البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

الإشارة : من أحب شيئا حشر معه ، من أحب أولياء الله حشر معهم ، ومن أحب الصالحين حشر معهم ، ومن أحب الفجار حشر معهم ، ومن أحب الدنيا بعث معها ، ثم بعث إلى النار ، وهكذا .. المرء مع من أحب.

ثم استثنى بذكر حال أهل السعادة ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي : الخصلة الحسنى ، أو المشيئة الحسنى ، وهى السعادة ، أو التوفيق للطاعة ، أو البشرى بالثواب ، (أُولئِكَ عَنْها) : عن جهنم (مُبْعَدُونَ) ؛ لأنهم فى الجنة ، وشتان ما بينهما. قال القشيري : لم يقل متباعدون ؛ ليعلم العابدون أن المدار على التقدير وسبق الحكم من الله ، لا على تباعد العبد وتقرّبه. ه. وكأنه يشير لقوله : «هؤلاء إلى الجنّة ولا أبالى» (١) ، أي : بأعمالهم.

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي : صوتها الذي يحس ، وحركة تلهبها ، وهذه مبالغة فى الإبعاد ، أي : لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها. قال الكواشي : لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة. ه. وقال ابن عطية : وذلك بعد دخولهم الجنة ؛ لأن الحديث يقتضى أن فى الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبى ولا ملك إلا خرّ على ركبتيه. ه. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى : محمل الحديث ، إن صح فى حق الأنبياء والأكابر ، على شهود الجلال والإجلال لله تعالى ، ولذلك يقولون : «نفسى نفسى» ، لا من خوف النار. ه.

قلت : أما كون الناس يصعقون يوم القيامة ، فيكون المصطفى أول من يفيق ، فثابت فى الصحيح ، أما سبب الصعقة فقد ورد فى غير البخاري : «أنه يؤتى بجهنم ، ولها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، ثم تزفر زفرة ، فلا يبقى نبى ولا ملك إلا خرّ» (٢) ... الحديث ، ويؤيده قوله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) بعض حديث ، أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٤ / ١٨٦) والحاكم فى المستدرك (١ / ٣١) ، وابن حبان (١٨٠٦ موارد) ، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمى. والحديث ، صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه ، بدون العبارة الأخيرة ، مسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب فى شدة حر نار جهنم ..) من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.

٥٠١

بِجَهَنَّمَ) (١) والأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بشر عبيد ، قد تعمهم القهرية ، ولا تقدح فى منصبهم ، وليس صعقهم خوفا ، لكن غلبة ودهشا ، كما صعق موسى ـ عليه‌السلام عند الرؤية ، ونبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين تجلى له جبريل على صورته. والله أعلم. وقال جعفر الصادق : وكيف يسمعون حسيسها ، والنار تخمد بمطالعتهم ، وتتلاشى برؤيتهم؟ ثم ذكر حديث قول النار للمؤمن : جز .. إلخ.

ويدل على أن هذه الحالة إنما هى بعد دخولهم الجنة ، قوله تعالى : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) من النعيم (خالِدُونَ) : دائمون ، والشهوة : طلب النفس للذة. وهو بيان لفوزهم بالمطالب ، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب ، أي : دائمون فى غاية التنعم ، (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) ، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث ، بدليل قوله : (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ). قال ابن عباس : «تتلقاهم الملائكة بالرحمة ، عند خروجهم من القبور» ، قائلين : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) بالكرامة والثواب ، والنعيم المقيم فيه ، أي : بعد دخولكم الجنة.

وقال الحسن : الفزع الأكبر : الانصراف إلى النار. وعن الضحاك : حين يطبق على أهل النار. وقيل : حين نفخة الصعق ، وقيل : حين يذبح الموت. قلت : من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها. وقيل : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة ، مهنئين لهم قائلين : (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) فى الدنيا ، ويبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات. وهذا ، كما ترى ، صريح فى أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى : كافة المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة ، لا من ذكر ؛ من المسيح ، وعزير ، والملائكة ، كما قيل. قاله أبو السعود ، قلت : وقد يجاب بأنها نزلت فى شأنهم وتعم غيرهم ؛ لأن سبب النزول لا يخصص. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قال الجنيد رضى الله عنه : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي : سبقت لهم منا العناية فى البداية ، فظهرت لهم الولاية فى النهاية. ه. (أُولئِكَ عَنْها) أي : عن نار القطيعة ، وهى أغيار الدنيا ، مبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن ، لغيبتهم عنها بالكلية فى الشغل بالله تعالى ، فهم فيما اشتهت أنفسهم ؛ من لذة الشهود ، والقرب من الملك الودود ، خالدون دائمون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر فى الدنيا والآخرة ، وتتلقاهم الملائكة بالبشرى بالوصول ، هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف فى حضرة القريب ، عند مليك مقتدر. منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه.

__________________

(١) من الآية ٢٣ من سورة الفجر.

٥٠٢

ثم ذكر أوصاف ذلك اليوم ، فقال :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤))

قلت : «يوم» : ظرف لاذكر ، أو لقوله : «لا يحزنهم الفزع» ، أو لتتلقاهم. والسجل : الصحيفة ، والكتاب : مصدر ، و «كما بدأنا» : منصوب بمضمر ، يفسره ما بعده ، و «ما» : موصولة.

يقول الحق جل جلاله : واذكر (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) ؛ وذلك يوم الحشر والناس فى الموقف ، فتجمع وتكوّر وتطوى (كَطَيِّ السِّجِلِ) ؛ الصحيفة لكتاب أي : لأجل الكتابة فيها ؛ لأن الكاتب يطوى الصحيفة على اثنين ؛ ليكتب فيها. فاللام للتعليل ، أو بمعنى «على» ، أي : كطى الصحيفة على الكتابة التي فيها ، لتصان ، وقرأ أبو جعفر : «تطوى» ؛ بالبناء للمفعول. وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها. وأصل الطى : الدرج ، الذي هو ضد النشر. وقرأ الأخوان وحفص : (لِلْكُتُبِ) بالجمع ، أي : للمكتوبات ، أي : كطى الصحيفة ؛ لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها ، أو كطيها عليها ؛ لتصان. فالكتاب أصله مصدر ، كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب. وقيل : السجل : ملك يطوى كتب ابن آدم ، إذا رفعت إليه ، فالكتاب ، على هذا ، اسم للصحيفة المكتوب فيها ، والطى مضاف إلى الفاعل ، وعلى الأول : إلى المفعول.

