البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

البوار ، وهى : الإقبال على الدنيا ، والانهماك فى الغفلة ، وخراب الباطن من نور اليقين ، وكثرة الخواطر والوساوس ، والحرص والجزع والهلع ، وغير ذلك من أمراض القلوب. وأىّ عذاب للمؤمن أشد من هذا فى الدنيا؟ ويسقط فى الآخرة عن درجة المقربين ، ومن لم يصحب أهل التوحيد الخالص لا يخلو من عبادة أنداد وأشباه ؛ بمحبته لهم والركون إليهم. ومن أحب شيئا فهو عبد له. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه ذات يوم : إنا لا نحب إلا الله ، ولا نحب معه شيئا سواه. فقال له بعض الحاضرين : قال جدك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النفس مجبولة على حب من أحسن إليها». فقال له الشيخ : إنا لا نرى الإحسان إلا من الله ، ولا نرى معه غيره. ه. بالمعنى.

ثم ذكر ضد أهل الشرك ، فقال :

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١))

قلت : (يُقِيمُوا) : جواب شرط مقدر ، يتضمنه قوله : (قُلْ) ، تقديره : إن تقل لهم أقيموا يقيموا ، ومعمول القول ، على هذا ، محذوف. وفيه تنبيه على أنهم لفرط مطاوعتهم للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره ، وأنه كالسبب الموجب له ، أي : مهما قلت أقاموا وأنفقوا. وقيل : جزم بإضمار لام الأمر. ولا يصح أن يكون جواب الأمر من غير حذف ؛ لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة. انظر البيضاوي. وقال ابن عطية : إلّا إن ضمّن (قُلْ) معنى : بلّغ أو أدّ ، فيصح أن يكون (يُقِيمُوا) : جواب أمره. و (سِرًّا وَعَلانِيَةً) : حالان ، أو ظرفان ، ومن قرأ : «لا بيع» ؛ بالبناء (١) فقد بنى «لا» مع اسمها بناء التركيب ، ومن قرأ بالرفع فقد أهملها.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، خصهم بالإضافة إليه ؛ تشريفا لهم ، وتنويها بقدرهم ، وتنبيها على أنهم الذين قاموا بحقوق العبودية. قل لهم يا محمد : (يُقِيمُوا الصَّلاةَ) التي هى عنوان الإيمان ، بإتقان شروطها وأركانها وآدابها ، (وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) من الأموال ، فرضا ونفلا ، (سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي : مسرين ومعلنين ، أو فى سر وعلانية ، والأحب : إعلان الواجب ، وإخفاء المتطوع به ، إلا فى محل الاقتداء لأهل الإخلاص. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره ، أو ما يفدى به نفسه ، (وَلا خِلالٌ) : ولا مخاللة ومودة تنفع فى ذلك اليوم ، حتى ينفع الخليل خليله ، وإنما ينفع العمل الصالح ، كالإنفاق لوجه الله ، وإقام الصلاة ، وغير ذلك.

الإشارة : قد مدح الله هاتين الخصلتين : الصلاة والإنفاق ، وأمر بهما فى مواضع من القرآن ؛ لأنهما عنوان الصدق ، أحدهما : عمل بدني ، والآخر : عمل مالى. أما الصلاة فإنها طهارة للقلوب ، واستفتاح لباب الغيوب ، وهى

__________________

(١) قرأ ابن كثير وابن عمرو ويعقوب «لا بيع فيه ولا خلال» وقرأ الباقون «لا بيع فيه ولا خلال» راجع الإتحاف (٢ / ١٦٩).

٦١

محل المناجاة ، ومعدن المصافاة ، تتسع فيها ميادين الأسرار ، وتشرق فيها شوارق الأنوار ، كما فى الحكم. وفى بعض الأخبار : (إن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجب بينه وبينه ، وواجهه بوجهه ، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء ، يصلون بصلاته ، ويؤمّنون على دعائه ، وإن المصلى لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه ، ويناديه مناد : لو يعلم المناجى من يناجى ما انفتل (١). وإن أبواب السماء لتفتح للمصلى. وإن الله تعالى يباهى ملائكته بصفوف المصلين). وفى التوراة : يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدىّ مصليا باكيا ، فأنا الذي اقتربت من قلبك ، وبالغيب رأيت نورى. ه. فكانوا يرون أن تلك المراقبة والبكاء ، وتلك الفتوح التي يجدها المصلى فى قلبه من دنو الرب من القلب.

وأما الصدقة فإنها برهان على إيمان صاحبها ، وفى الحديث : «الصّدقة برهان» ، فهى تدل على خروج حب الدنيا من القلب ، وعلى اتصاف صاحبها بمنقبة السخاء ، التي هى أفضل الخصال ، وفى الحديث : «السّخىّ قريب من الله ، قريب من النّاس ، قريب من الجنّة ، بعيد من النّار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من النّاس ، بعيد من الجنّة ، قريب من النّار ، ولجاهل سخى أحبّ إلى الله من عالم بخيل».

ثم ذكّرهم بالنعم ، ليقيدوها بالشكر قبل أن تسلب منهم ، كما سلبت ممن ذكر قبل ، فقال :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

قلت : (اللهُ) : مبتدأ ، و (الَّذِي) ، وما بعده : خبر ، و (رِزْقاً لَكُمْ) : مفعول أخرج ، و (مِنَ الثَّمَراتِ) : بيان له ، حال ، ويجوز العكس ، ويجوز أن يراد بالرزق : المصدر ، فينصب على العلة أو المصدر ؛ لأن (أخرج) فيها معنى «رزق» ، و (دائِبَيْنِ) : حال ، والدءوب : الدوام على عمل واحد ، و (مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) : يحتمل أن تكون (ما) مصدرية ، أو موصولة ، أو موصوفة.

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من أجلكم ، السماء تظلكم ، والأرض تقلكم ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) ، تعيشون به وتتفكهون منه. ويشمل الملبوس ،

__________________

(١) أي : ما انصرف.

