تفسير البغوي - ج ٢

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي

تفسير البغوي - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) ، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها ، وأراد بقوله : (نِعْمَتِي) ، أي : نعمي لفظة واحد ومعناه جمع ؛ كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤] ، (وَعَلى والِدَتِكَ) ، مريم ثم ذكر النعم فقال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ) ، قوّيتك ، (بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، يعني : جبريل عليه‌السلام ، (تُكَلِّمُ النَّاسَ) ، يعني : وتكلم الناس ، (فِي الْمَهْدِ) ، صبيا ، (وَكَهْلاً) ، نبيا قال ابن عباس : أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة ، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا ثم رفعه الله إليه ، (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) ، يعني : الخط ، (وَالْحِكْمَةَ) ، يعني : العلم والفهم ، (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ) ، تجعل وتصوّر ، (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ، كصورة الطير ، (بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً) ، حيّا يطير ، (بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ) ، وتصحح ، (الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) ، من قبورهم أحياء ، (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ) ، منعت وصرفت ، (بَنِي إِسْرائِيلَ) ، يعني : اليهود ، (عَنْكَ) ، حين هموا بقتلك ، (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، يعني : بالدلالات [الواضحات](١) والمعجزات ، وهي التي ذكرنا [وسميت بالبيّنات ، لأنها مما يعجز عنها سائر الخلق الذين ليسوا بمرسلين](٢) ، (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا) ، ما هذا ، (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، يعني : ما جاءهم به من البيّنات ، قرأ حمزة والكسائي ساحر مبين هاهنا وفي سورة هود والصف ، فيكون راجعا إلى عيسى عليه‌السلام ، وفي هود يكون راجعا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢))

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) ، [أي :](٣) ألهمتهم وقذفت في قلوبهم ، وقال أبو عبيدة : يعني أمرت و (إِلَى) صلة ، والحواريون خواص أصحاب عيسى عليه‌السلام ، (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) ، عيسى ، (قالُوا) حين وفقتهم (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ).

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ، قرأ الكسائي «هل تستطيع» بالتاء «ربّك» بنصب الباء وهي قراءة علي وعائشة وابن عباس ومجاهد ، أي : هل تستطيع أن تدعو وتسأل ربك ، وقرأ الآخرون (يَسْتَطِيعُ) بالياء ، و (رَبُّكَ) برفع الباء ، ولم يقولوه (٤) شاكّين بقدرة الله عزوجل ولكن معناه هل ينزل ربك أم لا؟ كما يقول الرجل لصاحبه : هل تستطيع أن تنهض معي وهو يعلم أنه يستطيع ، وإنما يريد هل يفعل ذلك أم لا ، وقيل : يستطيع بمعنى يطيع ، يقال : أطاع واستطاع بمعنى واحد ، كقولهم : أجاب واستجاب ، معناه : هل يطيعك (٥) ربك بإجابة سؤالك؟ وفي الآثار من أطاع الله أطاعه الله ، وأجرى بعضهم على الظاهرة ، فقالوا : غلط القوم ، وقالوه قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا ، فقال لهم عيسى عليه‌السلام عند الغلط استعظاما لقولهم (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، أي : لا تشكّوا في قدرته.

(أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) ، والمائدة الخوان الذي عليه الطعام ، وهي فاعلة من : ماده يميده

__________________

(١) زيد في المخطوط أ ، والمطبوع.

(٢) زيد في المخطوط أ ، والمطبوع.

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المخطوط وحده «يكونوا».

(٥) في المطبوع «يعطيك».

١٠١

إذا أعطاه وأطعمه ، كقوله : ماره يميره ، وامتار افتعل منه ، والمائدة هي الطعمة (١) للآكلين [الطعام](٢) ، وسمي الطعام أيضا مائدة على الجواز ، لأنه يؤكل على المائدة ، وقال أهل الكوفة : سمّيت مائدة لأنها تميد بالآكلين ، أي : تميل ، وقال أهل البصرة : فاعلة بمعنى المفعول (٣) ، يعني : ميد (٤) بالآكلين إليها ؛ كقوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ، أي : مرضية ، (قالَ) عيسى عليه‌السلام مجيبا لهم : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فلا تشكّوا في قدرته ، وقيل : اتّقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم ، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.

(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

(قالُوا نُرِيدُ) ، أي : إنّما سألنا لأنّا نريد ، (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ، أكل تبرّك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته ، (وَتَطْمَئِنَ) ، وتسكن ، (قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ، بأنّك رسول الله ، أي : نزداد إيمانا ويقينا ، وقيل : إن عيسى عليه‌السلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فإذا فطروا لا يسألون الله شيئا إلّا أعطاهم ، ففعلوا وسألوا المائدة ، وقالوا : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في قولك ، أنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلّا أعطانا ، (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، لله بالوحدانية والقدرة ، ولك بالنبوّة والرسالة ، وقيل : ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، عند ذلك ، (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) ، وقيل : إنه اغتسل ولبس المسح وصلّى ركعتين وطأطأ رأسه وغضّ بصره وبكى ، ثم قال : اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء ، (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) ، أي : عائدة من الله علينا حجّة وبرهانا ، والعيد : يوم السرور ، وسمّي به للعود من الفرح (٥) إلى الفرح ، وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك وسمّي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان في كل سنة ، قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيدا لأوّلنا وآخرنا ، أي : نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان : نصلّي فيه ، قوله : (لِأَوَّلِنا) ، أي : لأهل زماننا وآخرنا ، أي : لمن يجيء بعدنا ، وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم ، (وَآيَةً مِنْكَ) ، دلالة وحجة ، (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

(قالَ اللهُ) تعالى مجيبا لعيسى عليه‌السلام ، (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ، يعني : المائدة وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم «منزّلها» بالتشديد لأنها نزلت مرات والتفعيل يدلّ على التكرير مرة بعد أخرى وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله أنزل علينا ، (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) ، أي : بعد نزول المائدة (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) ، أي : جنس عذاب ، (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، يعني : عالمي زمانه فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير.

قال عبد الله بن عمر [و] : إنّ أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة

__________________

(١) كذا في المطبوع والمخطوط أ ، وفي ب «المعطية» وفي ط ، «المطعمة».

(٢) سقط من المطبوع وحده.

(٣) في المطبوع «المفعولة».

(٤) في ط ، «تميد».

(٥) في المطبوع «الترح».

١٠٢

وآل فرعون ، واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا ، فقال مجاهد والحسن : لم تنزل فإن الله عزوجل لمّا أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا أن يكفر بعضهم فاستعفوا ، وقالوا : لا نريدها ، فلم تنزل ، وقوله : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ، يعني : إن سألتم ، والصحيح الذي عليه الأكثرون أنها نزلت ؛ لقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ، ولا خلف في خبره [و](١) لتواتر الأخبار فيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحابة والتابعين ، واختلفوا في صفتها.

[٨٥٤] فروى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها نزلت خبزا ولحما ، وقيل لهم : إنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبئوا فما مضى يومهم (٢) حتى خانوا وخبئوا فمسخوا قردة وخنازير.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن عيسى عليه‌السلام قال لهم : صوموا ثلاثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه ، فصاموا فلما فرغوا قالوا : يا عيسى إنّا لو عملنا لأحد فقضينا عمله لأطعمنا وسألوا الله المائدة فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.

