البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

الرحمن الرحيم ، من الإسكندر ابن قيصر ، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه ، إلى أمي رومية ذات الصفا ، التي لم تتمتع بثمرتها فى دار الفناء ، وعما قريب تجاوره فى دار البقاء ، يا أماه ؛ أسألك بودك لى وودى لك ، هل رأيت لحىّ قرارا فى الدار الدنيا؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج ، ثم يهشم ويتناثر ، كأن لم يغن بالأمس ، وإنى قد قرأت فى بعض الكتب فيما أنزل الله : يا دنياى ارحلى بأهلك ، فإنك لست لهم بدار ، إنما الدنيا واهبة الموت ، موروثة الأحزان ، مفرقة الأحباب ، مخربة العمران ، وكل مخلوق فى دار الأغيار ليس له قرار. انظر بقية كلامه فيه. ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه. والله تعالى أعلم.

واختلف فى ذى القرنين المذكور فى القرآن : هل كان نبيا أو ملكا ـ بفتح اللام ـ أو ملكا ـ بالكسر ـ وهو الصحيح ، واختلف فى وجه تسميته بذي القرنين ؛ فقيل : كان فى رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين ، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان ، وقيل : لأنه دعا الناس إلى الله عزوجل ، فضرب بقرنه الأيمن ، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر ، وقيل : لأنه رأى فى منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس ، وقيل : لأنه انقرض فى عهده قرنان ، وقيل : لأنه سخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتحوطه الظلمة من ورائه. ه.

ثم ذكر الحق تعالى الجواب ، فقال : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ) أي : سأذكر لكم (مِنْهُ ذِكْراً) أي : خبرا مذكورا ، أو قرآنا يخبركم بشأنه ، والسين ؛ للتأكيد ، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتصديقه بإنجاز وعده ، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فى المستقبل ؛ لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها ، حين سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، وعن الروح ، وعن أهل الكهف ، فقال : غدا أخبركم ، فتأخر الوحى كما تقدم ، ثم نزلت السورة مفصلة.

ثم شرع فى تلاوة ذلك الذكر ، فقال : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء ، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار ، حيث سخر له السحاب ، ومدّ له فى الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، وسهل له السير فى الأرض ، وذللت له طرقها ، (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه (سَبَباً) أي : طريقا يوصله إليه ؛ من علم ، أو قدرة ، أو آلة ، فأراد الوصول إلى الغرب (فَأَتْبَعَ سَبَباً) : طريقا يوصله إليه.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ) أي : منتهى الأرض من جهة المغرب ، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي ، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات ، التي هى مبدأ الأطوال على أحد القولين. (وَجَدَها) أي : الشمس ، (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي : ذات حما ، وهو الطين الأسود ،

٣٠١

وقرئ : حامية ، أي : حارة ، روى أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية ، وعنده ابن عباس ، فقال ابن عباس : حمئة ، فقال معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال : فى ماء وطين ، كذا نجده فى التوراة ، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه.

وليس بينهما تناف ، ؛ لجواز كون العين جامعة بين الوصفين ، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار ، مع أن قراءته أيضا متواترة ، فلكون قراءة ابن عباس قطعية فى مدلولها ، وقراءته محتملة ، ولعله لمّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك ، إذ ليس فى مطمح نظره غير الماء ، كما يلوح به قوله تعالى : (وَجَدَها تَغْرُبُ) ، ولم يقل : كانت تغرب ؛ فإن الشمس فى السماء لا تغرب فى الأرض.

(وَوَجَدَ عِنْدَها) أي : تلك العين (قَوْماً) ؛ قيل : كان لباسهم جلود الوحش ، وطعامهم ما لفظه البحر ، وكانوا كفارا ، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل ، وأن يدعوهم إلى الإيمان ، فقال : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالقتل من أول الأمر ، (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) ؛ أمرا ذا حسن ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، واستدل بهذا على نبوته ، ومن لم يقل بها قال : كان بواسطة نبى كان معه فى ذلك العصر ، أو إلهاما ، بعد أن كان التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي ، (قالَ) ذو القرنين ، لمن كان عنده : مختارا للشق الأخير ، وهو الدعاء إلى الإسلام : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) فى نفسه ، وأصرّ على الكفران ، ولم يقبل الإيمان (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل. وعن قتادة : أنه كان يطبخ من كفر فى القدور (١) ، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) فى الآخرة (نُعَذِّبُهُ) فيها (عَذاباً نُكْراً) ؛ منكرا فظيعا ، لم يعهد مثله ، وهو عذاب النار. وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحى إليه ، أي : حيث لم يقل : «ثم يرد إليك» ، وأن مقاولته كانت مع النبي ، أو مع من عنده من أهل مشورته.

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) بموجب دعوته (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) حسبما يقتضيه الإيمان (فَلَهُ) فى الدارين (جَزاءً الْحُسْنى) (٢) ، أي : المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى جزاء ، على قراءة النصب ، على أنه مصدر مؤكد للجملة ، قدّم عليه المبتدأ ؛ اعتناء ، أو حال ، أو تمييز. (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا) أي : مما نأمر به (يُسْراً) : سهلا ميسرا ، غير شاق عليه. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) لا يصح نسبة هذا ـ إطلاقا ـ لذى القرنين ـ رحمه‌الله.

(٢) قرأ حفص وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب : «جزاء» ؛ بفتح الهمزة ؛ منونة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : بالرفع ؛ من غير تنوين ، على الابتداء ، والخبر : الظرف قبله ، والحسنى مضاف إليها ... انظر : شرح الهداية (٢ / ٤٠٢) ، والإتحاف (٢ / ٢٢٤).

