (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).

راجع إلى السر ولذلك سمي الحراث كافرا ، والمغفرة راجعة إلى عدم المؤاخذة بالذنب من أضل ، فإن جعلنا العاصي متقيا لاجتنابه الكبائر كان داخلا في هذه الآية ، وإن قلنا : إن التقوى إنما على التوبة من الذنوب لم يدخل فيها العاصي.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ).

قال ابن عرفة : يدعى الباطل تارة يدعيه من غير تسمية ، وتارة يدعيه على صفة ، فهؤلاء اعتقدوا أنه باطل ودعوا على أنفسهم إن كان حقا.

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ).

قال ابن عرفة : نفى الأول بالاسم ، والثاني بالفعل ، قال : فعادتهم يجيبون بأنه لما كان الاسم أبلغ من الفعل كان أخص منه ، ونفي الأخص أعم من نفي الأعم ، ونفي الأعم أخص من نفي الأعم ، مثل : ليس في الدار إنسان وليس فيها حيوان ؛ فنفى الأول بلفظ الفعل فكان نفيا أخص ؛ لأن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فهم بوجوده فهم موجب لدفع العذاب عنهم مجرد فعلهم وكسبهم وهو الاستغفار فكان أضعف فعبر فيه بالنفي الأعم فهو دون النفي الأول ، فإن قلت : أول الآية اقتضى نفي العذاب عنهم ، وآخرها اقتضى صحة وقوع العذاب بهم ، فالجواب : أن الأول اقتضى نفي عذاب الاستئصال عنهم ، والثاني : ثبوت مطلق العذاب المهلك.

قوله تعالى : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

إن قلت : هو من باب تعليل الحكم لعلتين : أحدهما : وصف الكفر ، والآخر : صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية ، فالأولى منصوصة ، والثانية موحى إليها لأن ذكر الحلم عقب الوصف المناسب يشعر بأنه علة له ، وأيضا فإن الفاء للسبب.

قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

٢٨٤

قال : ما وجه الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [سورة المائدة : ١٠٠] فإن هذه الآية تقتضي أن الخبيث أكثر من الطيب لأن الأقل مخرج من الأكثر والأخرى بالعكس.

فالجواب أن تلك شرطية على سبيل الفرض والتقدير ، فلا يلزم منها الوقوع وهذه جملة ، ويؤخذ من الآية في باب التعديل والتجريح فيمن حملت حاله أنه محمول على العدالة خلاف مذهب مالك.

قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ).

قال الزمخشري : الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تباعة ، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتبقى عليه حقوق الآدميين.

قال ابن عرفة : هذا مذهب أبي حنيفة ؛ لأن الزمخشري حنفي المذهب.

وقال ابن العربي : إن الحربي إذا أسلم حفظت عنه الحقوق كلها إلا حد القذف ، قال أشهب : وحد السرقة ، قال ابن عرفة : وهذا غير صحيح والذي في المدونة أنه يسقط عنه الحدود كلها وهي مشكلة في المدونة ؛ لأنه قال : سقط عنه حد القذف كما لا يطالب بالقتل ، وتقدمنا مفارقتها للقتل بأنه إذا قذف وقتل فإنه يحد للقذف ثم يقتل فلم يجعل القتل مستلزما حد القذف ، وتقدم الجواب بأنه إنما سقط عنه حد القذف وحد القتل يقتضي الآية ؛ لأن سقوط القتل يستلزم سقوط ما دونه من باب أحرى ؛ ولأن حصوله يستلزم حصول غيره.

قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ).

ابن عرفة : يؤخذ منها من لوازم العلم العمل ؛ لأنه المقصود في الآية لأنه إذا انتفى الملزوم فليس المراد علم ذلك على العلم به ، فلو لا أن العلم بالشيء يستلزم العمل به لما صح الاكتفاء به عنه ، ويلزم من عدم العمل به عدم العلم به ، ويلزم من نفي اللازم نفي الملزوم ، وهل المراد العلم حقيقة أو المراد اعتقاد ذلك علما أو ظنا؟ قال : إما بالنسبة إلى الصحابة فهو علم حقيقة ، وإما بالنسبة إلى من بعدهم فتقرر الخلاف في دلالة القرآن هل هي قطعية أو ظنية ، والظاهر أنه علم حقيقة لما تقرر من أن أهل أصول الدين يحتجون بآية القرآن في المطالب العلمية ، فلو لا أنه يفيد العلم لما صح احتجاجهم بذلك ، والغنيمة ما أخذ بمجادلة وتكتسب من غير بيع ولا شراء ، وقيل : ما أوجف عليه بالخيل والركاب ، والعطف في الآية تدل ، وقوله : [٣٦ / ١٧٩] (ما

٢٨٥

عَلَّمْتُمْ) [سورة المائدة : ٤] الظاهر في أن (ما) شرطية فنعم كل غنيمة تأتي بعدها ولو كانت موصولة لما تناولت إلا ما نص قبلها فقط.

قوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ).