(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي : نعيد ما خلقنا حين نبعثهم ، كما بدأناهم أول مرة ، فالتنوين فى «خلق» مثله فى قولك : أول رجل جاءنى ، تريد أول الرجال. والتقدير : كما بدأنا أول الخلائق ، نعيدهم حفاة عراة غرلا. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا. وأول من يكسى إبراهيم خليل الله» (١) ، أي : لأنه جرد فى ذات الله ، فقالت عائشة ـ رضى الله عنها ـ : واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض؟ فقال : «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» (٢). ثم قرأ ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء ، باب قول الله تعالى : «واتخذ الله إبراهيم خليلا») ومسلم فى (الجنة وصفه نعيمها ، باب فناء الدنيا) ، عن ابن عباس رضي الله عنه. ،

(٢) هذا ليس من الحديث السابق. بل هو حديث آخر ، أخرجه مسلم فى الموضع السابق ، عن السيدة عائشة ، بلفظ : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، قلت : يا رسول الله ؛ النساء والرجال جميعا ، ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال : «يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».

٥٠٣

كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه. قلت : قد استدل بعضهم ، بظاهر الآية والحديث ، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان ، ولا دليل فيه ؛ لأن المقصود من الآية : الاستدلال على كمال قدرته تعالى ، وعلى البعث الذي تنكره الكفرة ، لا بيان الهيئة ، وعدم وجودها نقصان ، ولا نقص فى الجنة.

ثم أكد الإعادة بقوله : (وَعْداً عَلَيْنا) أي : نعيده وعدا ، فهو مصدر مؤكد لغير فعله ؛ بل لما فى «نعيده» من معنى العدة ، أي : وعدنا ذلك وعدا واجبا علينا إنجازه ؛ لأنا لا نخلف الميعاد ، (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) لما ذكرنا لا محالة ، فاستعدوا له ، وقدّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال. وبالله التوفيق.

الإشارة : إذا أشرقت على القلب شموس العرفان ، انطوت عن مشهده وجود الأكوان ، وأفضى إلى فضاء العيان ، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله ، وفى ذلك يقول الششترى رضى الله عنه :

لقد تجلى ما كان مخبى

والكون كلّ طويت طى

وهذا غاية من سبقت له من الله الحسنى ، فأشرقت عليه أنوار التوجه فى البداية ، وأنوار المواجهة فى النهاية ، فزاحت عنه الأكوان ، وفاضت عليه بحار أسرار العرفان ، فصار يتصرف بهمته فى الوجود بأسره ، كما قال تعالى :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) كتاب داود عليه‌السلام ، (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) : التوراة ، أو اللوح المحفوظ ، (أَنَّ الْأَرْضَ) أي : جنس الأرض ، يعنى : مشارقها ومغاربها ، (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وهم أمة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففى الآية ثناء عليهم وبشارة لهم ، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره فى الوجود ؛ من فتح الله على هذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها ، كقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١). وقال القشيري : على قوله : (عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) : هم أمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته ، وهم المطيعون ، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون. ه.

قال فى الحاشية الفاسية : والظاهر أن حديث : «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتى أمر الله» ، مفسر للآية ، وموافق لوعدها. قيل : وهذه الطائفة مفترقة من أنواع المؤمنين ، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له ؛ من شجعان مقاتلين ، وفقهاء ومحدّثين ، وزهاد وصالحين ، وناهين وآمرين

__________________

(١) من الآية ٥٥ من سورة النور.

٥٠٤

بالمعروف. ه. قلت : وعارفين متمكنين ، علماء بالله ربانيين. ثم قال : وغير ذلك من أنواع أهل الحسنى ، ولا يلزم اجتماعهم ، بل يكونون متفرقين فى أقطار. ه. قلت : وفيه نظر ؛ لأن مراد الآية الأمة كلها ، كما قال القشيري ، ومراد الحديث بعضها ، فلا يليق أن يكون تفسيرا لها ، وهى أعم منه. وقيل : المراد بالأرض : أرض الشام ، وقيل : أرض الجنة.

ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي هذا) أي : ما ذكر فى السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة ، والوعد والوعيد ، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة ، (لَبَلاغاً) أي : كفاية ، أو سبب بلوغ إلى البغية ، من رضوان الله تعالى ، ومحبته ، وجزيل ثوابه ، فمن تبع القرآن وعمل به ، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم ، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر ، فهو بلاغ وزاد (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : لقوم همتهم العبادة دون العادة. وبالله التوفيق.

الإشارة : قد أورث الله أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى الله ، والإقبال عليه. فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه. والمراد بالوراثة : التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة فى صلاح الدين وهداية المخلوقين ، وهم على قسمين : قسم يتصرف فى ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم ، وهم العلماء الأتقياء ، فهم يبلغون الشرائع والأحكام ، لإصلاح نظام الإسلام ، وقد تقدم تفصيلهم فى سورة التوبة عند قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ...) (١) إلخ ، وقسم يتصرفون فى بواطنهم ؛ وهم أهل التصرف العارفون بالله ، على اختلاف مراتبهم ؛ من غوث وأقطاب وأوتاد ، وأبدال ، ونجباء ، ونقباء ، وصالحين ، وشيوخ مربين ، فهم يعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال ، حتى يتطهر من يصحبهم من الرذائل ، ويتحلي بأنواع الفضائل ، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس. وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها ، كما قال ابن البنا فى مباحثه :

تبعه العالم فى الأقوال

والعابد الزاهد فى الأفعال

وبهما الصوفي فى السباق

لكنه قد زاد بالأخلاق.