٦٢

كالقطن ، والكتان ، وشبه ذلك (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) : بمشيئته وقدرته ، إلى حيث توجههم مع أسباب حكمته ، تغطية لقدرته ، وهو ما يتوقف عليه جريها وإرساؤها ، من الجبال والقلاع ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) مطردة لانتفاعكم بالسفن والشرب ، وسائر منافعها ، فجعلها معدّة لانتفاعكم وتصرفكم. وقيل : تسخير هذه الأشياء : تعليم كيفية اتخاذها والانتفاع بها.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) ؛ متماديين فى الطلوع والغروب ، يدأبان فى سيرهما وإنارتهما ، وإصلاح ما يصلحانه من المكونات ، بقدرة خالقهما ، (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) يتعاقبان لسكناتكم ومعايشكم. (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي : وآتاكم بعض جميع ما سألتموه ، وهو ما يليق بكم ، وما سبق لكم فى مشيئته وعلمه. قال البيضاوي : ولعل المراد بما سألتموه : ما كان حقيقا بأن يسأل ؛ لاحتياج الناس إليه ، سئل أو لم يسأل. ه. وقرأ الضحاك وابن عباس : (مِنْ كُلِّ) ؛ بالتنوين ، أي : وآتاكم من كل شىء احتجتم إليه ، وسألتموه بلسان الحال. ويجوز على هذا أن تكون (ما) نافية ، فى موضع الحال ، أي : وآتاكم من كل شىء غير سائليه.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) : لا تحصروها ، ولا تطيقوا عدّ أنواعها ، فضلا عن أفرادها ، فإنها غير متناهية ؛ فمنها ظاهرة ، ومنها باطنة ، كالهداية والمعرفة. قال طلق بن حبيب : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، ونعمه أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا توابين ، وأمسوا توابين. ه. وقال أبو الدرداء : من لم ير نعمة الله إلا فى مطعمه ومشربه ، فقد قلّ علمه ، وحضر عذابه. ه. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ) ؛ بظلم النعمة لمّا غفل عن شكرها ، أو بظلم نفسه لمّا عرضها للحرمان ، بارتكاب المعاصي ، (كَفَّارٌ) : شديد الكفران ، وقيل : ظلوم فى الشدة يشكو ويجزع ، كفّار فى النعمة يجمع ويمنع. قاله البيضاوي.

الإشارة : الله الذي أنزل من سماء الملكوت علوما وأسرارا ، تحيا به القلوب والأرواح ، فأخرج به من أرض النفوس ثمرة اليقين والطمأنينة ، رزقا لأرواحكم. وسخر لكم فلك الفكرة تجرى فى بحر التوحيد ، وفضاء التفريد بأمره. وسخر لكم أنهار العلوم ، منها ما هو علم الرسوم لإصلاح الظواهر ، ومنها ما هو علم الحقائق لإصلاح الضمائر. وسخر لكم شمس العرفان وقمر الإيمان ، دائبين ، يستضيىء بقمر التوحيد فى السير إلى معرفة أنوار الصفات ، وبشمس العرفان إلى أسرار الذات. وسخّر لكم ليل القبض لتسكنوا فيه ، ونهار البسط لتنشروا فى اقتباس العلوم ، وربما أفادك فى ليل القبض ما لم تستفده فى نهار البسط ؛ (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً). وآتاكم من كل ما سألتموه حين كمل تهذيبكم ، وصح وصلكم ، فيكون أمركم بأمر الله. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ؛ إذ نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد لا حدّ لهما فى هذه الدار وفى تلك الدار ، ففى كل نفس يمدهم بمدد جديد ، ومع هذا كله يغفل العبد عن هذه النعم!! إن الإنسان لظلوم كفار. وشكرها : نسبتها لمعطيها ، وحمد الله عليها. وفى الحكم : «لا تدهشك واردات النعم عن القيام بحقوق شكرك ؛ فإنّ ذلك مما يحط من وجود قدرك».

٦٣

قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه : ما من نعمة إلا والحمد أفضل منها ، والنعمة التي ألهم بها الحمد أفضل من الأولى ؛ لأن الشكر يستوجب المزيد. وفى أخبار داود عليه‌السلام أنه قال : إلهى ، ابن آدم ليس فيه شعرة إلا وتحتها نعمة ، وفوقها نعمة ، فمن أين يكافئها؟ فأوحى الله تعالى إليه : يا داود ، إنى أعطى الكثير وأرضى باليسير ، وإنّ شكر ذلك أن تعلم أن ما بك من نعمة فمنى. ه.

ومن جملة النعم التي يجب الشكر عليها ـ وهى التي بدّلها الكفار كفرا ـ عمارة بيت الله الحرام ، ودعاء إبراهيم عليه‌السلام ، الذي أشار إليه الحق تعالى بقوله :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨))

قلت : قال هنا : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) بالتعريف ، وقال فى سورة البقرة : (بَلَداً) (١) بالتنكير ، قال البيضاوي : الفرق بينهما أن المسئول فى الأول ـ أي : فى التعريف ـ إزالة الخوف وتصييره أمنا ، وفى الثاني جعله من البلاد الآمنة. ه. وفرّق السهيلي : بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بمكة حين نزول آية إبراهيم ؛ لأنها مكية ؛ فلذلك قال فيه : (الْبَلَدَ) ؛ بلام التعريف التي للحضور ، بخلاف آية البقرة ، فإنما هى مدنية ، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها ، فلم يعرفها بلام تعريف الحضور. ه. قال ابن جزى : وفيه نظر ؛ لأن ذلك كان حكاية عن إبراهيم عليه‌السلام ، ولا فرق بين كونه بالمدينة أو بمكة. ه.

قلت : لا نظر فيه ؛ لأن الحق تعالى لم يحك لنا قصص الأنبياء بألفاظهم ، وإنما ترجم عنها بلسان عربى ، فينزل على رعاية مقتضى الحال. ولذلك اختلفت الألفاظ فى قصص الأنبياء ؛ لأن كل قصة تنزل على ما يقتضيه المقام والحال ، من تعريف وتنكير ، واختصار وإطناب. وقد ذكر أبو السعود فى سورة الأعراف ما يؤيد هذا ، فانظره. والله تعالى أعلم.

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) يعنى : مكة ، (آمِناً) لمن فيها من أغدرة الناس عليها ، أو من الخسف والعذاب ، أو من الطاعون والوباء ، (وَاجْنُبْنِي) أي : امنعني

__________________

(١) فى الآية ١١٦.

٦٤

واعصمني ، (وَبَنِيَ) من بعدي ، من (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) أي : اجعلنا منهم فى جانب بعيد. قال البيضاوي : وفيه دليل على أن العصمة للأنبياء بتوفيق الله وحفظه إياهم ، وهو بظاهره لا يتناول أحفاده وجميع ذريته ، وزعم ابن عيينة أن أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم ، محتجا به ، وإنما كانت لهم حجارة يدورون بها ، ويسمونها الدوار ، ويقولون : البيت حجر ، وحيثما نصبت حجرا فهو بمنزلته. ه. قال ابن جزى : و (بَنِيَ) يعنى : من صلبه ، وفيهم أجيبت دعوته ، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام. ه. وقد قال فى الإحياء : عنى إبراهيم عليه‌السلام بالأصنام ، الذهب والفضة ، بمعنى : حبهما والاغترار بهما ، والركون إليهما. قال عليه الصلاة والسلام : «تعس عبد الدّينار والدّرهم ...» الحديث ؛ لأن رتبة النبوة أجلّ من أن يخشى عليها أن تعتقد الألوهية فى شىء من الحجارة. ه.