قال كعب الأحبار : نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض ، عليها كل الطعام إلّا اللحم.

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : أنزل على المائدة كل شيء إلّا الخبز واللحم.

قال قتادة : كان عليها ثمر من [ثمار](٣) الجنّة.

وقال عطية العوفي : نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شيء.

وقال الكلبي : كان عليها خبز ورز وبقل ، وقال وهب بن منبه : أنزل الله أقرصة من شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجيء آخرون فيأكلون حتى أكل (٤) جميعهم وفضل.

وعن الكلبي ومقاتل : أنزل الله خبزا وسمكا وخمسة أرغفة فأكلوا ما شاء الله تعالى ، والناس ألف ونيف فلمّا رجعوا إلى قراهم ، ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد وقالوا : ويحكم إنما سحر أعينكم فمن أراد الله به الخير ثبّته على بصيرته ، ومن أراد فتنته رجع إلى كفره ، فمسخوا (٥) خنازير ليس فيهم صبي ولا امرأة ، فمكثوا بذلك ثلاثة أيام ثم هلكوا ، ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا ، وكذلك كل ممسوخ.

وقال قتادة : كانت تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمنّ والسلوى لبني إسرائيل.

وقال عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي : لما سأل الحواريون المائدة لبس عيسى عليه‌السلام

__________________

[٨٥٤] ـ الصحيح موقوف. أخرجه الترمذي ٣٠٦١ والطبري ١٣٠١٦ من حديث عمار بن ياسر ، وإسناده ضعيف ، فيه عنعنة قتادة ، وهو مدلس.

قال الترمذي : رواه غير واحد عن سعيد به موقوفا ، وهو أصح من المرفوع ، ولا نعلم للمرفوع أصلا ا ه.

وأسنده الطبري ١٣٠١٨ عن عمار موقوفا بإسناد على شرطهما ، وهو الصواب.

الخلاصة : المرفوع ضعيف منكر ، والصحيح موقوف.

__________________

(١) زيادة عن أ.

(٢) في المطبوع «يومها».

(٣) زيادة عن المخطوط.

(٤) في المطبوع وط «أكلوا».

(٥) في المطبوع «ومسخوا».

١٠٣

صوفا وبكى ، وقال : اللهمّ أنزل علينا مائدة من السماء الآية ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضّة (١) حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى ، وقال : اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه ، فقال عيسى عليه‌السلام : ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى ، فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منّا [يا نبيّ الله](٢) ، فقام عيسى عليه‌السلام فتوضّأ وصلّى صلاة طويلة وبكى كثيرا ، ثم كشف المنديل عنها ، وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة ، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم (٣) من فضله ، فقالوا : يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى عليه‌السلام : معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين ، فقال : كلوا من رزق الله ولكم المهنأ (٤) ولغيركم البلاء ، فأكلوا وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى كلهم شبعان ، وإذ السمكة كهيئتها (٥) حين نزلت ، ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت بالحجاب ، فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلّا استغنى وندم من لم يأكل منها فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ، فإذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ، ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظرون إليها في ظلها حتى توارت عنهم ، وكانت تنزل غبا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه‌السلام : اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكّوا وشكّكوا الناس فيها ، وقالوا : أترون المائدة حقا تنزل من السماء؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه‌السلام إني شرطت أنّ من كفر بعد نزولها عذّبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) [المائدة : ١١٨] ، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتهم على فراشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكنّاسات ، ويأكلون القذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه‌السلام وبكوا ، فلما أبصرت الخنازير عيسى عليه‌السلام بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه‌السلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا (١).

__________________

(١) ذكره ابن كثير في «التفسير» (٢ / ١٥٢ ، ١٥٤) ونسبه لابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الخير ثم قال : هذا أثر غريب جدا قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله. سبحانه وتعالى أعلم .... ا ه.

__________________

(١) في المطبوع «خافضة».

(٢) زيادة عن المخطوط.

(٣) في المطبوع وط «ويزيدكم».

(٤) كذا في المطبوع وط ، و «الدر المنثور» (٢ / ٦١٢) وفي المخطوطين «الهنأ».

(٥) في المطبوع «بحالها».

١٠٤

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦))

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، اختلفوا في أن هذا القول متى يكون ، فقال السدي : قال الله تعالى هذا القول لعيسى عليه‌السلام حين رفعه إلى السماء لأن حرف (إِذْ) يكون للماضي ، وقال سائر المفسّرين : إنما يقول الله له هذا القول يوم القيامة ، بدليل قوله من قبل : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩] ، وقال من بعد هذا : (يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) [المائدة : ١١٩] ، وأراد بهما يوم القيامة ، وقد تجيء إذ بمعنى إذا ؛ كقوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) [سبأ : ٥١] ، أي : إذا فزعوا يوم القيامة ، والقيامة وإن لم تكن بعد ولكنها كالكائنة لأنها آتية لا محالة ، قوله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، فإن قيل : فما وجه هذا السؤال [مع علم الله أن عيسى لم يقله قيل : هذا السؤال](١) عنه لتوبيخ قومه وتعظيم أمر هذه المقالة كما يقول القائل لآخر : أفعلت كذا وكذا فيما يعلم أنه لم يفعله إعلاما واستعظاما لا استخبارا واستفهاما وأيضا أراد الله عزوجل أن يقرّ عيسى عليه‌السلام على (٢) نفسه بالعبودية ، فيسمع قومه منه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك ، قال أبو روق : إذا سمع عيسى عليه‌السلام هذا الخطاب أرعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة على جسده عين من دم (١) ، ثم يقول مجيبا لله عزوجل : (قالَ سُبْحانَكَ) ، تنزيها لك وتعظيما (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) ، قال ابن عباس : تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك ، وقيل : تعلم سري ولا أعلم سرك ، وقال أبو روق : تعلم ما كان مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منك في الآخرة ، وقال الزجاج : النفس عبارة عن جملة الشيء وحقيقته ، يقول : تعلم جميع ما أعلم من حقيقة أمري ولا أعلم حقيقة أمرك ، (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، ما كان وما يكون.

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

(ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) ، وحدوه (٣) ولا تشركوا به شيئا ، (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ) ، أقمت ، (فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) ، قبضتني ورفعتني إليك ، (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ، الحفيظ عليهم تحفظ أعمالهم ، (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) ، فإن قيل : كيف طلب المغفرة لهم وهم كفار ، وكيف قال : (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وهذا لا يليق بسؤال المغفرة ، قيل : أمّا الأول فمعناه إن تعذبهم بإقامتهم على كفرهم وإن تغفر لهم بعد الإيمان ، وهذا يستقيم

__________________

قلت : هو متلقى عن أهل الكتاب.

(١) هذا وأمثاله من الإسرائيليات.

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) في المطبوع «عن».

(٣) في المطبوع «وحده».