ثم ختم ذكر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ بذكر سيد الوجود ، وعين الرحمة ، ومنبع الكرم والجود ، وهو نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقال :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ

__________________

(١) الآية ١٢٢ من سورة التوبة.

٥٠٥

ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))

قلت : (رَحْمَةً) : مفعول لأجله ، أو حال.

يقول الحق جل جلاله : (وَما أَرْسَلْناكَ) يا محمد (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي : ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام ، وغير ذلك ؛ مما هو مناط سعادة الدارين ، لعلة من العلل ، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة. أو ما أرسلناك فى حال من الأحوال ، إلا حال كونك رحمة لهم ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين ، ومنشأ لانتظام مصالحهم فى النشأتين ، ومن لم يضرب له فى هذه المغانم بسهم فإنما أوتى من قبل نفسه ، حيث فرط فى اتباعه ، وقيل : إنه رحمة حتى فى حق الكفار فى الدنيا ؛ بتأخير عذاب الاستئصال ، والأمن من المسخ والخسف والغرق ، حسبما نطق به قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١).

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) أي : ما يوحى إلىّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد ؛ لأنه المقصود الأصلى من البعثة ، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه ، لا يصح بدونه. و «إنما» الأولى : لقصر الحكم على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : إنما يوحى إلىّ وحدي أنما إلهكم واحد. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : مخلصون العبادة لله وحده ، أو منقادون لما أمركم به من الإسلام؟ والاستفهام بمعنى الأمر ، أي : أسلموا. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام ، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحى ، (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي : أعلمتكم ما أمرت به ، أو بمحاربتى لكم ومخالفتى لدينكم ، لتكونوا (عَلى سَواءٍ) ، أو كائنين على سواء فى الإعلام به ، لم أطوه عن أحد منكم ، أو مستوين أنا وأنتم فى العلم بما أعلمتكم به من الشرائع ، لم أظهر بعضكم على شىء كتمته عن غيره. وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية. قيل : وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته.

(وَإِنْ أَدْرِي) أي : ما أدرى (أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) من البعث والحساب متى يكون ؛ لأن الله تعالى لم يطلعنى عليه ، ولكن أنبأنى أنه آت لا محالة ، وكل آت قريب. ولذلك قال : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) (٢) ، أو : لا أدرى متى يحل بكم العذاب ، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين ، (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي : إنه عالم بكل شىء ، يعلم ما تجهرون به ؛ من الطعن فى الإسلام وتكذيب الآيات ، وما تكتمونه فى صدوركم من الأحقاد للمسلمين ، فيجازيكم عليه نقيرا وقطميرا. (وَإِنْ أَدْرِي

__________________

(١) الآية ٣٣ من سورة الأنفال.

(٢) من الآية ٩٧ من سورة الأنبياء.

٥٠٦

لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي : ما أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فى الدنيا امتحان لكم ؛ لينظر كيف تعملون ، أو استدراج لكم ، وزيادة فى افتتانكم ، (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي : تمتع لكم إلى حين موتكم ؛ ليكون حجة عليكم ، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة.

(قالَ) (١) (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل ، المقتضى لتعجيل العذاب. فهو كقول شعيب عليه‌السلام : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٢) ، أو بما يحق عليهم من العذاب ، واشدد عليهم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر» (٣) ، وقد استجيب دعاؤه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، حيث عذبوا ببدر أىّ تعذيب. وقرأ الكسائي وحفص : (قالَ) ؛ حكاية لدعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم ، وتكذيبهم فى ذلك ، فقال : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) ؛ كثير الرحمة على عباده ، (الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من كون الغلبة لكم. كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة والغلبة لهم ، فكذب الله ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، وغيّر أحوالهم ، ونصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، وخذلهم ؛ لكفرهم. وبالله التوفيق.

الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ خلقوا من الرحمة ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو عين الرحمة ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ). ه. وقال أيضا : الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لأممهم صدقة ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا هدية. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وأنا النعمة المهداة» ، فالصدقة للفقراء ، والهدية للكبراء. ثم إن غاية الرحمة : الوصول إلى التوحيد الخاص ؛ لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص ، ولذلك أمره به ، بعد أن جعله رحمة ، فقال : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ...) إلخ. فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبعد والطرد. ولعل تأخير العقوبة عنه ، فى الدنيا ، استدراج ومتاع إلى حين.

ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص ـ وهو توحيد العيان ـ : القواطع الأربع : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، والهوى. زاد بعضهم : الناس ـ أي : عوام الناس ، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع ، وصل إلى صريح المعرفة. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ؛ أي : احكم بينى وبين عدوى بحكمك الحق ، حتى تدفعه عنى وتدمغه ، (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ) به (عَلى ما تَصِفُونَ) من التعويق والتشغيب. والله المستعان ، وعليه أتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________

(١) قرأ حفص (قال) بصيغة الماضي ـ وقرأ الباقون (قل) ، انظر الإتحاف (٢ / ٢٦٨).

(٢) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.

(٣) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (الدعوات ، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة) ، ومسلم فى (المساجد ، باب استحباب القنوت فى جميع الصلاة) عن أبى هريرة رضى الله عنه.

٥٠٧
٥٠٨

سورة الحجّ

مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة ، وهى : (هذانِ خَصْمانِ ...) إلى : (صِراطِ الْحَمِيدِ). وهى ثمان وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) (١) من قيام الساعة ، وهى التي خوّف بها فى قوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢))

قلت : زلزلة : مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز ، أو إلى الظرف ، وهى الساعة. و (يَوْمَ) : منصوب بتذهل.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وجد عند النزول ، وينخرط فى سلكهم من سيوجد إلى يوم القيامة. ولفظ «الناس» يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى ، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرا وباطنا ، والتعرض لعنوان الربوبية ، مع إضافتها لضمير المخاطبين ؛ لتأكيد الأمر ، وتأكيد إيجاب الامتثال به ؛ لأن الربوبية دائمة ، والعبودية واجبة بدوامها ، أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.

ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة ، فقال : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) ، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هى من مبادئه ومقدماته ، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة : التحرك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث تزيل الأشياء من مقارها ، وتخرجها عن مراكزها ، وهى الزلزلة المذكورة فى قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) الآية (٢). واختلف فى هذه الزلزلة وما ذكر بعدها ، هل هى قيام الساعة عند نفخة الصعق ، أو بعدها عند الحشر؟ فقال الحسن رضى الله عنه : إنها تكون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضى الله عنه : زلزلة الساعة : قيامها. وعن علقمة والشعبي : أنها قبل طلوع الشمس من مغربها ، فإضافتها إلى الساعة ؛ لكونها من أشراطها. قال الكواشي : وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة

__________________

(١) من الآية ١٠٩ من سورة الأنبياء.

(٢) الآية الأولى من سورة الزلزلة.

٥٠٩

من أشراطها. قالوا : ومن أشراط الساعة ، قبل قيامها ، ست آيات : بينما الناس فى أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، ثم تناثرت النجوم ، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت الأرض ، ففزع الإنس والجن ، وماج بعض فى بعض ؛ خوفا ودهشا ، فقالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فذهبوا ، فرأوا البحار تأجّج نارا ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة ، ثم جاءتهم الريح فماتوا. ه. وانظر ابن عطية. قاله المحشى. والتحقيق : ما قدمناه عند قوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) (١) ، وأنّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين ، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفى التعبير ب (شىء عظيم) إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة ضيقة ، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.

ثم هوّل شأنها ، فقال : (يَوْمَ تَرَوْنَها) أي : الزلزلة ، وتشاهدون هول مطلعها ، (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ) أي : مباشرة للإرضاع ، (عَمَّا أَرْضَعَتْ) أي : تغفل وتغيب ، من شدة الدهش عما هى بصدد إرضاعه من طفلها ، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة ، بالتاء ، هى المباشرة الإرضاع بالفعل ، والمرضع ـ بلا تاء ـ لمن شأنها ترضع ، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه «بما» ، دون «من» ؛ لتأكيد الذهول ، كأنها من شدة الهول لا تدرى من هو بخصوصه ، وقيل : «ما» مصدرية ، أي : تذهل عن إرضاعها. والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.

(وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) أي : تلقى جنينها من غير تمام ، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول : إنها قبل نفخة الصعق ظاهر ، وأما على من يقول ، إنها بعد قيام الساعة ، فقد قيل : إنه تمثيل ؛ لتهويل الأمر وشدته. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) أي : وترى أيها الناظر الناس سكارى ، على التشبيه ، من شدة الهول ، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية ، حتى قال كلّ نبى : نفسى نفسى. (وَما هُمْ بِسُكارى) على التحقيق ، (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) ، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم ، وطيّر تمييزهم ، وردهم فى حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه. وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ : (سُكارى) ؛ كعطشى. والمعنى واحد ، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة ، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم ، حتى تشرق على قلوبكم أنوار ربكم ، فتزلزل أرض نفوسكم ، وتدك جبال عقولكم ، عند سطوع شمس العرفان ، والاستشراف على مقام الإحسان. إن زلزلة الساعة ، التي تشرف فيها على أسرار الذات ، شىء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، لو كانت أنثى ،

__________________

(١) الآية ٩٧ من سورة الأنبياء.

٥١٠

وتضع كل ذات حمل حملها كذلك ، أو تضع كل ذات حمل أثقالها ؛ بالغيبة فى ربها ، وترى الناس سكارى من خمر المحبة ، وما هم بسكارى من شراب الدّوالى (١) ، لكن من خمر الكبير المتعالي ، كما قال الششترى فى الخمرة الأزلية ـ بعد كلام :

لا شراب الدّوالى ؛ إنّها أرضيّة

خمرها دون خمرى ، خمرتى أزليّة.

ولكن عذاب الله ـ الذي قدمه قبل دخول جنته المعنوية وحفت به ، وهى جنه المعارف ـ شديد ، ولكنه يحلو فى جانب ما ينال بعده ، كما قال الشاعر :

والنّفس عزّت ، ولكن فيك أبذلها

والذّل مرّ ، ولكن فى رضاك حلا

يا من عذابى عذب فى محبته

لا أشتكى منك لا صدا ولا مللا.

ثم ذكر حال من أنكرها ، (٢) ولم يتأهب للقائها ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))

قلت : (وَمِنَ النَّاسِ) : خبر ، و (من يجادل) : مبتدأ ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من ضمير «يجادل» ، و (أَنَّهُ) : نائب فاعل (كُتِبَ) ، أي : كتب عليه إضلال من تولاه ، و (فأنه) : من فتح : عنده خبر عن مبتدأ مضمر ، أي : فشأنه أن يضله ، والجملة جواب «من» ، إن جعلتها شرطية ، وخبر ، إن جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، ومن كسر : فخبر ، أو جواب «من».

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) ويخاصم (فِي اللهِ) أي : فى شأنه ، ويقول مالا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته ، ملابسا (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت فى النضر ابن الحارث ، وكان جدلا ، يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا بعث بعد الموت ، والله غير قادر على إحياء من بلى وصار رميما (٣). وهى عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين ، وكل من يخاصم فى الدين بالهوى. (وَيَتَّبِعُ) فى ذلك (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ؛ عات متمرد ، مستمر فى الشر. قال الزجاج : المريد والمارد : المرتفع الأملس ، أي : الذي لا يتعلق به شىء من الخير ، والمراد : إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر ، وإما إبليس وجنوده.

__________________

(١) أي : العنب. وراجع التعليق على إشارة الآية ٢١٩ من سورة البقرة.

(٢) أي : الساعة.

(٣) ذكره البغوي فى تفسيره (٥ / ٣٦٥).