قلت : الظاهر أن يبقى اللفظ على ظاهره ، فى حقه وفى حق بنيه. أما فى حقه فلسعة علمه وعدم وقوفه مع ظاهر الوعد ، كما هو شأن الأكابر ، لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، وهذا كقوله : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) (١). وتقدم هذا المعنى مرارا. وأما فى حق بنيه فإنما قصد العموم فى نسله ، لكن لم يجب إلا فيما كان من صلبه ؛ فإن دعاء الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يجب أن يكون كله مجابا ، فقد يجابون فى أشياء ، ويمنعون من أشياء. وقد سأل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمته أشياء ، فأجيب فى البعض ، ومنع البعض. كما فى الحديث (٢).

ثم قال إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) أي : إن الأصنام أتلفت كثيرا من الخلق عن طريق الحق ، فلذلك سألت منك العصمة ، واستعذت بك من إضلالهن ، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية ، كقوله : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) (٣). (فَمَنْ تَبِعَنِي) على دينى (فَإِنَّهُ مِنِّي) ؛ لا ينفك عنى فى أمر الدين ، (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، تقدر أن تغفر له ابتداء ، أو بعد التوفيق للتوبة. وفيه دليل على أن كل ذنب فلله أن يغفره ، حتى الشرك ، إلا أن الوعيد فرّق بينه وبين غيره. قاله البيضاوي. قال ابن جزى : (وَمَنْ عَصانِي) ؛ يريد : بغير الكفر ، أو عصاه بالكفر ثم تاب منه ، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ، ولكنه ذكر اللفظ بالعموم ؛ لما كان فيه ـ عليه‌السلام ـ من التخلق بالرحمة للخلق ، وحسن الخلق. ه.

(رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي : بعض ذريتى ، وهو : إسماعيل عليه‌السلام ، أو : أسكنت ذرية من ذريتى ، وهو إسماعيل ومن ولد منه ؛ فإن إسكانه متضمن لإسكانهم ، (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) يعنى : وادي مكة ، لأنها حجرية

__________________

(١) من الآية ٨٠ من سورة الأنعام.

(٢) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربى ثلاثا ، فأعطانى ثنتين ، ومنعنى واحدة. سألت ربى أن لا يهلك أمتى بالسّنة فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أمتى بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» أخرجه مسلم فى (كتاب الفتن وأشراط الساعة ، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض) من حديث عامر بن سعد عن أبيه.

(٣) من الآية ٧٠ من سورة الأنعام.

٦٥

لا تنبت ، والوادي : ما بين الجبلين ، وإن لم يكن فيه ماء. ولم يقل : ولا ماء ، ولعله علم بوحي أنه سيكون فيه الماء ، (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) الذي حرّمه على الجبابرة من التعرض له والتهاون به ، أو : لم يزل محترما تهابه الجبابرة ، أو منع منه الطوفان ، فلم يستأصله ويمح أثره. وهذا الدعاء وقع منه أول ما قدم ، ولم يكن موجودا ، فلعله قال ذلك باعتبار ما كان ، أي : عند أثر بيتك المحرم ، أو باعتبار ما يؤول إليه من بنائه وعمارته واحترامه.

وقصة إنزاله ولده بمكة : أن هاجر كانت مملوكة لسارة ، وهبها لها جبار من الجبابرة ؛ وذلك أن إبراهيم عليه‌السلام دخل مدينة ، وكان فيها جبار يغصب النساء الجميلات ، فأخذها ، وأدخلها بيتا ، فلما دخل عليها دعت عليه ، فسقط ، ثم قالت : يا رب إن مات قتلونى فيه ، فقام. فلما دنا منها ، دعت عليه ، فسقط ، فقال فى الثالثة : ما هذه إلا شيطانة ، أخرجوها عنى ، وأعطوها هاجر ، فعصمها الله منه ، وأخدمها هاجر ، ثم وهبتها لإبراهيم ، فوطئها فحملت بإسماعيل ، فلما ولدته غارت منها ، فتعب إبراهيم معها ، ثم ناشدته سارة أن يخرجها من عندها ، فركب البراق ، وخرج بها تحمل ولدها حتى أنزلها مكة ، تحت دوحة ، قريبا من موضع زمزم. فلما ولى تبعته ، وهى تقول : لمن تتركنا فى هذه البلاد ، وليس بها أنيس؟ ثم قالت : أالله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذا لا يضيعنا. فرجعت تأكل من مزود ، تم تركها لها ، وتشرب من قربة ماء ، فلما فرغ الماء نشف اللبن ، وجعل الولد يتخبط من العطش ، فجعلت تطوف من الصفا ، وكان جبلا صغيرا قريبا منها ، وتذهب إلى المروة ، وتسعى بينهما ، لعلها ترى أحدا ، فلما بلغت سبعة أطواف وسمعت صوتا فى الهواء ، فقالت : أغث إن كان معك غياث ، فتبدّى جبريل بين يديها حتى وصل إلى موضع زمزم ، فهمز بعقبه ففار الماء ، فلما رأته دهشت ، وخافت عليه يذهب ؛ فجعلت تحوطه ، وتقول : زم زم ، فانحصر الماء. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يرحم الله أمّ إسماعيل ، لو تركته ، كان عينا معينا» (١). فشربت ، ودرّ لبنها.

ثم إن جرهم رأوا طيورا تحوم ، فقالوا : لا طيور إلا على الماء. فقصدوا الموضع ، فوجدوها مع ابنها ، وعندها عين ، فقالوا لها : أتشركيننا فى مائك ، ونشركك فى ألباننا؟ ففعلت. وفى حديث البخاري : «قالوا لها : أتحبين أن نسكن معك؟ قالت : نعم ، ولكن لا حق لكم فى الماء». فرحلوا إليها ، وسكنوا معها ، ثم زوجوا ولدها منهم. وحديث إتيان إبراهيم يتعاهد ابنه ، وبنائهما الكعبة ، مذكور فى البخاري (٢) والسّير.

ثم قال : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي : ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع (٣) من كل مرتفق ومرتزق ، إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم. وتكرير النداء وتوسيطه ، للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمّة. والمقصود من الدعاء : توفيقهم لها ، وقيل : اللام للأمر ، وكأنه طلب منهم الإقامة ، وسأل من الله أن يوفقهم لها. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب : تزفّون : النّسلان فى المشي) من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه.

(٢) فى الموضع السابق ذكره.

(٣) البلقع : هى الأرض القفر التي لا شىء بها : انظر : اللسان (بلقع ١ / ٣٤٨).

٦٦

مِنَ النَّاسِ) أي : اجعل أفئدة من بعض الناس ، (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي : تسرع إليهم شوقا ومحبة ، و «من» : للتبعيض ، ولذلك قيل : لو قال : أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم ، ولحجت اليهود والنصارى. وقيل : للبيان ؛ أي : أفئدة ناس. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مع كونهم بواد لا نبات فيه ، (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمة ، فأجاب دعوته ، فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شىء ، حتى إنه يوجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية ، فى يوم واحد.