١٠٥

على قول السدي : إن هذا السؤال قبل يوم القيامة لأن الإيمان لا ينفع في القيامة ، وقيل : هذا في الفريقين منهم معناه : إن تعذب من كفر منهم ، وإن تغفر لمن آمن منهم ، وقيل : ليس هذا على وجه طلب المغفرة ولو كان كذلك لقال : [إنك](١) أنت الغفور الرحيم ، ولكنه على تسليم الأمر وتفويضه إلى مراده ، وأما السؤال الثاني فكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ «وإن تغفر لهم فإنّك أنت الغفور الرحيم» ، وكذلك هو في مصحفه ، وأمّا على القراءة المعروفة قيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : وإن تغفر لهم فإنهم عبادك وإن تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، وقيل : معناه إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز في الملك الحكيم في القضاء لا ينقص من عزّك شيء ، ولا يخرج من حكمك ويدخل في حكمته ومغفرته وسعة رحمته ومغفرته الكفار (٢) ، لكنه أخبر أنه لا يغفر وهو لا يخلف خبره.

[٨٥٥] أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي (١) حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو (٢) بن الحارث أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص :

أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) [إبراهيم : ٢٦] الآية ، وقول عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) ، فرفع يديه وقال : «اللهمّ أمتي وبكى» ، فقال الله عزوجل : يا جبريل اذهب إلى محمد وربّك أعلم فسله ما يبكيه ، فأتاه جبريل فسأله ، فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما قال ، فقال الله تعالى : «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنّا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك».

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) ، قرأ نافع «يوم» بنصب الميم ، يعني : تكون هذه الأشياء في يوم ، فحذف في فانتصب ، وقرأ الآخرون بالرفع على أنه خبر (هذا) ، أي : ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في الآخرة ، ولو كذبوا ختم الله على أفواههم ونطقت به جوارحهم فافتضحوا ، وقيل : أراد (٣) بالصادقين النبيّين ، وقال الكلبي : ينفع المؤمنين إيمانهم ، قال قتادة : متكلمان يخطبان (٤) يوم القيامة عيسى

__________________

[٨٥٥] ـ إسناده صحيح على شرط مسلم.

ابن وهب هو عبد الله.

وهو في «شرح السنة» ٤٢٣٣ بهذا الإسناد.

وأخرجه مسلم ٢٠٢ عن يونس بن عبد الأعلى الصدفي به.

وأخرجه ابن مندة في «الإيمان» ٩٢٤ وابن حبان ٧٢٣٤ و ٧٢٣٥ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٦٠ من طرق عن ابن وهب به.

(١) وقع في الأصل «الصيرفي» والتصويب عن «شرح السنة» و «صحيح مسلم».

(٢) وقع في الأصل «عمر» والتصويب من «شرح السنة» و «صحيح مسلم» وغيرهما.

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «للكفار».

(٣) تصحف في المطبوع «أرادوا».

(٤) في المطبوع وط «لا يخطئان».

١٠٦

عليه‌السلام ، هو ما قصّ الله ، وعدو الله إبليس ، وهو قوله : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [إبراهيم : ٢٢] الآية ، فصدق عدو الله يومئذ ، وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه ، وأما عيسى عليه‌السلام فكان صادقا في الدنيا والآخرة ، فنفعه صدقه ، وقال عطاء (١) : هذا يوم من أيام الدنيا لأن الدار الآخرة دار جزاء لا دار عمل ، ثم بيّن ثوابهم فقال : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، ثم عظّم نفسه.

فقال : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)).

سورة الأنعام

مكيّة ، وهي مائة وخمس وستون آية.

[٨٥٦] نزلت بمكة جملة ليلا معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم وخرّ ساجدا».

[٨٥٧] وروي مرفوعا : «من قرأ سورة الأنعام يصلّي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره».

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلّا قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١ ـ ٩٣] ، إلى آخر ثلاث آيات ، وقوله تعالى : (قُلْ تَعالَوْا) إلى قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣] ، فهذه الستّ آيات مدنيات (١).

__________________

[٨٥٦] ـ ضعيف. أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٤٤٣ وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» (٢ / ١٥٩) من حديث أنس.

وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩٢ : رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ، ولم أعرفهما ، وبقية رجاله ثقات ا ه.

قلت : ابن عرس توبع عند ابن مردويه ، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي ، وقد تفرد به.

وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير» ٢٢٠ وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠٩٩١ : وفيه يوسف بن عطيّة الصفّار ، وهو ضعيف ا ه بل متروك.

ومن حديث جابر عند الحاكم (٢ / ٣١٥) ، وصححه ، ورده الذهبي بقوله : لا والله لم يدرك جعفر السدي ، وأظن هذا موضوعا ا ه.

[٨٥٧] ـ باطل. أخرجه الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٢٥٠) وفيه سلام بن سلم المدائني متروك ، وشيخه هارون بن كثير مجهول كما في «الميزان» ٦١٦٩ وقد حكم ابن الجوزي بوضعه انظر «الموضوعات» (١ / ٢٤٠) ، وهو كما قال.

(١) لا أصل له عن ابن عباس ، الكلبي هو محمد بن السائب متروك منهم وأبو صالح لم يلق ابن عباس ، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.

__________________

(١) في المطبوع و ، أ«بعضهم».

١٠٧

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة ، قوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الإسراء : ١١١] الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وختمه بالحمد فقال : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ) ، أي : بين الخلائق ، (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الزمر : ٧٥] ، قوله : الحمد لله ، حمد الله نفسه تعليما لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصّهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبر والمنافع للعباد ، (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، والجعل بمعنى الخلق ، وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية فإنه يريد بهما اللّيل والنهار ، وقال الحسن : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، يعني : [الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل والنور العلم ، وقال قتادة : يعني الجنّة والنار ، وقيل : معناه خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق السموات والنور قبل السموات والأرض ، قال قتادة](١) : خلق الله السموات قبل الأرض ، وخلق الظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار.

[٨٥٨] وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى خلق الخلق (٢) في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضلّ». (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ، أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من (٣) مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته به ، [و](٤) قال النضر بن شميل : الباء بمعنى عن ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون وينحرفون من العدول (٥) ، قال الله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، أي : منها ، وقيل تحت قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) : معنى لطيف : وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا وتفضّلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

__________________

[٨٥٨] ـ حسن. أخرجه الترمذي ٢٦٤٢ وأحمد (٢ / ١٧٦ و ١٩٧) وابن أبي عاصم في «السنة» ٢٤٣ و ٢٤٤ وابن حبان ٦١٦٩ و ٦١٧٠ والحاكم (١ / ٣٠) واللالكائي ١٠٧٧ و ١٠٧٩ والآجري في «الشريعة» ص ١٧٥ من طرق عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو به.

وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن ا ه.

وله شواهد كثيرة تعضده.

__________________

(١) ما بين الحاصرتين سقط من ب.

(٢) في ب ، «خلقه».

(٣) في المطبوع «خلق».

(٤) زيادة عن المخطوط.

(٥) في المطبوع «العدل».

