البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

سورة المؤمنون

مكية. وهى مائة وثمانى عشرة آية ، قيل : مناسبة افتتاح السورة بالفلاح أنه قال فيما قبلها : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١) ؛ على سبيل الرجاء ، وحققه هنا بشرطه فى الجملة ، ثم لمّا ذكر وراثة المتصف بتلك الأوصاف للفردوس ، وذلك يتضمن المعاد ، ذكر النشأة الأولى ؛ دلالة على صحته ، أي : المعاد ، ثم لمّا ذكر ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكّره بنعمه ، فقال : (لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) ، (وَأَنْزَلْنا) ، (فَأَنْشَأْنا) .. الآيات ، ولمّا كانت هذه النعم على الإنسان تقتضى منه الشكر بالطاعة والتوحيد للكريم المنّان ، ثم إن أصنافا من الكفرة قابلوها بالكفران ، فلذلك ذكر قصصهم بعد ذكرها ، بقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ...) إلخ. فهذا ما تضمنته السورة من الترتيب ، قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

يقول الحق جل جلاله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي : فازوا بكل مطلوب ، ونالوا كل مرغوب ، فالفلاح : الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام ، وقيل : البقاء فى الخير على الأبد ، وقد تقتضى ثبوت أمر متوقع ، فهى هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة ؛ وهى الإخبار بثبوت الفلاح لهم ، فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه. والإيمان فى اللغة : التصديق بالقلب ، والمؤمن : المصدّق لما جاء به الشرع ، مع الإذعان بالقلب ، وإلا .. فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن ، تكبّرا وعنادا ، فكل من نطق بالشهادتين ،

__________________

(١) من الآية ٧٧ من سورة الحج.

٥٦١

مواطئا لسانه قلبه فهو مؤمن شرعا ، قال عليه الصلاة السلام : «لمّا خلق الله الجنّة ، قال لها : تكلّمي ، فقالت : قد أفلح المؤمنون ـ ثلاثا ـ أنا حرام على كلّ بخيل مرائى» (١) ؛ لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية ، وليسر له أعمال صافية.

ثم وصف أهل الإيمان بست صفات ، فقال : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) : خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح ، وقيل : الخشوع فى الصلاة : جمع الهمة ، والإعراض عما سواها ، وعلامته : ألا يجاوز بصره مصلاه ، وألّا يلتفت ولا يعبث. وعن أبى الدرداء : (هو إخلاص المقال ، وإعظام المقام ، واليقين التام ، وجمع الاهتمام). وأضيفت الصلاة إلى المصلين ؛ لانتفاع المصلّى بها وحده ، وهى عدّته وذخيرته ، وأما المصلّى له فغنىّ عنها.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) ، اللغو : كل كلام ساقط ، حقه أن يلغى ، كالكذب والشتم ونحوهما. والحق أن اللغو : كل ما لا يعنى من الأقوال والأفعال ، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم فى عامة أوقاتهم ، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار ، بعد وصفه لهم بالخشوع ؛ ليجمع لهم بين الفعل والترك ، الشاقّين على النفس ، الّذين هما قاعدتا التكليف. (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) : مؤدون ، والمراد بالزكاة : المصدر ، الذي هو الإخراج ، لا المخرج. ويجوز أن يراد به العين ، وهو الشيء المخرج ، على حذف مضاف ، أي : لأداء الزكاة فاعلون. وصفهم بذلك ، بعد وصفهم بالخشوع فى الصلاة ؛ للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية ، والتجنب عن النقائص ، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما ؛ لكمال ملابسته بالخشوع فى الصلاة ؛ لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعنى عظم خشوعه وأنسه بالله.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) : ممسكون لها ، ويشمل فرج الرجل والمرأة ، (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) ، الظاهر أن «على» بمعنى «عن» أي : إلا عن أزواجهم ، فلا يجب حفظها عنهن ، ويمكن أن تبقى على بابها ، تقول العرب : احفظ علىّ عنان فرسى ، أي : أمسكه ، ويجوز أن يكون ما بعد الاستثناء حالا ، أي : إلا والين على أزواجهم ، من قولك : كان زياد على البصرة ، أي : واليا عليها ، والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون فى كافة الأحوال ، إلا فى حالة تزوجهم أو تسريهم. أو يتعلق «على» بمحذوف يدل عليه : (غير ملومين) ، كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي : سراريهم ، وعبّر عنهن بما ؛ لأن المملوك يجرى مجرى غير العقلاء ، لأنه يباع كما تباع البهائم. وقال فى الكشاف : وإنما قال «ما» ، ولم يقل «من» ؛ لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء (٢). ه. يعنى : لكونهن ناقصات عقل ، كما فى الحديث. وفيه احتراس من الذكور بالملك ، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة ، بإجماع.