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) أي : تعلم سرنا ، كما تعلم علانيتنا ، والمعنى : إنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وأرحم منا بأنفسنا ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، لكننا ندعوك إظهارا لعبوديتك ، وافتقارا إلى رحمتك ، واستجلابا لنيل ما عندك. قاله البيضاوي. أي : فيكون مناسبا لحاله فى قوله : «علمه بحالي يغنى عن سؤالى». وقيل : ما نخفى من وجد الفرقة ، وما نعلن من التضرع إليك والتوكل عليك. وتكرير النداء ؛ للمبالغة فى التضرع واللجوء إلى الله تعالى. (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ؛ لأن علمه أحاط بكل معلوم. و «من» : للاستغراق.

الإشارة : ينبغى للعبد أن يكون إبراهيميا ، فيدعو بهذا الدعاء على طريق الإشارة ، فيقول : رب اجعل هذا القلب آمنا من الخواطر والوساوس ، واجنبنى وبنىّ ، أي : بعّدنى ومن تعلق بي ، أن نعبد الأصنام ، التي هى الدنانير والدراهم ، وكل ما يعشق من دون الله ، (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) فتلفوا فى حبها والحرص عليها ، فلا فكرة لهم إلا فيهما ، ولا شغل لهم إلا جمعهما ، فمن تبعني فى الزهد فيهما ، والغنى بك عنهما ، فإنه منى ، ومن عصانى ، واشتغل بمحبتهما وجمعهما ، (فإنك غفور رحيم).

وقوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) فيه : تعليم اليقين لمن طلب تربية اليقين. قال الورتجبي : فيه إشارة إلى تربية أهله بحقائق التوكل والرضا والتسليم ، ونعم التربية ذلك ، فأعلمنا بسنته القائمة الحنيفية السمحة السهلة ، الخليلية الحبيبية ، الأحمدية المصطفوية ـ صلوات الله عليهما ـ أن العارف الصادق ينبغى له ألا يكون معوله على الأملاك والأسباب ـ فى حياته وبعد وفاته ـ لتربية عياله ، فإنه تعالى حسبه ، وزاد فى تربيتهم بأن يؤدّبهم بإقامة الصلاة ، إظهارا للعبودية ، وإخلاصا فى المعرفة ، وطلبا للمشاهدة ، ومناجاة فى القربة بقوله : «ربنا ليقيموا الصلاة». إلخ.

وقال القشيري : أخبر عن صدق توكله وتفويضه ، أي : أسكنت قوما من ذريتى بواد غير ذى زرع ، عند بيتك المحرّم. وإنما رد الرّفق لهم فى الجوار فقال : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) ، ثم قال : (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ). أي : أسكنتهم لإقامة

٦٧

حقّك ، لا لطلب حظوظهم. ويقال : اكتفى بأن يكونوا فى ظلال عنايته عن أن يكونوا فى ظلال نعيمهم. ثم قال : قوله : (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) أي : أسكنتهم هذا الوادي ، ولا متعلق من الأغيار لقلوبهم ، ولا متناول لأفكارهم وأسرارهم ، فهم مطروحون ببابك ، مقيمون بحضرتك ، جار فيهم حكمك ، إن راعيتهم كفيتهم ، وكانوا أعزّ خلق الله ، وإن أقصيتهم وأوبقتهم كانوا أضعف وأذلّ خلقك. ه.

وقوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) : قال القشيري : ليشتغلوا بعبادتك ، فأفرّد قوما يقومون لهم بكفايتهم ، وارزقهم من الثمرات ، فإنّ من قام بحقّ الله قام الله بحقّه. فاستجاب الله دعاءه فيهم ، فصارت القلوب من أهل كل بر وبحر كالمجبولة على محبة ذلك البيت ، ومحبة أولئك المصلين من سكانه. وقال الورتجبي : سأل أن يجعلهم مرادى جلاله وجماله ، ويجعلهم آية الصادقين والعاشقين ، بقوله : (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) ، تميل بوصف الإرادة والمحبة لك ، والاقتداء بهم فى إقامة سنتك ، وألبسهم لباس أنوارك ، وألق فى قلوب خلقك محبتهم بمحبتك. ه. ومعنى قوله : مرادى جلاله وجماله : أي : مظهرا لجلاله وجماله ، يعشقهم البرّ والفاجر ، والكامل والناقص ، فقد ظهر فيهم الجلال والجمال. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر بقية كلام إبراهيم عليه‌السلام فقال :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

قلت : (لسميع الدعاء) : من إضافة أمثلة المبالغة إلى مفعوله ، أي : لسميع دعاء من دعاه. و (من ذريتى) : عطف على مفعول «اجعل» ، أي : اجعلنى وبعض ذريتى مقيمين للصلاة.

يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن خليله عليه‌السلام : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ) أي : مع كبر سنى عن الولد ، (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ، روى أنه ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة ، وإسحاق لمائة وثنتى عشرة سنة ، وقيل : غير ذلك. وإنما ذكر كبر سنه ؛ ليكون أعظم فى إظهار النعمة ، وإظهارا لما فيه من الآية ، ولذلك قال : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي : يجيب من دعاه ، من قولك : سمع الملك كلامى ، إذا اعتنى به. وفيه إشعار بأنه تقدم منه سؤال الولد ، فسمع منه ، وأجابه حين وقع اليأس منه ، ليكون من أجلّ النعم وأجلاها.

٦٨

ثم طلب الاستقامة له ولولده بقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) أي : متقنا لها ، مواظبا عليها ، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) فاجعل من يقيمها. والتبعيض ؛ لعلمه بالوحى أنّ من ولده من لا يقيمها ، أو باستقرار عادته فى الأمم الماضية أن منهم من يكون كفارا. (رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي : استجب ، أو تقبل عبادتى. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) ، وكان هذا الدعاء قبل النهى ، أو قبل تحقق موتهما على الكفر ، أو يريد آدم وحواء. (وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) أي : يثبت ويتحقق وجوده ، مستعار من القيام على الرّجل ، كقولهم : قامت الحرب على ساق. أو يقوم إليه أهله ، فحذف المضاف ، أي : يقوم أهل الحساب إليه ، وأسند إليه قيامهم ؛ مجازا.

الإشارة : إتيان النسل البشرى ، أو الروحاني ، من أجلّ النعم وأكملها على العبد. وفى الحديث : «إذا مات العبد انقطع عمله إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم بثّه فى صدور الرّجال ، أو ولد صالح يدعو له بعد موته». والولد الروحاني أتم ؛ لتحقق استقامته فى الغالب. وطلب ذلك محمود كما فعل الخليل وزكريا ، وغيرهما ، وقد مدح الله من فعل ذلك بقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) (١). وقرة عين فى الذرية : أن يكونوا على الاستقامة فى الدين ، وسلوك منهاج الصالحين. وكل ما أتوا به من الطاعة والإحسان فللوالدين حظ ونصيب من ذلك ، ولا فرق بين الولد الروحاني والبشرى ، وفى ذلك يقول الشاعر (٢) :

والمرء فى ميزانه أتباعه

فاقدر إذن قدر النبىّ محمّد

والله تعالى أعلم.