٥١١

ثم وصف الشيطان المريد بقوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي : قضى على ذلك الشيطان (أَنَّهُ) أي : الأمر والشأن (مَنْ تَوَلَّاهُ) أي : اتخذه وليّا وتبعه ، (فَأَنَّهُ) أي : الشيطان (يُضِلُّهُ) عن سواء السبيل ، (وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) أي : النار. والعياذ بالله.

الإشارة : ومن الناس من تنكبت عنه سابقة الخصوصية ، فجعل يجادل فى طريق الله ، وينكر على المتوجهين إلى الله ، إذا خرقوا عوائد أنفسهم ، وسدّ الباب فى وجوه عباد الله ، فيقول : انقطعت التربية النبوية ، وذلك منه بلا علم تحقيق ولا حجة ولا برهان ، وإنما يتبع فى ذلك كلّ شيطان مريد ، سوّل له ذلك وتبعه فيه. كتب عليه أنه من تولاه ، وتبعه فى ذلك ، فأنه يضله عن طريق الخصوص ، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب ، ويهديه إلى عذاب السعير ، وهو غم الحجاب والحصر فى سجن الأكوان ، وفى أسر نفسه وهيكل ذاته ، عائذا بالله من ذلك.

ثم برهن على قيام الساعة ، التي خوّف منها ، ورد من يجادل فيها ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي : إن شككتم فى أمر البعث ، فمزيل ريبكم أن تنظروا فى بدء خلقكم ، وقد كنتم فى الابتداء ترابا وماء ، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا ، وهو صيرورة الخلق ترابا وماء ، فكما بدأكم منه يعيدكم منه ، كما قال تعالى : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ) أي : أباكم (مِنْ تُرابٍ ، ثُمَ) خلقناكم (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) أي : قطعة دم جامدة ، (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) أي : لحمة صغيرة ، بقدر ما يمضغ ، (مُخَلَّقَةٍ) أي : مصورة الخلقة ، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي : لم يتبين خلقها وصورتها بعد.

٥١٢

والمراد : تفصيل حال المضغة ؛ من كونها أولا مضغة ، لم يظهر فيها شىء من الأعضاء ، ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا. وكان مقتضى الترتيب أن يقدم غير المخلقة على المخلقة ، وإنما أخرت عنها ؛ لأنها عدم الملكة ، والملكة أشرف من العدم.

وإنما فعلنا ذلك ؛ (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) ، بهذا التدريج ، كمال قدرتنا وحكمتنا ؛ لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا ، ثم من نطفة ثانيا ، وقدر على أن يجعل النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، قدر على إعادة ما بدأ ، بل هو أهون فى القياس (وَنُقِرُّ) أي : نثبت (فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) ثبوته (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : وقت الولادة ، ومالم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من الرحم (طِفْلاً) ، أي : حال كونكم أطفالا. والإفراد باعتبار كل واحد منهم ، أو بإرادة الجنس ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) أي : ثم نربيكم ؛ لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد : من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته : قيل : ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون.

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) قبل بلوغ الأشد أو بعده ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي : أخسه ، وهو الهرم والخرف ، (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي : لكيلا يعلم شيئا من بعد ما كان يعلمه من العلوم ، مبالغة فى انتقاص علمه ، وانتكاس حاله ، أي : ليعود إلى : ما كان عليه فى أوان الطفولية ، من ضعف البنية ، وسخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر ما عرفه ، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس : من قرأ القرآن ، وعمل به ، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلا آخر على البعث ، فقال : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) : ميته يابسة ، (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) ؛ تحركت بالنبات (وَرَبَتْ) ؛ انتفخت (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) : صنف (بَهِيجٍ) : حسن رائق يسر ناظره.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي : ذلك الذي ذكرنا ؛ من خلق بنى آدم ، وإحياء الأرض ، مع ما فى تضاعيف ذلك من أصناف الحكم ، حاصل بهذا ، وهو أن الله هو الحق ، أي : الثابت الوجود. هكذا للزمخشرى ومن تبعه ، وقال ابن جزى : والظاهر : أن الباء ليسست سببية ، كما قال الزمخشري ، وهو أيضا مقتضى تفسير ابن عطية ، وإنما يقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى ، وذلك أن يكون التقدير : ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات ، شاهد بأن الله هو الحق ، وبأنه يحيى الموتى ، وبأن الساعة آتية ، فيصح عطف (وَأَنَّ السَّاعَةَ) على ما قبله ، بهذا التقدير ، وتكون هذه الأشياء المذكورة ، بعد قوله : (ذلك) ، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات. ه.

قال المحشى الفاسى : ويرد عليه : أن تقديره عاملا خاصا يمنع حذفه ، وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا ، فلا يقال : زيد فى الدار ، وتريد ضاحك مثلا ، إلا أن يقال فى الآية : دل عليه السياق ، فكأنه مذكور. وعند الكواشي :

٥١٣

ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي : قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه ، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره ، قال بعد ذلك : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ، نبه بهذا على أن كل ما سواه ، وإن كان موجودا ؛ فإنه لا حقيقة له من نفسه ؛ لأنه مسخر ومصرف ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق ، الغنى المطلق ، وإنّ وجود كل موجود من وجوب وجوده ، ولهذا قال فى آخر السورة : (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) (١) ، والحق هو الوجود الثابت ، الذي لا يزول ولا يتغير ، وهو الله تعالى. ثم قال عن الزجاج : (ذلك) فى موضع رفع ، أي : الأمر ما وصف لكم وبيّن ؛ لأن الله تعالى هو الحق ، ويجوز كونه فى موضع نصب ، أي : فعل ذلك بأن الله هو الحق ، قادر على ما أراد. ه.

وذلك أيضا شاهد بأنه (يُحْيِيَ الْمَوْتى) كما أحيا الأرض ، مرة بعد أخرى ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : مبالغ فى القدرة ، وإلّا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر ، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها ؛ للتصريح بما فيه النزاع ، وللطعن فى نحور المنكرين. (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) : قادمة عليكم ، (لا رَيْبَ فِيها) ، وإيثار اسم الفاعل على الفعل ؛ للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره البتّة. ومعنى نفى الريب عنها : أنها ، فى ظهور أمرها ووضوح دلائلها ، بحيث ليس فيها مظنة الريب ، (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ؛ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به ، وهو لا يخلف الميعاد ، والتعبير ب «من فى القبور» : خرج مخرج الغالب ، وإلّا فهو يبعث كل من يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.