__________________

(١) ذكره بنحوه الهيثمي فى المجمع (١٠ / ٣٩٧) من حديث ابن عباس ـ رضى الله عنهما ، وقال : رواه الطبراني فى الأوسط والكبير ، وأحد إسنادى الطبراني فى الأوسط جيد.

(٢) فى هذا الكلام نظر.

٥٦٢

وقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) أي : لا لوم عليهم فى عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) ؛ طلب قضاء شهوته فى غير هذين ، (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) : الكاملون فى العدوان ، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة ؛ لأن نكاح المتعة فاسد ، والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع ، وكان فى أول الإسلام ثم نسخ.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) أي : لما يؤتمنون عليه ، ويعاهدون عليه من جهة الحق أو الخلق ، (راعُونَ) : حافظون عليها قائمون بها ، والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح ، كراعى الغنم. (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) المفروضة عليهم (يُحافِظُونَ) : يداومون عليها فى أوقاتها. وأعاد الصلاة ؛ لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها ، ووحّدت أولا ؛ ليفاد أن الخشوع فى جنس الصلاة أيّة صلاة كانت ، وجمعت ثانيا ؛ ليفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل. قاله النسفي.

(أُولئِكَ) الجامعون لهذه الأوصاف (هُمُ الْوارِثُونَ) الأحقاء بأن يسمّوا وارثين ، دون غيرهم ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها ، وقيل : إنهم يرثون من الكفار منازلهم فى الجنة ، حيث فوّتوها على أنفسهم ، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا فى الجنة ومنزلا فى النار ، ففى الحديث : «ما منكم من أحد إلّا وله منزلان : منزل فى الجنّة ومنزل فى النّار ، فإن مات ودخل الجنّة ، ورث أهل النّار منزله ، وإن مات ودخل النّار ، ورث أهل الجنّة منزله» (١).

ثم ترجم الوارثين بقوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) ، هو فى لغة الروم والحبشة : البستان الواسع ، الجامع لأصناف الثمر ، والمراد : أعلى الجنان ، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم ، (هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، أنث الفردوس بتأويل الجنة ، أو لأنه طبقة من طبقاتها ، وهى العليا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قال القشيري : الفلاح : الفوز بالمطلوب ، والظّفر بالمقصود. والإيمان : انتسام الحقّ فى السريرة ، ومخامرة التصديق بخلاصة القلب ، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد (٢). والخشوع فى الصلاة : إطراق السّرّ على بساط النّجوى ، باستكمال نعت الهيبة ، والذوبان تحت سلطان الكشف ، والانمحاء عند غلبات التّجلّي. ه.

قلت : كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن ، فأول الفلاح : الدخول فى حوز الإسلام بحصول الإيمان ، وغايته : إشراق شمس العرفان ، وأول الإيمان : تصديق القلب بوجود الرب ، من طرق الاستدلال والبرهان ، وغايته :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة فى (الزهد ، باب : صفة الجنة) ، عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه.

(٢) أي : داخل القلب.

٥٦٣

إشراق أسرار الذات على السريرة ، فيصير الدليل محل العيان ، فتبتهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان ، وأول الخشوع : تدبر القلب فيما يقول ، وحضوره عند ما يفعل ، وغايته : غيبته عن فعله فى شهود معبوده ، فينمحى وجود العبد عند تجلى أنوار الرب ، فتكون صلاته شكرا لا قهرا ، كما قال سيد العارفين صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلا أكون عبدا شكورا».

ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو ، وهو كل ما يشغل عن الله ، وتزكية النفوس ببذلها فى مرضاة الله ، وإمساك الجوارح عن محارم الله ، وحفظ الأنفاس والساعات ، التي هى أمانات عند العبد من الله.