ثم تمم قوله : (يوم يقوم الحساب) بذكر أهواله ، فقال :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

__________________

(١) من آية ٧٤ من سورة الفرقان.

(٢) وهو الإمام البوصيرى. انظر ديوانه / ١٢٢. وفيه : فاقدر إذن فضل النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٩

قلت : (يوم يأتيهم) : مفعول ثان لأنذر ، ولا يصح أن يكون ظرفا. و (نجب دعوتك) ؛ جواب الأمر.

يقول الحق جل جلاله : (وَلا تَحْسَبَنَ) أيها السامع ، أن (اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) ، أو أيها الرسول ، بمعنى : دم على ما أنت عليه من أن الله مطلع على أفعالهم ، لا تخفى عليه خافية ، غير غافل عنهم. وهو وعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة. وقيل : إنه تسلية للمظلوم ؛ وتهديد للظالم ؛ فالحق تعالى يمهل ولا يهمل. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) ، أي : يؤخر عذابهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) ، أي : تحد فيه النظر ، من غير أن تطرف ؛ من هول ما ترى.

(مُهْطِعِينَ) : مسرعين إلى الداعي ؛ مذلة واستكانة ، كإسراع الأسير والخائف ونحوه. أو مقبلين بأبصارهم ، لا يطرفون ؛ هيبة وخوفا ، (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : رافعيها إلى السماء كرفع الإبل رأسها عند رعيها أعالى الشجر. وذلك من شدة الهول ، أو من أجل الغل الذي فى عنقه ، كقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) (١). وقال الحسن فى هذه الآية : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. ه. (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ، بل تقف أعينهم شاخصة لا تطرف ، أو : لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم ، (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) : خلاء ، محترقة ، فارغة من الفهم ، لا تعى شيئا ؛ لفرط الحيرة والدهشة. ومنه يقال للأحمق وللجبان : قلبه هواء ، أي : لا رأى فيه ولا قوة. وقيل : خالية من الخير ، خاوية من الحق.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) يا محمد ، أي : خوفهم هذا اليوم ، وهو : (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) ، يعنى يوم القيامة ، أو يوم الموت ؛ فإنه أول مطلع عذابهم ، (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالشرك والتكذيب : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي : أخّر العذاب عنا ، وردنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى أجل قريب ، (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) حينئذ (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) ، ونظيره : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢). قال تعالى لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) أنكم باقون فى الدنيا ، (ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) عنها بالموت ولا بغيره ، ولعلهم أقسموا بطرا وغرورا. أو دل عليه حالهم ؛ حيث بنوا مشيدا ، وأمّلوا بعيدا. أو أقسموا أنهم لا ينقلون إلى دار أخرى ، وأنهم إذا ماتوا لا يزالون عن تلك الحالة ، ولا ينقلون إلى دار الجزاء ، كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) (٣).

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي ، من الأمم السالفة كعاد وثمود ، (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) بما تشاهدون من آثارهم الدارسة ، وديارهم الخربة ، وما تواتر عندكم من أخبارهم ،

__________________

(١) الآية ٨ من سورة يس.

(٢) الآية ١٠ من سورة المنافقون.

(٣) الآية ٣٨ من سورة النحل.

٧٠

(وَ) قد (ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) من أحوالهم ، أي : بيّنا لكم أنكم مثلهم فى الكفر واستحقاق العذاب ، أو بيّنا لكم صفات ما فعلوا ، وما فعل بهم ، التي هى فى الغرابة كالأمثال المضروبة.

الإشارة : كما أمهل سبحانه الظالمين إلى دار الشدائد والأهوال ، أمهل عباده الصالحين إلى دار الكرامة والنوال ؛ لأن هذه الدار لاتسع ما أراد أن يعطيهم من الخيرات ؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان ، فقد أجلّ مقدارهم أن يجازيهم فى دار لا بقاء لها ، وتلك الدار باقية لا نفاد لها ، ففيها يتمحض الجمال والجلال. فبقدر ما ينزل على أهل الجلال من الأهوال ينزل على أهل الجمال من الكرامة والنوال. وتأمل ما تمناه أهل الجلال حين نزلت بهم الأهوال من قولهم : (ربنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل) ، ثم بادر إلى إجابة الداعي ، واتباع الرسول الهادي ، فى كل ما جاء به من الأوامر والنواهي ، واعتبر بمساكن الذين ظلموا أنفسهم ، كيف فعل بهم الزمان؟ وكيف غرتهم الأمانى وخدعهم الشيطان ، حتى أسكنهم دار الذل والهوان؟ فشد يدك على الطاعة والإحسان ، والشكر لله على الهداية لنعمة الإسلام والإيمان ، وعلق قلبك بمقام الإحسان ؛ فإن الله يرزق العبد على قدر نيته. وبالله التوفيق.

ثم ذكر ما فعل بأهل المكر والخذلان ، فقال :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

قلت : (وإن كان مكرهم) ؛ «إن» نافية ، واللام للجحود ، ومن قرأ «لّتزول» ؛ بفتح اللام ، فإن مخففة ، واللام فارقة ؛ و (يوم تبدل) : بدل من (يوم يأتيهم) ، أو ظرف للانتقام ، أو مقدر باذكر ، أو (بمخلف وعده). ولا يجوز أن ينتصب بمخلف ؛ لأن ما قبل «إن» لا يعمل فيما بعدها. و (السماوات) : عطف على (الأرض) ، أي : وتبدل السماوات.

يقول الحق جل جلاله : (وَقَدْ مَكَرُوا) بك يا محمد (مَكْرَهُمْ) الكلى ، واستفرغوا جهدهم فى إبطال الحق وتقرير الباطل ، (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي : مكتوب عنده فعلهم ، فيجازيهم عليه. أو عند الله ما يمكرهم به

٧١

جزاء لمكرهم ، وإبطالا له ، (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) فى العظم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) الثوابت لو زالت ؛ تقديرا ، أو ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، أي : الشرائع والنبوات الثابتة كالجبال الرواسي. والمعنى على هذا تحقير مكرهم ؛ لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة ، أو : وإن مكرهم لتزول منه الجبال من شدته ، ولكن الله عصم ووقى. وقيل : الآية متصلة بما قبلها ، أي : وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، ومكروا مكرهم فى إبطال الحق.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) ، يعنى : وعد النصر على الأعداء. وقدّم المفعول الثاني ، والأصل : مخلف رسله وعده ، فقدّم الوعد ؛ ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا على الإطلاق ، ثم قال : (رُسُلَهُ) ؛ ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس ، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه؟! فقدّم الوعد أولا بقصد الإطلاق ، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) : غالب لا يماكر ، قادر لا يدافع ، (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه.

يظهر ذلك (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) ، أو اذكر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) ، فتبدل أرض الدنيا يوم القيامة بأرض بيضاء عفراء (١) ، كقرصة النّقى (٢) ، كما فى الصحيح (٣). (وَ) تبدل (السَّماواتُ) بأن تنشق وتطوى كطى السجل للكتب ، ويبقى العرش بارزا ، وهو سماوات الجنة.