إن الفقير هو المسكين ، وأشد منه حاجة ليدخل في الآية من باب أحرى ، ولو كان العكس أضعف منه لخرج الفقير من الآية.

قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ).

هو الملازم للسبيل ، وهو المسافر ، كما يقال ..... (١).

قوله تعالى : (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ).

كان في غزوة أحد وغزوة بدر وغيرهما ، فقال : الألف واللام للعهد ، فالمراد الجمعان الخاصين ، وذكر الزمخشري حديثا فيه" إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" بالشين المعجمة ، وذكر ابن دقيق العيد في الإلمام بالشين المهملة ، والشيء في اللغة : المثل ؛ أي مثل واحد والمراد هما متساويان.

قوله تعالى : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً).

ابن عرفة : وأنهم قليلين في العدد أو في القوة والنجدة.

قوله تعالى : (لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ).

إن قلت : التنازع والاختلاف سبب في القتل فهلا قدم عليه ، فأجيب بأن القتل المراد به الجبن الطبيعي والهلع والخوف الحاصل في النفس ، وهو سابق على التنازع ، وإنما تتمة السؤال أن لو أريد القتل باعتبار الفعل وهو الكف عن المقاتلة لا لخوف في النفس ، قيل : لعدم الناصر والمعين.

قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً).

ابن عرفة : في ظاهر الآية تناقض ؛ لأن تقليل الكفار في أعين المسلمين نعمة على المسلمين ، وسبب في هجومهم على الكفار وغلبهم لهم ، ورؤية الكفار للمسلمين قليلين منافية لذلك ؛ لأنها أيضا سبب في شدة الكفار وغلبتهم للمسلمين فيلزم التناقض ، قال : وأجيب بأن تقليل كل فريق في أعين الفريق الآخر موجب لاجتماع الفريقين للحرب والقتال فيقع ما وعد الله به وأراده من نصرة المسلمين ، وتقليل أحد

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢٨٦

الفريقين في عين صاحبه دون الآخر موجب لهروب الفريق القليل من الكثير فلا يقع الاجتماع للحرب بوجه ، وإنما جاء التناقض من جعل القليل موجب للغلبة ؛ بل هو موجب للاجتماع الموجب للغلبة ، قال : وعبر في الأول بالاسم وهو قوله تعالى : (فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) وقال في الثاني (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فعبر عن تقليل المسلمين بالفعل ، ولنا إشارة أن تقليل ... (١) مستمر ثابت ليدوموا على القتال ، ولا يدركهم هلع ولا قتل ، وتقليل المسلمين في أعين الكفار وإنما يوفى أول الأمر ؛ فإذا انتقى الصفات ونشأ الحرب لكنهم يرونهم حينئذ كثيرين لينهزموا ويدركهم الرعب والخوف.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

قال ابن عرفة : الذكر مأمور به مطلقا ، وهذا المحل مخصوص بكثرته ؛ لقوله (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) لأن الطاعة مأمور بها مطلقا ، ولا يؤخذ من الآية أن الأمر لا يقتضي التكرار ، ولما احتيج إلى قوله (كَثِيراً) لأن الكثرة أخص من مطلق التكرار.

قوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).

قال ابن عرفة : جعل التنازع سبب في القتل ، وقال قبلها : (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) وتقدم الجواب بأن القتل أمر نفي جلي طبيعي وهو الخبر ، والتنازع أمر فعلي ظاهر وهو المقابلة ؛ فالفشل سبب في التنازع هنالك وأصابنا فالفشل ناشىء عن التنازع ، وأنهم إما تنازعوا أو اختلفوا يقع الانهزام من طائفة منهم فيقع الفشل بالأخرى بقتلها.

قوله تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ).

ابن عرفة : التحسين هو حالة ذاتية توجب الميل إلى الشيء لذاته ، والتزيين حالة عرضية توجب الميل إلى الشيء ؛ لأن التزيين يزول والتحسين ثابت ، تقول : أعجبني حسن الجارية وأعجبتني زينتها ؛ فحسنها بإجمالها ، وزينتها جمال ثيابها وحليها.

قوله تعالى : (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ).

__________________

(١) بياض في المخطوطة.

٢٨٧

ابن عرفة : صفة حيث لم يأت بالنفي الأبلغ ، فلم يقل : أنتم تغلبون عدوكم ليلا يكذب في مقالته ، فأتى كلام متوسط ليكون أدعى إلى القبول ، فقال (لا غالِبَ لَكُمُ) فهو يحتمل لأن يغلبوا عدوهم أو لا ؛ فيغلبونه ولا يغلبهم.

وقوله تعالى : (مِنَ النَّاسِ) إشارة أنه فهم أن الملائكة قد يعينون المسلمين عليهم فيغلبونهم أن يكون رأى الملائكة أو لم يرهم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

هم الكافرون.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ)(١).

اختلفوا في فاعل يتوفى ، فقيل : الملائكة ، وقيل : هو الله ، وقيل : الملائكة مبتدأ.