قال فى القوت : قال بعض العارفين : إن لله ـ عزوجل ـ إلى عبده سرّين يسرهما إليه ، يوجده ذلك بإلهام يلهمه ، أحدهما : إذا ولد وخرج من بطن أمه ، يقول له : عبدى ، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرا نظيفا ، واستودعتك عمرك ، ائتمنتك عليه ، فانظر كيف تحفظ الأمانة ، وانظر كيف تلقانى كما أخرجتك ، وسرّ عند خروج روحه ، يقول له : عبدى ، ما ذا صنعت فى أمانتى عندك؟ هل حفظتها حتى تلقانى على العهد والرعاية ، فألقاك بالوفاء والجزاء؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ فهذا داخل فى قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) ، وفى قوله عزوجل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) ، فعمر العبد أمانة عنده ، إن حفظه فقد أدى الأمانة ، وإن ضيّعه فقد خان ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) (٢). ه.

ثم ذكر ابتداء خلق الإنسان وأطواره وانتهاء أمره ، فقال :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

قلت : «خلق» : إن كان بمعنى اخترع وأحدث ؛ تعدى إلى واحد ، وإن كان بمعنى صيّر ؛ تعدى إلى مفعولين ، ومنه : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ، وما بعده.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) ؛ جنس الإنسان ، أو آدم ، (مِنْ سُلالَةٍ) ؛ «من» : للابتداء ، والسلالة : الخلاصة ؛ لأنها تسل من بين الكدر ، وهو ما سلّ من الشيء واستخرج منه ، فإن (فعالة) اسم لما

__________________

(١) من الآية ٤٠ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ٥٨ من سورة الأنفال.

٥٦٤

يحصل من الفعل ، فتارة يكون مقصودا منه ، كالخلاصة ، وتارة غير مقصود ، كالقلامة والكناسة ، والسلالة من قبيل الأول ؛ فإنها مقصودة بالسّل ، وقيل : إنما سمى التراب الذي خلق منه آدم سلالة ، لأنه سلّ من كل تربة. وقوله : (مِنْ طِينٍ) ، بيان ، متعلقة بمحذوف ، صفة للسلالة ، أي : خلقناه من سلالة كائنة من طين.

(ثُمَّ جَعَلْناهُ) أي : الجنس ، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه‌السلام ، وجعلنا نسله ، على حذف مضاف ، إن أريد بالإنسان آدم ، فيكون كقوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (١) أي : جعلنا نسله (نُطْفَةً) : ماء قليلا (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي : فى مستقر ـ وهو الرحم ـ (مَكِينٍ) : حصين ، أو متمكن فيه ، وصف الرحم بصفة ما استقر فيه ، مثل طريق سائر ، أي : مسير فيه.

(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) أي : دما جامدا ، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، (فخلقنا العلقة مضغة) أي : قطعة لحم لا استبانة ولا تمايز فيها ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) أي : غالبها ومعظمها ، أو كلها (عِظاماً) ، بأن صلبناها ، وجعلناها عمودا على هيئة وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة ، (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ) المعهودة (لَحْماً) بأن أنبتنا عليها اللحم ، فصار لها كاللباس ، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم ، على مقدار لائق به ، وهيئة مناسبة. وقرىء بالإفراد فيهما ، اكتفاء بالجنس ، وبتوحيد الأول فقط ، وبتوحيد الثاني فحسب. (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي : خلقا مباينا للخلق الأول ، حيث جعله حيوانا ، وكان جمادا ، وناطقا وسميعا وبصيرا ، وكان بضد هذه الصفات ، ولذلك قال الفقهاء : من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمّن البيضة ، ولم يردّ الفرخ ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة.

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي : فتعالى أمره فى قدرته الباهرة ، وعلمه الشامل. والالتفات إلى الاسم الجليل ؛ لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، والإشعار بأنّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية ، وللإيذان بأنّ من حق كل من سمع ما فصّل من آثار قدرته تعالى أو لا حظه ، أن يسارع إلى التكلم به ، إجلالا وإعظاما لشؤونه تعالى ، وقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) : بدل من اسم الجلالة ، أو نعت ، على أنّ الإضافة محضة ؛ ليطابقه فى التعريف ، أو خبر ، أي : هو أحسن الخالقين خلقا ، أي : أحسن المقدرين تقديرا ، فحذف التمييز ؛ لدلالة الخالقين عليه.

