تفسير البغوي - ج ٢

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

فرفع المدائن كلّها حتى سمع أهل السماء صياح الدّيكة ، ونباح الكلاب. فلم يكفا لهم إناء ولم ينتبه نائم ، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) ، أي على شذّاذها ومسافريها. وقيل : بعد ما قلبها أمطر عليها ، (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : (سنك وكل) (١) فارسي معرب. وقال قتادة وعكرمة : السجّيل الطين ، دليله قوله عزوجل : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)) [الذاريات : ٣٣]. قال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين. وقال الحسن : كان أصل الحجارة طينا فشددت. وقال الضحاك : يعني الآجر. وقيل : السجيل اسم السماء الدنيا. وقيل : هو جبال في السماء ، قال الله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣]. قوله تعالى : (مَنْضُودٍ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : متتابع يتبع بعضه (٢) بعضا مفعول من النضد ، وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.

(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥))

(مُسَوَّمَةً) ، من نعت الحجارة وهي نصب على الحال ، ومعناها معلمة. قال ابن جريج : عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال قتادة وعكرمة : عليها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن والسدي : كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم. وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به. (عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ) ، يعني : تلك الحجارة ، (مِنَ الظَّالِمِينَ) ، أي : من مشركي مكة ، (بِبَعِيدٍ) ، وقال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد. وفي بعض الآثار : ما من ظالم إلّا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. روي : أن الحجر اتّبع شذاذهم ومسافريهم ، أين كانوا في البلاد ، ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلّقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه.

قوله عزوجل : (وَإِلى مَدْيَنَ) ، أي : وأرسلنا إلى ولد مدين ، (أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، أي : لا تبخسوا ، وهم كانوا يطفّفون مع شركهم ، (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) ، قال ابن عباس : موسرين في نعمة. وقال مجاهد : في خصب وسعة ، يحذّرهم (٣) زوال النعمة ، وغلاء السعر وحلول النقمة ، إن لم يتوبوا. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) ، يحيط بكم فيهلككم.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، أتمّوهما ، (بِالْقِسْطِ) ، بالعدل. وقيل : بتقويم لسان الميزان ، (وَلا تَبْخَسُوا) ، لا تنقصوا ، (النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا

__________________

(١) في المطبوع «سنك كل» وفي المخطوط «سبك ولك» والمثبت عن الطبري ١٨٤٤٢ و ١٨٤٤٥ و ١٨٤٤٦ أي : سنك : حجر ، كل : طين.

(٢) في المطبوع «بعضها».

(٣) في المطبوع «فحذرهم».

٤٦١

اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩))

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهد : (بَقِيَّتُ اللهِ) ، أي : طاعة الله (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أن ما عندكم من رزق الله وعطائه. (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) ، بوكيل. وقيل : إنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) ، من الأوثان. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان شعيب عليه‌السلام كثير الصلاة ، لذلك قالوا هذا. وقال الأعمش : يعني أقراءتك. (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) ، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الزيادة والنقصان. وقيل : كان شعيب عليه‌السلام قد نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم ، زعم أنه محرم عليهم فقالوا : أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء من قطعها. (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : أرادوا السفيه الغاوي ، والعرب تصف الشيء بضدّه فتقول : للديغ سليم وللفلاة مفازة. وقيل : قالوه على وجه الاستهزاء. وقيل : معناه الحليم الرشيد بزعمك. وقيل : هو على الصحة أي إنك يا شعيب فينا حليم رشيد لا يجمل (١) بك شق عصا قومك ومخالفة دينهم ، وهذا كما قال قوم صالح عليه‌السلام : (قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) [هود : ٨٢].

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) ، بصيرة وبيان ، (مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) ، حلالا. وقيل : كثيرا. كان شعيب عليه‌السلام كثير المال. وقيل : الرزق الحسن : العلم والمعرفة. (وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) ، أي : ما أريد أن أنهاكم عن شيء ثم أرتكبه. (إِنْ أُرِيدُ) ، ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، (إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) ، والتوفيق [خلق قدرة الطاعة في العبد](٢) وتسهيل سبيل الخير والطاعة ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، اعتمدت ، (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، أرجع فيما ينزل بي من النوائب. وقيل : في المعاد.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) ، لا يحملنّكم ، (شِقاقِي) ، خلافي (أَنْ يُصِيبَكُمْ) ، أي : على فعل ما أنهاكم عنه [فيصيبكم](٣) ، (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) ، من الغرق ، (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) ، من الريح ، (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) ، من الصّيحة ، (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ، وذلك أنهم كانوا حديثي عهد بهلاك قوم لوط.

وقيل : معناه وما دار قوم لوط منكم ببعيد ، وذلك أنهم كانوا جيران قوم لوط.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣))

__________________

(١) في المطبوع «يحمل» وفي المخطوط «يمكن» والمثبت عن ط.

(٢) زيادة عن المخطوطتين.

(٣) زيادة عن المخطوط.

٤٦٢

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)) ، والودود له معنيان ، أحدهما : أنه محب للمؤمنين ، وقيل : هو بمعنى المودود أي المحبوب للمؤمنين. وجاء في الخبر : إن شعيبا عليه‌السلام كان خطيب الأنبياء عليهم‌السلام.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) ، [أي :](١) ما نفهم ، (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) ، وذلك أنه كان ضرير البصر (١) ، فأرادوا ضعف البصر ، (وَلَوْ لا رَهْطُكَ) ، عشيرتك وكان في منعة من قومه ، (لَرَجَمْناكَ) ، لقتلناك. والرجم : أقبح القتل. (وَما أَنْتَ عَلَيْنا) ، عندنا ، (بِعَزِيزٍ).

(قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) ، أمكان (٢) رهطي أهيب عندكم من الله ، [أي :](٣) إن تركتم قتلي لمكان رهطي فالأولى أن تحفظوني في الله. (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ، أي : نبذتم أمر الله وراء ظهوركم وتركتموه ، (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) ، أي : على تؤدتكم وتمكّنكم. يقال : فلان يعمل على مكانته إذا عمل على تؤدة وتمكّن. (إِنِّي عامِلٌ) ، على تمكّني ، ف (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، أيّنا الجاني على نفسه والمخطئ في فعله ، فذلك قوله : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يذلّه ، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) ، قيل : (مَنْ) في محل النصب ، أي : فسوف تعلمون الكاذب. وقيل : محله رفع ، تقديره : ومن هو كاذب يعلم كذبه ويذوق وبال أمره. (وَارْتَقِبُوا) ، وانتظروا العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ، منتظر.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١))

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) ، قيل : إن جبريل عليه‌السلام صاح بهم صيحة فخرجت أرواحهم. وقيل : أتتهم صيحة من السماء فأهلكتهم. (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) ، ميتين.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) ، [أي : كأن لم يقيموا](٤) ولم يكونوا ، (فِيها أَلا بُعْداً) ، هلاكا ، (لِمَدْيَنَ كَما

__________________

(١) لم يثبت أنه عليه‌السلام كان أعمى ، وإنما هو من أخبار الإسرائيليين ومرادهم بالضعف ضعف القوة هذا هو ظاهر الآية ، فلا يعدل عنه بخبر إسرائيلي.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المخطوط «إن كان».

(٣) ليس في المخطوط.

(٤) زيد في المطبوع وط.

٤٦٣

بَعِدَتْ) ، هلكت (ثَمُودُ).