ابن عرفة : والظاهر الأول لوجهين ؛ أحدهما : أنه قرئ فتوفى بالفاء والفاعل فيها الملائكة ، وإحدى القرائتين تفسير الأخرى.

الثاني : أن في إسناد توفيهم إلى الله تعظيم لهم ، فإسناده إلى الملائكة أولى تحقير الكافرين ؛ فإذا كان الفاعل الملائكة ، فقد يقال : كان الأولى تقدير على المفعول ؛ لأنه الأصل ، ولأنه الأشرف ، فيجاب بأنه إنما قدم لأنه الأهم بالذكر.

قوله تعالى : (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).

هذا مثل : ضربته الظهر والبطن ، ومطرنا السهل والجبل إشارة إلى العموم.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ).

قال ابن عرفة : عادتهم يقولون : ما أفاد قوله تعالى : (أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ؟) قال : وعادتهم يجيبون بأنه إشارة إلى تلك النعمة محض تفضل من الله تعالى وكنت جزاء [...] بوجه فإذا لم يغير ما تفضل به عليهم من النعم فأحرى إذا كانت نعمة [...] عن سبب ، ولذلك قال : لم يكن ليدل على نفي القابلية إن لم يفعل وليس هو قابلا لأن يفعل ذلك.

قوله تعالى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ).

__________________

(١) أثبتها المصنف في المخطوطة : [ولو ترى إذ يتوفى الملائكة] وقد أثبتناها من المصحف الشريف.

٢٨٨

إن قلت : لم خص آل فرعون بالذكر دون غيرهم؟ قلنا : تسلية للنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ؛ لأنهم كانوا كثيرا ما يؤذون موسى عليه الصلاة والسّلام فهم أشد أذية من قريش لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ومن غيرهم.

قوله تعالى : (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ).

فيه أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، بقوله تعالى : (بِذُنُوبِهِمْ) وفي ذلك أربعة أقوال : قيل : إنهم مخاطبون بالفروع ، وقيل : لا ، وقيل : مخاطبون بما عد الجبار ، وقيل : الفرق بين المرتد وغيره.

قوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ).

هذا مثل ما تقدم عن ابن هشام في أن شرط الجزاء أن يكون أعم من المبتدأ.

قوله تعالى : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ).

أي فرق بهم وأبعدهم عن مقاتلتك من خلفهم ، والمراد : وأبعدهم مسافتك ومخالفتك ، فالإبعاد إما حسي وعليه جملة المفسرين ، أو معنوي فإن كان الأولى دليل على أن قتل الأسارى هو المطلوب ، وإن كان الثاني كان بارز في تخيير في الوجوه الخمسة ، إما الأمر ، وإما القتل ، والمن والاسترقاق ، أو ضرب الجزية.

قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

إشارة إلى تقدم الأدلة الدالة على الإيمان فكأن الإيمان كان حاصلا ، قلت : وقيد بعضهم عن ابن عرفة هنا ما نصه قوله تعالى : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) ليعذبهم من خلفهم عن مسافتك ومقاتلتك ، قال : فعلى هذا القسم هذه الآية تخصيص لما ورد من التخيير بين القتل والأسر والفداء والمن وغير ذلك ، فما يراد صلاحا وسدادا أو يتعين القتل في حق هؤلاء ؛ لأنه هو البعد عن مقاتلته من سواهم ، وقيل : معناه فأبعدهم عن الكفر وعدم الإيمان بك فلا تخصيص على هذه ، ويكون التخيير بين ما تقدم باقيا ، ويكون أمر الفعل الأصلح ، فإن قلت : أن لا تدخل إلا على غير المحقق ؛ فهلا قيل : فإذا تثقفنّهم ؛ لأنه محقق الوقوع ، ابن عرفة : فعادتهم يجيبون بأن تأكيد الفعل بالنون الشديدة اعتناء عن ذلك وغيره ؛ كالمحقق لأنه المشكوك فيه لا يؤكد وأيضا فترتيب الأمر بالتشديد عليه بغيره محقق الوقوع ، قلت : وأجاب بعض الطلبة إنما هو الغلبة لا النفاق لأنهم في الممكن أن يمتربوا ويؤخذوا.

قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

٢٨٩

ابن عرفة : هذا تسمية احتراس لأنه قد تقدم ، قوله (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) فقد يتوهم أن ضعفهم وعدم قوتهم يوجب عدم الاستعداد لهم.

قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى).

ابن عرفة : ما ذكره ابن عطية وغيره عن أبي بكر وعمر ينبغي حمله على وجهين ؛ أحدهما : أن الخطأ في الجهاد ملزوم للتأثم ، الثاني : ما ذكره ابن الحاجب من أنه قد تعرض له صلّى الله عليه [٣٧ / ١٨٠] وعلى آله وسلم الخطأ في اجتهاده ولكنه لا يقر.