٣٠٢

الإشارة : ذو القرنين لمّا أقبل بكليته على مولاه ، ودعا إلى الله ، ونصح لله ، مكّنه الله تعالى من الأرض ، ويسر له أموره ، حتى قطع مشارقها ومغاربها ، وكذلك من انقطع إلى الله ، ورفع همته إلى مولاه ، وأرشد الخلق إلى الله ، تكون همته قاطعة ، يقول للشىء كن فيكون ، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره ، يكون عند أمره ونهيه «أنت مع الأكوان مالم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك» ، يقول الله تعالى ، فى بعض كلامه : «يا عبدى كن لى كما أريد ، أكن لك كما تريد».

قال القشيري : ذو القرنين مكّن له فى الأرض جهرا ، فكانت تطوى له إذا قطع أحوازها ، وسهل له أن يندرج فى مشارقها ومغاربها ، ويحظر أقطارها ومناكبها ، ومن كان فى محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يمكنه فى المملكة ، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب ، أو غيره من قطع مسافة ، أو استتار عن أبصار ، وتصديق مأمول ، وتحقيق سؤال ، وإجابة دعاء ، وكشف بلاء ، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له فى أمره ، ثم فوق ذلك فى التمكين فى أن يحضر بهمتهم قوما بما شاءوا ، ويمنع قوما عما شاءوا ، فلهم من الحق تحقيق أمل ، إذا تصرفوا فى المملكة بإرادات فى سوانح وحادثات ، وفوق هذا التمكين فى المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالّ ، فالله يحقق فيهم همتهم. ه. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته ، فى كل وقت وحين ، حتى لو طلبوا الحجاب لم يجابوا ، ولو كلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا ، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين فى الإيصال إلى منازل السائرين ومحالّ الواصلين. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر سير ذى القرنين إلى جهة المشرق ، فقال :

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١))

قلت : (مَطْلِعَ) فيه لغتان : الكسر والفتح ، و (كَذلِكَ) : خبر عن مضمر ، أي : أمر ذى القرنين كما وصفنا لك ، أو صفة مصدر محذوف لوجد ، أو (نَجْعَلْ) أي : وجدا أو جعلا كذلك ، أو صفة لقوم ، أي : على قوم مثل ذلك القبيل ، الذي تغرب عليهم الشمس فى الكفر والحكم ، أو صفة لستر ، أي : سترا مثل ستركم.

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) : طريقا راجعا من مغرب الشمس ، موصلا إلى مشرقها ، (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض ، قيل : بلغه فى اثنتي عشرة سنة ، وقيل : فى أقل من ذلك.

٣٠٣

(وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) عراة (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) من اللباس والبنيان ، قيل : هم الزنج ، وفى اللباب : قيل : إنهم بنو كليب ، وقيل : إن بنى كليب طائفة منهم ، وهم قوم بآخر صين الصين ، على صور بنى آدم ، إلّا أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب ، ووجوه كوجوه الكلاب ، وأكثر قوتهم الحوت ، ومن مات منهم أكلوه ، وملأوا موضع دماغه مسكا وعنبرا ، وحبسوه عندهم ؛ تبركا بآبائهم وأبنائهم. ثم قال : وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم. ه.

وعن كعب : أن أرضهم لا تمسك الأبنية ، وبها أسراب ، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر ، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، يتراعون فيها كما ترعى البهائم. قال رجل من سمرقند : خرجت حتى جاوزت الصين ، فقالوا لى : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فاستأجرت رجلا حتى بلغتهم ، فإذا أحدهم يفرش أذنه ، ويلبس الأخرى ، وكان صاحبى يحسن لسانهم ، فسألهم فقالوا : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس. قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة ، فغشى علىّ ، ثم أفقت وهم يمسحوننى بالدهن ، فلما طلعت الشمس على الماء ، إذا هى فوق الماء كهيئة الزيت ، فأدخلونا سربا لهم ، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه فى الشمس فينضج (١). ه. وعن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. ه.

وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : أمر ذى القرنين كما وصفنا ، فى رفعة المحل وبسط الملك ، أو أمره فيهم كأمره فى أهل مغرب الشمس ، من التخيير والاختيار ، أو وجد قوما عند مطلع الشمس كذلك ، وحكم فيهم ، بحكم أولئك. أو : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ) سترا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال. قال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ، ولا تحمل البناء ، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر. ه. قال تعالى : (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ) من الأسباب والعدد ، وما صدر عنه وما لاقاه (خُبْراً) : علما تعلق بظواهره وخفايا أمره ، يعنى : أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.

الإشارة : كان ذو القرنين فى الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية ، وفى الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية ، وهى شمس القلوب ، التي تكشف أستار الغيوب ، ثم أتبع سببا يوصل إلى شمس العيان ، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان ، لم يجعل لهم من دونها سترا على الدوام ، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام ، حتى قال قائلهم : لو حجب عنى الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسى من المسلمين ، وكذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو تقول : وجدها تطلع على أهل التجريد ، الخائضين فى بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه :

أقارئين علم التّوحيد

هنا البحور إلىّ تنبى

هذا مقام أهل التّجريد

الواقفين مع ربّى

__________________

(١) قال الآلوسى معقبا : (وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغى أن يلتفت إليها ويعول عليها ، وما هى إلا أخبار عن هيان بن بيان ، تحكيها العجائز لصغار الصبيان). انظر روح المعاني (١٦ / ٣٦).

٣٠٤

قد تجردوا من لباس الزينة والافتخار ، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار ، فعوضهم الله تعالى فى قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار ، صبروا قليلا ، واستراحوا زمنا طويلا ، تذللوا قليلا ، وعزّوا عزا طويلا ، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه. ثم أخذ ذو القرنين من الجنوب إلى الشمال ، كما قال تعالى :

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))

قلت : (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : مفعول ، لا ظرف ؛ لأنه يستعمل متصرفا.