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦)) ، حجّة بيّنة.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧)) ، بسديد.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ) ، يتقدّمهم ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ) ، فأدخلهم ، (النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) ، أي : بئس المدخول والمدخول فيه.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ) ، [أي : في هذه الدنيا](١)(لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) ، أي : العون المعان. وقيل : العطاء المعطى ، وذلك أنهم ترادفت عليهم اللّعنتان ، لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ) ، عامر ، (وَحَصِيدٌ) ، خراب. وقيل : منها قائم بقيت الحيطان وسقطت السقوف. وحصيد ، أي : انمحى أثره. وقال مقاتل : قائم يرى له أثر وحصيد لا يرى له أثر ، وحصيد بمعنى محصود.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) ، بالعذاب والإهلاك (٢) ، (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ، بالكفر والمعصية (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) ، عذاب ربك ، (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) ، أي : غير تخسير ، وقيل : تدمير.

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦))

(وَكَذلِكَ) ، وهكذا ، (أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

[١١٦٣] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا صدقة بن الفضل أنبأنا أبو معاوية أنبأنا بريد بن أبي بردة [عن أبي بردة](٣) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» ، قال : ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) الآية.

قوله عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) ، لعبرة ، (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) ،

__________________

[١١٦٣] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

أبو معاوية هو محمد بن خازم ، بريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة.

وهو في «صحيح البخاري» ٤٦٨٦ عن صدقة بن الفضل بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم ٢٥٨٣ والترمذي ٣١١٠ وابن ماجه ٤٠١٨ والطبري ١٨٥٥٩ والبيهقي (٦ / ٩٤) والبغوي في «شرح السنة» ٤٠٥٧ من طريق عن أبي معاوية به.

وأخرجه الترمذي بإثر ٣١١٠ وابن حبان ٥١٧٥ من طريق أبي أسامة عن بريد به.

__________________

(١) زيد في المطبوع وط.

(٢) في المطبوع «والهلاك».

(٣) سقط من المطبوع وط.

٤٦٤

يعني : يوم القيامة ، (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ، أي : يشهده أهل السماء والأرض.

(وَما نُؤَخِّرُهُ) ، أي : وما نؤخّر ذلك اليوم ، فلا نقيم عليكم القيامة. وقرأ يعقوب : وما يؤخّره بالياء ، (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) ، [أي :](١) معلوم عند الله [تعالى](٢).

(يَوْمَ يَأْتِ) ، قرئ بإثبات الياء وحذفها ، (لا تَكَلَّمُ) ، أي : لا تتكلم (نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، أي : فمنهم من سبقت له الشقاوة ومنهم من سبقت له السعادة.

[١١٦٤] أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري أنبأنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنبأنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدبري أنبأنا عبد الرزاق أنا [معمر عن منصور عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السّلمي](٣) عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال :

خرجنا على جنازة فبينا نحن بالبقيع إذ خرج [علينا] رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيده مخصرة فجاء فجلس ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : «ما من نفس منفوسة إلّا وقد كتب مكانها من الجنّة أو النار ، إلّا وقد كتبت شقية أو سعيدة». قال : فقال رجل : أفلا نتّكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل؟ قال : «لا ، ولكن اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له ، أما أهل الشقاوة فسييسّرون لعمل أهل الشقاوة ، وأما أهل السعادة فسييسّرون لعمل أهل السعادة» ، قال : ثم تلا : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠)) [الليل : ٥ ـ ١٠].

قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦)) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف. وقال الضحاك ومقاتل : الزفير أول نهيق الحمار ، والشهيق أخره إذا ردّده في جوفه. وقال أبو العالية : الزفير في الحلق والشهيق في الصدر.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

(خالِدِينَ فِيها) ، لابثين مقيمين فيها ، (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ، قال الضحاك : ما دامت سماوات الجنّة والنار وأرضها ، وكل ما علاك فأظلّك فهو سماء ، وكل ما استقرّت عليه قدمك فهو أرض. وقال أهل المعاني : هذا عبارة عن التأييد على عادة العرب ، يقولون : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ، ولا يكون كذا ما اختلف اللّيل والنهار ، يعنون أبدا. قوله : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ، اختلفوا في

__________________

[١١٦٤] ـ صحيح ، إسحاق صدوق ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

عبد الرزاق هو ابن همام ، معمر هو ابن راشد ، منصور هو ابن المعتمر ، أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الملك بن حبيب.

وهو في «شرح السنة» ٧١ بهذا الإسناد ، وفي «مصنف عبد الرزاق» ٢٠٠٧٤ عن معمر به.

وأخرجه البخاري ١٣٦٢ و ٤٩٤٨ و ٦٢١٧ و ٧٥٥٢ ومسلم ٢٦٤٧ وأبو داود ٢٦٩٤ والترمذي ٣٣٤٤ وأحمد (١ / ١٢٩) والآجري في «الشريعة» ص ١٧١ من طرق عن منصور بن المعتمر به.

وأخرجه البخاري ٤٩٤٥ و ٤٩٤٩ و ٦٢١٧ ومسلم ٢٦٤٧ والترمذي ٢١٣٦ وابن ماجه ٧٨ وأحمد (١ / ٨٢ و ٣١٢ و ١٣٣) والآجري ص ١٧٢ وابن حبان ٣٣٤ من طرق عن الأعمش عن سعد بن عبيدة به.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) سقط من المخطوط.

٤٦٥

هذين الاستثناءين ، فقال بعضهم : الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من الموحّدين (١) يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ، ثم يخرجهم منها فيكون ذلك استثناء من غير الجنس ، لأن الذين أخرجوا من النار سعداء ثم استثناهم الله من جملة الأشقياء ، وهذا كما :

[١١٦٥] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد [المليحي أنبأنا أحمد](٢) بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا حفص بن عمر ثنا هشام عن قتادة عن أنس :

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليصيبنّ أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها ، عقوبة ثم يدخلهم (٣) الله الجنّة بفضل رحمته ، فيقال لهم الجهنميون».

[١١٦٦] وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي قال : أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدّد أخبرنا يحيى عن الحسن بن ذكوان أنبأنا أبو رجاء حدّثني عمران بن حصين رضي الله عنه :

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [قال](٤) : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنّة ويسمون الجهنميين».

وأمّا الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبثهم في النار قبل دخول الجنّة. وقيل : إلى ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث ، قبل مصيرهم إلى الجنّة أو النار ، يعني : هم خالدون في الجنّة أو النار إلى (٥) هذا المقدار. وقيل : معنى (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [أي] سوى ما شاء ربك ، معناه : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما شاء الله من الزيادة على قدر مدة بقاء السموات والأرض ، وذلك هو الخلود فيها ، وكما تقول : لفلان عليّ ألف إلا الألفين (٦) ، أي : سوى الألفين اللتين تقدّمتا. وقيل : إلّا بمعنى الواو ، أي : وقد شاء ربّك خلود هؤلاء

__________________

[١١٦٥] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

هشام هو ابن عبد الله ، قتادة هو ابن دعامة.

وهو في «شرح السنة» ٤٢٤٦ بهذا الإسناد ، وفي «صحيح البخاري» ٧٤٥٠ عن حفص بن عمر به.

وأخرجه أحمد (٣ / ١٣٣ و ١٤٧ و ٢٠٨) من طريق هشام به.

وأخرجه البخاري ٦٥٥٩ و ٧٤٥٠ وأحمد (٣ / ٣٤ و ٢٦٩) وأبو يعلى ٢٨٨٦ من طريق همام عن قتادة به.

وأخرجه عبد الرزاق ٢٠٨٥٩ من طريق معمر عن ثابت وقتادة به ، ومن هذه الطريق أحمد (٣ / ١٦٣).