قيل : إنّ عبد الله بن أبى سرح كان يكتب الوحى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمّا انتهى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إلى قوله : (خَلْقاً آخَرَ) ، سارع عبد الله إلى النطق بذلك ، فنطق بذلك ، قبل إملائه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ، هكذا

__________________

(١) الآيتان ٧ ـ ٨ من سورة السجدة.

٥٦٥

أنزلت» ، فشكّ عبد الله ، فقال : إن كان محمد يوحى إليه ، فأنا يوحى إلىّ ، فارتدّ ولحق بمكة كافرا ، ثم أسلم يوم الفتح. وقيل : الحكاية غير صحيحة ؛ لأن ارتداده كان بالمدينة ، والسورة مكية (١).

ثم قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة ، حسبما ينبىء عنه ما فى اسم الإشارة من البعد ، المشعر بعلوّ مرتبة المشار إليه وبعد منزلته فى الفضل ، (لَمَيِّتُونَ) : لصائرون إلى الموت لا محالة ، كما يؤذن به صيغة الصفة ، وقرىء «لمائتون» ، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : عند النفخة ، (تُبْعَثُونَ) فى قبوركم للحساب والمجازاة ، فإن قلت : لم أكدّ الأول بإنّ واللام ، وعبّر بالاسم دون الثاني ، الذي هو البعث ، والمتبادر للفهم العكس ؛ لأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث أنكره الكفار والحكماء؟ فالجواب كما قال ابن عرفة : إنه من حمل اللفظ على غير ظاهره ، مثل :

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بنى عمّك فيهم رماح

فهم ، لعصيانهم ومخالفتهم ، لم يعملوا للموت ، فحالهم كحال المنكر لها ، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يرتاب فيه. ه.

الإشارة : اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية ، من الضعف والقوة شيئا فشيئا ، باعتبار قوة اليقين والترقي إلى العلم بالله ومشاهدته ، فتكون أولا صغيرة العلم ، ضعيفة اليقين ، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح ؛ فقوت القلوب : العمل الظاهر ، وقوت الأرواح : العمل الباطن ، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئا فشيئا حتى تقوى على كمال غايته ، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن ؛ كالذكر القلبي ، والتفكر والاعتبار ، وجولان القلب فى ميادين الأغيار ، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار ، ثم يفتح لها ميادين الغيوب ، ويوسع عليها فضاء الشهود ، فيكون قوتها حينئذ رؤية المحبوب ، وهو غاية المطلوب ، فتبلغ مبلغ الرجال ، وتحوز مراتب الكمال ، ومن لم يبلغ هذا بقي فى مرتبة الأطفال ، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر ، يعالجها ويربيها ، وينقلها من طور إلى طور ، وإلّا بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات ، وهى لا تشبع ولا تغنى من جوع. وبالله التوفيق.

ولمّا ذكر ابتداء الإنسان وانتهاءه ، ذكّره بنعمه ، أو تقول : لما ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال :

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ

__________________

(١) انظر روح المعاني (١٨ / ١٦).

٥٦٦

مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

قلت : «سيناء» ، من فتحها : جعل همزتها للتأنيث ، فلم يصرفه ؛ للتأنيث والوصف ، كحمراء ، أو لألف التأنيث ، لقيامه مقام علتين ، ومن كسرها : لم يصرفه ؛ للتعريف والعجمة ، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث ، وإنما ألفه ألف الإلحاق ، كعلباء وجرباء. ونبت وأنبت : لغتان بمعنى واحد ، وكذلك سقى وأسقى.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) ، وهى السموات السبع ، جمع طريقة ؛ لأنها طرق الملائكة وتقلباتها ، وطرق الكواكب ، فيها مسيرها ، (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) ، أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها ، أو الناس ، أي : خلقناها فوقكم ؛ لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات ، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم ، أو : خلقناها فوقكم ، وما حالت بيننا وبينكم ، بل نحن أقرب إليكم من كل شىء ، فلا نغفل عن شىء من أمركم ، قلّ أو جلّ.