١٠٨

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) ، يعني : آدم عليه‌السلام ، خاطبهم به إذ كانوا من ولده ، قال السدي : بعث الله تعالى جبريل عليه‌السلام إلى الأرض ليأتيه بطائفة منها ، فقالت الأرض : إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني ، فرجع جبريل ولم يأخذ [شيئا] ، قال : يا ربّ إنها عاذت بك ، فبعث ميكائيل ، فاستعاذت فرجع ، فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله ، فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره ، فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء ، فلذلك اختلفت ألوان بني آدم ، ثم عجنها بالماء العذب والملح والمرّ ، فلذلك (١) اختلفت أخلاقهم فقال الله تعالى لملك الموت : رحم جبريل وميكائيل الأرض ولم ترحمها ، لا جرم أجعل (٢) أرواح من أخلق من هذا الطين بيدك ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خلق الله آدم عليه‌السلام من تراب وجعله طينا ، ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوّره وتركه حتى كان صلصالا كالفخار ، ثم نفخ فيه روحه. قوله عزوجل : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ، قال الحسن وقتادة والضحاك : الأجل الأول من الولادة إلى الموت ، والأجل الثاني من الموت إلى البعث ، وهو البرزخ ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لكل أحد أجلان أجل من الولادة إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث فإن كان برّا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر ، وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأجل الأول أجل الدنيا ، والأجل الثاني أجل الآخرة ، وقال عطية (٣) عن ابن عباس رضي الله عنهما : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) ، يعني : النوم تقبض فيه الروح ثم ترجع عند اليقظة ، (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) ، هو أجل الموت ، وقيل : هما واحد معناه : ثم قضى أجلا يعني جعل لأعماركم مدة تنتهون إليها ، وأجل مسمى عنده يعني وهو أجل مسمى عنده لا يعلمه غيره ، (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) ، تشكّون في البعث.

قوله عزوجل : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) ، يعني : وهو إله السموات والأرض ؛ كقوله : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزخرف : ٨٤] ، وقيل : هو المعبود في السموات [والأرض](٤) ، وقال محمد بن جرير : معناه وهو الله في السموات يعلم سركم وجهركم في الأرض ، وقال الزجاج : فيه تقديم وتأخير وتقديره : وهو الله ، (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، في السموات والأرض ، (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) ، تعملون من الخير والشر.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

(وَما تَأْتِيهِمْ) ، يعني : أهل مكة ، (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) ، مثل انشقاق القمر وغيره ، وقال عطاء : يريد من آيات القرآن ، (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) ، لها تاركين [و](٥) بها مكذّبين.

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) ، بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ

__________________

(١) في المطبوع «كذا».

(٢) في المطبوع «أخرج».

(٣) في المطبوع «عطاء».

(٤) زيادة عن المخطوط وط.

(٥) زيادة عن المخطوط.

١٠٩

يَسْتَهْزِؤُنَ) ، أي : أخبار استهزائهم وجزاؤه ، أي : سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذّبوا.

قوله عزوجل : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) ، يعني : [من](١) الأمم الماضية ، والقرن : الجماعة من الناس ، وجمعه قرون ، وقيل : القرن مدة من الزمان ، يقال : ثمانون سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ثلاثون سنة ، ويقال : مائة سنة :

[٨٥٩] لما روي أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعبد [الله] بن بسر المازني : «إنك تعيش قرنا» ، فعاش مائة سنة.

فيكون معناه على هذه الأقاويل من أهل قرن ، (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ، أي : أعطيناهم ما لم نعطكم ، وقال ابن عباس : أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعاد وثمود ، يقال : مكّنته ومكنت له ، (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) ، يعني : المطر ، مفعال ، من الدّر ، قال ابن عباس : مدرارا أي : متتابعا في أوقات الحاجات ، وقوله : (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) من خطاب التلوين (٢) ، رجع من الخبر من قوله : (أَلَمْ يَرَوْا) إلى الخطاب ؛ كقوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] ، وقال أهل البصرة : أخبر عنهم بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا) وفيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ثم خاطبهم معهم ، والعرب تقول : قلت لعبد الله ما أكرمه ، وقلت لعبد الله : ما أكرمك ، (وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا) ، خلقنا وابتدأنا ، (مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).

قوله عزوجل : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) الآية ، قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أميّة ونوفل بن خويلد ، قالوا : يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله ، فأنزل الله عزوجل (١) : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) مكتوبا من عندي (٣) ، (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) ، أي : عاينوه ومسّوه بأيديهم ، وذكر اللمس ولم يذكر المعاينة لأن اللمس أبلغ في إيقاع العلم بالرؤية (٤) ، فإن السحر يجري على المرئي ولا يجري على الملموس ، (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، معناه : أنه لا ينفع معهم شيء لما سبق فيهم من علمي.

__________________

[٨٥٩] ـ جيد. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ٣٢٣) و «الصغير» (١ / ٢١٦) قال : قال داود بن رشيد حدثنا أبو حيوة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يعيش هذا الغلام قرنا» قال : فعاش مائة سنة.

وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٦١١٩ بأتم منه وقال : رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليدركن قرنا» ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي ، وهو ثقة ا ه.

وورد بنحوه عن الحسن بن أيوب الحضرمي قال : أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه ، فوضعت إصبعي عليها ، فقال : وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إصبعه عليها ، قال : «لتبلغن قرنا».

أخرجه أحمد (٤ / ١٨٩) والطبراني كما في «المجمع» ١٦١٢٠.

قال الهيثمي : ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب ، وهو ثقة ، ورجال الطبراني ثقات ا ه.

وانظر «الإصابة» (٢ / ٢٨١ ، ٢٨٢) (٤٥٦٥).

الخلاصة : هو حديث حسن صحيح بمجموع طرقه.

(٣) ذكره المصنف عن الكلبي ومقاتل وسنده إليهما في أول الكتاب وانظر «أسباب النزول» ٤٢٢ للواحدي.

__________________

(١) زيادة عن المخطوطتين.

(٢) في المخطوط «التكوين».

(٣) في المطبوع «عنده».

(٤) في المطبوع «من المعاينة».

١١٠

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) ، على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ، أي : لوجب العذاب ، وفرغ من الأمر ، وهذا سنّة الله في الكفار أنهم متى اقترحوا آية فأنزلت ثم لم يؤمنوا استؤصلوا بالعذاب ، (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) ، أي : لا يؤجلون ولا يمهلون ، وقال قتادة : لو أنزلنا ملكا ثم لم يؤمنوا لعجّل لهم العذاب ولم يؤخروا طرفة عين ، وقال مجاهد : لقضي الأمر أي لقامت القيامة ، وقال الضحّاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) ، يعني : لو أرسلنا إليهم ملكا ، (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ، يعني : في صورة رجل آدمي ، لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة.

[٨٦٠] وكان جبريل عليه‌السلام يأتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة دحية (١) الكلبي ، وجاء الملكان إلى داود في صورة رجلين. قوله عزوجل : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ، أي : خلطنا عليهم ما يخلطون وشبّهنا عليهم فلا يدرون أملك هو أو آدمي ، وقيل : معناه شبّهوا على ضعفائهم فشبّه عليهم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : هم أهل الكتاب فرّقوا دينهم وحرّفوا الكلم عن مواضعه ، فلبس الله عليهم ما لبسوا على أنفسهم وقرأ الزهري «للبّسنا» بالتشديد على التكرير والتأكيد.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، كما استهزئ بك يا محمد ، يعزّي (٢) نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَحاقَ) ، قال الربيع بن أنس : فنزل ، وقال عطاء : حلّ ، وقال الضحّاك : أحاط ، (بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، أي : جزاء استهزاءهم من العذاب والنقمة.

