تفسير ابن عرفة - ج ٢

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي

تفسير ابن عرفة - ج ٢

المؤلف:

أبي عبدالله محمّد بن محمّد بن عرفة الورغمي


المحقق: جلال الأسيوطي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-5181-9

الصفحات: ٤٥٣

قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ).

قال ابن عرفة : يحتمل أن يهدون غيرهم وبه يعدلون [٣٥ / ١٧٣]. في القسم أو العكس ، أو يرجع الأول للأمور الاعتقادية ، والثاني للأعمال ؛ فيحتمل أن يكون من العدل ، أو من العدول ، قال : الذين هم بربهم يعدلون ، ولذلك كان رجل دلال في سوق الكتبيين يسمى عدلان ، وكان ابن عبد السّلام يمزح معه : أنت عدلك عن الحق إلى الباطل أو العكس ، وإما لأن الحق يصدق على ما في الاعتقاد ، وإن كان في نفس الأمر ، قال : وعادتهم يوردون سؤالا مذكورا في نفس الائتلاف وهو لم قال (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ). وهلا قال : من أمة موسى قوم ، فإن الأمة أكثر من القوم والقوم أقل ، وعادتهم يجيبون بأن لفظ الأمة بالإلمام واتحاذ الكلمة أكثر مما يشعر به لفظ قوم ولذلك يجمع على أمم ، ولذلك قال : " ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة" ؛ والافتراق دليل على ما تقدم الاجتماع.

قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ).

قال : معطوف على محذوف ؛ أي : فضرب فانبجست قيل له : قال ابن عصفور إن المحذوف ضرب والفاء المتصلة بانبجست ، وأما الفاء الملفوظ بها فهي داخلة على ضرب مقدر بين الفاء وبين انبجست ، فقال : ليتأتى له ما يعطفه عليه مثل (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ.).

قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا الحذف؟ فأجاب : بأنه إشعار بسرعة الانبجاس بنفس الأمر حتى كأنه سابق على الضرب ، قال ابن عرفة : ويذكر فيه جوابا آخر لبعض المتقدمين ؛ وهو أنه مشبهة على إسناد الكائنات إلى الله تعالى ، وأن الضرب إنما هو سبب عادي ، والانبجاس عنده لا به.

قوله تعالى : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ).

قال ابن عطية : العامل في إذ فعل مقدر تقديره : واذكر إذا قيل لهم ، قال ابن عرفة : فعلى هذا يكون إذ مفعولا به ، والصواب أن يقدر أن يكون ظرفا ، لأن وقت القول لهم متقدم الأمر والسكن ، قال : وقد ذكر الوجهان في غير ما وضع إذ هي منصرفة ، فالجواب أن يقدر بها فعل يعمل فيها على أنها ظرف تقديره : أنعمنا عليهم ، إذ قيل لهم : اسكنوا ، قال : والدخول أعم من السكن فهو من التعبير بالأعم مطلقا ، أو بالأعم من وجه دون وجه فيستلزم الأخص ، وعبر في البقرة بالدخول ، لقوله : (رَغَداً) [سورة البقرة : ٣٥] والرغد يستلزم دوام الإقامة ؛ واستغنى عنها بلفظ اسكنوا.

٢٦١

قال ابن عرفة : (وَكُلُوا). إن قلنا : أن أصل الأشياء على الحصر فيكون الأمر في كلوا على الإباحة ، وإن قلنا : أن أصل الأشياء على الإباحة فيكون الأمر به الامتنان.

قوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ).

أخذوا منها مع آية البقرة أن الواو لا تفيد الترتيب ، وأجاب ابن التلمساني : بأنا إذا قلنا : أن المراد بقوله (حِطَّةٌ). كلمة التوحيد فيكونوا أمروا بأن يقولوها قبل الدخول وبعده ، قال ابن عرفة : وكذلك إذ لم يكن المراد بها كلمة التوحيد ، فأجيب بأنها إن كانت كلمة التوحيد فيكون دوامها ضروريا وغيرها ليس بضروري.

قوله تعالى : (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ).

هو هنا بإسقاط الواو ، وفي البقرة بالواو ، وقال البيانيون : إن كان الفعل الثاني قريبا من معنى الأول جدا وبعيدا منه جدا أو دخلت الواو بينهما ، وإن كانت منافاته له في حيز التوسط حذف الواو وهناك عبر بالدخول ، وهو أعم من السكنى فقد ثبت لهم المعنى الأخص فحذفت الواو.

قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا).

ابن عطية : يدل معناه غير اللفظ دون أن يذهب بجميعه ، وأبدل إذا ذهب به وجاء بلفظ آخر ، فرد عليه أبو حيان ، بقوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) [سورة التحريم : ٥] ، وبقوله (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [سورة الفرقان : ٧٠] ، وبقوله (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) [سورة القلم : ٣٢] قال ابن عرفة : هذا يقتضي كله تبديل الذات ، وإنما حقه أن يرد عليه ، بقوله تعالى : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [سورة يونس : ١٥] فإن التبديل هناك تغيير بعض اللفظ دون أن يذهب بالمعنى ، قيل له : بنو إسرائيل غيروا اللفظ كله والمعنى لأنهم أمروا أن يقولوا حطة فدخلوا يزحفون على استاههم وقالوا : حبه في شعيرة.

قوله تعالى : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ).

قال ابن عرفة : هذا مخالف لما يقول المنطقيون والنحويون من أن الطلب من الأعلى للأدنى يسمى أمرا ، أو عكسه يسمى مسألة ؛ فكان يقول على هذا : أو أمرهم بأن يخبروك بخبر القرية التي كانت حاضرة البحر.

قوله تعالى : (حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ).

٢٦٢

ليست إضافة ملك ولا استحقاق ؛ لأنهم لا يملكون الحيتان ولا يستحقونها في السبت ، والظاهر إضافة ملابسة.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ).