وفي الباب من حديث عمران بن حصين وهو الآتي ومن حديث ابن مسعود أبي يعلى ٤٩٧٩ وأحمد (١ / ٤٥٤) وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٣٢٠ وابن حبان ٧٤٢٨ والبيهقي في «البعث» ٤٣٥.

[١١٦٦] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

مسدّد هو ابن مسرهد ، يحيى هو ابن سعيد القطان ، أبو رجاء هو عمران بن ملحان.

وهو في «شرح السنة» ٤٢٤٧ بهذا الإسناد.

وفي «صحيح البخاري» ٦٥٦٦ عن مسدد به.

وأخرجه أبو داود ٤٧٤٠ عن مسدد به.

وأخرجه ابن ماجه ٤٣١٥ من طريق يحيى بن سعيد به.

__________________

(١) في المطبوع «المؤمنين».

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) في المطبوع «يدخلها».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المطبوع «لا».

(٦) في المخطوط «ألفين».

٤٦٦

في النار وهؤلاء في الجنّة ؛ كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٥٠] ، أي : ولا الذين ظلموا. وقيل : معناه ولو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء لأنه حكم لهم بالخلود. وقال الفراء : هذا استثناء (١) استثناه الله ولا يفعله ؛ كقولك : والله لأضربنّك إلّا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه. (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ).

(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) ، قرأ حمزة والكسائي وحفص (سُعِدُوا) ، بضم السين وكسر العين ، أي : رزقوا السعادة ، وسعد وأسعد بمعنى واحد. وقرأ الآخرون بفتح السين قياسا على (شَقُوا) [هود : ١٠٦]. (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) ، قال الضحاك : إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنّة. قال قتادة : الله أعلم بثنياه. (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، أي : غير منقطع (٢). قال ابن زيد : أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنّة ، فقال : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ليأتينّ على جهنّم زمان ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. ومعناه عند أهل السنة إن ثبت : أن لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان. وأمّا مواضع الكفار فممتلئة أبدا.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١))

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) ، في شكّ ، (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) ، أنهم ضلّال ، (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ) ، فيه إضمار ، أي : كما كان يعبد ، (آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، حظّهم من الجزاء. (غَيْرَ مَنْقُوصٍ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، التوراة ، (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ، فمن مصدق به ومكذّب كما فعل قومك بالقرآن ، يعزّي نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) ، في تأخير العذاب عنهم ، (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ، أي : لعذّبوا في الحال وفرغ من عذابهم وإهلاكهم ، (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) ، موقع في الريبة والتّهمة.

(وَإِنَّ كُلًّا) ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر : (وَإِنَّ كُلًّا) ، ساكنة النون على تخفيف إن الثقيلة ، والباقون بتشديدها ، (لَمَّا) شددها هنا وفي يس والطارق ، ابن عامر وعاصم وحمزة. ووافق أبو جعفر هاهنا ، وفي الطارق والزخرف ، بالتشديد عاصم وحمزة ، والباقون بالتخفيف ، فمن شدّد [قال : الأصل فيه (وَإِنَّ كُلًّا) لمن ما ، فوصلت من الجارة بما ، فانقلبت النون ميما للإدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهنّ ، فبقيت لما بالتشديد ، وما هاهنا بمعنى من ، هو اسم لجماعة من الناس ، كما قال تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] ، أي : من طاب لكم ، والمعنى : وإنّ كلّا لمن جماعة ليوفينّهم. ومن قرأ بالتخفيف قال : ما صلة زيدت بين اللّامين ليفصل بينهما كراهة اجتماعهما ، والمعنى : وإن

__________________

(١) في المخطوط «الاستثناء».

(٢) في المطبوع «المقطوع».

٤٦٧

كلّا ليوفينّهم. وقيل ما بمعنى من ، تقديره : لمن ليوفينهم](١) ، واللام في (لَمَّا) لام التأكيد ، [التي تدخل على خبر إن](٢) ، وفي ليوفينّهم لام القسم ، [والقسم مضمر](٣) تقديره : والله ، (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) ، أي : جزاء أعمالهم ، (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤))

قوله عزوجل : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ، أي : استقم على دين ربّك والعمل به والدعاء إليه كما أمرت ، (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) ، أي : ومن آمن معك فليستقيموا ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغ روغان الثعالب (٤).

[١١٦٧] أخبرنا الإمام الحسين بن محمد القاضي أنا أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان أنا والدي إملاء ثنا أبو بكر محمد بن إسحاق ثنا محمد بن العلاء أبو كريب ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال :

قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك ، قال : «قل آمنت بالله ثم استقم».

(وَلا تَطْغَوْا) ، لا تجاوزوا أمري ولا تعصوني. وقيل : معناه ولا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيت. (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، لا يخفى عليه من أعمالكم شيء.

[١١٦٨] قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشدّ عليه من هذه الآية ، ولذلك قال : «شيبتني هود وأخواتها».

__________________

[١١٦٧] ـ صحيح. أبو بكر هو ابن خزيمة ، ثقة إمام ، وقد توبع ومن دونه ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

أبو أسامة هو حماد بن أسامة ، عروة هو ابن الزبير.

وهو في «شرح السنة» ١٦ بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم ٣٨ وأحمد (٣ / ٤١٣) وابن حبان ٣٤٢ من طرق عن هشام بن عروة به.

وأخرجه الترمذي ٢٤١٠ وابن ماجه ٣٩٧٢ والطيالسي ١٢٣١ وأحمد (٣ / ٤١٣) والطبراني ٦٣٩٦ و ٦٣٩٧ من طرق عن الزهري عن محمد بن عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد الله به.

وبعض الرواة يقول عبد الرحمن بن ماعز بدل محمد بن عبد الرحمن.

وأخرجه أحمد (٣ / ٤١٣) و (٤ / ٣٨٤ و ٣٨٥) والطبراني ٦٣٩٨ من طريقين عن يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه.

[١١٦٨] ـ لم أره بهذا السياق والمرفوع منه يأتي تخريجه برقم : ١١٧٤.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين كذا في المطبوع وط ، وهو في المخطوط [وإن كلا لم ما ـ فحذفت إحدى الميمين ومعناه إلا ليوفيهم ربك أعمالهم ، ومن قرأ بالتخفيف قال : ما ـ صلة أي : وإن كلّا لما ليوفينهم ، وقيل ـ ما ـ بمعنى ـ من ـ تقديره : لمن ليوفينهم ، كقوله تعالى : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أي : من طاب].

(٢) زيد في المطبوع.

(٣) زيد في المطبوع.

(٤) في المطبوع «الثعلب».

٤٦٨

[١١٦٩] أخبرنا عبد الواحد [بن أحمد](١) المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد السلام بن مطهّر ثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه :

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الدين يسر ولن يشادّ هذا الدين أحد إلّا غلبه ، فسدّدوا وقاربوا ، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة».

قوله عزوجل : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولا تميلوا. والركون : هو المحبة والميل بالقلب. وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم. قال السدي : لا تداهنوا الظلمة. وعن عكرمة : لا تطيعوهم [فيما يقولوه ويعملوه](٢) ، وقيل : لا تسكنوا إلى الذين ظلموا (فَتَمَسَّكُمُ) ، فتصيبكم ، (النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) ، أي : أعوان يمنعونكم من عذابه ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ).

قوله عزوجل : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) ، أي : الغداة والعشي. قال مجاهد : النهار صلاة الصبح والظهر والعصر. (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ، صلاة المغرب والعشاء. [وقال مقاتل : صلاة الفجر والظهر طرف ، وصلاة العصر والمغرب طرف ، وزلفا من الليل يعني صلاة العشاء. وقال الحسن : طرفا النهار الصبح والعصر ، وزلفا من اللّيل المغرب والعشاء](٣). وقال ابن عباس رضي الله عنهما : طرفا النهار الغداة والعشي ، يعني صلاة الصبح والمغرب. قوله : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ، أي : ساعاته واحدتها زلفة وقرأ أبو جعفر : (زُلَفاً) بضم اللام. (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، يعني : إن الصلوات الخمس يذهبن الخطيئات.