(قُلْ) ، يا محمد لهؤلاء المكذّبين المستهزئين ، (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، معتبرين ، يحتمل هذا السير بالعقول والفكر ، ويحتمل السير بالأقدام ، (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) ، أي : جزاء أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك ، يحذّر كفار مكة عذاب الأمم الخالية.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

قوله عزوجل : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فإن أجابوك وإلّا ف (قُلْ) ، أنت ، (لِلَّهِ) ، أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير (٣) وآكد في الحجّة ، (كَتَبَ) ، أي : قضى ،(عَلى

__________________

[٨٦٠] ـ يشير المصنف إلى ما أخرجه البخاري ٤٩٨٠ ومسلم ٢٤٥١ عن أبي عثمان النهدي عن أسامة بن زيد «إن جبريل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعنده أم سلمة ، فجعل يتحدث ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم سلمة : من هذا. أو كما قال. قالت : هذا دحية ، فلما قام قالت : والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر خبر جبريل».

وقد ورد في أحاديث أخر ليست في «الصحيحين» انظر «الإصابة» (١ / ٤٧٣) برقم ٢٣٩٠ في ترجمة «دحية الكلبي».

__________________

(١) تصحف في المطبوع «دحي».

(٢) في المطبوع و ، أ«فعزّى».

(٣) في المطبوع «التأكيد».

١١١

نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، هذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال عليه وإخبار بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة ، ويقبل الإنابة والتوبة.

[٨٦١] أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد (١) المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال : ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده (١) فوق العرش : إنّ رحمتي غلبت غضبي».

[٨٦٢] وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [قال الله تعالى](٢) «إنّ رحمتي سبقت غضبي».

[٨٦٣] أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا [أبو](٣) عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن

__________________

(١) وقع في الأصل «سعد» وهو تصحيف.

[٨٦١] ـ إسناده صحيح ، رجاله رجال البخاري ومسلم. غير السلمي فقد تفرد عنه مسلم.

وهو في «شرح السنة» ٤٠٧١ بهذا الإسناد.

وأخرجه أحمد (٢ / ٣١٣) من طريق عبد الرزاق به.

وأخرجه البخاري ٧٤٠٤ وأحمد (٢ / ٣٩٧ و ٤٦٦) والطبري ١٣٠٩٩ وابن حبان ٦١٤٣ من طرق عن الأعمش عن ذكوان عن أبي هريرة.

وأخرجه البخاري ٧٥٥٣ و ٧٥٥٤ وأحمد (٢ / ٣٨١) وابن حبان ٦١٤٤ من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة به.

وأخرجه الترمذي ٣٥٤٣ وابن ماجه ٤٢٩٥ وأحمد (٢ / ٤٣٢) وابن حبان ٦١٤٥ من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة به.

(٢) ما بين المعقوفتين زيادة من مصادر التخريج ، وفي «شرح السنة» ٤٠٧٣ «لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق عرشه : إن رحمتي سبقت غضبي».

[٨٦٢] ـ صحيح. أخرجه البخاري ٣١٩٤ و ٧٤٢٢ و ٧٤٥٣ ومسلم ٢٧٥١ وأحمد (٢ / ٢٤٢ و ٢٥٩ ، ٢٦٠) والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٨٤١ و ٨٨١ والبغوي ٤٠٧٣ من طرق عن أبي الزناد بهذا الإسناد.

وانظر الحديث المتقدم.

(٣) ما بين المعقوفتين مستدرك من «شرح السنة» و «الأنساب» (٤ / ٨١) وانظر «تاريخ بغداد» (٩ / ٣٧١) ترجمة «عبد الله بن أحمد بن شبويه».

[٨٦٣] ـ صحيح أبو عبد الرحمن ومن دونه توبعوا ، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى عبد الملك فقد روى له مسلم.

وهو في «شرح السنة» ٤٠٧٤ بهذا الإسناد.

وهو في «زهد ابن المبارك» ٨٩٣ عن عبد الملك بهذا الإسناد ، ومن طريقه أخرجه ابن حبان ٦١٤٧.

وأخرجه مسلم ٢٧٥٢ وابن ماجه ٤٢٩٣ وأحمد (٢ / ٤٣٤) من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به.

وأخرجه البخاري ٦٠٠٠ وفي «الأدب المفرد» ١٠٠ ومسلم ٢٧٥٢ والدارمي (٢ / ٣٢١) وابن المبارك في «الزهد» ١٠٣٩ وابن حبان ٦١٤٨ والطبراني في «الأوسط» ٩٩٥ والبيهقي في «الآداب» ٣٥ من طرق عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة بنحوه.

وأخرجه البخاري ٦٤٦٩ ومسلم ٢٧٥٢ ح ١٨ والترمذي ٣٥٤١ وأحمد (٢ / ٣٣٤) من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بنحوه.

__________________

(١) في المطبوع «عند الله».

١١٢

أبي رباح عن أبي هريرة قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لله مائة رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخّر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة».

[٨٦٤] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :

قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها ، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترون هذه طارحة ولدها في النار»؟ فقلنا : لا ، وهي تقدر على أن [لا](١) تطرحه (١) ، فقال : «الله أرحم بعباده من هذه بولدها».

قوله عزوجل : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) ، اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد مجازة : والله ليجمعنّكم ، (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، أي : في يوم القيامة ، وقيل : معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة ، (لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا) ، غبنوا ، (أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، أي : استقرّ ، قيل : أراد ما سكن وما تحرّك ؛ كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أي : الحرّ والبرد ، وقيل : إنما خصّ السكون بالذكر لأن النعمة فيه أكثر.

قال محمد بن جرير : كل ما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكن اللّيل والنهار ، والمراد منه جميع ما في الأرض ، وقيل معناه : وله ما يمرّ عليه الليل والنهار ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) ، لأصواتهم ، (الْعَلِيمُ) بأسرارهم.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا)؟ وهذا حين دعي إلى دين آبائه ، فقال تعالى : قل يا محمد أغير الله أتخذ وليا ، ربّا ومعبودا وناصرا ومعينا؟ (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، أي : خالقهما ومبدعهما ومبتديهما ، (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) ، أي : وهو يرزق ولا يرزق ؛ كما قال : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ

__________________

[٨٦٤] ـ إسناده صحيح على شرطهما.

ابن أبي مريم هو سعيد. أبو غسان هو محمد بن مطرف.

وهو في «شرح السنة» ٤٠٧٦ بهذا الإسناد.

وفي «صحيح البخاري» ٥٩٩٩ عن ابن أبي مريم به.

وأخرجه مسلم ٢٧٥٤ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ١٠٣٩ من طريق ابن أبي مريم به.

(١) أي لا تطرحه طائعة أبدا. «الفتح» (١٠ / ٤٣١)

__________________

(١) سقط من المطبوع.

١١٣

يُطْعِمُونِ (٥٧)) [الذاريات : ٥٧]. (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ، يعني : من هذه الأمة ، والإسلام بمعنى الاستسلام لأمر الله ، وقيل : أسلم أخلص ، (وَلا تَكُونَنَ) ، يعني : وقيل لي ولا تكوننّ ، (مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) ، فعبدت غيره ، (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ، يعني : عذاب يوم القيامة.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) ، يعني : من يصرف العذاب عنه ، قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب «يصرف» بفتح الياء وكسر الراء ، أي : من يصرف الله عنه العذاب [لقوله](١)(فَقَدْ رَحِمَهُ) ، وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الراء ، (يَوْمَئِذٍ) ، يعني : يوم القيامة ، (فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) ، أي : النجاة البيّنة.