وقال الفخر في المحصول : الأكثرون على منع ذلك في حقه وهو الصحيح ؛ لأن المعصية تمنع منه ، وهذا كله إذا قلنا : إن كل مجتهد مصيب ، قال : واحتجوا بهذه الآية على أن المصيب واحد ؛ فدلت على أن عمر هو المصيب في اجتهاده ، وأجاب الآخرون بأن أبا بكر أقره النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلم على ما فعله فهو مصيب بإقراره له ، وفرق بعضهم بين الحكم بالفداء وبين أخذ الفداء ؛ فأبو بكر حكم ترجيح وغيره من الصحابة أخذه فوقع العتب على من أخذ الفداء ؛ لأنه عرض دنيوي فأخذوه لمجرد ذلك فقط ، وأبو بكر إنما حكم بالفداء لمصلحة الآخرة ؛ وهو رجاء إسلامهم.

قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ).

أبلغ من قول القائل : لا يفعل النبي كذا ولا يفعل كذا ؛ لاقتضائه نفي القابلية للفعل.

قوله تعالى : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

راجع للأمر الباطن وهو اختيار الفداء لأنه جائز في نفس الأمر ، لقوله (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً) راجع للأمر الظاهر وهو التوبيخ على أخذ الفداء ، ثم بعد ذلك نسخ بالجواز.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا).

وأخروا (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) وقال تعالى قبلها : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فذكر بأموالهم وأنفسهم الأولى دون الثانية.

ابن عرفة : فقدم الجواب بوجهين ؛ الأول : أنه حذف من الثاني لدلالة الأول عليه إذ الآية الأولى في الميراث ، قلت : فيها حذف المال لتناول جهاد الغني والفقير.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

٢٩٠

ابن عرفة : يؤخذ منه أن الكفر علة واحدة ، وفيه قولان.

قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ).

هذه الآية منسوخة عند مالك وأصحابه ، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب وصلّى الله على مولانا وسيدنا محمد وعلى آله الطيبين وسلم.

٢٩١

سورة براءة

تكلم ابن رشد في البيان على ترك البسملة من أولها في أوائل الجامع الأول وذكروا وجوه في سبب إسقاط التسمية من أولها ، من ذلك قول ابن عباس : سألت عليا عن ذلك ، فقال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد وليس فيها أمان ، قلت : وهذا هو الذي اختار الشاطبي في قوله [.....].

ابن هشام المصري : هذا البيت من المشكل وبيانه أن مهما في كلامه لا يجوز أن يكون مفعولا لتصل لاستيفائه مفعوله ، ولا مبتدأ لعدم الشرائط ، فإن قيل : قدومهما واقعد قدر مهما واقعة على براءة ليكون ضمير نفسها راجع إلى براءة ، وحينئذ فهي مبتدأ أو مفعول لمحذوف يفسره تصل ، قلنا : اسم الشرط عام وبراءة اسم خاص فضميره كذلك فلا يرجع إلى العام ، وبالوجه الذي بطل به ابتدائية مهما بطل كونها مشتملا على العامل بالضمير ، وهذه بخلافها في قوله : ومهما تصلها مع أواخر سورة فإنها هناك واقعة على البسملة التي في أول كل سورة فهي عامة ، يتضح فيها الابتداء والنصب بفعل تفسره تصل أي بسملة تصلها ، والظرفية بمعنى ، وأي وقت تصل البسملة على القول بجواز ظرفيتها ، وأمانينا فيبقين كونها ظرفا لتصل بتقدير ، وأي وقت تصل براءة أو مفعولا به علله ، أي ومهما يفعل ويكون تصل وبراءة بدل تفصيل من ذلك الفعل ، وإما ضمير تصلها ؛ فلك أن تغيره على اسم مظهر قبله محذوف ، أي ومهما يفعل في براءة تصلها أو بدأت بها وحذف بها ولما يخفى المعنى بحذف من جميع الضمير ذكر براءة بيانا له إما على أنها بدل منه ، أو على إضمار ، أعني ولك أن تصده على ما بعده ، وهو براءة إما على أنها بدل منه ، مثل : رأيته زيدا ؛ فجعل بدأت محذوفا ، وإما على أن الفعلين تنازعاها فأعمل الثاني منهما أو أضمر الفضلة في الأول على حد قوله : إذا كنت ترضيه ويرضيك صاحب جهاز فكن للغيب أحفظ.

الزمخشري ؛ سأل ابن عباس عثمان رضي الله عنهما عن ترك التسمية أول هذه ، فقال : إن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم إذا نزلت عليه السورة أو الآية ، قال : " اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا" ، وتولى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يبين لنا أين نضعها وكانت قصتها يقصها فلذلك قربت بينهما الطيبي غير أنه غير مطابق للسؤال فينال عن بيان عدم تصدير السورة بالبسملة ، وأجاب من موقع السورة مع أختها ، ويمكن أن يقال إن السؤال كان عن شيئين ؛ فأولها ترى في السؤال على أحدها وفي الجواب عن الآخر يدل عليه ما روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ، والترمذي وأبو داود في سننهما ، عن ابن عباس ، قال : قلت

٢٩٢

لعثمان : ما حملكم على أنكم عمدتم إلى الأنفال فهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال ، قال عثمان : كان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم فما يأتي عليه الزمان ، وهو يأتى عليه السور ذوات العدد ، وكان إذا نزل عليه شيء ، وما بعض من كان يكتب ، ويقول : " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (١) " ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فقص رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يتبين لنا أنها فيها لمن أحل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بسطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال ، قلت : في الحديث دليل ظاهر على بيان ترتيب الآي والسور.