(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) هو المطر ، وقيل : الأنهار النازلة من الجنة ، وهى خمسة : سيحون نهر الهند ، وجيحون نهر بلخ ، ودجلة والفرات نهرا العراق ، والنيل نهر مصر ، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة. ه. وقوله تعالى : (بِقَدَرٍ) أي : بتقدير ، يسلمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة ، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة ، أو : بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص ، (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي : جعلناه ثابتا قارا فيها ، كقوله : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (١) ، فماء الأرض كله من السماء ، (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ) أي : إزالته بالإفساد والتغوير ، بحيث يتعذر استنباطه ، (لَقادِرُونَ) كما كنا قادرين على إنزاله ، وفى تنكير «ذهاب» : إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة فى الإيعاد به ، ولذلك كان أبلغ من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٢).

ثم ذكر نتائجه ، فقال : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ) أي : بذلك الماء (جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، لَكُمْ فِيها) أي : فى الجنات ، (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب ، (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : من الجنات تأكلون

__________________

(١) من الآية ٢١ من سورة الزمر.

(٢) الآية ٣٠ من سورة الملك.

٥٦٧

تغذيا وتفكها ، أو ترزقون وتحصّلون معايشكم ، من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون ، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب ، أي : لكم فى ثمرتها أنواع من الفواكه ، الرطب والعنب ، والتمر والزبيب ، والعصير والدّبس ، (١) وغير ذلك ، وطعاما تأكلونه.

(وَ) أنبتنا به (شَجَرَةً) هى الزيتون (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) ، وهو جبل موسى عليه‌السلام بين مصر وأيلة ، وقيل : بفلسطين ، ويقال : فيه طور سينين ، فإمّا أن يكون الطور اسم الجبل ، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما علم له ، كامرىء القيس ، وتخصيصها بالخروج منه ، مع خروجها من سائر البقع ، إما لتعظيمها ، أو لأنه المنشأ الأصلى لها ؛ لأن أصل الزيتون من الشام ، وأول ما نبت فى الطور ، ومنه نقل إلى سائر البلاد ، (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي : متلبسة بالدهن ، أي : ما يدهن به ، وهو الزيت ، (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) أي : إدام لهم ، قال مقاتل : جعل الله فى هذه إداما ودهنا ، فالإدام : الزيتون ، والدهن : الزيت. وقيل : هى أول شجرة تنبت بعد الطوفان ، وخص هذه الأنواع الثلاثة ؛ لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها.

(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) ، جمع نعم ، وهى الإبل والبقر والغنم ، (لَعِبْرَةً) تعتبرون بها ، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة الله تعالى ، وسابغ نعمته ، وتشكرونه عليه ، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان سائغة للشاربين ، أو مما استقر فى بطونها من العلف ؛ فإنّ اللبن يتكون منه ، (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) ، سوى الألبان ، وهى منافع الأصواف والأوبار والأشعار. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : من لحومها ، (وَعَلَيْها) أي : على الأنعام فى البر ، (وَعَلَى الْفُلْكِ) فى البحر (تُحْمَلُونَ) فى أسفاركم ومتاجركم ، والمراد بالأنعام فى الحمل الإبل ؛ لأنها هى المحمول عليها فى البر ، فهى سفائن العرب ، كما قال ذو الرمة :

سفينة برّ تحت خدّى زمامها

يريد ناقته. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب ، فمن خرقها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا ، وهى حجاب المعاصي والذنوب ، وحجاب النقائص والعيوب ، وحجاب الغفلات ، وحجاب العوائد والشهوات ، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات ، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات ، وحجاب حس الكائنات ، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة ، والأنس بالله والغيبة عما سواه ، ارتفعت عنه الحجب ، ووصل

__________________

(١) الدّبس : عسل التمر وعصارته .. انظر اللسان (دبس ٢ / ١٣٢٣).

٥٦٨

إلى المحبوب. قال الورتجبي : أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة. ه. وقال القشيري : الحق ـ سبحانه ـ لا يستتر من رؤيته مدرك ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية ، وإنما الحجب على أبصار الخلق وبصائرهم ، والعادة جارية أنه لا يخلق لنا الإدراك لما وراء الحجب ، ولذلك أدخلت الغفلة القلوب ، واستولى عليها الذهول ، سدّت بصائرها ، وغيبت فهومها ، ففوقها حجب ظاهرة وباطنة ، ففى الظاهر : السموات حجب تحول بيننا وبين المنازل العالية ، وعلى القلوب أغشية وأغطية ، كالشهوة والأمنية ، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة.