ابن عرفة : عبر في الأول بالاسم ، وفي هذا بالفعل ، وهلا قال : وغير يوم سبتهم لا تأتيهم؟ قال ابن عرفة : وأجيب بوجهين ؛ الأول :

أن الجملة الأولى مثبتة وهذه منفية ، والفعل أعم من الاسم ، وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ، ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص.

الثاني : أن قوله (وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ). يشعر باشتغالهم بالأعمال ؛ أي : ويوم اشتغالهم وإقبالهم على العمل الذي من جملته الاصطياد لا تأتيهم ؛ بخلاف ما لو قيل : ويوم غير سبتهم فإنه لا يشعر بذلك.

قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ).

قال ابن عرفة : عبر في (يَنْهَوْنَ). بالفعل المضارع ، وفي (ظَلَمُوا). بالماضي ؛ لأنهما متلازمان ؛ فالنهي إنما هو لمن ظلم.

قال : والجواب ظلموا لأنه أخص ، وينهون أعم لأنه مضارع محتمل للحال والاستقبال ، فناسب استعمال الأخص في العذاب ليدل على أنهم إنما عذبوا بما صدر منهم ، واستعمال الأخف في الإنجاء ليدل على إنجاء من اتصف بما فوق ذلك من باب أحرا.

قوله تعالى : (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ).

أتت هذه كالتفسير لما قبلها ، وأن هذا هو العذاب الذي عذبوا به في الدنيا.

قوله تعالى : (خاسِئِينَ).

إشارة إلى عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ).

فسره ابن عطية بأربعة أمور : إما علم ، وإما مال ، وإما أمر ، .......... (١).

__________________

(١) سقط في المخطوطة.

٢٦٣

وقال الزمخشري : عزم ابن عرفة ، وتقدم النقد على مسلم في مقدمة كتابه ، وظننت حين سألني أن لو عزم الله لي عليه؟ قال المازري : هناك لا يظن أن لو عزم الله عليه لأراده الله تعالى منهم عزما ، فالحاصل أن نسبة العزم إلى الله تعالى لا تصح ، قال المازري : إنما أراد لو سهل لي سبيل العزم ؛ أو خلق لي قوة عليه.

قال عياض : قالت أم سلمة في كتاب الجنائز : ثم عزم الله لي فقتلتها ، وأصل العزم القوة ويكون بمعنى الصبر وتوطين النفس ؛ وحملها على الشيء والمعنى متقارب ، ومنه قوله تعالى : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [سورة الأحقاف : ٣٥].

قال ابن عرفة : والصواب عندي في قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ). أن معناه زاد مواعد ذلك.

قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً).

قال ابن عرفة : عبر بالتقطيع دون التفريق ؛ لأن لفظ التقطيع أصرح وأشفع لاقتضائه تفريقا بعد كمال اتصال ، فإن قلت : لم قال : أمما ، وتقطيعهم آحاد مفترقين أنحى وأبلغ من تقطيعهم؟ فالجواب : أن هذا أبلغ في كمال الإعجاز ؛ لأن كونهم أمما يقتضي الطمع في وقوع القلب ، ولكنهم بعجزهم في هذه الحالة أبلغ وأدل على كمال العجز.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ).

قال ابن عطية : إما أن المراد ومنهم غير الصالحين أي : من الكفار ، وإما أن المراد ومنهم من اتصف بما دون الصلاح.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). ابن عرفة : هذا على سبيل الاحتراس لما استغفروا وتابوا ؛ اقتضى ذلك عدم رجوعهم إلى العصيان ، ومن تاب عن المعصية يبعد رجوعه إليها كمن زنا بامرأة جميلة فإنه لا يسترجع زناه بعد ذلك بامرأة جميلة الصورة ، وكذلك من تاب عن سرقة دينار إذا وجدها بعد ذلك ، وهؤلاء لو قيل في حقهم ، ويقولون : سيغفر لنا قوله استغفارهم من ذلك الذنب ، وأنهم لم يرجعوا إلى مثل الذنب الذي استغفروا منه بل إلى ما هو أخف إلى النفس منه ، فقيل : لا يأتيهم من حيث لو آتاهم عرض مثله لأخذوه.

قوله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ).

إما تقرير لأخذ الميثاق عليهم وإنكار لما ادعوه من عدم أخذ الميثاق عليهم.

٢٦٤

قوله تعالى : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ).

قال ابن عرفة : تقدم فيها سؤال وهو أنه قد رد المدح في حقهم بما اتصفوا به من فعل وقول ، فقال : يأخذون عرض هذا الأدنى ، ويقولون : سيغفر لنا ، وأكد تقرير الذم بالفعل بتكراره ، لقوله (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ). ثم لما انتقل لمقام الرد عليهم ذكر فيه تقبيح قولهم دون فعلهم وهو : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ) ، قال : وأجيب بوجهين ؛ الأول :

أن القول يستلزم الفعل وهو سبب [٣٥ / ١٧٤]. فيه ، فاكتفى بالسبب عن مسببه.

الثاني : قوله (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ). وتلك الجملة هي معمولة لقوله (وَدَرَسُوا ما فِيهِ). أيضا أن الدار الآخرة خير ولم يعملوا بها بل عملوا بنقيضها ، وهذا هو الفعل وهو أخذهم عرض الدنيا ونبذهم عرض الآخرة.

قوله تعالى : (وَدَرَسُوا ما فِيهِ).

ولم يقل ودرسوه إشارة إلى أنهم حفظوه ، ولو قال : ودرسوه لكانوا حفظوا لفظه ولم يتدبروا معناه.

قوله تعالى : (وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).

وذلك أنهم مأثورون بأن يتصفوا بالجودة والطاعة وعدم المخالفة ؛ فاتصفوا بالعصيان ورجاء المغفرة ؛ لقوله تعالى : (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا.).

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).

ورد في الحديث الصحيح أن الله نعالى لما خلق آدم أخرج ذريته من ظهره كالذر فاستعهدهم على أنفسهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى). فهذه الآية اقتضت الإخراج من بني آدم ، والحديث اقتضى أن الإخراج من ظهر آدم لا من ظهر ذريته ، والجمع بينهما بأن المخرج من المخرج من الشيء مخرج من الشيء ، فإذا خرجت سلعة من الصندوق فيها دنانير ، قلت : أخرجت هذه الدنانير من الصندوق ، والآية اقتضت إخراج ذرية بني آدم ، وزاد الحديث بإخراج الوسط وهم بنو آدم من ظهره وإشهادهم على أنفسهم.