الزمخشري : وعن أبي وهب : إنما توهموا ذلك لأن في الأنفال ذكر اليهود وفي براءة نبذ اليهود ، الطيبي : الأول إشارة إلى قوله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [سورة الأنفال : ٦١] ، والثاني : ما ذكره في آية السيف.

الزمخشري : فإن قلت : لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين.

الطيبي : كان المناسب ترتيب المعاهدة والبراءة كليهما إما إلى المؤمنين معا ، أو إلى ذاته عزوجل معا ، قال : ما سبب التقريب وإنما خلق البراءة بالله ورسوله مع ان المعاهدة مع المسلمين ، وحق البراءة أن تنسب إلى المعاهدة ؛ لأن الله تعالى أذن في المعاهدة فكأنه خاص وبريء ، وأجاب الزمخشري بأن ذلك إعلام بحسب الوقوع وترتيب الوجوه ، أذن الله لرسوله والمؤمنين أولا بالمعاهدة فعاهدوا ثم لما نقض المشركون العهد خبره الله إعلاما آخر ، وقال : اعلموا أن الله ورسوله بريء منهم فتبرأوا منهم أنتم أيضا ، ويمكن أن يقال : المعاهدة لم تكن إلا بإذن الله وإباحته ، فلما نبذ المشركون العهد نسب الله تعالى البراءة إلى نفسه وضم معه ذكر الرسول غضبا عليهم وتهديدا شديدا فيطلق عليه قول الزمخشري أولا أذن الله ، وثانيا : أوجب الله النية ، وقال صاحب الانتصاف : فيه شيء وذلك أنه لا يستند العهد إلى الله تعالى في مقام توهم فيه شائبة النقص إجلالا وتعظيما لكبريائه ، ألا ترى وصية رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم لأمير السرايا ، فإذا نزلت [...] اطلبوا النزول على حكم الله

__________________

(١) أخرجه النسائي في السنن الكبرى حديث رقم : ٧٧٠١ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٣٨٩.

٢٩٣

تعالى ، فأنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أصادق حكم الله أو لا ، وإن طلبوا ذمة الله فأنزلهم على ذمتك ، ولأن تحقر ذمتك خير من أن تحقر ذمة الله فتوقير عهد الله واجب ، وقد تحقق من المشركين النكث وتبرأ الله ورسوله منه فأحرى أن لا ينسب العهد المثبوت إلى الله تعالى.

الزمخشري : قال علي يوم النحر ، قال : أمرت بأربع :

أن لا يقرب هذا البيت بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده.

الطيبي : قوله : أمرت بأربع ؛ أي أن أنادي بأربع ، فإن قلت : ما فائدة النداء بقوله : ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنه ، قلت : الإعلام بأن المشرك لا يقبل منه بعد هذا غير الإيمان ، لقوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) إلى قوله (سَبِيلَهُمْ) وهو من باب لأرينك هاهنا ؛ يعني أمرت بأن يتصفوا بما يستعدوا به أن يكون أهلا إذ لا يقبل منهم سواه.

قوله تعالى : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ).

إما أن يكون في الكلام حذف أي فقيل لهم : سيحوا ، وهذا التفات خرج من الغيبة إلى الحضور [٣٧ / ١٨١] وجعل الفرد في هذه الأربعة الأشهر المذكورة مناهي الأشهر الحرم المعلومة وليس كذلك.

قوله تعالى : (وَأَذانٌ).

عبر بالآذان دون الإعلام لما في الآذان من الاستغفار برفع الصوت.

الزمخشري : ارتفاعه كارتفاع براءة ولا وجه ، لقول من قال : معطوف على براءه ، كما يقال : عمرو معطوف على زيد ، في قولك : زيد قائم وعمرو قاعد.

الطيبي : ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يعطف على براءة على أن يكون من عطف الخبر على الخبر ؛ لكن الأحسن كونه من عطف الجمل لئلا تحلل من الحصر من جمل كثيرة أجنبية ، ويفوت التطابق بين المبتدأ والخبر تأنيثا وتذكيرا.

الزمخشري : فإن قلت : أي فرق بين معنى الجملة الأولى والثانية ، قلت : تلك إخبار ثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، فإن قلت : لم علقت البراءة بالذين عاهدوا من المشركين وعلق الأذان بالناس؟ قلت : لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام بجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد ،

٢٩٤

ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث ، وجعل الفخر البراءة الأولى بمعنى البراءة من العهد ، والثانية في قوله : (بَرِيءٌ) نقيض الموالاة ، قال : ويدل على هذا الفرق أنه في الأولى بريء إليهم وفي الثانية منهم.