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَتْبَعَ) ذو القرنين (سَبَباً) : طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب ، سالكا من الجنوب إلى الشمال ، (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : بين الجبلين ، اللذين سدّ ما بينهما ، وهو منقطع أرض الترك ، مما يلى المشرق ، لا جبال أرمينية وأذربيجان ، كما توهم ، وفيه لغتان : الضم والفتح ، وقيل : ما كان من فعل الله فهو مضموم ، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح. (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما) أي : من ورائهما : مما يلى بر الترك ، (قَوْماً) : أمة من الناس (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) : يفهمون (قَوْلاً) ؛ لغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، وقرئ بالضم ؛ رباعيا ، أي : لا يفصحون بكلامهم ، واختلف فيهم ، قيل : هم جيل من الترك ؛ قال السدى : الترك سربة من يأجوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة. قلت : ولعلهم طلبوا منه ذلك ، حين اعتزلوا قومهم ، ثم قال : فجميع الترك منهم. وعن قتادة : أنهم ، ـ أي : يأجوج ومأجوج ـ اثنتان وعشرون قبيلة ،

٣٠٥

سد ذو القرنين على إحدى وعشرين ، وبقيت واحدة ، فسموا الترك ؛ لأنهم تركوا خارجين. قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه‌السلام ثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج. ه.

وقرئ بالهمز فيهما ؛ لأنه من أجيج النار ، أي : ضوؤها وشررها ، شبهوا به فى كثرتهم وشدتهم ، وهو غير منصرف ؛ للعجمة والعلمية.

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان ، أو يكون فهم كلامهم ، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب ، فقالوا له : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (١) ، قد تقدم أنهم من أولاد يافث. وما يقال : إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح ، واختلف فى صفاتهم ، فقيل : فى غاية صغر الجثة وقصر القامة ، لا يزيد قدمهم على شبر ، وقيل : فى نهاية عظم الجسم وطول القامة ، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعا ، وفيهم من عرضه كذلك. قال عبد الله بن مسعود : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : «هم أمم ، كل أمة أربع مائة ألف ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح» ، قيل : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : «هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز ـ وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع ـ وصنف عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مقدّمتهم بالشام ، وساقتهم بخراسان ، يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية». (٢).

فقالوا له : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : فى أرضنا ، بالقتل ، والتخريب ، وإتلاف الزرع ، قيل : كانوا يخرجون أيام الربيع ، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ، ولا يابسا إلا احتملوه ، وكانوا يأكلون الناس أيضا. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أي : جعلا من أموالنا (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) ؛ بالفتح وبالضم ، أي : حاجزا يمنعهم منا؟

(قالَ ما مَكَّنِّي) ـ بالفك وبالإدغام ـ أي : ما مكننى (فِيهِ رَبِّي) ، وجعلنى فيه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب ، (خَيْرٌ) من جعلكم ، فلا حاجة لى به ، (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) الأبدان وعمل الأيدى ، كصنّاع يحسنون البناء والعمل ، وبآلات لا بد منها فى البناء ، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي : حاجزا حصينا ، وبرزخا مكينا ، وهو أكبر من السد وأوثق ، يقال : ثوب مردم ؛ إذا كان ذا رقاع فوق رقاع ، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون.

__________________

(١) هذه قراءة الجماعة ؛ (بدون همز) ، وقرأ عاصم بالهمز .. انظر إتحاف فضلاء البشر (٢ / ٢٢٥).

(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٤ / ٤٥٠) لابن أبى حاتم ، وابن مردويه وابن عدى ، وابن عساكر ، وابن النجار ، وفيه أن السائل هو حذيفة.

٣٠٦

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) : جمع زبرة ، وهى القطعة الكبيرة ، وهذا لا ينافى رد خراجهم ؛ لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة ، كما ينبئ عنه قراءة : «ائتوني» ؛ بوصل الهمزة ، أي : جيئونى بزبر الحديد ، على حذف الباء ، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة ، دون الخراج على العمل.

قال القشيري : استعان بهم فى الذي احتاج إليه منهم ، ولم يأخذ منهم عمالة ؛ لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المكنة. ه.

ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات ؛ من الفحم والحطب وغيرهما ؛ لأن الحاجة إليها أمس ؛ لأنها الركن فى السد ، ووجودها أعز. قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، وجعل بينهما الفحم والحطب ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، وكان بينهما مائة فرسخ ، وذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ، وقرئ بضمهما (١) ، أي : مازال يبنى شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناصيتى الجبلين من البنيان مساويا لهما فى السّمك. قيل : كان ارتفاعه : مائتى ذراع ، وعرضه : خمسون ذراعا. وقرئ (سوّى) ؛ بالتشديد ، من التسوية.

فلما سوّى بين الجبلين بالبناء ، (قالَ) للعملة : (انْفُخُوا) النيران فى الحديد المبنى ، ففعلوا (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ) أي : المنفوخ فيه (ناراً) أي : كالنار فى الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذى القرنين ، مع أنه من فعل العملة ؛ للتنبيه على أنه العمدة فى ذلك ، وهم بمنزلة الآلة. (قالَ) للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها : (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) أي : آتوني نحاسا مذابا أفرغه عليه ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه ، لما تقدم.

(فَمَا اسْطاعُوا) أي : استطاعوا (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلا صلدا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) ؛ لارتفاعه وملاسته ، (وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) ؛ لصلابته ، وهذه معجزة له ؛ لأن تلك الزبر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها ، فضلا عن إفراغ القطر عليها ، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. والله على كل شىء قدير.

(قالَ) ذو القرنين ، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم : (هذا) أي : السد ، أو تمكينه منه ، (رَحْمَةٌ) عظيمة (مِنْ رَبِّي) على كافة العباد ، لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق ، بل هو إحسان إلهى محض ، وإن ظهر بمباشرتى. والتعرض لوصف الربوبية ؛ لتربية معنى الرحمة.