قال البيضاوي : والتبديل يكون فى الذات ، كقوله : بدلت الدراهم بالدنانير ، وعليه قوله : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٤) ، وفى الصفة ، كقولك : بدلت الحلقة خاتما ، إذا أذبتها وغيرت شكلها. وعليه قوله : (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٥). والآية تحتملها ، فعن على رضى الله عنه : تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب ، وعن ابن عباس ـ رضى الله تعالى عنهما ـ : هى تلك الأرض ، وإنما تغير صفاتها ، ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تبدّل الأرض غير الأرض فتنبسط ، وتمدّ مد الأديم العكاظىّ ؛ «لا ترى فيها عوجا ولا أمتا» (٦).

قال ابن عطية : وأكثر المفسرين على أن التبديل يكون بأرض بيضاء عفراء ، لم يعص الله فيها ، ولا سفك فيها دم ، وليس فيها معلم لأحد. وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمن فى وقت التبديل فى ظل العرش». وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الناس ، وقت التبديل ، على الصّراط» (٧). وروى أنه قال : (٨) «الناس حينئذ أضياف الله ؛ فلا يعجزهم ما

__________________

(١) العفرة : بياض ليس بالناصع .. انظر النهاية (عفر).

(٢) قرصة النّقىّ : الدقيق النقي من الغش والنخال انظر فتح الباري (١١ / ٣٨٣).

(٣) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء ، كقرصة النقي ، ليس فيها علم لأحد». أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة). ومسلم فى (صفات المنافقين ، باب فى البعث والنشور) من حديث سهل بن سعد الساعدي.

(٤) من الآية ٥٦ من سورة النساء.

(٥) من الآية ٧٠ من سورة الفرقان.

(٦) جزء من حديث الصور المشهور المروي عن أبى هريرة.

(٧) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب فى البعث والنشور) من حديث السيدة عائشة ـ رضى الله عنها.

(٨) أخرجه بنحوه ابن أبى حاتم فى تفسيره (٧ / ٢٢٥٣) من حديث أبى أيوب الأنصاري. وانظر تفسير ابن كثير (٢ / ٥٤٤).

٧٢

وفى سراج المريدين لابن العربي : أن الله خلق الأرض مختلفة محدودبة ؛ ويخلقها يوم القيامة مستوية ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، متماثلة بيضاء كخبرة النقي ، كما فى الصحيح ، وأما تبديل السموات فليس فى كيفيتها حديث ، وإنما هو مجهول. وفى حديث مسلم : «أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال : هم على الصراط». قال : يحتمل أنه الصراط المعروف ، ويحتمل أنه اسم لموضع غيره ، تستقر الأقدام عليه ، وكأنه الأظهر ؛ للحديث الآخر. وقد سألته عائشة ـ رضى الله عنها ـ أين يكون الناس يوم تبدل الأرض؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هم فى الظّلمة دون الجسر» (١). والجسر : الصراط. ه.

أما تبديل الأرض : فظاهر الآيات أنها قبل البعث والحشر ، فلا يقع البعث والحشر ، إلا على الأرض المبدلة ؛ كقوله : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ) (٢). وقوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) (٣) .. ثم قال : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) (٤). وقوله : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) (٥) ، ثم قال : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) (٦) ، إلى غير ذلك من الآيات. والأرواح حينئذ أضياف الله ، أو فى ظل العرش ، أو دون الجسر ، حيث يعلم الله. وأما تبديل السماوات فظاهر الأخبار أنه وقت وقوف الناس فى المحشر ، حيث تشقق السماء بالغمام وتنزل الملائكة تنزيلا. والله تعالى أعلم.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، أي : وبرزوا من أجداثهم ؛ لمحاسبة الواحد القهار ، أو لمجازاته. وتوصيفه بالوصفين ؛ للدلالة على أنه فى غاية الصعوبة ، كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٧) ، وأن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يغالب فلا مستغاث لأحد إلى غيره ولا مستجار ، (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ) : قرن بعضهم إلى بعض (فِي الْأَصْفادِ) : فى القيود ، أو الأغلال ، كل واحد قرن مع صاحبه ، على حسب مشاركتهم فى العقائد والأعمال ، كقوله : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) (٨). أو قرنوا مع الشياطين ، أو مع ما اكتسبوا من العقائد الزائفة والأهوية الفاسدة ، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فقوله : (فِي الْأَصْفادِ) : متعلق بمقرنين ، أو حال من ضميره. والصفد : القيد أو الغل.

(سَرابِيلُهُمْ) : قمصانهم ، والسربال : القميص ، (مِنْ قَطِرانٍ) ، وهو الذي تهنأ به الإبل ، أي : تدهن به. وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جعل قميص أهل النار. قال البيضاوي : وهو أسود منتن ، تشتعل فيه النار بسرعة ،

__________________

(١) أخرجه مسلم مطولا فى (الحيض ، باب بيان صفة منى الرجل والمرأة) من حديث ثوبان ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) من الآية ٤٧ من سورة الكهف.

(٣) الآيتان ١٠٥ ـ ١٠٦ من سورة طه.

(٤) من الآية ١٠٨ من سورة طه.

(٥) الآية الأولى من سورة الواقعة.

(٦) الآيتان : ٤ ـ ٥ من سورة الواقعة.

(٧) الآية ١٦ من سورة غافر.

(٨) الآية ٧ من سورة التكوير.

٧٣

يطلى به جلود أهل النار ، حتى يكون طلاؤه لهم كالقميص ، ليجتمع عليهم لذغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه ، مع إسراع النار فى جلودهم. على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. ه.

(وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) ، أي : تكسوها وتأكلها ؛ لأنهم لم يتوجهوا بها إلى الحق ، ولم يخضعوا بها إلى الخالق ، كما تطلع على أفئدتهم ؛ لأنها فارغة من المعرفة والنور ، مملوءة بالجهالات والظلمة. ونظيره قوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (١) ، وقوله تعالى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (٢).

فعل ذلك بهم ؛ (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) من الإجرام ، أو ما كسبت مطلقا ؛ لأنه إذا بيّن أن المجرمين معاقبون لإجرامهم ؛ علم أن المطيعين يثابون لطاعتهم. ويتعين ذلك إذا علق اللام ببرزوا. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، فيحاسب الناس فى ساعة واحدة ؛ لأنه لا يشغله حساب عن حساب ، فكل شخص يظهر له أنه واقف بين يديه ، يحاسب فى وقت حساب الآخر ؛ لأن ذلك وقت خرق العوائد.