الإشارة : يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية ، وظهور أهل الخصوصية فى زمانهم ، الذين يحيى الله الأرواح الميتة ، بالجهل والغفلة ، على أيديهم ؛ إن كنتم فى ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم ، فمن فعل ذلك وقدر عليه ، قدر أن يحيى النفوس الميتة بالغفلة فى كل زمان. وفى الحكم : «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شىء مقتدرا». وجرت عادته أنه لا يحييها فى الغالب إلا على أيدى أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة ، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة ، وهى الواردات الإلهية ، وأسقيناها الخمرة القدسية ، اهتزت فرحا بالله ، وربت ، وارتفعت بالعلم بالله ، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم ، ما تبهج منه العقول ، ذلك شاهد بوحدانية الحق ، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من الآية ٦٢ من سورة الحج.

٥١٤

ثم ذكر نوعا آخر من أهل الإنكار والجدل ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) أي : فى شأنه ، فيصفه بغير ما هو أهله ، وهو أبو جهل ، كما قال ابن عباس رضى الله عنه ، وقيل : هو من يتصدى لإضلال الناس ، كائنا من كان. حال كونه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، بل بجهل وهوىّ. والمراد بالعلم : الضروري ، كما أن المراد بالهدى فى قوله : (وَلا هُدىً) : هو الاستدلال والنظر الصحيح ، الهادي إلى المعرفة. (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : وحي يستند إليه ، والحجة إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة ، أي : يجادل فى شأنه تعالى ، من غير تمسك بمقدمة ضرورية ، ولا بحجة نظرية ، ولا ببرهان سمعى.

حال كونه (ثانِيَ عِطْفِهِ) أي : لاويا عنقه عن طاعة الله ؛ كبرا وعتوا ، أو عاطفا بجانبه ، وطاويا كشحه (١) ، معرضا متكبرا ، فثنى العطف كناية عن التكبر. وقرأ الحسن بفتح العين ، أي : مانعا تعطفه على المساكين ؛ قسوة. فعل ذلك الجدال (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : ليضل الناس عن سبيل الله ؛ فإنّ غرضه بالمجادلة إضلال المؤمنين ، أو جميع الناس ، وقرأ الملكي وأبو عمر : بفتح الياء ، أي : ليصير ضالا عن سبيل الله. وجعل ضلاله غاية لجداله ، من حيث إن المراد به الضلال المبين ، الذي لا هداية بعده ، مع تمكنه منها قبل ذلك ، أي : ليرسخ فى الضلالة أىّ رسوخ ، (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) : هوان وذل ، وهو القتل يوم بدر ، وهو بيان نتيجة ما سلكه من الطريقة ، أي : يثبت له ، بسبب ما فعل ، خزى وصغار ، وهو ما أصابه ببدر ، (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) أي : النار المحرقة.

(ذلِكَ) أي : ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروى. وما فى الإشارة من البعد ؛ للإيذان بكونه فى الغاية القاصية من الهول والفظاعة ، أي : ذلك العذاب الهائل (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي : بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي. وإسناده إلى يديه ؛ لأن الاكتساب فى الغالب بهما. والالتفات ؛ لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد. أو يقال له يوم القيامة : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، فلا يأخذ أحدا بغير ذنب ولا بذنب غيره. وهو خبر عن مضمر ، أي : والأمر أنّ الله ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب ، وأما عطفه على «بما» فغير سديد ، ولفظ المبالغة ؛ لاقترانه بلفظ الجمع فى العبيد ، ولأن قليل الظلم منه ، مع علمه بقبحه واستغنائه عنه ، كالكثير منا. قاله النسفي.

__________________

(١) الكشح : الخصر.

٥١٥

وقيل : «ظلام» : بمعنى : ذى ظلم ، فتكون الصيغة للنّسب. والتعبير عن ذلك بنفي الظلم ، مع أن تعذيبهم بغير ذنب ، ليس بظلم قطعا ، على ما تقرر فى مذهب أهل السنة ، فضلا عن كونه ظلما بالغا ؛ لأن الحق تعالى إنما يظهر لنا كمال العدل ، وغاية التنزيه ، وإن كان فى نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب ، ولا يسمى ظلما ؛ لأنه تصرف فى ملكه ، لكنه تعالى لم يظهر لنا فى عالم الشهادة إلا كمال العدل. والله تعالى أعلم.

الإشارة : من يخاصم فى طريق القوم ، وينفيها عن أهلها ، إما أن يكون تقليدا ، وهو ما تقدم ، أو يكون تكبرا وعتوا ، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم ، وهو ما أشير إليه هنا. ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل ، ولو عند الموت. ويوم القيامة يحشر صاغرا كالذر ، كما فى الحديث. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر حال المذبذبين ، بعد ذكر حال المجادلين المصمّمين ، فقال :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))

قلت : (لَمَنْ ضَرُّهُ) : قال ابن عطية : جرى فيه إشكال ؛ وهو دخول اللام على «من» ، وهو فى الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول. وأجيب بثلاثة أوجه ؛ أحدها : أن اللام متقدمة على موضعها ، والأصل أن يقال : يدعو من لضرّه أقرب ، فموضعها الدخول على المبتدأ ، وثانيها : أنّ «يدعو» تأكيد ليدعو الأول ، وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) ، فمن مبتدأ ، وخبره : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) ـ قلت : وإياه اعتمد الهبطى فى وقفه ، وثالثها : أن معنى «يدعو» : يقول يوم القيامة هذا الكلام ، إذا رأى مضرة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدأ فى أول الكلام. ه.