[١١٧٠] وروي أنها نزلت في أبي اليسر ، قال : أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت : إن في البيت تمرا أطيب منه ، فدخلت معي في البيت ، فأهويت إليها فقبلتها ، فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فذكرت ذلك له فقال : استر على نفسك وتب ، فأتيت عمر رضي الله عنه ، فقال : استر على نفسك وتب ، فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ، حتى ظنّ أنه من أهل النار؟ فأطرق

__________________

[١١٦٩] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري.

وهو في «شرح السنة» ٩٣٠ بهذا الإسناد ، وفي «صحيح البخاري» ٣٩ عن عبد السلام بن مطهر به.

وأخرجه النسائي (٨ / ١٢١ و ١٢٢) وابن حبان ٣٥١ والبيهقي (٣ / ١٨) من طرق عن عمر بن علي به.

[١١٧٠] ـ أخرجه الترمذي ٣١١٥ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٤٨ والطبري ١٨٦٩٧ و ١٨٦٩٨ من حديث أبي اليسر بن عمرو الأنصاري ، وليس في رواية الترمذي والنسائي ذكر عمر رضي الله عنه.

وقال الترمذي : وهذا حديث حسن صحيح.

وفي الباب من حديث معاذ بن جبل أخرجه الترمذي ٣١١٣ والدارقطني (١ / ١٣٤) والحاكم (١ / ١٣٥) والبيهقي (١ / ١٢٥) وصححه الدارقطني وسكت عليه الحاكم ، وكذا الذهبي ، مع أن إسناده منقطع.

فقد قال الترمذي : هذا حديث ليس إسناده بمتصل عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ، وروى شعبة هذا الحديث عن ابن أبي ليلى مرسلا اه.

وانظر الحديث الآتي ، فإنه يشهد لأصله ، والله أعلم.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيد في المطبوع.

٤٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [رأسه](١) حتى أوحى الله إليه : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) الآية ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : «بل للناس عامة» (٢).

[١١٧١] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنبأنا قتيبة بن سعيد ثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود رضي الله عنه :

أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فأنزل الله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ، فقال الرجل : يا رسول الله ألي هذا؟ قال : «لجميع أمتي كلهم».

[١١٧٢] وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد أنا محمد بن عيسى الجلودي أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أبو الطاهر وهارون بن سعيد الأيلي قالا : حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدّثه عن أبيه عن أبي هريرة :

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر».

[١١٧٣] وأخبرنا عبد الواحد المليحي أنا [أبو] محمد الحسن بن أحمد المخلدي أنبأنا أبو العباس محمد بن

__________________

[١١٧١] ـ إسناده على شرط البخاري ومسلم.

سليمان التيمي هو ابن بلال ، أبو عثمان هو عبد الرحمن بن مل.

وهو في «شرح السنة» ٣٤٧ بهذا الإسناد ، وفي «صحيح البخاري» ٥٢٦ عن قتيبة به.

وأخرجه البخاري ٤٦٨٧ ومسلم ٢٧٦٣ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٤٧ وابن خزيمة ٣١٢ والبيهقي (٨ / ٢٤١) من طرق عن يزيد بن زريع به.

وأخرجه مسلم ٢٧٦٣ ح ٤١ والترمذي ٣١١٤ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٤٧ وابن ماجه ١٣٩٨ و ٤٢٥٤ وابن حبان ١٧٢٩ والطبري ١٨٦٨٩ من طرق عن سليمان التيمي به.

[١١٧٢] ـ إسناده صحيح على شرط مسلم.

أبو الطاهر هو أحمد بن عمرو ، ابن وهب هو عبد الله ، أبو صخر هو حميد بن زياد ، إسحاق هو ابن عبد الله.

وهو في «صحيح مسلم» ٢٣٣ ح ١٦ عن هارون وأبي الطاهر بهذا الإسناد.

وأخرجه أحمد (٢ / ٤٠٠) والبيهقي (١٠ / ١٨٧) من طريق ابن وهب بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم ٢٣٣ والترمذي ٢١٤ وأحمد (٢ / ٤٨٤) وأبو عوانة (٢ / ٢٠) وابن خزيمة ٣١٤ و ١٨١٤ وابن حبان ١٧٣٣ والبيهقي (٢ / ٤٦٧) و (١٠ / ١٨٧) والمصنف في «شرح السنة» ٣٤٦ من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به إلا أنه لم يذكر «ورمضان إلى رمضان».

أخرجه ابن ماجه ١٠٨٦ من طريق العلاء ولم يذكر «الصلوات الخمس».

وأخرجه الطيالسي ٢٤٧٠ وأحمد (٢ / ٤١٤) من طريق الحسن عن أبي هريرة به.

[١١٧٣] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. قتيبة هو ابن سعيد.

الليث هو ابن سعد ، ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله بن أسامة.

وهو في «شرح السنة» ٣٤٣ بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم ٦٦٧ والترمذي ٢٨٦٨ وأحمد (٢ / ٣٧٩) والدارمي (١ / ٢٦٨) وأبو عوانة (٢ / ٢٠) والبيهقي (١ / ٣٦١).

__________________

(١) زيادة عن المخطوطتين.

(٢) وقع في هذا الحديث زيادات في مواضع متفرقة منه في المطبوع والمثبت عن المخطوطتين وط.

٤٧٠

إسحاق [السراج](١) أنبأنا قتيبة أنبأنا الليث وبكر بن مضر عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كلّ يوم خمس [مرات](٢) هل يبقى من درنه شيء؟» قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : «فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بهن الخطايا».

قوله عزوجل : (ذلِكَ) ، أي : ذلك الذي ذكرنا. وقيل : هو إشارة إلى القرآن ، (ذِكْرى) عظة (لِلذَّاكِرِينَ) ، أي : لمن ذكره.

(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

(وَاصْبِرْ) يا محمد على ما تلقى من الأذى. وقيل : على الصلاة (٣) ، نظيره : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٣٢]. (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ، في أعمالهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني المصلّين.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

قوله عزوجل : (فَلَوْ لا) ، فهلا ، (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) ، التي أهلكناهم ، (مِنْ قَبْلِكُمْ) ، الآية للتوبيخ ، (أُولُوا بَقِيَّةٍ) ، أي : أولو تمييز. وقيل : أولو طاعة. وقيل : أولو خير. يقال : فلان ذو بقية إذا كان فيه خير. معناه : فهلا كان من القرون من قبلكم من فيه خير ينهى عن الفساد في الأرض؟ وقيل : معناه أولو بقية من خير. يقال : فلان على بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة. (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ، أي : يقومون بالنهي عن الفساد ، ومعناه جحدا ، أي : لم يكن فيهم أولو بقية. (إِلَّا قَلِيلاً) ، هذا استثناء منقطع معناه : لكن قليلا ، (مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) ، وهم أتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد في الأرض. (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا) ، نعموا ، (فِيهِ) ، والمترف : المنعم. وقال مقاتل بن حيان : خوّلوا. وقال الفراء : عوّدوا (٤) ، أي : واتبع الذين ظلموا ما عوّدوا من النعيم واللذّات وإيثار الدنيا على الآخرة. (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) ، كافرين.

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) ، أي : لا يهلكهم بشركهم ، (وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) ، فيما

__________________

من طرق عن الليث عن ابن الهاد.