الزمخشري : حذفت الفاء التي هي صلة الأذان تخفيفا ؛ يعني أن التقدير : فإن الله بريء ، قال : وقرىء إن بالكسر لأن الأذان في معنى القول ، ورسوله عطف على المنوي لي بريء ، أو على محل إن المكسورة.

ابن هشام المصري : العطف على المحل له عند المحققين ثلاثة شروط :

إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح ، فلا يجوز : مررت بزيد وعمرو خلافا لابن جني ؛ لأنه لا يجوز مررت زيدا ، وأما تمرون الديار فضرورة ، وأجاب الفارسي في قوله تعالى : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) [سورة هود : ٦٠] أن يكون عطفا على محل هذه.

الشرط الثاني : أن يكون الموضع بحق الأصالة فلا يجوز في ضارب زيدا وأخيه لأن الوصف المستوفي لشروط العمل ، الأصل إعماله وأجازه البغداديون.

الشرط الثالث : وجوز المجوز أي الطالب بذلك المحل على هذا يمتنع مسائل منها أن زيدا قائم وعمرو إذا قدر معطوفا على المحل لا مبتدأ ؛ لأن الطالب لرفع زيد هو الابتداء الذي هو التجرد ، وقد جاء بدخول أن وأجاز هذا بعض البصريين ؛ لأنهم لم يشترطوا المجوز ، وأجازه الكوفيون ولم يشترطوا المجوز.

قال : ومن الغريب قول أبي حيان إن من شرط العطف على الموضع أن يكون المعطوف عليه لفظ وموضع ، فجعل صورة المسألة شرطا ، ثم إنه أسقط الشرط الأول الذي ذكرنا ، انتهى.

أبو البقاء : لا يجوز عطف (وَرَسُولِهِ) على موضع أن المفتوحة ؛ لأنها بتأويل المفسرة.

ونقل الطيبي ، عن ابن الحاجب ، أنه قال : النحاة يطلقون هذا وليس بصحيح ، قيل : هي قسمان ، فإن كانت في تأويل الجملة صح العطف : كعلمت أن زيدا قائم وعمرو بالرفع ؛ لأنه في تقدير أن زيد قائم وعمرو ؛ بدليل أنك إذا قلت : علمت أن زيدا لقائم لكسر أن تدل على أنها في تأويل الجملة.

وإما يمتنع العطف في مثل : عجبت من أنك قائم إذ لا يصح تقديره بالجملة ، انتهى. قوله إنها في معنى إن المكسورة إن أراد بها في تأولها لجريان المسند والمسند

٢٩٥

إليه في صلتها فمسلم ويمتنع عرفة العطف إذ لا موضع لها إلا النصب لكونها مفعولا لعلمت ، وإذ أراد أنها في تأويل المكسورة بمعنى أنها جملة فلا نسلمه هي في معنى المفرد ، وأما تنظيره بعلمت إذا علقت عن أن لدخول اللام في خبرها فليست مثل المفتوحة ؛ لأن هذه الجملة لا عمل لعلمت فيها ، قال : وقال ابن الحاجب في غير هذا الموضع : إنما لم تعطف على المفتوحة لفظا ، ومعنى لأنها واسمها وخبرها بتأويل خبر واحد ؛ فلو قدرت أنها في حكم العدم لأحكمت بموضع بخلاف المكسورة لأنها لا تغير المعنى فجاز تقدير عدمها لكونها للتأكيد المحض كما جاز تقدير عدم الباء المؤكدة في قوله : فلسنا بالجبال ولا الحديد.

قوله تعالى : فإن (تَوَلَّيْتُمْ).

الزمخشري : عن التوبة ، أو تبتم عن التولي والإعراض عن الإسلام والوفاء ، قلت : فعلى هذا التفسير الثاني يدل على أن الدوام كالإيتاء.

قوله تعالى : (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).

فيه دليل على أن العام في الأشخاص غير عام في الأمكنة.

قوله تعالى : (كُلَّ مَرْصَدٍ).

الزمخشري : انتصابه على الظرف.

الطيبي على الانتصاف ، ويحتمل أن يكون المرصد مصدر ؛ لأن اسم الزمان والمكان والمصدر من فعله واحد ، (وَاقْعُدُوا) في معنى ارصدوا ، وتقرب الظرفية قوله (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ليطابق الظرفية في المكانين.

قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ).

الفخر : احتج بها الشافعي على قتل تارك الصلاة ، قال : لأنه تعالى أباح دماء الكفار مطلقا ثم حرمها عند مجموع هذه الثلاثة : وهي التوبة عن الكفر ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ؛ فعندما يحصل هذا المجموع وجبت أن يبقى [...] الدم على الأصل ، فإن قيل : يحتمل أن يكون المراد الإفراد مهما واعتقاد وجوه ويدل عليه أن تارك الصلاة لا يقتل هو فالجواب أن هذا عدول من الظاهر ، وأما في تارك الصلاة فقد دخله التخصيص ، فإن قيل : حمل الكلام على التخصيص ؛ [...] من حمله على اعتقاد وجوب الصلاة والزكاة ، قلنا : لأنه ثبت في أصول الفقه مهما وقع التعارض بين المجاز والتحضيض فإن التحضيض أولى ، انتهى.