قوله تعالى : (وَأَشْهَدَهُمْ).

٢٦٥

إما اشهد بعضهم على بعض ، أو أشهد كل واحد على نفسه.

قوله تعالى : (قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ).

أي : حملناكم ذلك لئلا يقولوا يوم القيامة (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ).

قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ).

ابن عرفة : فيه دليل على أن التقليد غير كاف في الأمور الاعتقادية.

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا).

ابن عرفة : انظر هل ذكر المتلو أم لا ؛ فيحتمل أنه ذكر المتلو وأن هنالك مضمر تقديره : الذي آتيناه آياتنا انسلخ منها ، ابن عرفة : ولم يقل : انقطع عنها لأن الانسلاخ أبلغ كانسلاخ الجلد من الجسد فلا يرجع إليه أصلا بخلاف الانقطاع.

قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ).

أتبعه أي : ساواه ؛ بخلاف أتبعه فإنه من رواية متبع له ولا يراه.

قوله تعالى : (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ).

احتراس لأنه لما تكرر ذمهم في الآية بوصف التكذيب ، وأنهم صدوا غيرهم ؛ احتراس من ذلك بأن حال تكذيبهم راجع عليهم.

قوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي).

قال ابن عرفة : الهداية قسمان : فالهداية الأعمية هي مجرد الإلهام والإعلام بطريق الحق.

والأخصية هي الإعلام بها ، والحمل على سلوكها بالفعل ، كما يقول الشخص : هذه طريق الحق وهذه طريق الباطل ، وتارة يقول له : هذه طريق الحق فاسلكها وتجعله سالكا فيها بالفعل ، فالأعمية هي قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [سورة الإنسان : ٣] ، والأخصية (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [سورة البقرة : ٢١٣ ـ سورة النور : ٤٦] وبقي هنا أخصية قوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ). عبر في الأولى بالملزوم وهي الهداية ، وفي الثاني باللازم وهو الخسران ؛ ففيه حذف التقابل ؛ أي : من يهدي الله فهو المهتدي الراجح ، ومن يضلل فهو الضال الخاسر ، وأولئك هم الخاسرون ، فإن قلت : لم أفرد المعتدي وجمع الضال؟ وجوابه عند النحويين : أنه جاء على الأصل في معلولة لفظ

٢٦٦

من أولا ومعناها ثانيا ، وعند البيانيين : أن المهتدي أقل من الضال فناسب منه الإفراد ، وأتى في الأول بالضمير الدال على القرب ، وفي الثاني باسم الإشارة الدال على البعد.

قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها).

يؤخذ منه أن البصر أشرف من القلب فهو ترق ، أو يقال : أن هذه الحواس كلها خدمة القلب ؛ فالقلب أشرفها.

قوله تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ).

قال ابن عطية : فيها الشهوة ولا عقل لها ، فليس لها منع يمنعها عن شهوتها والإنس والجن فيهم الشهوة ، والعقل المانع من اتباعها ، فالعصاة منهم أضل إذ لم يمنعهم عقلهم من شهوتهم.

قيل لابن عرفة : كان القاضي ابن حيدرة يأخذ من هذه الآية أن بني آدم أفضل من الملائكة ؛ لهم العقل ولا شهوة فيهم ؛ فليس لهم داع يدعوهم إلى المعصية ، وبنو آدم فيهم الشهوة التي تحضهم على المعصية ، فإذا أطاعوا الله وتركوا شهواتهم كانوا أفضل من الملائكة.

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).

المراد إما المسميات أو التسميات على الخلاف في ذلك ، والفاء في قوله (فَادْعُوهُ بِها). إما للتعدية ؛ والمراد فتوسلوا إليه بها ، وقال : وحديث الترمذي تعيين الأسماء الحسنى حسن لكن تلقته الأمة بالقبول فكان كالتصحيح له ، وليس في التصحيح تعيينها ، وإنما قال في الصحيح : " إن لله تسعة وتسعين اسما (١) " من غير تعيين ، لكن تذكر المتكلمين أن من أسمائه واجب الوجود ، ولم يرد ذلك في الحديث وجوزوا إطلاقه.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : ٦٨٧٠ ، ومسلم بن الحجاج في صحيحه حديث رقم : ٤٨٤٠ ، وابن حبان في صحيحه حديث رقم : ٨١٤ ، والحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين حديث رقم : ٤٢ ، والترمذي في جامعه حديث رقم : ٣٤٥٥ ، وابن ماجه في سننه حديث رقم : ٣٨٥٩ ، والبيهقي في السنن الكبرى حديث رقم : ١٨٣٠٧ ، وأحمد بن حنبل في مسنده حديث رقم : ٧٣٢٠ ، والحميدي في مسنده حديث رقم : ١٠٨٠ ، وأبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء حديث رقم : ٨٨١٢.

٢٦٧

هو الإنعام عليهم بنعمة استدراجا لهم في المعاصي.

قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ).

هو عدم مؤاخذتهم بالذنب في الحال وتأخيرهم إلى أجل مسمى ، فإن قلت : عبر في (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ). بالنون الدالة على المتكلم ومعه غيره ، وفي (أُمْلِي لَهُمْ). بهمزة المتكلم وحده ، فأجيب بوجوه ؛ الأول : قال ابن عرفة : المشاهد في الدنيا أن إعطاء النعم في الملوك أكثر من الحلم والصفح والعفو عن المحرم ؛ فلا نجد منهم من يعفو من المحرم إلا القليل بحيث يعد عدا كمعاوية ونحوه ، ونجد الكثير منهم يعطي العطاء الجزيل فلما كان الإنعام أكثر ناسب أن يعبر عنه بالنون التي للمتكلم ومعه غيره ، وكانت هنا للعظمة فقط.