(هذا) القرآن ، أو ما فيه من الوعظ والتذكير ، أو ما وصفه من قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً ...) (٣) إلخ ، (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) ؛ أي : كفاية لهم عن غيره فى الوعظ وبيان الأحكام ، يقال : أعطيته من المال ما فيه بلاغ له ، أي : كفاية. أو بلاغ ؛ أي : تبليغ لهم ، كقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (٤) ، (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) (٥) ، وقوله : (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) : عطف على محذوف ، أي : لينصحوا به ، ولينذروا به ، أو متعلق بمحذوف ، أي : ولينذروا به أنزلناه ، (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ، أو المنبهة على ما يدل عليه. (وَلِيَذَّكَّرَ) أي : ليتعظ به (أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : القلوب الصافية بالتدبر فى أسرار معانيه وعجائب علومه وحكمه ، فيرتدعوا عما يرديهم ، ويتذرعوا بما يحظيهم. واعلم أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد ، هى الغاية والحكمة فى إنزال الكتاب : تكميل الرسل للناس ، واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها التوحيد ، وإصلاح القوة العملية التي هى التدرع بكمال التقوى. جعلنا الله من الفائزين بغايتها. قال معناه البيضاوي.

الإشارة : قد مكر أهل الغفلة بالأولياء ، قديما وحديثا ، واحتالوا على إطفاء نورهم ، فأبى الله إلا نصرهم وعزهم ؛ (إن الله عزيز ذو انتقام) فينتقم لهم وينصرهم. ووقت نصرهم هو حين يتحقق فناؤهم عن الرسوم والأشكال ، فتبدل الأرض عندهم غير الأرض والسماوات ؛ فتنقلب كلها نورا مجموعا ببحر الأنوار ، وبمحيطات أفلاك الأسرار ،

__________________

(١) من الآية ٢٤ من سورة الزمر.

(٢) من الآية ٤٨ من سورة القمر.

(٣) الآية ٤٢ من سورة إبراهيم.

(٤) من الآية ٤٨ من سورة الشورى.

(٥) الآية ٥٤ من سورة النور.

٧٤

فتذهب ظلمة الأكوان بتجلى نور المكون ، (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١). وبرزوا من سجن الأكوان لشهود الواحد القهار.

وقال الورتجبي : يريد أن أرض الظاهر وسماء الظاهر تبدل من هذه الأوصاف ، وظلمة الخليقة ، إلا أنها منورة بنور جلال الحق عليها ، وأنها صارت مشرق عيان الحق للخلق حين بدا سطوات عزته ، بوصف الجبارية والقهارية بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (٢) وهناك يا أخى يدخل الوجود تحت أذيال العدم ؛ من استيلاء قهر أنوار القدم ، قال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣). قيل : فأين الأشياء إذ ذاك؟ قال : عادت إلى مصادرها. وقال : متى كانوا شيئا حتى صاروا لا شىء؟! لأنهم أقل من الهباء فى الهواء فى جنب الحق. ه.

وترى المجرمين ، وهم الغافلون ، مقرنين فى قيود الأوهام ، والشكوك ، مسجونين فى محيطات الأكوان ، سرابيلهم ظلمة الغفلة ، تغشى وجوههم نار القطيعة ، لا تظهر عليها بهجة المحبين ، ولا أسرار العارفين. فعل ذلك بهم ؛ ليظهر فضيلة المجتهدين. هذا بلاغ للناس ، ولينذروا به وبال الغفلة والحجاب ، وليتحقق أولوا الألباب أن الوجود إنما هو للواحد القهار. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

__________________

(١) من الآية ٣٥ من سورة النور.

(٢) من الآية ٦٩ من سورة الزمر.

(٣) من الآية ٨٨ من سورة القصص.

٧٥
٧٦

سورة الحجر

مكية. وهى تسع وتسعون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) (١) ، مع قوله جل جلاله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) ؛ فهى تتميم لعنوان القرآن ، وتفسير له.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

قلت : رب : حرف جر ، تدل على التقليل غالبا. وفيها ثمانى لغات : التخفيف ، والتثقيل مع ضم الراء وفتحها بالتاء ، ودونها. وتدخل عليها (ما) فتكفها عن العمل ، ويجوز دخولها حينئذ على الفعل ، ويكون ماضيا ، أو منزلا منزلته فى تحقيق وقوعه ، وقد تدخل على الجملة الاسمية ؛ كقول الشاعر :

ربّما الجامل المؤبّل فيهم

وعناجيج بينهنّ المهار

وجملة : (إلا ولها) : صفة لقرية ، والأصل ألا يدخلها الواو ، كقوله : (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) (٢) ، لكن لما شابهت صورة الحال دخلت عليها ؛ تأكيدا لوصفها بالموصوف.

يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المعظم ، (تِلْكَ) الآيات التي تتلوها هى (آياتُ الْكِتابِ) الذي أنزلناه إليك ، (وَ) آيات (قُرْآنٍ) عربى (مُبِينٍ) ؛ واضح البيان ، مبينا للرشد والصواب ، فمن تمسك به وآمن بما فيه كان من المسلمين الناجين ، ومن تنكب عنه وكفر به كان من الكافرين الهالكين ، وسيندم حين لا ينفع الندم ، كما قال تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) : متمسكين بما فيه حتى يكونوا من الناجين. وهذا التمني قيل : يكون عند الموت ، وقيل : فى القيامة ، وقيل : إذا خرج العصاة من النار ، وهذا أرجح ؛ لحديث فى ذلك (٣). ومعنى التقليل فيه : أنه تدهشهم أهوال يوم القيامة ، فإن حانت منهم إفاقة فى بعض الأوقات تمنوا أن لو كانوا مسلمين.

__________________

(١) من الآية ٥٢ من سورة إبراهيم.

(٢) من الآية ٢٠٨ من سورة الشعراء.

(٣) عن أبى موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا اجتمع أهل النار فى النار ، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار لمن فى النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وأنتم معنا فى النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا ـ

٧٧

قال تعالى : (ذَرْهُمْ) : دعهم اليوم (يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم ، (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) : ويشغلهم توثقهم بطول الأعمار ، واستقامة الأحوال ، عن الاستعداد للمعاد ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءهم. والأمر للتهديد ، والغرض : حصول الإياس من إيمانهم ، والإيذان بأنهم من أهل الخذلان ، وأنّ نصحهم بعد هذا تعب بلا فائدة. وفيه إلزام الحجة لهم. وفيه التحذير عن إيثار التنعم ، وما يؤدى إليه طول الأمل من الهلاك عاجلا وآجلا ، ولذلك قال تعالى بعد : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) أي : أجل مقدر كتب فى اللوح المحفوظ ، (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) ؛ أي : أجل هلاكها ، (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عنه ساعة. وتذكير الضمير فى (يَسْتَأْخِرُونَ) ؛ للحمل على المعنى ، لأن الأمة واقعة على الناس. والله تعالى أعلم.