قلت : والأقرب ما قاله الزجاج ، وهو : أن مفعول (يدعو) محذوف ، ويكون ضميرا يعود على الضلال ، وجملة : (يَدْعُوا) : حال ، والمعنى : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، أي : حال كونه مدعوا له ، ويكون قوله : (لَمَنْ ضَرُّهُ) مستأنفا مبتدأ ، خبره : «لبئس المولى». نقله المحشى. وحكم المحلى بزيادة اللام.

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي : على طرف من الدين لاثبات له فيه ، كالذى ينحرف إلى طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قرّ ، وإلا فر. وفى البخاري عن ابن عباس : «كان الرجل

٥١٦

يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله ، قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ، ولم تنتج خيله ، قال : هذا الدين سوء» (١). وكأن الحق تعالى سلك فى الآية مسلك التدلي ، بدأ بالكافر المصمم ، يجادل جدالا مجملا ، يتبع فيه كل شيطان مريد. والثاني : مقلد مجادل ، من غير دليل ولا برهان ، والثالث : كافر أسلم إسلاما ضعيفا. ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم ، بقوله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية.

ثم كمّل حال المذبذب بقوله : (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ) أي : دنيوى ؛ من الصحة فى البدن ، والسعة فى المعيشة ، (اطْمَأَنَّ بِهِ) أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرا ، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين ، الذين لا يلويهم عنه صارف ، ولا يثنيهم عنه عاطف. (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) : بلاء فى جسده ، وضيق فى معيشته ، أو شىء يفتتن به ، من مكروه يعتريه فى بدنه أو أهله أو ماله ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : ارتد ورجع إلى الكفر ، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل. أو انقلب على جهته التي كان عليها. وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت فى أعاريب قدموا المدينة ، مهاجرين ، فكان أحدهم إذا صحّ بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا ، وولدت امرأته غلاما سويا ، وكثر ماله وماشيته ، قال : ما أصبت ، مذ دخلت فى دينى هذا ، إلا خيرا ، واطمأن ، وإن كان الأمر خلافه ، قال : ما أصبت إلا شرّا ، وانقلب عن دينه. وعن أبى سعيد رضى الله عنه : أنّ يهوديا أسلم فأصابته مصائب ، وتشاءم بالإسلام ، فأتى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أقلنى ، فقال : «إنّ الإسلام لا يقال» ، فنزلت (٢).

(خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) : فقدهما ، وضيعهما ؛ بذهاب عصمته ، وحبوط عمله بالارتداد. وقرأ يعقوب : خاسر ، على الحال. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ؛ الواضح ، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله.

ثم بيّن وجه خسرانه بقوله : (يَدْعُوا) أي : يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : متجاوزا عنه تعالى ، (ما لا يَضُرُّهُ) إذا لم يعبده ، (وَما لا يَنْفَعُهُ) إذا عبده. (ذلِكَ) الدعاء (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي : التلف البعيد عن الحق.

(يَدْعُوا) أي : يعبد (لَمَنْ ضَرُّهُ) أي : الصنم الجامد الذي ضرره (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ). وقرأ ابن مسعود : «يدعو من ضره» ، بحذف اللام. أو : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه. قال ابن جزى : وهنا إشكال : وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها ، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب : أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها ، وهى لا تفعل شيئا ، والضر الثاني ، الذي أثبته لها ، يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره. ه. (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي : الناصر ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي : الصاحب. أو : يدعو ويصرخ يوم القيامة ، حين يرى استضراره بالأصنام ، ولا يرى لها أثر الشفاعة ، ويقول لمن ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى هو ولبئس العشير. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة الحج) عن ابن عباس رضى الله عنه.

(٢) ذكره الواحدي فى الأسباب (٣١٧) ، بدون إسناد ، عن عطية العوفى عن أبى سعيد الخدري.

٥١٧

الإشارة : ومن الناس من يعبد الله على حرف ؛ على طرف من الدين ، غير متمكن فيه ، فإنه أصابه خير ، وهو ما تسر به النفس من أنواع الجمال ، اطمأن به ، وإن أصابته فتنة ، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال ، انقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد الله على طمع فى الجزاء الدنيوي أو الأخروى ، فإن أصابه خير فرح واطمأن به ، وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه. أو : ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف ، أي : حالة واحدة ، فإن أصابه خير ؛ كقوة ونشاط وورود حال ؛ اطمأن به وفرح ، وإن أصابته فتنة ؛ كضعف وكسل وذهاب حال ، انقلب على وجهه ، ورجع إلى العمومية ، أو وقف عن السير ، خسر الدنيا والآخرة. خسران الدنيا : ما يفوته من عز الله ونصره لأوليائه ، وحلاوة برد الرضا والتسليم ، ولذيذ مشاهدته. وخسران الآخرة : ما يفوته من درجة المقربين ، ودوام شهود رب العالمين. فالواجب على العبد أن يكون عبدا لله فى جميع الحالات ، لا يختار لنفسه حالا على حال ، ولا يقف مع مقام ولا حال ، بل يتبع رياح القضاء ، ويدور معها حيث دارت ، ويسير إلى الله فى الضعف والقوة.

قال بعضهم : سيروا إلى الله عرجى ومكاسير. وفى الحكم : «إلهى ؛ قد علمت ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطوار ، أن مرادك منى أن تتعرف إلىّ فى كل شىء ، حتى لا أجهلك فى شىء». وقال أيضا : «لا تطلبن بقاء الواردات ، بعد أن بسطت أنوارها ، وأودعت أسرارها ، فلك فى الله غنى عن كل شىء ، وليس يغنيك عنه شىء». فكن عبد المحوّل ، ولا تكن عبد الحال ، فالحال تحول وتتغير ، والله تعالى لا يحول ولا يزول ، فكن عبدا لله ، ولا تكن عبدا لغيره.