وأخرجه البخاري ٥٢٨ من طريق ابن أبي حازم والدراوردي عن ابن الهاد به.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط و «شرح السنة».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المخطوط «الصلوات».

(٤) زيد في المطبوع وط عقب «عودوا» [من النعيم واللذات وإيثار الدنيا] والظاهر أنه مقحم ، وهو مكرر ما بعده.

٤٧١

بينهم يتعاطون الإنصاف ولا يظلم بعضهم بعضا ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا. وقيل : لا يهلكهم بظلم منه وهم مصلحون في أعمالهم ، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السيّئات.

قوله عزوجل : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ) ، كلّهم ، (أُمَّةً واحِدَةً) ، على دين واحد ، (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) ، على أديان شتى من بين يهودي ونصراني ومجوسي ومشرك [ومسلم](١).

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ، معناه : لكن من رحم ربك فهداهم إلى الحق ، فهم لا يختلفون ، (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ، قال الحسن وعطاء : وللاختلاف خلقهم. وقال أشهب : سألت مالكا عن هذه الآية ، فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنّة وفريق في السعير. وقال أبو عبيد (٢) : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : وللرحمة خلقهم ، يعني الذين رحمهم. وقال الفراء : خلق أهل الرحمة للرحمة ، وأهل الاختلاف للاختلاف. ومحصول الآية أن أهل الباطل مختلفون وأهل الحق متّفقون ، فخلق الله أهل الحق للاتفاق وأهل الباطل للاختلاف. (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ، وتمّ حكم ربّك ، (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) ، معناه : وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل ، أي : من أخبارهم وأخبار أممهم نقصّها عليك ، (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) ، لنزيدك يقينا ونقوّي قلبك ، وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه. (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) ، قال الحسن وقتادة : في هذه الدنيا. وقال غيرهما : في هذه السورة. وهو قول الأكثرين ، خصّ هذه السورة تشريفا ، وإن كان قد جاءه الحقّ في جميع السور. (وَمَوْعِظَةٌ) ، أي : وجاءتك موعظة ، (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) ، أمر تهديد ووعيد ، (إِنَّا عامِلُونَ).

(وَانْتَظِرُوا) ، ما يحلّ بنا من رحمة الله ، (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ، ما يحلّ بكم من نقمة الله.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : [علم](٣) ما غاب عن العباد فيهما ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، في المعاد. قرأ نافع وحفص : (يُرْجَعُ) بضم الياء وفتح الجيم ، أي : يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم ، أي : يعود الأمر كلّه إليه حتى لا يكون للخلق أمر. (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ، وثق به ، (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، قرأ أهل المدينة و [أهل](٤) الشام وحفص ويعقوب : (تَعْمَلُونَ) بالتاء هاهنا وفي آخر سورة النمل. وقرأ الآخرون بالياء فيهما. قال كعب : خاتمة التوراة خاتمة سورة هود.

[١١٧٤] أخبرنا أبو محمد عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي

__________________

[١١٧٤] ـ جيد. إسناده حسن ، محمد بن العلاء فمن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى معاوية بن هشام فإنه من رجال مسلم وحده ، وفيه ضعف لكن للحديث شواهد وطرق.

__________________

(١) زيادة عن المخطوطتين.

(٢) في المطبوع وط «عبيدة».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

٤٧٢

أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب حدثنا أبو عيسى الترمذي ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما :

قال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله قد شبت ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شيبني هود والواقعة والمرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت».

[١١٧٥] : ويروى : «شيّبتني هود وأخواتها» (١).

سورة يوسف

مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١)) ، أي : البيّن حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه. قال قتادة : مبيّن والله بركته وهداه ورشده ، فهذا من بان أي : ظهر. وقال الزجاج : مبيّن الحقّ من الباطل والحلال من الحرام ، فهذا من أبان بمعنى أظهر.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، يعني الكتاب ، (قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، أي : أنزلناه بلغتكم لكي تعلموا معانيه وتفهموا ما فيه.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) ، أي : نقرأ ، (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، والقاص هو الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على

__________________

شيبان هو ابن عبد الرحمن ، أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السّبيعي.

وهو في «شرح السنة» ٤٠٧٠ بهذا الإسناد ، وفي «سنن الترمذي» ٣٢٩٧ عن أبي كريب به.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٣٤٤ و ٤٧٦) والبزار (١ / ١٧٠) «البحر الزخار» من طريق عكرمة به ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه أبو يعلى ١٠٧ من طريق عكرمة عن أبي بكر بدون ذكر ابن عباس.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٧ / ٣٧) : ورواه أبو يعلى إلا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر.

وللحديث شواهد كثيرة انظرها في «فتح القدير» للشوكاني ١٢١٩ و ١٢٢٠ و ١٢٢١ و ١٢٢٢ و ١٢٢٤ و ١٢٢٥ و ١٢٢٦ بتخريجي.

الخلاصة : هو حديث حسن صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

[١١٧٥] ـ انظر ما قبله. وهو حديث حسن صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

__________________

(١) زيد في المطبوع «من المفصل».

٤٧٣

وجهه ، معناه : نبيّن لك أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية أحسن البيان. وقيل : المراد منه قصة يوسف عليه‌السلام خاصة ، سمّاها أحسن القصص لما فيها من العبر والحكم والنكت والفوائد التي تصلح للدّين والدنيا ، من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء ، وحسن التجاوز عنهم بعد الالتقاء وغير ذلك من الفوائد. قال خالد بن معدان : سورة يوسف وسورة مريم عليهم‌السلام يتفكّه بهما أهل الجنّة في الجنّة. وقال ابن عطاء : لا يسمع سورة يوسف عليه‌السلام محزون إلا استراح لها (١). قوله عزوجل : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، ما المصدر ، أي : بإيحائنا إليك ، (هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ) ، [أي](٢) : وقد كنت ، (مِنْ قَبْلِهِ) ، أي : من قبل وحينا ، (لَمِنَ الْغافِلِينَ) ، لمن الساهين عن هذه القصة لا تعلمها.

[١١٧٦] قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أنزل القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا ، فأنزل الله عزوجل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) [الزمر : ٢٣] ، فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله عزوجل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) ، فقالوا : يا رسول الله لو ذكرتنا ، فأنزل الله عزوجل : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) [الحديد : ١٦].

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))

قوله عزوجل : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) ، أي : اذكر إذ قال يوسف لأبيه ، ويوسف اسم أعجمي (٣) ، ولذلك لا يجري عليه الصرف. وقيل : هو عربي ، سئل أبو الحسن الأقطع عن يوسف ، فقال : الأسف في اللغة الحزن ، والأسيف العبد ، واجتمعا (٤) في يوسف عليه‌السلام فسمّي به (١).

[١١٧٧] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الصمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه

__________________

[١١٧٦] ـ جيد. أخرجه الحاكم (٢ / ٣٤٥) وأبو يعلى ٧٤٠ والطبري وابن حبان ٦٢٠٩ والبزار ٣٢١٨ والواحدي ٥٤٤ من طريق عمرو بن محمد عن خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه به.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وهو حديث حسن صحيح.

(١) هذا القول باطل ، فإن أباه سماه يوسف عند ولادته ، وقبل أن يعرض له شيء.

[١١٧٧] ـ إسناده صحيح ، رجاله رجال البخاري.

عبد الصمد هو ابن عبد الوارث.

وهو في «شرح السنة» ٣٤٤١ بهذا الإسناد ، وفي «صحيح البخاري» ٤٦٨٨ عن عبد الله بن محمد به.