٢٩٦

فمن حمله على اعتقاد قلنا : وأصل هذا الاستدلال يتقرر على ما تقرر في علم المنطق من أن المقدمة الشرطية لا تتعدد بتعدد مقدمها هنا مثله بتأصله ، وقد يقال : أن هذا الاستدلال إنما ينتج أنه لا يخلي سبيلهم ، وذلك أعم من القتل ، وما ذكره معه في أول الآية ولم يذكر في الآية الصوم والحج ، فمع كونها من آخر ما أنزل ، وكان الحج فذكر هو لأن المذكور أهمها.

قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ).

الزمخشري : (أَحَدٌ) مرتفع بفعل الشرط مضمرا يفسره الظاهر ؛ تقديره : وإن استجارك أحد.

الفخر : إن قيل : إذا كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي؟ ، قلنا : الحكمة فيه ما ذكر سيبويه وهو أنهم يقدمون الأهم ، ولما كان ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم كل واحد من المشركين ، فقدم ذكره ليدل على مزيد العناية لصون دمه عن الإهدار ، وفي الآية دليل على أن التقليد غير كاف ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ؛ لأنه لو كان التقليد كافيا لوجب أن لا يعمل بل يقال إما أن تؤمن أو تقتل وليس في الآية ما يدل على مقدار هذه المسألة المهملة ويرجع في ذلك إلى العرف بحسب حال الشخص ، والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع الدلائل ، والجواب عن الشبهات ؛ والدليل عليه أنه تعالى علل وجوب تلك الإجازة بكونه غير عالم ، والمعنى [...] لكونه طالبا للعلم مسترشد للحق ، وكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجازته ، وليس في الآية ما يدل هل المراد سماعه جميع القرآن أو بعضه؟ والظاهر ما يحصل لديه العلم غالبا ، والحربي إذا دخل دار الإسلام كان معتوقا مع ماله إلا أن يدخل مستجيرا لغرض شرعي أو لتجارة أو رسولا أو ليأخذ ماله بدار الإسلام ، وكما له أمان فأمان ماله أمان له ، وانظر كلام مكي في الهداية في هذا الوجه حيث تكلم على إضافة كلام الله فهو مشكل ؛ لأنه قال : إضافة تحضيض بمعنى القيام به ليست إضافة ملك لملك ولا خلق لخالق ، ولا إضافة تشريف بل بمعنى إرادته ؛ غير متعدية عنه ؛ فأفهمه قوله بمعنى إرادته ؛ أي بمعنى إضافة الإرادة إليه في كونها غير متعدية عنه لا كما تقوله المعتزلة أنه تعالى [٣٧ / ١٨٢] خلق الكلام في السجود ، هذا تقدير كلامه وبيانه على مذهب أهل السنة ، وانظر ما ذكر أبو حيان من لزوم تقدير الضمير بعد حتى هو غير لازم بل القدر الفعل ، ونص كلامه : حتى متعلقه بأجره ولا يصح تعلقها باستجارك على أنه من باب الشارع ؛ لأنه لو أعمل الأول لا ضمير في الثاني ، وحتى لا يجر المضمر وعند من يجر بها يصح كونه من باب الشارع ، انتهى.

٢٩٧

وتنظر هل معنى الآية : وإن أحد من المشركين استجارك لكي يسمع كلام الله فأجره ، والمعنى : استجارك لما هو أهم من ذلك.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ).

يترجح كون ما مصدرية بوجهين ؛ أحدهما : الدلالة على اتصال الأمر بالاستقامة لهم في جميع مدة استقامتهم لنا.

الثاني : أن الأصل في القضايا الجملية لا الشرطية.

قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ).

يؤخذ منها أن دين الكافر لا يلزمه خلافا للمغيرة حكاه ابن رشد ، وهذه الجملة اعتراضية بين قوله (فَقاتِلُوا) وبين قوله (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ).

قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ).

ابن عرفة : إن أريد إخراجه من مكة فيكون في الآية تقديم وتأخير ؛ لأن نكثهم إيمانهم بعد ذلك ، وإن أريد من المدينة فالآية على ترتيبها ، وإنما لم يقل وهموا بإخراج رسولهم لأنهم خالفوه من حيث كونه رسولا فخالفوا الرسول بالبطلان وقد أشد.

قوله تعالى : (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

ولم يقل : وهموا بإخراج الرسول ، الفرق الحاصل بين الجملتين ؛ لأن الجملتين الأولتين ترجعان إلى تكذيبهم بالرسول ، والثانية : راجعة إلى قتالهم للمؤمنين ، فهذه الثانية تحريض للمؤمنين على قتالهم ، فإن قلت : ما أفاد قوله (أَوَّلَ مَرَّةٍ) ، ولفظ البدء يقتضي الأولية ، قال : فالجواب أن البداية تقتضي الكمية المنفصلة ، لقولك : إذا كان بين بني تميم وبني قيس غير حروب ، فتقول : بنو تميم هم البادئون بالقتال في الحرب الأول.