الثاني : أن الاستدراج نعم دنيوية والإملاء تأخير إلى أن يعذبوا عذابا أخرويا.

الثالث : أن الاستدراج فعل يستدعي فاعلا فناسب نون العظمة والإملاء ترك وتأخير وعدم مؤاخذة ، والعدم لا يتعلق به القدرة فناسب همزة المتكلم وحده.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

قال ابن عرفة : وتقدم المبالغة في النفي بأربعة أوجه : الأول : إدخال لفظه من ، الثاني : إفراد لفظة جنة فهو أعم من لو قيل : جنون ، الثالث : بلفظ صاحب المضاف إليهم فهو إشارة إلى أنهم غافلون به وهو بين أظهرهم قديما وحديثا.

قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

الحصر بحسب السياق ؛ أي : هذين لمن كذب وخالف وطعن فيه بالجنون.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال القرافي : الملك راجع للأمر الظاهر ، والملكوت راجع للأمر الباطن ، وهو ظاهر كلام البيضاوي ؛ لقوله في خطبة كتابه الطوالع المطلع بشواهد الملك وغياهب الملكوت ، فالملك ما تعلق بظواهر الملك الأمر ، والملكوت ما تعلق بخفياتها.

وقال ابن عرفة : بل الفرق بينهما أن المخلوقات إن نظرناها باعتبار ذواتها فقط فهو نظر في ملك ، وإن نظرناها من جهة افتقارها إلى موجد أوجدها فهذا نظر في ملكوت ؛ فيستدل به على وحدانية الصانع وقدرته وإرادته وغير ذلك ، فإن قلت : لم قرن الأول بالتفكر والثاني بالنظر؟ ، فالجواب : أن الأول ماض فناسب التفكر كما يتفكر الإنسان شيئا نسيه ، والثاني حالي فناسب النظر.

٢٦٨

وقال بعض الطلبة : إن الأول معنوي وهو الجنون ، والثاني حسي ، قال : وعطف هذه المذكورات ترق لأن الأول خاص بمن نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجنون والثاني عام في الناس أجمعين بالنظر في ملكوت السموات والأرض ليهتدوا إلى توحيد الله وعبادته ، والثاني بمن حصل الإيمان بالله لأنه مأمور بطاعة الله خشية أن يموت قبل استيفاء ما كلفه به من العبادة ، قال : وجمع السموات وأفرد الأرض ؛ لأن دليل تعدد السموات ظاهر مدرك بالرصد والهندسة ، ودليل تعدد الأرض خفي لا تدركه إلا من جهة السمع.

قوله تعالى : (قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ).

قال : الفرق بين قرب ، واقترب أن القرب يقتضي مقاربة الشيء مع كون ذلك الشيء طالبا للمقاربة ، فكان أجلهم يطلبهم ويستدعي أن يقرب منهم ، وهذا مبالغة في طلبه لهم وقربه منهم.

ابن عرفة : وقال هنا (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا). لأنه موضع [٣٦ / ١٧٥] المستقبل ، وقال قبلها (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) لأن متعلقه ماض بحيث بعد.

قوله تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ).

قال ابن عرفة : لم يفصل هذه الجملة عما قبلها بالواو ، إما لكمال المباينة بينهما أو لكمال المقاربة بينهما في المعنى ، ولو كانتا في مقام التوسط لفصلا بالواو ، وهذه الآية احتج بها أهل السنة على المعتزلة في أن الضلالة خلق الله تعالى ؛ لأن ما المراد هنا إلا الإضلال بالفعل ، وقد يجيب الآخرون بما أجابه سراج الدين الإمام الفخر : حيث استدل على وقوع النسخ في القرآن ، بقوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) [سورة البقرة : ١٠٦] فقال السراج : ولقائل أن يقول : ملزومية الشيء للشيء لا تدل على وقوعه ولا على إمكان وقوعه ، فأجاب شمس الدين الجزري : بأن تلك الآية سيقت مساق المدح ، والمدح إنما يكون بالواقع لا بالمنكر ، يجيب أهل السنة بمثل هذا الجواب ؛ لأن سياق الآية دل على أنها جاءت في معرض المدح ، قال : ولا بد فيها من تقييد السنة ، ولا يصح بقاؤها على الإطلاق ، فإن أريد فلا هادي له بالإطلاق تكون حينئذ حينية ؛ أي من يضلل الله حين إضلاله فلا هادي أو فلا هادي له وقت إضلاله ، وإن لم تكن مطلقة فالمعنى فلا هادي له غير الله ولا ينفي عنه نفي الهداية مطلقا ؛ لأنه فريضة في وقت ، والمراد من يضله عند الخاتمة فلا هادي له ، وهذه القضية تعكس عكس النقيض ؛ أي من له هاد فلا مضل له.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها).

٢٦٩

هذا دليل على أن الأمور الاعتقادية لا يصح أن يكتفي فيها بغلبة الظن بوجه ؛ لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) فالمحصول إنما هو العلم فدل على أن الظن يشاركه فيه الغير ، قال : ويجيب الآخرون بأن السؤال في الآية إنما وقع عن علمها ؛ أعني عما يفيد علمها لا عما يحصل طلبها ، فلذلك أجابوا بإسناد علمها الله تعالى ، قيل له : قد ذكر السهيلي أنها تعلم بأوائل السور فاسقط مدتها منها بعد أن جمع حروف ، وأسقط المكرر منها ، وذكر نحوه ابن إسحاق في السير عن اليهود ، وذكره السكوكي وأسنده حديثا ، فقال ابن عرفة : هذا كله غير صحيح.

قوله تعالى : (ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

الثقل فيها لأحد وجهين : إما لشدة أمرهما بأن النفس تنفر منها ، إذ لا يعلم أنها تخلد في النار أو في الجنة ، وإما لنقل الدلائل والطرق إلى العلم بتوقيتها ، فليس ثم دليل موصل إلى ذلك بوجه بخلاف غيرها.

قوله تعالى : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً).