الإشارة : انظر هذا التهديد العظيم ، والخطر الجسيم لمن تمتع بدنياه ، وعكف على حظوظه وهواه : (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون). ولله در القائل :

تفكّرت فى الدّنيا وفى شهواتها

ولذّاتها حتّى أطلت التّفكّرا

وكيف يلذّ العيش من هو سالك

سبيل المنايا رائحا أو مبكّرا

فلا خير فى الدّنيا ولا فى نعيمها

لحرّ مقلّ كان أو مكثرا

ثم أجاب من اقترح الآيات ، فقال :

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا) ؛ أي : كفار قريش : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) فى زعمه ، أو قالوه تهكما ، (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي : إنك لتقول قول المجانين ، حين تدعى أنه ينزل عليك الذكر ، أي : القرآن. (لَوْ ما) : هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) ليصدقوك فيما تدعى ، أو يعضدوك على الدعوى ، أو للعقاب على تكذيبنا ، (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى دعواك ، قال تعالى : (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) ؛ لعذابهم أو لغيره (إِلَّا بِالْحَقِ) من الوحى ، والمصالح التي يريدها الله ، لا باقتراح مقترح ، أو اختيار كافر ، أو : إلا تنزيلا ملتبسا بالحق ، أي : بالوجه

__________________

ـ بها ، فيغضب الله تعالى لهم ، بفضل رحمته ، فيأمر بكل من كان من أهل القبلة فى النار فيخرجون منها ، فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين». أخرجه ابن جرير فى التفسير ، وابن أبى عاصم فى السّنة (١ / ٤٠٥) ، وابن أبى حاتم فى تفسيره (٧ / ٢٢٥٥) والحاكم فى المستدرك (٢ / ٤٤٢) وصححه.

٧٨

الذي قدره فى الأزل ، واقتضته الحكمة الإلهية ، وهو أنه لا تنزل إلا باستئصال العذاب ، وقد سبق فى العلم القديم أن من ذريتهم من سبقت كلمتنا له بالإيمان ، أو يراد بالحق : العذاب ، ويؤيده قوله : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ؛ أي : ولو نزلت الملائكة لعوجلوا ، وما كانوا ، إذا نزلت ، مؤخرين عن العذاب ساعة.

ثم رد إنكارهم نزول الذكر واستهزاءهم ، فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) ؛ أي : القرآن ، وأكده بأن وضمير الفصل ، وحفظه بعد نزوله ، كما قال : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من التحريف ، والزيادة والنقص ، بأن جعلناه معجزا ، مباينا لكلام البشر ، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان. قال القشيري : نزل التوراة ، ووكل حفظها إلى بنى إسرائيل ، بما استحفظوا من كتاب الله ، فحرّفوا وبدّلوا ، وأنزل القرآن ، وأخبر أنه حافظه ، فلا جرم أنه كتاب عزيز ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويقال : إنه أخبر أنه حافظ القرآن ، وإنما يحفظه بقرائة ، فقلوب القرّاء هى خزائن كتابه ؛ وهو لا يضيع حفظة كتابه ، فإن فى ذلك تضييع كتابه. ه.

وقال ابن عطية على قوله : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) (١) : ذهبت جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظا من تلقائهم ، وأن ذلك ممكن فى التوراة ؛ لأنهم استحفظوها ، وغير ممكن فى القرآن ؛ لأن الله تعالى ضمن حفظه. ه.

الإشارة : كل ما جاء فى القرآن من الإنكار على الرسل على أيدى الكفرة وتنقيصهم ، والاستهزاء بهم ، ففيه تسلية لمن بعدهم من الأولياء. وكذلك ما ذكره الحق تعالى من مقالات أهل الجهل فى جانبه ؛ كقوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) (٢) ، وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (٣) ، إلى غير ذلك من مقالات أهل الجهل ، فكأن الحق تعالى يقول : لو سلم أحد من الناس ، لسلمت أنا وأنبيائى ، الذين هم خاصة خلقى ، فليكن بي وبرسلى أسوة لمن أوذى من أوليائى. وبالله التوفيق.

ثم تمم تلك التسلية ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥))

__________________

(١) من الآية ٧٥ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ١٨١ من سورة آل عمران.

(٣) من الآية ٦٤ من سورة المائدة.

٧٩

يقول الحق جل جلاله فى تسلية رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) رسلا (فِي شِيَعِ) : فرق (الْأَوَّلِينَ) أي : القرون الماضين ، جمع شيعة ، وهى : الفرقة المتفقة على طريق واحد ، وتتشيع لمذهب أو رجل ، من شاعه إذا تبعه ، أي : نبأنا رجالا فيهم ، وجعلناهم رسلا إليهم ، فكذبوهم واستهزءوا بهم ، فكانوا : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كما يفعل بك هؤلاء المجرمون.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أي : ندخل الاستهزاء (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ). والسلك : إدخال الشيء فى الشيء كالخيط فى المخيط ، وفيه دليل على أنه تعالى يخلق الباطل فى قلوبهم. وإذا سلك فى قلوبهم التكذيب (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أبدا. أو : نسلكه ، أي : القرآن ؛ مستهزءا به ، أي : مثل ذلك السلك نسلك الذكر فى قلوب المجرمين ؛ مكذّبا غير مؤمن به ، ثم هددهم على عدم الإيمان به ، فقال : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي : تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء ، حتى هلكوا بسبب ذلك ، أو مضت سنته فى الأولين بإهلاك من كذب الرسل منهم ، فيكون وعيدا لأهل مكة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ) أي : على هؤلاء المقترحين المعاندين من كفار قريش ، (باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) : يصعدون إليها ، ويرون عجائبها طول نهارهم ، لكذبوا ، أو فظلت الملائكة يعرجون فيها وهم يشاهدونهم لقالوا ؛ من شدة عنادهم وتشكيكهم فى الحق : (إِنَّما سُكِّرَتْ) : حيرت (أَبْصارُنا) ، فرأينا الأمر على غير حقيقته ؛ من أجل السكر الذي أصابنا بالسحر.

ويحتمل أن يكون مشتقا من السكر بفتح السين ، وهو السد ، أي : سدّت أبصارنا ، ومنعنا من الرؤية الحقيقية. (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) ؛ سحرنا محمد ، كما قالوا عند ظهور غيره من الآيات. قال البيضاوي : وفى كلمتى الحصر والإضراب دلالة على جزمهم بأن ما يرونه لا حقيقة له ، بل هو باطل خيّل ما خيل لهم بنوع من السحر. ه. وذلك من فرط عنادهم ، وشقاوتهم. والعياذ بالله.

الإشارة : هذا كله من قبيل التسلية لأهل الخصوصية ، إذا قوبلوا بالإنكار والاستهزاء ، فيرجعون إلى الله ، والاكتفاء بعلمه ، والاشتغال بالله عنه. وقد قال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى الله عنه : عداوة العدو حقا هى اشتغالك بمحبة الحبيب ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب. وقال الولي الصالح سيدى أبو القاسم الخصاصى رضى الله عنه لبعض تلامذته : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك ، فإنه هو الذي حركه عليك ، ليختبر دعواك فى الصدق. وقد غلط فى هذا الأمر خلق كثير اشتغلوا بإيذاء من آذاهم ، فدام الأذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم ، وكفاهم أمرهم. ه.

٨٠