وأخرجه البخاري ٣٣٩٠ وأحمد (٢ / ٩٦) والخطيب (٣ / ٤٢٦) من حديث ابن عمر.

وأخرجه الترمذي ٣١١٦ وأحمد (٢ / ٣٣٢ و ٤١٦) وابن حبان ٥٧٧٦ من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.

وأخرج البخاري ٣٣٥٣ و ٣٣٧٤ و ٣٣٨٣ و ٣٤٩٠ و ٤٦٨٩ ومسلم ٢٣٧٨ وأحمد (٢ / ٤٣١) من طريق عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الناس أكرم؟ قال : أكرمهم عند الله أتقاهم. قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ....».

__________________

(١) في المطبوع «إليها».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع وط «عبري».

(٤) في المطبوع «واجتمع».

٤٧٤

عن ابن عمر رضي الله عنهما :

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

(يا أَبَتِ) ، قرأ أبو جعفر وابن عامر (يا أَبَتِ) بفتح التاء في جميع القرآن على تقدير : يا أبتاه ، [والوجه أن أصله يا أبتا بالألف وهي بدل عن ياء الإضافة ، فحذفت الألف كما تحذف التاء فبقيت الفتحة تدلّ على الألف كما تبقى الكسرة تدلّ على الياء عند حذف الياء ، وقرأ الآخرون (يا أَبَتِ) بكسر التاء في كل القرآن والوجه أن أصله : يا أبتي ، فحذفت الياء تخفيفا واكتفاء بالكسرة لأن باب النداء حذف يدلّ على ذلك قوله : (يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر : ١٦](١) ، وقرأ الآخرون : (يا أَبَتِ) بكسر التاء لأن أصله : يا أبت (٢) والجزم يحرّك إلى الكسر. (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) ، أي : نجما من نجوم السماء ونصب الكواكب على التفسير (١) ، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، ولم يقل رأيتها ساجدات (٣) ، والهاء والميم والياء والنون من كنايات من يعقل ، لأنه لما أخبر عنها بفعل من [يعقل](٤) عبّر عنها بكناية من يعقل ؛ كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] ، وكأن النجوم في التأويل أخواته ، وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما يستضاء بالنجوم والشمس أبوه والقمر أمه. قال قتادة وقال السدي : القمر خالته لأن أمه راحيل كانت قد ماتت. وقال ابن جريج : القمر أبوه والشمس أمه لأن الشمس مؤنّثة والقمر مذكّر ، وكان يوسف عليه‌السلام ابن اثنتي عشرة سنة حين رأى هذه الرؤيا. وقيل : رآها ليلة الجمعة ليلة القدر فلما قصّها على أبيه.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) ، وذلك أن رؤيا الأنبياء عليهم‌السلام وحي فعلم يعقوب أن أخوته إذا سمعوها حسدوه فأمره بالكتمان ، (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) ، فيحتالوا في إهلاكك (٥) لأنهم لا يعلمون تأويلها فيحسدونك ، واللام في قوله : (لَكَ) صلة ؛ كقوله تعالى : (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [الأعراف : ١٥٤]. وقيل : هو مثل قولهم نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك. (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، أي : يزين لهم الشيطان ويحملهم على الكيد لعداوته القديمة.

[١١٧٨] أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا

__________________

(١) أي تمييز. فإن التمييز مفسر للذوات.

[١١٧٨] ـ إسناده صحيح على شرط البخاري لتفرده عن علي بن الجعد ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.

شعبة هو ابن الحجاج ، أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف.

وهو في «شرح السنة» ٣١٦٨ بهذا الإسناد وفي «الجعديات» ١٦٢٤ عن علي بن الجعد به.

وأخرجه البخاري ٧٠٤٤ ومسلم ٢٢٦١ ح ٤ وأحمد (٥ / ٣٠٣) والنسائي في «اليوم والليلة» ٨٩٤ و ٨٩٨ وابن السني في «اليوم والليلة» ٧٧٤ والدارمي (٢ / ١٢٤) وابن حبان ٦٠٥٨ والبيهقي في «الآداب» ٩٨٧ من طرق عن شعبة به.

وأخرجه البخاري ٦٩٨٦ و ٦٩٩٥ و ٧٠٠٥ ومسلم ٢٢٦١ ح ١ والنسائي في «اليوم والليلة» ٨٩٩ وأحمد (٥ / ٣٠) والحميدي ٤١٨ و ٤١٩ و ٤٢٠ من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن به.

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع وحده.

(٢) في المخطوط «يا أبة» والمثبت عن المطبوع وط.

(٣) في المخطوط «ساجده».

(٤) سقط من المطبوع.

(٥) في المخطوط «هلاكك».

٤٧٥

علي بن الجعد أنبأنا شعبة عن عبد ربّه بن سعيد قال : سمعت أبا سلمة قال : كنت أرى الرؤيا تهمني ، حتى سمعت أبا قتادة يقول : كنت أرى الرؤيا فتمرضني ، حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الرؤيا الصالحة من الله تعالى ، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدّث به إلّا من يحب ، وإذا رأى ما يكره [فلا يحدّث به وليتفل عن يساره وليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرّ ما رأى فإنها لن تضره](١)».

[١١٧٩] وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنبأنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن أبي رزين العقيلي قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرؤيا جزء من أربعين أو ستة وأربعين جزءا من النبوّة ، وهي على رجل طائر فإذا حدّث بها وقعت» ، وأحسبه قال : «لا تحدّث بها إلا حبيبا أو لبيبا» (٢).

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧))

قوله عزوجل : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) ، يصطفيك (٣) يقول يعقوب ليوسف عليهما‌السلام ، أي : كما رفع منزلتك بهذه الرؤيا ، فكذلك يصطفيك ربّك ، (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ، يريد تعبير الرؤيا سمّي تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه ، والتأويل ما يؤول إليه عاقبة الأمر ، (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) ، يعني : النبوّة (٤) ، (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) ، أي : على أولاده فإنّ أولاده كلهم كانوا أنبياء ، (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) ، فجعلهما نبيّين ، (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ، وقيل : المراد من إتمام النعمة على إبراهيم الخلّة. وقيل : إنجاؤه من النار (٥) ، [وعلى إسحاق إنجاؤه من الذبح](٦). وقيل : بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان بين رؤيا يوسف هذه وبين تحقيقها بمصر [واجتماع](٧) أبويه وإخوته إليه أربعون سنة ، وهو قول أكثر أهل التفسير. وقال الحسن البصري : كان بينهما ثمانون سنة. فلما بلغت هذه الرؤيا إخوة يوسف [عليه‌السلام](٨) حسدوه ،

__________________

[١١٧٩] ـ جيد. رجاله ثقات سوى وكيع بن عدس ، فإنه مقبول ، وقد توبع على هذا الحديث بنحوه ، وفي الباب أحاديث.

وهو في «شرح السنة» ٣١٧٤ بهذا الإسناد ، وفي «الجعديات» ١٧٧٢ عن علي بن الجعد به.

وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (٨ / ١٧٨) والترمذي ٢٢٧٨ و ٢٢٧٩ وأحمد (٤ / ١٢ و ١٣) والحاكم (٤ / ٣٩٠) وابن حبان ٦٠٤٩ والطيالسي ١٠٨٨ والطبراني (١٩ / ٤٦١ و ٤٦٢) من طرق عن شعبة به.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح اه.

وأخرجه ابن ماجه ٣٩١٤ وابن أبي شيبة (١١ / ٥٠) وأحمد (٤ / ١٠) وابن حبان ٦٠٥٠ والطبراني في «الكبير» (١٩ / ٤٦١ و ٤٦٤) والبغوي في «شرح السنة» ٣١٧٥ من طرق عن هشيم عن يعلى بن عطاء به.