حكم على الغائب بحكم المخاطب مع أن الإتيان إنما هو لذرية المخاطبين النافين لآخر الزمان ؛ فغلب المخاطب الحاضر.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها).

قال ابن عرفة : فصلت هذه الجملة عما قبلها لكمال مفارقتها لها في المعنى.

قال الزمخشري : فإن قلت : لم كرر (يَسْئَلُونَكَ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) قلت : للتأكيد لما جاء بزيادة كأنك خفي عنها ، وعلى هذا تقرير العلماء الحذاق في كتبهم لا يخلو المكرر من فائدة زيادة ، قال ابن عرفة : وكان يمشي لنا نحن أنها ليست مكررة ، وأن الأول سؤال من العوام ، والثاني سؤال من الخواص على أن فيه تفكيك الضمائر لكنه مغتفر وهو أولى من التكرار ، ومما يؤيد هذا ويستأنس به بعض تأنيس العقيب الأول ، بقوله (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ، والعقيب الثاني ، بقوله (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) فالعوام بجهلهم قوبلوا بلفظ الرب المستضيء للإحسان والرحمة والحنان ، والعلماء قوبلوا باللفظ المستضيء للحلال والقهر والغلبة.

قوله تعالى : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها).

هل معناه شبيه بالحقير عنها ، أو أنه مشبه بالخفي عنها إيمانهم يعتقدون شبهه بالخفي ، أو أنه في نفس الأمر شبيه بالخفي ، والظاهر الأول.

٢٧٠

قوله تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

إن أريد أنهم لا يعلمون وثبتها ؛ فالأكثر بمعنى الكل ، وإن أريد لا يعلمون خفيات ولا يعلمون دقائق المعلومات ؛ فالأكثر على بابه لأن الخواص من الأنبياء والعلماء يعلمون ذلك.

قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

قال ابن عرفة : هذا أبلغ من لو قيل : لا أملك نفعا ولا ضرا بالإطلاق ؛ لو كان كذلك لأمكن تخصيصهم بالغير ، فيقال : إنه يملك النفع والضر لنفسه ولا يملك لغيره ، فلما قال : (لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي) دل باللزوم على أنه لا يملك ذلك لغيره من باب أحرا ، والمراد بالضر هنا دفعه لا جلبه ؛ لأن لا أملك جلب نفع ولا دفع ضرر ، والمنفي هنا الملك الفعلي.

قيل لابن عرفة : فالقابلية ، قال : القابلية العرضية منفية والذاتية ثابتة.

قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

إن أريد الملك الأعم من الاستقلالي والكسبي فالاستثناء متصل ، وإن أريد الملك الاستقلالي فقط فالاستثناء منفصل ؛ لأن الذي يملك عندنا هو الكسبي ولا يملك إلا بقدرة الله تعالى وخلق الداعي عليه له.

قوله تعالى : (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ).

فسر بوجهين ؛ أحدهما : لتحررك في قتالهم واستكثرت من الخير فكنت غالبا وما مسني السوء ، ولم أكن مغلوبا قط.

الثاني : لاستكثرت بالتجر في المال والربح فكنت رابحا وما مسني السوء ؛ أي وما كنت خاسرا في تجارتي قط.

ووجد مناسبتها لما قبلها أنهم لما سألوا عن الساعة ، قال : هذا أمر مغيب ، ولا طريق لي إلى العلم بالمغيبات ؛ لأني لو كنت أعلم عواقب الأمور لجزت منها في أحوالي كلها.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ).

الخطاب لقريش ، وقيل : المراد بالنفس آدم أو قصي بن كلاب وعني في الأول بخلق ، وفي الثاني بجمل لأن الخلق في اللغة هو التقدير.

قال الشاعر :

٢٧١

ولأنت تفري ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

والأول : مستند إلى جماعة فناسب الخلق ؛ لأنه قدرهم على صفات عظيمة مختلفة ، وأوصاف منوعة.

والثاني : يتعلق بشيء واحد وهو حواء.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

إن أريد به آدم فهو على ظاهره ، وإن أريد به قصي بن كلاب فالمعنى : وجعل من أمثالها زوجها ، وكلام الزمخشري هنا حسن ، وكلام ابن عطية فيه تسامح ، وكذلك حكاية وسوسة الشيطان فإنها من الخرائف الباطلة.

قوله تعالى : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها).

اختلفوا فيما الأولى في النكاح ، هل النكاح القرابات أو الأجانب؟ ، واستحسن الإمام الغزالي نكاح الأجانب فإن الولد منها يكون أكمل حلية وأحسن ؛ لأن الشهوة إلى الأجنبية أشد من الشهوة إلى القريبة ، والآية حجة لترجيح نكاح القرابات ، لقوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها) وعلله ، بقوله (لِيَسْكُنَ إِلَيْها).

قوله تعالى : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً).

ابن عرفة : قالوا : إذا تقدم الاسم النكرة فأعيد ذكره ، فإنما يعاد معرفا بالألف واللام ، كقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [سورة المزمل : ١٥ : ١٦] ، وكذلك قال سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : (مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [سورة الشرح : ٥ : ٦] لن يغلب عسر يسرين ؛ لأنه إنما أعيد العسر معرفا كان شيئا واحدا ، فيرد السؤال هنا لم أعيد هنا نكرة؟ قال : وتقدم الجواب بأن ذلك إذا كان في كلام واحد ، وهنا في كلامين لقائلين.

قوله تعالى : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما).

قال ابن عرفة : اختلفوا في لفظ شرك هل يحمل على النصف فيقتضي التساوي ، أو على ما هو أعم ، وهذه الآية حجة لمن يحمله على المعنى الأعم ، ومسألة كتاب القرض في المدونة دليل على أنه عنده أعم لأنه جعله فاسدا ، فقال : وإن أقرضت على أن له شركاء في المال لم يسمه كان على قراض مثله إن عمل ، وقال غيره : له النصف.