قوله تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ).

هذا صريح في مذهب أهل السنة القائلين بأن أفعال العباد كلها مخلوقة لله عزوجل ، ولما تقدم الأمر بالقتل بلفظ العرض والتحضيض عقبه بصيغة الأمر بالقتال ضربا ، أو ذكر الأمر بالقتال ليرتب عليه الوعد بالنصرة عليهم في قوله (يُعَذِّبْهُمُ) ، فإن قلت : ما أفاد قوله تعالى : (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) بعد قوله (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ؟) قلت : لأنهم إذا عذبوا بأيديهم قد يساومهم فلا يغلبوا أو لا يغلبوا.

٢٩٨

قوله تعالى : (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ).

يؤخذ منها أن العرض يبقى زمانين ؛ لأن ذهاب الشيء يمكن ألا تعد حصوله فهو إذ استلزم لزمنين زمن الحصول وزمن الإذهاب ، فإن قلت : لم أسند الغيظ إلى القلوب والشفاء للصدور ، قلت : لما كان الغيظ سبب الحسد أو نحوه وهو مذموم شرعا وطبعا أسنده إلى محله وهو القلب خاصة تتغير عنه ، ولما كان الشفاء محبوبا شرعا وطبعا أسنده إلى جميع الصدر وتخفيفا عليه ، والشفاء أمر ملائم والغيظ أمر مؤلم ، فسلك في الآية مسلك الترقي ، قلت : ونظرة قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أسند الزيغ للقلوب والهداية لجميع الذات ، وتقدم الكلام عليه.

قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

في الآية رد على المعتزلة القائلين بوجوب مراعاة الأصلح للعبد.

قوله تعالى : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ).

يؤخذ منها أن الكافر لا تقبل صدقته على المسجد.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ).

إلى (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فيه سؤال وهو أنهم توعدوا على تفضيل محبة هؤلاء على محبة الله ، فهلا توعدوا على التسوية بينهما فهو أبلغ ، ويفيد التوعد على التوهم من باب أحرى ، فأجيب بأن محبة الله تعالى ليس بينهما وبين محبة غيره مساواة بخلاف من سواه ؛ فإنه قد يستوفي المحبة فيهم ، وبيانه أن الإنسان إن رجح الجهاد فقد أحب الله ، وإن رجح القعود وترك الصلاة فقد أحب غير الله ، فلهذا قيد بصنيعة المحل.

قوله تعالى : (فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ).

قال الزمخشري : إن قلت : لم عطف (يَوْمَ حُنَيْنٍ) وهو ظرف مجرور على منصوب على المجرور ، وأجيب بثلاثة أوجه :

الأول : قال ابن أوزاعة : لا يجوز أن يقول : جلست في الدار ويوم الجمعة ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ولا معاين للجلوس في الدار والجلوس يوم الجمعة لاحتمال الجلوس في الدار كان يوم الجمعة ، واستشكله أبو حيان وقال : في العربية يجوز عطف ظرف الزمان على ظرف المكان.

قوله تعالى : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ).

٢٩٩

بدل من يوم حنين وهو قيد الأخبر فهل يرجع للأول أم لا يرى على الخلاف في الاستثناء إذا انعقب مجملا.

قوله تعالى : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً).

قلت لابن عرفة : اشتروا من الاشتراء ، فقال : المراد هنا المسمّون.

قوله تعالى : (ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ما يكون متعديا نحو : ساء ما فعله فلان ويكون قاصرا وأضمن بمعنى نتج ، فالمراد هل العمل ما كانوا يعملون ؛ لأنها تجري نعم وبليس ، قال ابن عرفة : إن هذا من التنزيل ؛ لأن اشتروا واضحة ، قيل : إن القاضي عبد السّلام قال في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) [سورة الحاقة : ٥١] إنه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، قال : وذكر الفخر اتفاق النحاة على أنه لا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته ، قال : وفي هذا نظر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ).

إلى قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ) أخذ برد المازري في كتاب التجارة بأن من الحرب أن المسلمين إذا نزلت بهم شدة فإنه لا يجوز لأحدهم أن يدخل دار الكفر لشراء الطعام ، وفرق ابن عرفة : بأن حرمة المسجد أقوى من حرمة المسلم.

قوله تعالى : (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ).

من باب الخاص ، عطف الخاص على العام ، وإن كانوا يدينون أعم من يحرمون ؛ لأن نفي الأعم أخص ، قال : وفي قوله تعالى : (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) دليل على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده.

قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ).

أي جعلناه ترقيا فيؤخذ منه تقديم الأصلح من باب الأمانة على الأعلم وإن جعلناه تدليا فيؤخذ منه تقديم الأعلم.

قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً).

الوصف بواحد إشارة إلى نفي الكمية المتصلة ، والوصف بلا إله إلا الله لنفي الكمية المنفصلة.

٣٠٠