قوله عزوجل : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) [بشدة وبلية](٢)(فَلا كاشِفَ) ، لا رافع ، (لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) ، عافية ونعمة ، (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، من الخير والضر.

[٨٦٥] أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو عبد الله السلمي أنا أبو العباس الأصم أنا أحمد بن شيبان الرملي أنا عبد الله بن ميمون (١) القداح أنا شهاب بن خراش عن عبد الملك بن عمير عن ابن عباس قال :

أهدي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغلة ، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ، ثم أردفني خلفه ، ثم سار بي مليا ثم التفت إليّ فقال : «يا غلام» ، قلت : لبّيك يا رسول الله ، قال : «احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك (٣) ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن

__________________

[٨٦٥] ـ جيد. إسناده ضعيف ، عبد الله بن ميمون ضعيف ليس بشيء ، لكن توبع ، وللحديث طرق وشواهد.

وأخرجه الترمذي ٢٥١٦ وأحمد (١ / ٢٩٣ و ٣٠٣ و ٣٠٧) وأبو يعلى ٢٥٥٦ وابن السني في «عمل اليوم والليلة» ٤٢٧ والبيهقي في «الشعب» ١٠٧٤ وفي «الأسماء والصفات» ١٢٦ من طرق عن قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس به.

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وأخرجه الآجري في «الشريعة» ص ١٩٨ عن طريق يزيد بن أبي حبيب عن حنش عن ابن عباس به.

وأخرجه أحمد (١ / ٣٠٧) والآجري في «الشريعة» ص ١٩٨ والحاكم (٣ / ٥٤١ ، ٥٤٢) والطبراني في «الكبير» (١١ / ١٢٣ و ١٧٨ و ٢٢٣) وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٣١٤) والبيهقي في «الشعب» ١٠٠٠٠ و ١٠٠٠١ من طرق عن ابن عباس بألفاظ متقاربة.

وأخرجه أبو يعلى ١٠٩٩ والآجري ص ١٩٩ من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عباس : يا غلام .... فذكره وإسناده ضعيف فيه علي بن زيد ، وهو ضعيف ويحيى بن ميمون ، متروك الحديث.

وأخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١١٧٩٥ من حديث عبد الله بن جعفر ، وقال الهيثمي : وفيه علي بن أبي علي القرشي ، وهو ضعيف ا ه.

قال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» ص ١٧٤ : وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه وصى ابن عباس بهذه الوصية من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري ، وسهل بن سعد ، وعبد الله بن جعفر ، وفي أسانيدها كلها ضعف ، وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة ، وبعضها أصلح من بعض ، وبكل حال فطريق حنش التي خرّجها الترمذي حسنة جيدة ا ه.

(١) وقع في الأصل «ميمور» والتصويب من ط و «الميزان».

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) سقط من المطبوع.

(٣) في ب «أمامك».

١١٤

بالله ، وقد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تعالى لك لم يقدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتب الله تعالى عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين ، فافعل فإن لم تستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، [واعلم أن النصر مع الصبر](١) ، وأنّ الفرج مع الكرب ، وأنّ مع العسر يسرا».

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠))

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ، القاهر الغالب ، وفي القهر زيادة معنى على القدرة ، وهو منع غيره عن بلوغ المراد ، وقيل : هو المنفرد بالتدبير [الذي](٢) يجبر الخلق على مراده (فَوْقَ عِبادِهِ) هو صفة الاستعلاء الذي تفرّد به الله عزوجل. (وَهُوَ الْحَكِيمُ) ، في أمره ، (الْخَبِيرُ) ، بأعمال عباده.

قوله عزوجل : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)؟ الآية ، قال الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنّا لا نرى أحدا يصدّقك ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس [لك](٣) عندهم ذكر ، فأنزل الله تعالى (١) : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً)؟ فإن أجابوك ، وإلّا (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، على ما أقول ، ويشهد لي بالحق وعليكم بالباطل ، (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) ، لأخوّفكم به يا أهل مكة ، (وَمَنْ بَلَغَ) ، [يعني :](٤) ومن بلغه القرآن من العجم وغيرهم من الأمم إلى يوم القيامة.

[٨٦٦] حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي أنا محمد بن بشر بن محمد المزني أنا أبو بكر محمد بن الحسن بن بشر النقاش أنا أبو شعيب الحراني أنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلتّي (٢) أنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة السلولي (٣) عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بلّغوا عني ولو آية ، وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار».

__________________

(١) عزاه المصنف للكلبي وسنده إليه في أول الكتاب والكلبي متروك وانظر «أسباب النزول» للواحدي ٤٢٤.

[٨٦٦] ـ حديث صحيح. إسناده ضعيف ، يحيى بن عبد الله ضعفه غير واحد ، والأكثر على أنه لم يسمع من الأوزاعي ، راجع «التهذيب» (١١ / ٢١١) لكن توبع هو ومن دونه ، الأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو ، أبو شعيب هو عبد الله بن الحسن.

وهو في «شرح السنة» ١١٣ بهذا الإسناد.

وأخرجه البخاري ٣٤٦١ والترمذي ٢٦٦٩ وابن أبي شيبة (٨ / ٧٦٠) وأحمد (٢ / ٢٠٢ و ٢١٤ و ١٥٩) والطحاوي في «المشكل» ١٣٣ و ١٣٤ و ٣٩٨ والطبراني في «الصغير» ٤٦٢ والخطيب في «تاريخه» (١٣ / ١٥٧) وابن حبان ٦٢٥٦ والقضاعي في «مسند الشهاب» ٦٦٢ وأبو نعيم في «الحلية» (٦ / ٧٨) والبيهقي في «الآداب» ١٠٤٩ من طرق عن الأوزاعي به.

(٢) وقع في الأصل «البلابلي» والتصويب عن «شرح السنة» و «الأنساب».

(٣) وقع في الأصل «السلوي» والتصويب عن «شرح السنة» ومصادر التخريج.

__________________

(١) سقط من المطبوع.

(٢) زيادة عن المخطوط وط.

(٣) زيادة عن المخطوط وط.

(٤) زيادة عن المخطوط.

١١٥

[٨٦٧] أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك (١) بن عمير عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه :

أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نضّر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأدّاها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلّ عليهنّ قلب مسلم أبدا : إخلاص العمل لله ، والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم».

قال مقاتل : من بلغه القرآن من الجنّ والإنس فهو نذير له ، وقال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه ، (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى)؟ ولم يقل أخر لأن الجمع يلحقه التأنيث ؛ كقوله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠] ، وقال : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١]. (قُلْ) ، يا محمد إن شهدتم أنتم ، (لا أَشْهَدُ) ، أنا أنّ معه إلها ، (قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ، يعني : التوراة والإنجيل ، (يَعْرِفُونَهُ) ، يعني : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنعته وصفته ، (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) ، من بين الصبيان ، (الَّذِينَ خَسِرُوا) ، غبنوا ، (أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، وذلك أن الله جعل لكل آدمي منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، فإذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنّة ، ولأهل النار منازل أهل الجنّة في النار ، وذلك الخسران.