٢٧٢

وقال في كتاب السلم الثالث : وإن ابتاع رجلان عبدا فسألهما رجل أن يشركاه فالعبد بينهم ثلاثا ، فهذه تدل على التساوي ، وفرق بأن لفظ اشتركا يقتضي التسوية ، ولفظ شرك مرادف للتصريف والنصيب مجهول ، قال ابن عرفة : وحكى لي الفقيه الأعدل ابن العباس أحمد بن سليمان البرمكي ، قال : كنت أتلو القرآن في زاوية بجامع الزيتونة بإزاء سيدي سليمان الزيات ؛ فمرت به هذه الآية فوقع في النفس إشكال في فهمها بالنسبة إلى آدم ، فقال لي سيدي سليمان : في الحال لم يحتمل الشرك آدم وإنما ذلك منسوب لذريته فعددتها له كرامة ومكاشفة.

قوله تعالى : (أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ).

قيل : الضمير عائد على الأصنام ، وأجراهم مجرى من يعقل لمعاملتهم إياه معاملة من يعقل ، قيل : على المشركين.

ابن عرفة : فعلى الأول يكون وهم يخلقون علة مانعة من الإشراك ؛ أي المشركون أصناما مخلوقين مفتقرين إلى موجود أوجدهم ، والإله من شرطه ألا يكون مفتقرا لغيره ، وعلى الثاني يكون دليلا للتوحيد [٣٦ / ١٧٦] راجعا لدلالة التمانع ، أي أتشركون أصناما لا تخلق شيئا ، والغرض إن هؤلاء الكفار في ذواتهم مخلوقين فمن الخالق لهم ليس هو أحد إلا الله تعالى وقال في هذه الآية : إيماء لتكفير بعض غلاة المعتزلة في قولهم : إن العبد يخلق أفعاله فسموا ذلك خلقا.

قوله تعالى : (وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً).

لا يلزم من عدم القدرة على نصرة الغير أن لا يقدر على النصرة لنفسه.

قوله تعالى : (لا يَتَّبِعُوكُمْ).

أي لا يجيبوكم.

قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ).

فإن قلت : لم عبر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم؟ فأجاب بأنه يفيد بأنهم صامتون دائما على الدعاء إليهم.

قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون بما ذكر المنطقيون في العكوسات من أنه إذا لم يستلزم الأخص أمرا لم يستلزم الأعم ، وإذا ثبت استلزام الأخص أمرا لم يلزم منه ثبوت استلزام الأعم له بوجه ، فكما انتفى لزوم العلم للإنسان انتفى لزومه للحيوان ،

٢٧٣

ولا يلزم من ثبوته للإنسان ثبوته للحيوان ، وكذلك هذا إذا ثبت أن مطلق الدعاء لمطلق الصمت ، وهو الأعم في عدم الإجابة من باب أحرى.

قيل لابن عرفة : ينتفي أخص الدعاء ، فقال : ما ثبت عنهم أنهم كانوا يدعونهم ، عرفة إلا بمطلق الدعاء لا بأخصه.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).

هذه دليل لسيبويه في مسألة كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي.

قوله تعالى : (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي).

يؤخذ منها أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يحكم بالاجتهاد ، وأن أحكامه كلها مستندة للوحي.

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

حكى الفخر في الأصول الخلاف في القرآن هل هو اسم جنس يصدق على القليل والكثير ، أو اسم كل ، وتظهر ثمرة الخلاف في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال : وهذه الآية دليل على أنه اسم جنس ؛ لاتفاقهم على أن من سمع أنه من القرآن يؤمر بالإنصات يتناول القارئ بعينه ؛ لأنا نجد بعض الصناع يعمل صنعة وهو يقرأ ويأمر وينهى في قراءاته ، قال : كان ذلك خفيفا فهو مفتقر وإلا لم يجز ، قال : والإنصات متقدم على الاستماع وسبب فيه فهلا قدم عليه في الآية.

قال : وعادتهم يجيبون لأن الاعتناء بطلب فعل ما لم يكن فعل أقوى من الاعتناء لطلب المداومة على فعل ما كان واقفا ؛ لأن هذا أخف على النفوس من الأول ، ومجرد الإنصات شأن الإنسان ، والاستماع هو استحضار الذهن لسماع القرآن فلم يكن هذا مفعولا ، قيل بوجه ، قيل لابن عرفة : هذا إن سلمنا أن الإنصات والصمت بمعنى واحد ، ولنا أن نقول : الإنصات هو القصد إلى الصمت لا مجرد الصمت ، فقال : لا بل هما بمعنى واحد.

قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

لفظ الآية يدل على أن الإنصات والاستماع مطلوبان طلبا لا ينتهي إلى الوجوب ، ومفهومهما يدل على أنهما واجبان ، وإذا لم ينصتوا لم يرحموا ، وترتيب الثواب على

٢٧٤

الفعل لا يدل على وجوب ، وترتيب الذم على تركه يدل على وجوبه وإذا لم يرحموا عذبوا.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً).

قال ابن عرفة : قالوا : تناقض الشاطبي في قوله : ولا عمل إنجاء له من عذابه غداة الجزاء من ذكره متقبلا مع قوله ، وما أفضل الأعمال إلا افتتاحه مع الختم حلا وارتحالا موصلا فدل قوله ولا عمل إنجاء له على أن ذكر الله هو أفضل الأعمال ، وأفضل الأعمال قال : والجواب أن مجرد الذكر هنا قبل الأعمال ، ودل البيت الثاني أن الافتتاح بالقرآن هو أفضل الأعمال ، وأفضل من القراءة ، ومجموع الافتتاح بالقراءة بها أفضل من الذكر.

قوله تعالى : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

إشارة إلى استحضار الإنسان حالتي الإيجاد والإعدام إنما هو حالة القيام من القيام ؛ فكأنه تغير من موت إلى حياة فالأصل حالة التغيير من حاله إلى الموت.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).

تنبيه على إمكان القدرة على الذكر دائما فإن الذي أقدر الملائكة على المداومة على الذكر من غير فتور قادر على أن يقدرك على المداومة عليه من غير فتور.