__________________

(١) أي : الصاد والدال فى «الصدفين». وهى قراءة ابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب. وقرأ أبو بكر : بضم الصاد وإسكان الدال ، وقرأ الباقون بفتحهما .. انظر الإتحاف (٢ / ٢٢٧).

٣٠٧

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة ؛ بأن شارف قيامها ، (جَعَلَهُ) أي : السد المذكور ، مع متانته ورصانته ، (دَكَّاءَ) : مدكوكا مبسوطا مستويا بالأرض ، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى ، بعد بيان سعة رحمته ، (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) : كائنا لا محالة.

روى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ يأجوج ومأجوج يحفرون السد ، حتّى إذا كادوا يرون شعاع الشّمس ، قال الّذى عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا ، فيعيده الله كأشدّ ما كان ، حتّى إذا بلغت مدّتهم ، حفروا ، حتّى إذا كادوا يرون شعاع الشّمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله ، فيعودون إليه ، وهو على هيئته كما تركوه ، فيحفرونه فيخرجون على النّاس» (١). وسيأتى فى الأنبياء تمام قصة خروجهم ، إن شاء الله ، وهذا آخر كلام ذى القرنين.

قال تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ) : يوم مجىء الوعد ، ويخرجون ، (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) ؛ يزدحمون فى البلاد ، أو : يموج بعض الخلق فى بعض ، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم ، حيارى من شدة الهول. روى أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به ، ممن لم يتحصن منهم من الناس ، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث الله عليهم مرضا فى رقابهم ، فيموتون مرة واحدة ، فيرسل الله طيرا فترميهم فى البحر ، ثم يرسل مطرا تغسل الأرض منهم ، ثم توضع فيها البركة ، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه‌السلام ، ثم تنقرض الدنيا ، كما قال تعالى :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) ؛ لقيام الساعة ، (فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) ، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى ؛ اكتفاء بذكرها فى موضع آخر ، أي : جمعنا الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم ، وتمزقت أجسادهم ، فى صعيد واحد ؛ للحساب والجزاء ، جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه ، (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) ؛ أظهرناها وأبرزناها (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم إذ جمعنا الخلائق كافة ، (لِلْكافِرِينَ) منهم ، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا ، (عَرْضاً) فظيعا هائلا لا يقدر قدره ، وخص العرض بهم ، وإن كان بمرأى من أهل الموقف قاطبة ؛ لأن ذلك لأجلهم.

ثم ذكر وصفهم بقوله : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) وهم فى الدنيا (فِي غِطاءٍ) كثيف وغشاوة غليظة (عَنْ ذِكْرِي) : عن سماع القرآن وتدبره ، أو : عن ذكرى بالتوحيد والتمجيد ، أو كانت أعين بصائرهم فى غطاء عن ذكرى على وجه يليق بشأنى ، (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي : وكانوا مع ذلك ؛ لفرط تصاممهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يستطيعون استماعا منه لذكرى وكلامى ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية ، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.

__________________

(١) أخرجه بنحوه ، مطولا ، أحمد فى المسند (٢ / ٥١٠) ، والترمذي فى (التفسير) ، وابن ماجة فى (الفتن ، باب فتنة الرجال) ، من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٣٠٨

الإشارة : السياحة فى أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية فى بداية المريد ، أقلها سبع سنين ، وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد ، منها : زيارة الإخوان ، والمذاكرة معهم ، وهى ركن فى الطريق ، ومنها : نفع عباد الله ، إن كان أهلا لتذكيرهم ، (فلأن يهدى الله به رجلا واحدا خير له مما طلعت عليه الشمس). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته ، ففى كل يوم يلقى تجليا جديدا ، وتلوينا غريبا ، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد ، فالمريد كالماء ، إذا طال مكثه فى مكانه أنتن وتغيّر ، وإذا جرى عذب وصفي. ومنها : أنه قد يلقى فى سياحته من يربح منه ، أو يزيد به إلى ربه.

روى أن ذا القرنين بينما هو يسير فى سياحته إذ رفع إلى أمة صالحة ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليست لبيوتهم أبواب ، وليس عليهم أمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا يختلفون ولا يتنازعون ، ولا يقتتلون ، ولا يضحكون ولا يحزنون ، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس ، أطول الناس أعمارا ، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ ، فعجب منهم ، وقال : خبّرونى بأمركم ، فلم أر فى مشارق الأرض ومغاربها مثلكم ، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا ، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها؟ قالوا : ليس فيها متهم ، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حكّام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نفتخر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال : أخبرونى من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد ، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا : من قبل أنّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قبل الذلة والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا : من قبل أنّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية. قال : فما بالكم لا تضحكون؟ قالوا : لا نغفل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا : من قبل أنّا وطّنّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله ، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا؟ قالوا : نعم ، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويوفون بعهدهم ، ويصدقون فى مواعدهم ، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم ، ما كانوا أحياء ، وكان حقا علينا أن نخلفهم فى تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مقيما لأقمت فيكم ، ولكن لم أومر بالمقام. ه. ذكره الثعلبي.

٣٠٩

وقال فى القوت : قوله تعالى ، فى صفة أعدائه المحجوبين : (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) : دليل الخطاب فى تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ، ناظرون إلى غيبه ، قال تعالى فى ضده : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (١) ، وقال : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ ...) (٢) الآية. ه.

وسبب غطاء القلوب عن الاستماع والاستبصار هو اتباع الهوى ومحبة غير المولى ، فلذلك أنكره الحق تعالى على الكفار بقوله :

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

قلت : (أَنْ يَتَّخِذُوا) : سد مسد المفعولين ، أو حذف الثاني ، أي : أحسبوا اتخاذهم نافعهم و (نُزُلاً) : حال من جهنم.