الخلاصة : للحديث شواهد ترقى إلى درجة الحسن الصحيح.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين في المطبوع «فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره» والمثبت عن المخطوطتين وط و «شرح السنة».

(٢) زيد في المطبوع في هذا المتن كلمات متفرقة ، والمثبت عن المخطوط وط و «شرح السنة».

(٣) في المطبوع «بقول».

(٤) في المطبوع «بالنوة».

(٥) في المطبوع «الذبح».

(٦) زيادة عن المخطوط.

(٧) زيادة عن المخطوط.

(٨) زيادة عن المخطوط.

٤٧٦

وقالوا : ما رضي أن تسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه فبغوه وحسدوه.

يقول الله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) ، أي : في خبره وخبر إخوته ، وأسماؤهم روبيل ، وقيل روبين بالنون وهو أكبرهم ، وشمعون ولاوى ويهوذا وزبالون. وقيل : زبلون وآشر وأمهم ليا بنت ليان (١) وهي ابنة خال يعقوب عليه‌السلام ، ولد له من سريتين له اسم إحداهما زلفة والأخرى يلهمة أربعة أولاد ، دان ونفتالي ، وقيل : نفتولي وجاد وأشير ، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب عليه‌السلام أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين ، فكان بنو يعقوب عليه‌السلام اثني عشر رجلا. (آياتٌ) ، قرأ ابن كثير (آية) على التوحيد أي عظة وعبرة. وقيل : عجب ، وقرأ الآخرون : (آياتٌ) على الجمع. (لِلسَّائِلِينَ) ، وذلك أن اليهود سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قصة يوسف عليه‌السلام. وقيل : سألوه عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان إلى مصر. فذكر لهم قصة يوسف جميعها ، فوجدوها موافقة لما في التوراة فتعجّبوا منه (٢) ، فهذا معنى قوله : (آياتٌ لِلسَّائِلِينَ). [أي : دلالة على نبوّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : آيات للسائلين](٣) ولمن لم يسأل ؛ كقوله : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت : ١٠] ، وقيل : معناه عبرة للمعتبرين ، فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف وما آل إليه أمرهم في الحسد وتشتمل على رؤياه ، وما حقّق الله منها ، وتشتمل على صبر يوسف عليه‌السلام عن قضاء الشهوة وعلى الرقّ وعلى اللبث في السجن ، وما آل إليه أمره من الملك ، وتشتمل على حزن يعقوب وصبره على فراق يوسف وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد ، وغير ذلك من الآيات.

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩))

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ) ، اللام فيه جواب القسم تقديره : والله ليوسف ، (وَأَخُوهُ) ، بنيامين ، (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) ، كان يوسف [عليه‌السلام](٤) وأخوه بنيامين من أم واحدة ، وكان يعقوب عليه‌السلام شديد الحب ليوسف عليه‌السلام ، وكان إخوته يرون منه من الميل إليه ما لا يرونه مع أنفسهم فقالوا هذه المقالة ، (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ، أي : جماعة وكانوا عشرة. قال الفراء : العصبة هي العشرة فما زاد. وقيل : العصبة ما بين الواحد إلى العشرة. وقيل : ما بين الثلاثة إلى العشرة. وقال مجاهد : ما بين العشرة إلى الخمس عشرة. وقيل : ما بين العشرة إلى الأربعين. وقيل : جماعة يتعصّب بعضها لبعض لا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، أي خطأ بيّن [في](٥) إيثاره يوسف وأخاه علينا ، وليس المراد منه (٦) الضلال عن الدين ، ولو أرادوه لكفروا به ، بل المراد منه الخطأ في تدبير أمر الدنيا يقولون نحن أنفع [له](٧) في أمر الدنيا وإصلاح أمر معاشه ورعي مواشيه من يوسف ، فنحن أولى بالمحبة منه ، فهو مخطئ في صرف محبّته إليه.

(اقْتُلُوا يُوسُفَ) ، اختلفوا في قاتل (٨) هذا القول ، فقال وهب : قاله شمعون. وقال كعب : قاله دان. [وقال مقاتل : روبيل «مبين اقتلوا» بضم التنوين ، قرأها ابن كثير ونافع والكسائي ، وقرأ الباقون

__________________

(١) في المطبوع «لابان».

(٢) في المطبوع «منها».

(٣) زيد في المطبوع.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) ما بين الحاصرتين في المطبوع «أمر».

(٦) في المطبوع «من هذا الضلال» بدل «منه».

(٧) زيادة عن المخطوط.

(٨) في المخطوط «تأويل».

٤٧٧

(مُبِينٍ اقْتُلُوا) بكسر التنوين](١). (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) ، أي : إلى أرض تبعد عن أبيه. وقيل : في أرض تأكله السباع ، (يَخْلُ لَكُمْ) ، يخلص لكم ويصف لكم ، (وَجْهُ أَبِيكُمْ) ، عن شغله بيوسف ، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ) ، من بعد قتل يوسف ، (قَوْماً صالِحِينَ) ، تائبين ، أي : توبوا بعد ما فعلتم [معه](٢) هذا يعف الله عنكم [جرمكم](٣). وقال مقاتل : صالحين : يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١))

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) ، هو يهوذا ، وقال قتادة : روبيل ، وكان ابن خالة يوسف ، وكان أكبرهم سنا وأحسنهم رأيا [فيه]. والأول أصح ، نهاهم عن قتله وقال : القتل كبيرة عظيمة. (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) ، قرأ أبو علي جعفر ونافع (غيابات الجب) [على] الجمع ، وقرأ الباقون (غيابت) الجب على الواحد ، أي : في أسفل الجب وظلمته والغيابة كل موضع ستر عنك الشيء وغيّبه والجب البئر غير المطوية لأنه جب ، أي : قطع ولم يطو (يَلْتَقِطْهُ) ، يأخذه ، والالتقاط أخذ الشيء من حيث لا يحتسبه الإنسان ، (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) ، أي : بعض المسافرين فيذهب به إلى ناحية أخرى [من نواحي الأرض](٤) فتستريحوا منه ، (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ، أي : إن عزمتم على فعلكم وهم كانوا يومئذ بالغين ولم يكونوا أنبياء بعد.

وقيل : لم يكونوا بالغين وليس بصحيح بدليل أنهم قالوا : (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) ، (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا) [يوسف : ٩٧] ، والصغير لا ذنب له.

وقال محمد بن إسحاق : اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له ، والغدر بالأمانة وترك العهد والكذب مع أبيهم ، وعفا الله عنهم ذلك كله حتى لا ييأس أحد من رحمة الله. وقال بعض أهل العلم : إنهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة بهم ، ولو فعلوا لهلكوا أجمعون ، وكل ذلك كان قبل أن نبأهم (٥) الله تعالى.

وسئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا (نَلْعَبُ) وهم أنبياء؟ قال : كان ذلك قبل أن نبّأهم الله تعالى ، فلما أجمعوا على التفريق بينه وبين والده بضروب من الحيل. (قالُوا) ليعقوب ، (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى) ، قرأ أبو جعفر : (تَأْمَنَّا) بلا شمّة ، [وهو رواية عن نافع ، وقرأ الباقون : (تَأْمَنَّا) بإشمام الضمة في النون الأولى المدغمة ، وهو إشارة إلى الضمة من غير إمحاض ليعلم أن أصله لا تأمننا بنونين على تفعلنا ، فأدغمت النون الأولى في الثانية](٦) ، بدءوا بالإنكار عليه في ترك إرساله معهم كأنهم قالوا : إنك لا ترسله معنا أتخافنا عليه؟ (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) ، قال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير وذلك أنهم قالوا لأبيهم : (أَرْسِلْهُ مَعَنا) ، فقال أبوهم : إني ليحزنني أن تذهبوا به ، فحينئذ قالوا : (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) ، النصح هاهنا القيام بالمصلحة. وقيل : البرّ والعطف ، [معناه : و](٧) إنا عاطفون عليه قائمون بمصلحته نحفظه حتى نردّه إليك.