لكلّ شىء ، إن فارقته ، عوض

وليس لله ، إن فارقت من عوض

ثم شفع الحق تعالى بضد ما ذكره قبل ، فقال :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، وتمكنوا من الإيمان ، وعبدوا الله وحده فى جميع الحالات ، ولم يعبدوه على حرف ، (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ) ، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت قصورها (الْأَنْهارُ) الأربعة. وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى فى جميع الحالات ، وأنّ الله تفضل عليهم ، بما لا غاية وراءه ، إثر بيان سوء حال الكفرة ، من المجاهرين والمذبذبين ، وأنّ معبودهم لا ينفعهم ،

٥١٨

بل يضرهم مضرة عظيمة. ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من الأفعال المتقنة ، المبنية على الحكم البالغة الرائقة ، التي من جملتها : إثابة من آمن به ، وصدّق رسوله ، وعبده على كل حال ، وعقاب من أشرك به ، وكذب رسول الله ، أو عبده على حرف. وبالله التوفيق.

الإشارة : إن الله يدخل الذين آمنوا ، واطمأنوا به ، وعبدوه فى جميع الحالات ، وقاموا بعمل العبودية فى كل الأوقات ، جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم والحكم ، إن الله يفعل ما يريد ؛ فيقرب هذا ، ويبعد هذا ، بلا سبب ؛ «جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل». وبالله التوفيق.

ولمّا كان نفوذ هذا الوعيد فى المشركين ، وإنجاز وعد المؤمنين ؛ تصديقا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونصرة له ، ذكر حال من غاظه ذلك وكرهه ، فقال :

(مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ بل هو ناصر له فى الدنيا والآخرة لا محالة ، فمن كان (يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، ويغيظه ذلك من أعاديه وحساده ، ويفعل ما يدفع ذلك ؛ من الخدع والمكائد ، فليبالغ فى استفراغ المجهود ، وليجاوز كل حد معهود ، فعاقبة أمره أن يختنق خنقا من ضلال مساعيه ، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) أي : فليمدد حبلا إلى سقف بيته ، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) أي : ليختنق ، من قطع : إذا اختنق ؛ لأنه يقطع نفسه بحبس مجاريه. أو : ليقطع من الأرض ، بعد ربط الحبل فى العنق وربطه فى السقف.

(فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) أي : فليصور فى نفسه أنه إن فعل ذلك ؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله ، وسمى فعله كيدا ، على سبيل الاستهزاء ؛ لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه. والمراد : ليس فى يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه ، فتحصّل أن الضمير فى (ينصره) يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يتقدم ذكره صراحة ، لكنه معهود ؛ إذ الوحى إنما ينزل عليه. وقيل : يعود على «من» ، والمعنى على هذا : من ظن ـ بسبب ضيق صدره ، وكثرة غمه ـ أن لن ينصره الله ، فليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب الاختناق ، على هذا ، القنوط والسخط من القضاء ، وسوء الظن بالله تعالى ، حتى يئس من نصره.

٥١٩

قال ابن جزى : وهذا القول أرجح من الأول ؛ لوجهين : أحدهما : أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف ؛ لأنه ، إذا أصابته فتنة ، انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن لن ينصره الله. ويؤيده من فسّر (أن لن ينصره الله) أي : لن يرزقه ؛ إذ لا خير فى حياة تخلو من عون الله عزوجل ، فيكون الكلام ، على هذا ، متصلا بما قبله. ويؤيده أيضا : قوله تعالى ، قبله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي : الأمور بيد الله ، فلا ينبغى لأحد أن يسخط من قضاء الله ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني : أن الضمير فى «ينصره» ، على هذا ، يعود على ما تقدّمه ذكر ، دون الأول. ه. وانظر ابن عطية والكواشي ، ففيهما ما يدفع درك ابن جزى ، ورده للأول ، بما فى سبب الآية ونزولها من المناسبة.

ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ) أي : ومثل ذلك الإنزال البديع ، المنطوى على الحكم البالغة ، أنزلناه ، أي : القرآن الكريم كله ، حال كونه (آياتٍ بَيِّناتٍ) : واضحات الدلالة على معانيها الرائقة ، (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي) به (مَنْ يُرِيدُ) هدايته ؛ ابتداء ، أو يثبته على الهدى دواما ، ومحل «أن» : إما الجار ، أي : ولأن الله يهدى ، أو الرفع ، أي : والأمر أن الله يهدى من يريد.

الإشارة : من غلبته نفسه ، وملكته وأسرته فى يدها ؛ فدواؤه : الفزع إلى الله ، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار ، والمنهاج الواضح فى علاجها وقهرها : هو الفزع إلى أولياء الله ، العارفين به ، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل ، فإذا ظفر بهم ، فليلزم صحبتهم ، وليتبع طريقهم ، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه ، من غير تردد ولا توقف ، فهم معناه ، شرعا ، أم لا ، فلا شك أن الله ينصره ويؤيده ، ويظفر بنفسه فى أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان ، وجرّب .. ففى التجريب علم الحقائق ، وكذلك من ابتلى بالوسواس وخواطر السوء فى أمر التوحيد ، فليفزع إليهم ، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام ، وتذهب عنه الأمراض والأسقام ، بإشراق شمس العرفان على قلبه ، ويفضى إلى طريق الذوق والوجدان ، وغير هذا عناء وتعب ، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك ، فلا يذهب عنه بالكلية ، فربما يهيج عليه فى وقت الضعف عند الموت ، فلا يستطيع دفعه ، فيلقى الله بقلب سقيم. والعياذ بالله.

فإن قلت : هذا الذي دللتنى عليه عزيز غريب ، فقد دللتنى على عنقاء مغرب؟ قلت : والله ، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله ، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء ، لوجدته أقرب إليك من كل شىء. والله ، لقد وجدناهم وظفرنا بهم ، على مناهج الجنيد وأضرابه ، يغنون بالنظر ، ويسيرون بالمريد حتى يقول له : ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له ، وآيس من الدواء ، وظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والآخرة ، فليمت غيظا وقنطا ، فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله يهدى من يريد ، فيوفقه للدواء ، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مآل من آمن بالقرآن ، الذي هو آيات بينات ، ومآل من أعرض عنه ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))

٥٢٠