يقول الحق جل جلاله ؛ منكرا على الكفار المتقدمين : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) حين أعرضوا عن ذكرى ، وكانت أعينهم فى غطاء عن رؤية دلائل توحيدى ، (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) كالملائكة والمسيح وعزير ، أو الشياطين ؛ لأنهم عباد ، (مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أي : معبودين من دونى ، يوالونهم بالعبادة ، أن ذلك ينفعهم ، أو : ألا نعذبهم على ذلك ، بل نعذبهم على ذلك ، (إِنَّا أَعْتَدْنا) ؛ يسّرنا وهيأنا (جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) أي : شيئا يتمتعون به أول ورودهم القيامة. والنزل : ما يقدم للنزيل أي : الضيف ، وعدل عن الإضمار ؛ ذما لهم على كفرهم ، وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم ، وعبّر بالإعتاد ؛ تهكما بهم ، وتخطئة لهم ، حيث كان اتخاذهم أولياء من قبيل العتاد ، وإعداد الزاد ليوم المعاد ، فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم ، مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذّخر ، جهنم ؛ عدة لهم. وفى ذكر النزل : إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له ، وتستحقر دونه ، وقيل : النزل : موضع النزول ، أي : أعتدناها لهم منزلا يقيمون فيه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ما أحببت شيئا إلا وكنت له عبدا ، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدا ، فأفرد قلبك لله ، وأخرج منه كلّ ما سواه ، فحينئذ تكون عبدا لله ، حرا مما سواه ، فكل ما سوى الله باطل ، وظل آفل ، فكن إبراهيميا ، حيث قال : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٣) ، فارفع أيها العبد همتك عن الخلق ، وعلقها بالملك الحق ، فلا تحب إلا الله ، ولا تطلب شيئا

__________________

(١) من الآية ٢٠ من سورة هود.

(٢) الآية ٢٤ من سورة هود.

(٣) من الآية ٧٦ من سورة الأنعام.

٣١٠

سواه ، كائنا ما كان ، من جنس الأشخاص ، أو من جنس الأحوال أو المقامات أو الكرامات ؛ لئلا تنخرط فى سلك من اتخذ من دون الله أولياء ، فتكون كاذبا فى العبودية.

روى عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى رضي الله عنه أنه قال : قرأت الفاتحة ، فقلت : الحمد لله رب العالمين. فقال لى الهاتف من قبل الله تعالى : صدقت ، فقلت : الرحمن الرحيم ، فقال : صدقت. فقلت : مالك يوم الدين ، فقال : صدقت. فلما قلت : إياك نعبد ، قال كذبت ؛ لأنك تعبد الكرامات ، قال : ثم أدبنى ، وتبت لله تعالى. ذكره ابن الصباغ مطولا. قلت : ولعله قبل ملاقاة الشيخ ، ولذلك عاتبه بقوله : يا أبا الحسن عوض ما تقول : «سخّر لى خلقك» ، قل : يا رب كن لى ، أرأيت إن كان لك أيفوتك شىء؟ نفعنا الله بجميعهم.

وهذا الغلط يقع للمتوجهين ولغيرهم ، يظنون أنهم يحسنون صنعا ، وهم يسيئون ، كما قال تعالى:

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))

. قلت : (أَعْمالاً) : تمييز ، و (فِي الْحَياةِ) : متعلق بسعيهم.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد : (هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) يا معشر الكفرة (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) أي : بالذين خسروا من جهة أعمالهم ؛ كصدقة ، وعتق ، وصلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، حيث عملوها فى حال كفرهم فلم تقبل منهم ، وهم : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) أي : بطل بالكلية (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : بطل ما سعوا فيه فى الحياة الدنيا وعملوه ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ) : يظنون (أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي : يأتون بها على الوجه الأكمل ، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها ، وهو الإيمان ، واختلف فى المراد بهم ، فقيل : مشركو العرب ، وقيل : أهل الكتابين ، ويدخل فى الأعمال ما عملوه فى الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات. وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم فى الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة.

والمختار : العموم فى كل من عمل عملا فاسدا ، يظن أنه صحيح من الكفرة ، بدليل قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) : بدلائل التوحيد ، عقلا ونقلا ، (وَلِقائِهِ) : البعث وما يتبعه من أمور الآخرة ، (فَحَبِطَتْ) لذلك (أَعْمالُهُمْ) المعهودة حبوطا كليا ، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ) أي : لأولئك الموصوفين بحبوط

٣١١

الأعمال ، (يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي : فنهينهم ، ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا ؛ لأن مدار التكريم : الأعمال الصالحة ، وقد حبطت بالمرة ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالرّجل السّمين العظيم يوم القيامة ، فلا يزن جناح بعوضة ؛ اقرأوا إن شئتم : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١). أو : لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا ؛ لأن الكفر أحبطها. أو : لا نقيم لهم وزنا نافعا. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : يأتى أناس بأعمالهم يوم القيامة ، هى عندهم فى العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لا تزن شيئا ، فذلك قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

ثم بيّن مآل كفرهم بعد أن بيّن مآل أعمالهم ، فقال : (ذلِكَ) الصنف الذين حبطت أعمالهم (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ، أو الأمر ذلك ، ثم استأنف بقوله : (جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا) أي : بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح ، التي من جملتها ما تضمنه قوله : (وَاتَّخَذُوا آياتِي) الدالة على توحيدى أو كلامى ، أو معجزاتى ، (وَرُسُلِي هُزُواً) أي : مهزوا بهم ، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر ، بل ارتكبوا ما هو أعظم ، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل. عائذا بالله من ذلك.