__________________

(١) سقط من المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المطبوع «أنبأهم».

(٦) ما بين الحاصرتين زيد في المطبوع وط.

(٧) زيادة عن المخطوط.

٤٧٨

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥))

(أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً) ، إلى الصحراء ، (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) ، قرأ أبو عمرو وابن عامر بالنون فيهما وجزم العين في نرتع ، وقرأ يعقوب : (يَرْتَعْ) بالنون ، (وَيَلْعَبْ) بالياء ، وقرأ أهل الكوفة بالياء فيهما وجزم العين في (يَرْتَعْ) يعني يوسف ، وقرأ الآخرون نرتع النون (وَيَلْعَبْ) بالياء ، والرتع هو الاتّساع في الملاذ. يقال : رتع فلان في ماله إذا أنفقه في شهواته. [يريد ينعم ويأكل ويلهو ويبسط](١). وقرأ أهل الحجاز : (يَرْتَعْ) بكسر العين وهو يفتعل من الرعي ، ثم ابن كثير قرأ بالنون فيهما أي : نتحارس ويحفظ بعضنا بعضا. وقرأ أبو جعفر ونافع بالياء إخبارا عن يوسف ، أي : يرعى الماشية كما نرعى نحن. (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

(قالَ) لهم يعقوب : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) ، أي : ذهابكم به ، والحزن هاهنا : ألم القلب بفراق المحبوب ، (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) ، وذلك أن يعقوب كان رأى في المنام كأن (٢) ذئبا شدّ على يوسف ، فكان يخاف من ذلك ، فمن ثم قال : [أخاف أن يأكله الذئب. قرأ ابن كثير وإسماعيل وقالون عن نافع وعاصم وابن عامر : (الذِّئْبُ) بالهمزة ، وكذلك أبو عمرو إذا لم يدرج ، وحمزة إذا لم يقف ، وقرأ الكسائي وورش عن نافع ، وأبو عمرو وفي الدرج ، وحمزة في الوقف ، (الذِّئْبُ) بترك الهمزة في الهمز ، أنه هو الأصل لأنه من قولهم : تذأبت الريح إذا جاءت من كل وجه ، ويجمع الذئب أذؤبا وذئابا بالهمز ، والوجه في ترك الهمز أن الهمزة خففت فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها](٣).

(قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) ، عشرة ، (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) ، عجزة ضعفاء.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا) ، أي : عزموا ، (أَنْ يَجْعَلُوهُ) يلقوه ، (فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) ، هذه الواو زائدة تقديره : أوحينا إليه ؛ كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ) [الصافات : ١٠٣ ـ ١٠٤] ، أي : ناديناه ، (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ، أي : أوحينا إلى يوسف عليه‌السلام لتصدقنّ رؤياك ولتخبرنّ إخوتك بصنيعهم هذا وهم لا يشعرون بوحي الله وإعلامه إيّاه ذلك ، قاله مجاهد. وقيل : معناه : وهم لا يشعرون يوم تخبرهم أنك يوسف ، وذلك حين دخلوا عليه فعرفهم وهم [له](٤) منكرون ، وذكر وهب وغيره أنهم أخذوا يوسف عليه‌السلام بغاية الإكرام وجعلوا يحملونه ، فلما برزوا إلى البرية ألقوه [وطرحوه](٥) وجعلوا يضربونه ، فإذا ضربه واحد منهم استغاث بالآخر فضربه الآخر ، فجعل لا يرى منهم رحيما فضربوه حتى كادوا يقتلونه وهو يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء ، فلما كادوا أن يقتلوه قال لهم يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه ، فانطلقوا به إلى

__________________

(١) ما بين المعقوفتين في المطبوع وط «يريد ونتنعم ونأكل ونشرب ونلهو وننشط» ولو كان كعبارة المطبوع لكان الصواب في «يريد يريدون» والله أعلم.

(٢) في المطبوع «أن».

(٣) زيد في المطبوع وط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

٤٧٩

الجبّ ليطرحوه فيه ، وكان ابن اثنتي عشرة سنة. وقيل : ثماني عشرة سنة ، فجاءوا به إلى بئر على غير الطريق واسعة الأسفل ضيّقة الرأس. قال مقاتل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه‌السلام. قال كسعب : بين مدين ومصر. وقال وهب : بأرض الأردن. وقال قتادة : هي بئر بيت المقدس فجعلوا يدلّونه في البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ القميص أتوارى به في الجبّ ، فقالوا : ادع الشمس والقمر والكواكب تواريك ، قال : إني لم أر شيئا ، فألقوه فيها. وقيل : جعلوه في دلو وأرسلوه فيها حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت فكان في البئر ماء فسقط فيه ، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام عليها. وقيل : إنهم لمّا ألقوه فيها جعل يبكي فنادوه فظنّ أن رحمة أدركتهم ، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ليقتلوه ، فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام ، وبقي فيها ثلاث ليال ، (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا). والأكثرون على أن الله تعالى أوحى إليه بهذا وبعث إليه جبريل عليه‌السلام يؤنسه ويبشّره بالخروج ، ويخبره أنه ينبئهم بما فعلوه ويجازيهم عليه وهم لا يشعرون. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ثم إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف عليه‌السلام.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦)) ، قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. وروي أن يعقوب عليه‌السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج ، وقال : ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا : لا ، قال : فما أصابكم وأين يوسف؟؟ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) ، أي : نترامى وننتضل ، وقال السدي : نشتد على أقدامنا.

(وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) ، أي : عند ثيابنا وأقمشتنا. (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) ، بمصدّق لنا ، (وَلَوْ كُنَّا) ، وإن كنّا ، (صادِقِينَ) ، فإن قيل : كيف قالوا ليعقوب أنت لا تصدق الصادق؟ قيل : معناه إنك تتهمنا في هذا الأمر لأنك خفتنا عليه في الابتداء واتّهمتنا في حقّه. وقيل : معناه لا تصدقنا لأنه لا دليل [لنا](١) على صدقنا وإن كنّا صادقين عند الله.

(وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ) ، أي : بدم [هو](٢) كذب لأنه لم يكن دم يوسف. وقيل : بدم مكذوب فيه ، فوضع المصدر موضع الاسم. وفي القصة : إنهم لطخوا القميص بالدم ولم يشقوه ، فقال يعقوب عليه‌السلام : كيف أكله الذئب ولم يشق قميصه فاتّهمهم ، (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ) ، زيّنت ، (لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، معناه : فأمري صبر جميل أو فعلي صبر جميل. وقيل : فصبر جميل أختاره. والصبر الجميل الذي لا شكوى فيه ولا جزع. (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) ، أي : أستعين بالله على الصبر ، على ما تكذبون. وفي القصة : أنّهم جاءوا بذئب وقالوا هذا الذي أكله ، فقال له يعقوب : يا ذئب أنت أكلت ولدي وثمرة فؤادي ، فأنطقه الله عزوجل فقال : تالله ما رأيت وجه ابنك قط. قال : كيف وقعت

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) زيادة عن المخطوط.

٤٨٠