٢٧٥

سورة الأنفال

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الزمخشري : مدنية ، وقال ابن عطية : إلا قوله (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ) ابن عرفة : وذكروا في سبب نزولها أنها نزلت لأجل خروجه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة فمن رأى أن اسم الهجرة إنما يصدق عليه بعد استقراره في المكان الذي هاجر إليه جعلها مكية ، ومن رأى أنه حين خروجه من مكة يسمى مهاجرا جعلها مدنية ؛ لأن المدني هو ما نزل بعد الهجرة ، والمكي ما نزل قبل الهجرة.

قال ابن عطية : أسند الطبري عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما كان يوم بدر وقتل أخو عبيد قتلت ابن العاصي وأخذت سيفه ، طلبته من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال : ليس ذلك إلي فاطرحه في القمص ، قال ابن عرفة : القمص للغنيمة مثل الحمول للتمر ، وهو المخل الذي توضع فيه الغنائم.

ابن عرفة : وسمي ثقلا لأنه عن غير عوض فأشبه النافلة ، قال أبو حيان : قرئ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) بإسقاط عن وبإثباتها ؛ فعلى الأول يكون سؤالها بمعنى طلبتم أخذها ، وعلى الثاني يكونوا يسألون عن حكمها.

قال ابن عرفة : فالمسئول عنه إن كان ذاتا تعدى الفعل إليه بنفسه ، وإن كان معنى تعدى إليه بحرف الجر ، ابن عرفة : قال بعضهم : وعرف الأقران أيضا أنه إن كان المسئول عنه معنى ، فإن كان ناشئا عن اختلاف تعدي الفعل إليه بعن ، وإن لم يكن ناشئا عن اختلاف تعدى إليه الفعل بنفسه ، كقوله (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [سورة البقرة : ٢١٥] قلت : والسؤال هنا نشأ عن اختلاف ، لقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) وقال شيخنا أيضا : المعدى بعن يكون إلى الحسي وإلى المعنوي ، وقال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [سورة طه : ١٠٥] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) [سورة البقرة : ٢٢٢] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) [سورة الكهف : ٨٣] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) [سورة الإسراء : ٨٥] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [سورة البقرة : ٢٢٠] ، (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [سورة الأعراف : ١٨٧].

قوله تعالى : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).

٢٧٦

والأصل أن يقال : قل هي لله وللرسول ، كما قال تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) لكنه أعيد الظاهر هنا ، والمعنى حكمها لله والرسول فحكمها لله باعتبار أصل الشريعة ؛ لأنه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ، والرسول باعتبار التبليغ لأنه هو المبلغ من الله ، فإن قلت : السؤال عن إعطائها فكيف طابق الجواب ، قلنا : هو منزلة من سأل رجلا أن يعطيه العبد الفلاني ، فيقول له : كيف نعطيك وهو شركة بيني وبين فلان؟.

قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ).

البين من أسماء الأضداد يطلق على الاجتماع وعلى الافتراق.

قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ابن عرفة : وعادتهم يوردون سؤالا وهو : لما أتى بالرسول أولا معرفا بالألف واللام وثانيا مضافا إلى الضمير بما ليس فيه ، وعادتهم يجيبون بأن الحكم لا يستدعي الإضافة ، والطاعة الامتثال فناسب إضافة الرسول ، كما تقول : امتثلت أمر رسول الخليفة فإن ذكره معين على الامتثال ومسبب فيه ؛ لأنه يفيد التهييج على الطاعة من حيث كونه من عند الله فهو أبلغ من كونه مضافا ، وأما في الأول فإنه أتى به لمجرد الإخبار فلم يفتقر إلى إضافة.

قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

إما أن يراد به مطلق الإيمان فيكون من خطاب التهييج والإلهاب مثل : إن كنت ولدي فبرني ، وإما أن يراد بالإيمان الكامل فيكون الشرط على بابه.

قوله تعالى : (إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).

وقال تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [سورة الرعد : ٢٨] ، وقال تعالى (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [سورة الزمر : ٢٣] والجمع بين هذه الآيات.

قوله تعالى : (ذُكِرَ اللهُ).

منه يحدث الطمأنينة واللين ، وأسند الوجل هنا للقلب ، وقال تعالى (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [سورة النجم : ١١] ، وقال تعالى (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [سورة الفرقان : ٣٢] ، وقال تعالى (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) [٣٦ / ١٧٧] (كُلُ

٢٧٧

أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [سورة الإسراء : ٣٦] فأسنده إلى الفؤاد ، فإما أن يقول أن الفؤاد يجمع أعم الجميع ، أو المراد به القلب ، أو المراد هنا بالقلب باطنه وهناك ظاهره وباطنه ، فكذلك عبر عنه بالفؤاد ، وقال تعالى في آخر سورة النور (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [سورة النور : ٦٢] قال ابن عرفة : فعادتهم يوردون فيها سؤالين ؛ الأول : كيف الجمع بينها وبين هذه الآية؟ ، وهل هما متساويتان أم لا؟ والجواب : أن المراد : إنما المؤمنون الكاملون الإيمان ، ووصف الكمال يحتمل تناوبهما فيه ويحتمل التفاوت.

السؤال الثاني : لم خص الإيمان هنا بمن اتصف بالوجل ؛ ولم يقل : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله؟ قال : وعادتهم يجيبون بأن الوصف المجرد هنا معنى راجع للقلوب وهو أمر باطن فلذلك أسنده إلى الوجل ، والوصف هنا ظاهر حسي ؛ فلذلك علقه بالإيمان القولي الظاهر وهو النطق باللسان لأن ما بعده أمر ظاهر وهو الاستئذان.

قوله تعالى : (زادَتْهُمْ إِيماناً).