الإشارة : كل آية فى الكفار تجر ذيلها على الغافلين ، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان ، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه ، وهو يحسب أنه يحسن صنعا ، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع ، فتنسحب الآية على طوائف ، منها : من عبد الله لطلب المنزلة عند الناس ، وهذا عين الرياء ؛ روى عن عثمان أنه قال على المنبر : (الرياء سبعون بابا ، أهونها مثل نكاح الرجل أمه). ومنها : من عبد الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصّ ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات ، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة ، وحجب عن الجوارح الباطنة ، وهى عبادة القلوب ، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح ، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم ، وغفل عن علم القلوب ، وهو بطالة وغفلة عند المحققين ، ومنها : من قنع بعبادة القلوب ، كالتفكر والاعتبار ، وغفل عن عبادة الأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار ، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال ، وإن كان لا يشعر ، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده ، وسيأتى عند قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٢) ، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين ؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الكهف) ، ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب صفة القيامة والجنة والنار) ، عن أبى هريرة رضي الله عنه

(٢) الآية ٤٧ من سورة الزمر.

٣١٢

ثم ذكر ضد من تقدم من الكفرة ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))

. يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بآيات ربهم ولقائه ، (وَعَمِلُوا) الأعمال (الصَّالِحاتِ ، كانَتْ لَهُمْ) ؛ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده ، (جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ) ، وهى أعلى الجنان. وعن كعب : أنه ليس فى الجنة أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، أي : أهل الوعظ والتذكير من العارفين. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «فى الجنّة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السّماء والأرض ، أعلاها الفردوس ، ومنها تفجّر أنهار الجنّة ، فوقها عرش الرحمن ، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس» (١).

وقال أيضا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنان الفردوس أربع : جنتان من فضّة ، أبنيتهما وآنيتهما ، وجنّتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه» (٢) ، وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة. وقال أبو أمامة : هى سرة الجنة. وقال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية. وقال الضحاك : هى الجنة الملتفة الأشجار.

كانت لهم (نُزُلاً) أي : مقدمة لهم عند ورودهم عليه ، على حذف مضاف ، أي : كانت لهم ثمار جنة الفردوس نزلا ، أو جعلنا نفس الجنة نزلا ؛ مبالغة فى الإكرام ، وفيه إيذان بأن ما أعدّ الله لهم على ما نطق به الوحى على لسان النبوة بقوله : «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر». هو بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها ، وإن جعل النزل بمعنى المنزل ؛ فظاهر. (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي : لا يطلبون تحولا عنها ؛ إذ لا يتصور أن يكون شىء أعز عندهم ، وأرفع منها ، حتى تنزع إليه أنفسهم ، أو تطمح نحوه أبصارهم. ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم ، لا نفاد له ولا نهاية ؛ لأنه مكون بكلمة «كن» ، وهى لا تتناهى.

__________________

(١) أخرجه ، بنحوه ، البخاري فى (كتاب التوحيد ، باب : وكان عرشه على الماء) ؛ من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الرحمن ، باب ومن دونهما جنتان) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب إثبات رؤية المؤمنين فى الآخرة ربهم سبحانه وتعالى) ، من حديث عبد الله بن قيس.

٣١٣

قال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ) أي : جنس البحر (مِداداً) ، وهو ما تمد به الدواة من الحبر ، (لِكَلِماتِ رَبِّي) وهى ما يقوله سبحانه لأهل الجنة ، من اللطف والإكرام ، مما لا تكيفه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، فلو كانت البحار مدادا والأشجار أقلاما لنفدت ، ولم يبق منها شىء ، (قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) ؛ لأن البحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية. ثم أكده بقوله : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى ، هذا لو لم يجئ بمثله مددا ، بل ولو جئنا بمثله (مَدَداً) ؛ عونا وزيادة ؛ لأن ما دخل عالم التكوين كله متناه.

(قُلْ) لهم : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يتناهى كلامى ، وينقضى أجلى ، وإنما خصصت عنكم بالوحى والرسالة ؛ (يُوحى إِلَيَ) من تلك الكلمات : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له فى الخلق ، ولا فى سائر أحكام الألوهية ، (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) : يتوقعه وينتظره ، أو يخافه ، فالرجاء : توقع وصول الخير فى المستقبل ، فمن جعل الرجاء على بابه ، فالمعنى : يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول. ومن حمله على معنى الخوف ، فالمعنى : يخاف سوء لقائه. قال القشيري : حمله على ظاهره أولى ؛ لأن المؤمنين قاطبة يرجون لقاء الله ، فالعارفون بالله يرجون لقاءه والنظر إليه ، والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم. ه بالمعنى.

والتعبير بالمضارع فى (يَرْجُوا) ؛ للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين : الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء ، أي : فمن استمر على رجاء لقاء كرامة الله ورضوانه (فَلْيَعْمَلْ) ؛ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة (عَمَلاً صالِحاً) ، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله ، ومدارها على الإتقان ؛ ظاهرا ، والإخلاص ؛ باطنا. وقال سهل : العمل الصالح : المقيد بالسنّة ، وقيل : هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها. (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) إشراكا جليا ، كما فعل الذين ضلّ سعيهم فى الحياة الدنيا ؛ حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه ، أو إشراكا خفيا ، كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به عوضا أو ثناء حسنا.

قال شهر بن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلا يصلى يبتغى وجه الله ، ويحب أن يحمد عليه ، ويتصدق يبتغى وجه الله ويحب أن يحمد عليه ، ويحج كذلك؟ قال عبادة : ليس له شىء ، إن الله تعالى يقول : «أنا خير شريك ، فمن كان له شريك فهو له». وروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّى لأعمل العمل لله تعالى ، فإذا اطّلع عليه سرّنى ، فقال له عليه الصلاة والسلام : «لك أجران : أجر السّرّ ، وأجر العلانية» (١)

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى (الزهد ، باب عمل السر) ، وابن ماجة فى (الزهد ، باب الثناء الحسن) ، عن أبى هريرة بدون ذكر جندب ابن زهير.

٣١٤

وذلك إذا قصد أن يقتدى به ، وكان مخلصا فى عمله. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اتقوا الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما نزلت هذه الآية ـ : «إن أخوف ما أخاف على أمتى الشرك الخفي ، وإياكم وشرك السرائر ، فإنّ الشرك أخفى فى أمتى من دبيب النمل على الصفا فى الليلة الظلماء» ، فشق ذلك على القوم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أدلكم على ما يذهب الله عنكم صغير الشرك وكبيره؟ قالوا : بلى ، قال : قولوا : «اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك من كل ما لا أعلم».