__________________

(١) زيد في الأصل «الله» بين «عبد» و «الملك» وهو إقحام.

[٨٦٧] ـ حديث صحيح. في الإسناد إرسال ، الجمهور على أن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه ، لكن توبع ، وللحديث شواهد.

وهو في «شرح السنة» ١١٢ بهذا الإسناد ، وفيه «مسند الشافعي» (١ / ١٦) عن سفيان بن عيينة به.

وأخرجه الترمذي ٢٦٥٨ والحميدي ٨٨ والحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص ٣٢٢ والخطيب في «الكفاية» ص ٢٩ وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١ / ٤٧) والبيهقي في «المعرفة» (١ / ١٥) من طرق عن سفيان بن عيينة به.

وأخرجه ابن عبد البر (١ / ٤٧ ، ٤٨) من وجه آخر عن الأسود عن ابن مسعود.

وأخرجه الترمذي ٢٦٥٧ وابن ماجه ٢٣٢ وأحمد (١ / ٤٣٧) وابن حبان ٦٦ وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١ / ٤٥) وأبو يعلى ٥١٢٦ و ٥٢٩٦ والرامهرمزي في «المحدث الفاضل» ٦ و ٧ و ٨ والبيهقي في «الدلائل» (٦ / ٥٤٠) من طرق عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود به.

وله شاهد من حديث جبير بن مطعم عند ابن ماجه ٢٣١ وأحمد (٤ / ٨٠ و ٨٢) والطحاوي في «المشكل» ١٦٠١ وابن عبد البر (١ / ٤١) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» ٢٥ وأبو يعلى ٧٤١٣ والطبراني في «الكبير» ١٥٤١ والحاكم (١ / ٨٧) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (١ / ١٠ ، ١١).

وفي الباب من حديث زيد بن ثابت عند أبي داود ٣٦٦٠ والترمذي ٥٦٥٦ وأحمد (٥ / ١٨٣) والدارمي (١ / ١٧٥) وابن عبد البر (١ / ٣٩) وابن حبان ٦٧ والرامهرمزي في «المحدث الفاضل» ٣ و ٤ وابن أبي عاصم في «السنة» ٩٤ والطحاوي في «المشكل» ١٦٠٠ والطبراني ٤٨٩٠ و ٤٨٩١ والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» ٢٤.

ومن حديث أبي سعيد الخدري عن البزار ١٤١ والرامهرمزي ٥.

وحديث أنس عند ابن ماجه ٢٣٦ وأحمد (٣ / ٢٢٥) وابن عبد البر (١ / ٤٢).

وحديث النعمان بن بشير عند الحاكم (١ / ٨٨) وصححه ووافقه الذهبي.

وحديث أبي الدرداء عند الدارمي (١ / ٧٥ و ٧٦).

الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.

١١٦

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ) ، أكفر ، (مِمَّنِ افْتَرى) ، اختلق ، (عَلَى اللهِ كَذِباً) ، فأشرك به غيره ، (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) ، يعني : القرآن ، (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، الكافرون.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) ، أي : العابدين والمعبودين ، يعني : يوم القيامة ، قرأ يعقوب يحشرهم هاهنا (١) ، وفي سبأ بالياء ، ووافق حفص في سبأ ، وقرأ الآخرون بالنون. (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ، أنها تشفع لكم عند ربكم.

(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) ، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب «يكن» بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان ، فجاز تذكيره ، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث الفتنة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع جعلوه اسم كان ، وقرأ الآخرون بالنصب ، فجعلوا الاسم قوله : (أَنْ قالُوا) ، و (فِتْنَتُهُمْ) الخبر ، ومعنى [قوله](٢) : فتنتهم ، أي : قولهم وجوابهم ، وقال ابن عباس وقتادة : معذرتهم والفتنة التجربة ، فلما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم قيل له فتنة ، قال الزجاج : في قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) معنى لطيف ، وذلك مثل الرجل يفتتن لمحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرّأ من محبوبه ، فيقال : لم تكن فتنته (٣) إلّا هذا ، كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام ، ولما رأوا العذاب تبرّءوا منها ، يقول الله عزوجل : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) ، [في](٤) محبّتهم للأصنام ، (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) ، قرأ حمزة والكسائي «ربّنا» بالنصب على النداء المضاف ، وقرأ الآخرون بالخفض على نعت والله ، وقيل : إنهم إذا رأوا يوم القيامة مغفرة الله تعالى وتجاوزوه عن أهل التوحيد ، [قال بعضهم لبعض](٥) : تعالوا نكتم الشرك لعلّنا ننجو مع أهل التوحيد ، فيقولون : والله ربّنا ما كنّا مشركين ، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم بالكفر.

فقال عزوجل : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) ، باعتذارهم الباطل وتبرّيهم عن الشرك ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ، أي : زال وذهب عنهم ما كانوا يفترون من الأصنام ، وذلك أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها ، فبطل كلّه في ذلك اليوم.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦))

قوله عزوجل : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) الآية ، قال الكلبي : اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام [و](٦) الوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبيّ ابنا خلف والحارث بن عامر يستمعون القرآن ، فقالوا للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ قال : ما أدري ما يقول إلا

__________________

(١) في المطبوع «هنا».

(٢) زيادة عن المخطوط وط.

(٣) في المطبوع «فتنتهم».

(٤) زيادة عن ط.

(٥) العبارة في المطبوع «قالوا لبعضهم البعض».

(٦) سقط من المطبوع.

١١٧

أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأوّلين ، مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية ، وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها ، فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقّا ، فقال أبو جهل : كلا لا تقرّ بشيء من هذا ، وفي رواية : للموت أهون علينا من هذا ، فأنزل الله عزوجل (١) : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وإلى كلامك ، (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) ، أغطية ، جمع كنان ، كالأعنة جمع عنان ، (أَنْ يَفْقَهُوهُ) ، أن يعلموه ، قيل : معناه أن لا يفقهوه ، وقيل : كراهة أن يفقهوه ، (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ، صمما وثقلا ، وهذا دليل على أن الله تعالى يقلّب القلوب فيشرح بعضها للهدى ، ويجعل بعضها في أكنّة فلا تفقه كلام الله ولا تؤمن ، (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) ، من المعجزات والدلالات ، (لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، يعني : أحاديثهم وأقاصيصهم ، والأساطير جمع : أسطورة ، وإسطارة (١) ، وقيل : الأساطير هي الترهات والأباطيل ، وأصلها من سطرت ، أي : كتبت.

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ) ، أي : ينهون الناس عن اتّباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ، أي : يتباعدون عنه بأنفسهم ، نزلت في كفار مكة ، قاله محمد ابن الحنفية والسدي والضحّاك ، وقال قتادة : ينهون عن القرآن وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتباعدون عنه ، وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن أذى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويمنعهم وينأى عن الإيمان به (٢) ، أي : يبعد ، حتى روي أنه اجتمع إليه رءوس المشركين وقالوا : خذ شابا من أصبحنا (٣) وجها ، وادفع إلينا محمدا ، فقال أبو طالب : ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم؟.

وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاه إلى الإيمان ، فقال : لو لا أن تعيّرني قريش لأقررت بها (٢) عينك ، ولكن أذبّ عنك ما حييت (٤) ، وقال فيه أبياتا (٣) :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتى أوسّد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

وابشر وقرّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وعرفت أنك ناصحي

ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا

وعرضت دينا قد علمت بأنه

من خير أديان البريّة دينا

لو لا الملامة أو حذار سبة (٥)

لوجدتني سمحا بذاك مبينا

__________________

(١) عزاه المصنف للكلبي ، وسنده إليه مذكور في أول الكتاب ، والكلبي متروك متهم بالكذب وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. وانظر «أسباب النزول» للواحدي ٤٢٥.

(٢) عزاه المصنف لابن عباس ومقاتل وسنده إليهما مذكور في أول الكتاب.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٣١٥) والطبراني في «الكبير» (١٢ / ١٣٣) والواحدي ٤٢٦ من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه الحاكم (٢ / ٣١٥) والطبري ١٣١٧٣ و ١٣١٧٤ و ١٣١٧٨ عن حبيب بن أبي ثابت قال : حدثني من سمع ابن عباس فذكره.

(٣) وقع في الأصل «أصبحا» والتصويب من ط.

(٤) ذكره الواحدي بإثر ٤٢٦ عن مقاتل بدون إسناد.

(٥) في الأصل «مسبّ».

__________________

(١) تصحف في المطبوع «وأساطرة».

(٢) في ب «به».

(٣) في المطبوع «أبيات شعر».

١١٨

(وَإِنْ يُهْلِكُونَ) ، أي : ما يهلكون ، (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ، أي : لا يرجع وبال فعلهم إلّا إليهم ، وأوزار الذين يصدونهم عليهم ، (وَما يَشْعُرُونَ).

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))

قوله عزوجل : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، يعني : في النار ؛ كقوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] ، أي : في ملك سليمان ، وقيل : عرضوا على النار ، وجواب (لو) محذوف معناه : لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا ، (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) ، يعني : إلى الدنيا ، (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، قراءة العامّة كلها بالرفع على معنى : يا ليتنا نرد [و](١) نحن لا نكذب ونكون من المؤمنين ، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب (وَلا نُكَذِّبَ) بنصب الباء والنون على جواب التمنّي ، أي : ليت ردنا وقع ، وأن لا نكذب ونكون ، والعرب تنصب جواب التمنّي بالواو كما تنصب بالفاء ، وقرأ ابن عامر (نُكَذِّبَ) بالرفع ، و (وَنَكُونَ) بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا.

(بَلْ بَدا لَهُمْ) ، أي : ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردّوا لآمنوا بل بدا لهم ظهر لهم ، (ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) ، يسرّون في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم ، وقيل : ما كانوا يخفون ، وهو كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، فأخفوا شركهم وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا ، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا ، إلا أن يجعل الآية في المنافقين ، وقال المبرد : بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون ، وقال النضر بن شميل : بل بدا عنهم. ثم قال : (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا (لَعادُوا لِما) ، يعني : إلى ما (نُهُوا عَنْهُ) من الكفر ، (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، في قولهم ، لو رددنا (٢) إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩)) ، هذا إخبار عن إنكارهم البعث ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا من قولهم لو ردّوا لقالوه.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) ، أي : على حكمه وقضائه ومسألته ، وقيل : عرضوا على ربهم ، (قالَ) لهم ، وقيل : تقول لهم الخزنة بأمر الله ، (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ)؟ يعني : أليس هذا البعث والعذاب بالحق؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) إنه حقّ ، قال ابن عباس : هذا في موقف ، وقولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) في موقف آخر ، والقيامة مواقف ، ففي موقف يقرّون ، وفي موقف ينكرون ، (قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣))

__________________

(١) زيادة عن المخطوط.

(٢) في المطبوع «ردوا».

١١٩

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) ، أي : خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى الله وبالبعث بعد الموت ، (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) ، أي : القيامة (بَغْتَةً) ، أي : فجأة ، (قالُوا يا حَسْرَتَنا) ، ندامتنا ، ذكر على وجه النداء للمبالغة ، قال سيبويه : كأنه يقول : أيتها الحسرة هذا أوانك ، (عَلى ما فَرَّطْنا) ، أي : قصّرنا ، (فِيها) ، أي : في الطاعة ، وقيل : تركنا في الدنيا من عمل الآخرة ، وقال محمد بن جرير : الهاء راجعة إلى الصفقة ، وذلك أنه لمّا تبيّن لهم خسران صفقتهم ببيعهم (١) الآخرة بالدنيا (قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) ، أي : في الصفقة ، فترك ذكر الصفقة اكتفاء بقوله : (قَدْ خَسِرَ) ، لأن الخسران إنما يكون في صفقة بيع ، والحسرة شدّة الندم ، حتى يتحسر (٢) النادم ، كما يتحسر (٢) الذي تقوم به دابته في السفر البعيد ، (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) ، أثقالهم وآثامهم ، (عَلى ظُهُورِهِمْ).

قال السدي وغيره : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا ، فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : لا ، فيقول : أنا عملك الصالح فاركبني ، فقد طالما ركبتك في الدنيا ، فذلك قوله عزوجل : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)) [مريم : ٨٥] ، أي : ركبانا ، وأمّا الكافر فيستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا ، فيقول : هل تعرفني؟ فيقول : أنا عملك الخبيث طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك (١) ، فهو معنى قوله : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) ، (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ، يحملون ، قال ابن عباس : أي بئس الحمل حملوا.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ، باطل وغرور لا بقاء [لها](٣) ، (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ) ، قرأ ابن عامر ولدار الآخرة مضافا أضاف الدار إلى الآخرة ، ويضاف الشيء إلى نفسه عند اختلاف اللفظين ؛ كقوله : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق : ١٠] ، وقولهم : ربيع الأول ، ومسجد الجامع ، سمّيت الدنيا لدنوّها ، وقيل : لدناءتها ، وسمّيت الآخرة لأنها بعد الدنيا ، (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الشرك ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، أي : أن الآخرة أفضل من الدنيا ، قرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ، بالتاء هاهنا وفي الأعراف وسورة يوسف ويس (٢) ، وافق أبو بكر في سورة يوسف ، ووافق حفص إلا في سورة يس ، وقرأ الآخرون بالياء فيهن.

قوله عزوجل : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ).

قال السدي : التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام ، فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد بن عبد الله أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري ، فقال أبو جهل : والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فما ذا يكون لسائر قريش ، فأنزل الله عزوجل هذه الآية (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري ١٣١٩٠ عن عمرو بن قيس الملائي قوله بهذا اللفظ ١٣١٩١ عن السدي بنحوه من قوله ، وقد ورد مرفوعا بنحو هذا السياق ، وسيأتي.

(٢) الأعراف آية : ١٦٩ ، يوسف آية : ١٠٩ ، يس آية : ٦٢.

(٣) أخرجه الطبري ١٣١٩٦ عن السدي مرسلا.

__________________

(١) في المطبوع «ببيعها».

(٢) في المطبوع «يحسر» وفي المخطوطتين «يخسر» والمثبت عن ط.

(٣) سقط من المطبوع.

١٢٠