ابن عرفة : الإيمان إن أريد به مجرد التصديق والاعتقاد القلبي ؛ فهذا لا يزيد ولا ينقص ، وإن أريد الإيمان باعتبار فعل العمل البدني فهذا يزيد وينقص ، واختلفوا في تقرير زيادته فمنهم من جعله يزيد باعتبار المتعلقات مثل أن يكلف بشيء فيؤتى به ، ثم يكلف بآخر فيؤتى به ، ومنهم من جعله يزيد باعتبار كثرة الأعمال الصالحة ، ومنهم من جعله يزيد بكثرة الأدلة وزيادة باعتبار الأدلة إنما تفعل عند من يجعل العلوم متفاوتة ، وأما من يقول : إنها لا تتفاوت فيمنع الزيادة ، قال : والنقص فيه إنما يعقل باعتبار الأدلة وقلتها ، وأما باعتبار المتعلقات فلا يعقل فيه النقص ؛ لأن من لا يؤمن ببعض التكاليف هو كافر ؛ اللهم لو كان ذلك قبل البلوغ ، فكلف بأمرين أمر بأخذهما دون الآخر فهذا يعقل.

قوله تعالى : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

عبر هنا بلفظ الرب المقتضي للرحمة والحنان والشفقة ، وعبر في الأول ، بقوله (إِذا ذُكِرَ اللهُ) لما عقبه بالخوف والوجل ، فإن قلت : لم قال (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) و (زادَتْهُمْ إِيماناً) فعبر فيهما بلفظ الماضي ، وقال (يَتَوَكَّلُونَ) فعبر بالمستقبل؟ قلنا : الماضي يقتضي التحقيق والحصول ؛ فناسب الأولين ؛ لأنه أبلغ في المدح إشارة إلى سرعة الحصول ، وعبر في الثالث بالمستقبل إشارة إلى التجرد والتصوير ، كقوله

٢٧٨

تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [سورة الحج : ٦٣] ولا يقال : يؤخذ من الآية أن الذكر أفضل من التلاوة لأجل تقديمه لجواز أن يكون العطف في الآية من باب الترقي.

قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

احتج بها الفخر للمعتزلة في قولهم : إن الرزق إنما يطلق على الحلال ؛ لأن الآية خرجت مخرج الثناء على المؤمنين ، ولا يصح الثناء إلا بإنفاق المال الحلال ، ورده ابن عرفة بقوله : (وَمِمَّا) وهي للتبعيض ، فهم أنفقوا بعض الرزق وذلك البعض هو الحلال.

قوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

الجمع إما للتوزيع ، أو يكون لكل واحد درجات.

قوله تعالى : (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).

لا يبعد أن يؤخذ منها أن الموت أمر وجودي ، وفيه دليل على أن الوجود مصحح للرؤية وإلا لزم منه التشبيه بالمحال ؛ هذا إن كان مفعول ينظرون ضميرا محذوفا عائدا على الموت ، وإن لم يكن كذلك لم يؤخذ منه ما ذكر.

قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ).

قلت : هذا تحصيل الحاصل إذ الحق لا يحق قبل إحقاقه بمعنى إظهاره ؛ أي يظهر الحق ويظهر الباطل ؛ أي يظهر إبطاله.

قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ).

قال ابن عرفة : ما الفائدة في إمدادهم بالملائكة مع أن الله قادر على نصرتهم من غير إمداد ، قال : فمنهم من أجاب بأنه إشارة إلى ترجيح اتخاذ الأسباب واعتبار الأمور العادية ، وأن الإنسان إذا رأى عدوا لا قدرة له عليه لم ينبغ له أن يقدم على قتاله حتى يكون معه من يعضده عليه ، إلا أن تدعوه الضرورة إلى ذلك ، ومنهم من قال : ليظهر امتنان الله تعالى على نبيه ، وقيل : إن ذلك خشية أن لو اقتصروا عليهم من غير إمداد بالملائكة لتوهم شأن المسلمين ومن فيه نجدة أن ذلك بمجرد قدرتهم في ذواتهم ، ولذلك حكى الزمخشري تلك الحكاية هنا ، وإنما عبر بالاسم في قوله (مُمِدُّكُمْ) إشارة إلى ثبوت الإمداد وتحققه.

٢٧٩

قوله تعالى : (مُرْدِفِينَ).

أي يردف بعضهم بعضا ، وبهذا يجاب عن المعارضة بينها ، وبين قوله تعالى : في آل عمران (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [سورة آل عمران : ١٢٥].

قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

احتراس خشية أن يتوهموا أن النصر بالملائكة ، فأفاد أن هذه أمور عادية ، والنصر عندها لا بها.

قوله تعالى : (وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ).

ولم يقل : أقدامكم.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

قال ابن عرفة : يؤخذ منها جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين ؛ لأن سياق الكلام يدل على أن هذا الحكم المذكور معلل بالحكم ؛ لأن ذلك الحكم عقب المناسب يشعر بالغلبة ، والعلة الثانية قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ).

قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ).

أدغم في سورة الحشر وأظهر هنا فأجاب صاحب المثل السائر : بأنه زاد هنا (وَرَسُولَهُ) فبالغ بالعطف فناسب المبالغة بالتكييف ، وهناك حذف ورسوله ، قال ابن عرفة رحمه‌الله : ووجه الإدغام إن تأولت منه الحركات لازمة جاز الأمران ، مثل هذا فإن أصله يشاقق ؛ فمن نظر إلى أنه يكسر إذا التقى مع ساكن جاء فيه توالي الحركات في بعض الأحوال فيدغم ، ومن نظر إلى أن أحد الحرفين ساكن والكسر عارض فلا يعتد به أظهر ولم يدغم.

والإدغام لغة أهل الحجاز ، وليس عندهم إلا الإدغام ، وبنو تميم يجيزون الأمرين.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

قال أبو حيان : هنا ضمير مستتر لا بد منه ، أي شديد العقاب له ، ورده ابن عرفة بأنه اعتقد أنه خبر من ، وتقرر في باب الأفعال أن خبرها إنما هو فعل الشرط ، فالرابط إنما هو الضمير في يشاقق ، قيل لابن عرفة : إنما قدره ؛ لأن المعنى يقتضي أن المراد شديد العقاب له ، فقال : لم يعتبر هو هذا.

٢٨٠