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ آخر سورة الكهف ـ يعنى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلى آخره ـ كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلّها كانت له نورا من الأرض إلى السّماء» (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ عند مضجعه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...) إلخ ، كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكّة ، حشو ذلك النّور ملائكة يصلّون حتّى يقوم ، وإن كان بمكة كان له نورا إلى البيت المعمور». قلت : ومما جرّب أن من قرأ هذه الآية ؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ...) إلخ ، ونوى أن يقوم فى أي ساعة شاء ، فإن الله تعالى يوقظه بقدرته. وانظر الثعلبي.

الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا عمل الخصوص ـ وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة ـ كانت لهم جنة المعارف نزلا ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ؛ لأنّ من تمكن من المعرفة لا يعزل عنها ، بفضل الله وكرمه ، كما قال القائل :

مذ تجمّعت ما خشيت افتراقا

فأنا اليوم واصل مجموع

ثم يترقون فى معاريج التوحيد ، وأسرار التفريد ، أبدا سرمدا ، لا نهاية ؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية ، وهى كلمة التكوين ، التي لا تنفد ؛ (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ...) الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم ، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلىّ وحي إلهام ، ويلقى فى روعى أنما إلهكم إله واحد ، لا ثانى له فى ذاته ولا فى أفعاله ، فمن كان يرجو لقاء ربه فى الدنيا لقاء الشهود والعيان ، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان ؛ فليعمل عملا صالحا ، الذي لا حظ فيه للنفس ؛ عاجلا ولا آجلا ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم (٣).

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ٤٢٨) ، والبغوي فى شرح السنة (١٤ / ٣٢٤).

(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٣ / ٤٣٩) ، وابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يستحب أن يقرأ فى اليوم والليلة) من حديث معاذ. قال الحافظ ابن حجر : وفى إسناده ابن لهيعة.

(٣) فى آخر نسخة د. حسن عباس : انتهى الجزء الثاني من تفسير القرآن المجيد ، للعلامة الأديب ، فريد عصره ، ووحيد دهره ، سيدى أحمد بن عجيبة الشريف ، غفر الله له ، ولكاتبه ، وللمسلمين أجمعين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .. أمين.

٣١٥
٣١٦

سورة مريم

مكية ـ وهى ثمان وتسعون آية. والمقصود من السورة الرد على النصارى فى إشراكهم عيسى عليه‌السلام لله تعالى فى ألوهيته ، فهى كالتتميم لقوله : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١).

قال تعالى : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (١))

قيل : هى مختصرة من أسماء الله تعالى ، فالكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من يمين ، والعين من عليم أو عزيز ، والصاد من صادق. قاله الهروي عن ابن جبير.

قال أبو الهيثم : جعل الياء من يمين ، من قولك : يمن الله الإنسان ييمنه يمنا فهو ميمون. ه. ولذا ورد الدعاء بها ، فقد روى عن علىّ ـ كرم الله وجهه ـ أنه كان يقول : (يا كهيعص ؛ أعوذ بك من الذنوب التي توجب النقم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتك العصم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء ، وأعوذ بك من الذنوب التي تديل الأعداء ، انصرنا على من ظلمنا) (٢). كان يقدم هذه الكلمات بين يدى كل شدة. فيحتمل أن يكون توسل بالأسماء المختصرة من هذه الحروف ، أو تكون الجملة ، عنده ، اسما واحدا من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو اسم الله الأعظم. ويحتمل أن يشير بهذه الرموز إلى معاملته تعالى مع أحبائه ، فالكاف كفايته لهم ، والهاء هدايته إياهم إلى طريق الوصول إلى حضرته ، والياء يمنه وبركته عليهم وعلى من تعلق بهم ، والعين عنايته بهم فى سابق علمه ، والصاد صدقه فيما وعدهم به من الإتحاف والإكرام. والله تعالى أعلم.

وقيل : هى مختصرة من أسماء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أي : يا كافى ، يا هادى ، يا ميمون ، يا عين العيون ، أنت صادق مصدق. وعن ماضى بن سلطان تلميذ أبى الحسن الشاذلى ـ رضى الله عنهما ـ : [أنه رأى فى منامه أنه اختلف مع بعض الفقهاء فى تفسير قوله : (كهيعص حم* عسق) ، فقلت : هى أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه قال : «كاف» ؛ أنت كهف الوجود ، الذي يؤم إليه كلّ موجود ، «ها» ؛ هبنا لك الملك ، وهيأنا لك الملكوت ، «يع» ؛ يا عين العيون ، «ص» ؛ صفات الله (من يطع الرسول فقد أطاع الله) ، «حاء» ؛ حببناك ، «ميم»

__________________

(١) من الآية ١١٠ من سورة الكهف.

(٢) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند (١ / ١١٢).

٣١٧

ملّكناك ، «عين» علمناك ، «سين» ؛ ساررناك ، «قاف» ؛ قربناك. فنازعونى فى ذلك ولم يقبلوه ، فقلت : نسير إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليفصل بيننا ، فسرنا إليه ، فلقينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لنا : الذي قال محمد بن سلطان هو الحق]. وكأنه يشير إلى أنها صفات أفعال.

قال تعالى :

(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

قلت : (ذِكْرُ) : خبر عن مضمر ، أي : هذا ذكر ، والإشارة للمتلو فى هذه السورة ؛ لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر فى حكم الحاضر الشاهد. وقيل : مبتدأ حذف خبره ، أي : فيما يتلى عليك ذكر رحمت ربك. وقيل : خبر عن (كهيعص) ، إذا قلنا ؛ هى اسم للسورة ، أي : المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك ، و (عَبْدَهُ) : مفعول لرحمة ربك ، على أنها مفعول لما أضيف إليها ، أو لذكر ، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع. ومعنى ذكر الرحمة : بلوغها إليه ، و (زَكَرِيَّا) : بدل منه ، أو عطف بيان ، و (إِذْ نادى) : ظرف لرحمة ، وقيل : لذكر ، على أنه مضاف إلى فاعله ، وقيل : بدل اشتمال من زكريا ، كما فى قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ ...) (١) ، و (مِنِّي) : حال من العظم ، أي : كائنا منى ، و (شَيْئاً) : تمييز.

يقول الحق جل جلاله : هذا الذي نتلوه عليك فى هذه السورة هو (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا). قال الثعلبي : [فيه تقديم وتأخير]. أي : ذكر ربك عبده زكريا برحمته ، (إِذْ نادى رَبَّهُ) وهو فى محرابه فى طلب الولد (نِداءً خَفِيًّا) : سرا من قومه ، أو فى جوف الليل ، أو مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا الله. ولقد راعى عليه‌السلام حسن الأدب فى إخفاء دعائه ، فإنه أدخل فى الإخلاص وأبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس ، حيث طلب الولد فى غير إبّانه ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم.

(قالَ) فى دعائه : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي : ضعف بدني وذهبت قوتى. وإسناد الوهن إلى العظم ؛ لأنه عماد البدن ودعامة الجسد ، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله ، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد من أفراده. ووهن بدنه عليه‌السلام : لكبر سنه ، قيل : كان ابن سبعين ، أو خمسا وسبعين ، وقيل : مائة ، وقيل : أكثر.

__________________

(١) الآية ١٦ من السورة نفسها.

٣١٨

(وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) أي : ابيضّ شمطا. شبه عليه‌السلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار ، وانتشاره فى الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرجه مخرج التمييز ، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل : واشتعل شيب رأسى ، فأسند الاشتعال إلى الرأس ؛ لإفادة شموله لكلها ، فإن وزانه : اشتعل بيته نارا بالنسبة إلى اشتعلت النار فى بيته ، ولزيادة تقريره بالإجمال أولا ، والتفصيل ثانيا ، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير.

ثم قال : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي : لم أكن بدعائى إياك خائبا فى وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كنت كلما دعوتك استجبت لى. توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه ، لعله يشفع له ذلك بمثله ، إثر تمهيد ما يستدعى ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال. والتعرض فى الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة فى التضرع ، ولذلك قيل : من أراد أن يستجاب له فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته.

ثم قال : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) أي : الأقارب ، وهم : بنو عمه ، وكانوا أشرار بنى إسرائيل ، فخاف ألا يحسنوا خلافته فى أمته ، فسأل الله تعالى ولدا صالحا يأمنه على أمته. وقوله : (مِنْ وَرائِي) : متعلق بمحذوف ، أي : جور الموالي ، أو مما فى الموالي من معنى الولاية ، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي ، (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) : لا تلد من حين شبابها ، (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) أي : أعطنى من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة ، بطريق الاختراع ، لا بواسطة الأسباب العادية ؛ لأن التعبير بلدنّ يدل على شدة الاتصال والالتصاق ، (وَلِيًّا) : ولدا من صلبى ، يليى الأمر من بعدي.

والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكره عليه‌السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب ، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة ، ولا يقدح فى ذلك أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور ، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم ، كما يعرب عنه قوله تعالى : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) (١). وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم ، فإن الاكتفاء بما ذكر فى موطن عما ترك فى موطن آخر من النكتة التنزيلية. وقوله : (يَرِثُنِي) : صفة لوليّا ، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابا للدعاء ، أي : يرثنى من حيث العلم والدين والنبوة ، فإن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يورثون من جهة المال. قال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (٢). وقيل : يرثنى فى الحبورة ، وكان عليه‌السلام حبرا.

__________________

(١) من الآية ٣٨ من سورة آل عمران.

(٢) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٢ / ٤٦٣).

٣١٩

(وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) النبوة والملك والمال. قيل : هو يعقوب بن إسحاق. وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب ابن ماثان ، أخو عمران بن ماثان ، أبى مريم ، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم ، وماثان من نسل سليمان عليه‌السلام ، فكان آل يعقوب أخوال يحيى. قال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بنى إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ ، فأراد أن يرث ولده حبورته ، ويرث من بنى ماثان ملكهم. ه.

(وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) أي : مرضيا ، فعيل بمعنى مفعول ، أي : ترضى عنه فيكون مرضيا لك ، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل ، أي : راضيا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية. والله تعالى أعلم.

الإشارة : طلب الوارث الروحاني ـ وهو وارث العلم والحال ـ جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته. وقيل : السكوت والاكتفاء بالله أولى ، ففى الحديث : «يرحم الله أخانا زكريّا ، وما كان عليه من يرثه» (١). وقوله تعالى : (نِداءً خَفِيًّا). الإخفاء عند الصوفية أولى فى الدعاء والذكر وسائر الأعمال ، إلا لأهل الاقتداء من الكملة ، فهم بحسب ما يبرز فى الوقت.

وقوله تعالى : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا). فيه قياس الباقي على الماضي ، فالذى أحسن فى الماضي يحسن فى الباقي ، فهذا أحد الأسباب فى تقوية حسن الظن بالله ؛ وأعظم منه من حسّن الظن بالله ؛ لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم ، والجود والرأفة والرحمة ، فإن الأول ملاحظ للتجربة ، والثاني ناظر لعين المنّة. قال فى الحكم : «إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك ، فهل عوّدك إلا حسنا؟ وهل أسدى إليك إلا مننا؟».

ثم ذكر إجابته لزكريا عليه‌السلام ، فقال :

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق فى تفسيره (٢ / ٣) ، وابن جرير (١٦ / ٤٨) عن قتادة.

٣٢٠