ثم ذكر أن طرائق المريدين الفترة ، وطرائق الزاهدين ترك عروق الرغبة. قال : وأما العارفون فربما تظلّهم فى بعض أحيانهم وقفة فى تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق ، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّل الحقّ ـ سبحانه ـ عليهم بكفاية ذلك ، فيجدون نفاذا ، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق ، وفى جميع ذلك فالحق ـ سبحانه ـ غير تارك للعبد ولا غافل عن الخلق. ه.

وقوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي : وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية ، بل بعثنا الرسل ، وفى أثرهم العارفين الربانيين ، يخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق ، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق. وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني ، فأسكناه فى أرض النفوس والقلوب ، بقدر ما سبق لكل قلب منيب ، وإنا على ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون. ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، فأنشأنا بذلك العلم فى قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان ، وأعناب خمرة العيان ، لكم فيها فواكه كثيرة ، أي : تمتع كثير بلذة الشهود ، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم ، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية ، التي هى محل المناجاة ، كطور موسى ، أي : تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح ، تنبت فى القلب بدهن الذوق والوجد ، وصبغ للآكلين ، أي : المريدين الآكلين من تلك الشجرة ، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) ، قال القشيري : الإشارة فيه : أنّ الكدورات الناجمة المتراكمة لا عبرة بها ولا مبالاة ، فإنّ اللّبن الخالص السائغ يخرج من أخلاف الإبل والأنعام ، من بين ما ينطوى حواياها عليها من الوحشة ، ولكنه صاف لم يؤثر فيها بحكم الجوار ، والصفا يوجد أكثره فى عين الكدورة ؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حقّ ولا باطل. ومن أشرف على سرّ التوحيد تحقّق بأنّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسقط عنه كلفة التمييز ؛ فالأسرار عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو ، (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) لازمة لكم ، ومتعدية منكم إلى كلّ متصل بكم. انتهى على لحن فيه ، فتأمله.

ولما دكّرهم بالنعم ، ذكر من قابلها بالكفران فهلك ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣)

٥٦٩

فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

قلت : ذكر فى الحاشية وجوها من المناسبة ، فقال : لمّا استطرد ذكر الفلك ناسب ذكر نوح إثره ، لقوله : (اصْنَعِ الْفُلْكَ) ، وأيضا : هو أبو البشر الثاني ، فذكر كما ذكر أولا آدم ، فى ذكر خلق الإنسان ، وأيضا فى ذكر نجاة المؤمنين وفلاحهم ، فناسب صدر السورة ، وهلاك الكافر وهو ضد المؤمن ، كما صرح بذلك فى قوله فى آخرها : (إنه لا يفلح الكافرون) ، وفى النجاة فى الفلك مناسبة للنعم المقررة قبل ذكره. ه. (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) : «إن» : مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، واللام فارقة.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) : وتالله لقد أرسلنا (نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ، وقد مرّ فى الأعراف نسبه وكيفية بعثته (١) ، (فَقالَ) لقومه حين أرسل إليهم ، متعطفا عليهم ، ومستميلا لهم إلى الحق : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده ؛ إذ العبادة مع الإشراك لا عبرة بها ، فلذلك لم يقيدها هنا ، وقيدها فى هود ، بقوله : (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) (٢) (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي : مالكم فى الوجود إله يستحق أن يعبد غيره ، فالرفع على المحل ، والجر على اللفظ. (أَفَلا تَتَّقُونَ) ؛ أفلا تخافون عقوبة الله ، الذي هو ربكم وخالقكم ، إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة فى شىء ، أو : أفلا تخافون عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه ، كما يفصح عنه قوله تعالى : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣).

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٥٩ وما بعدها ، من سورة الأعراف.

(٢) من الآية ٢٦ من سورة هود.

(٣) الآية ٥٩ من سورة الأعراف.

٥٧٠

(فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي : أشرافهم لعوامهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فى الجنس والوصف ، يأكل ويشرب مثلكم ، من غير فرق بينكم وبينه ، (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل عليكم ، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحجر ، ولم يرضوا بنبوة البشر. ثم قالوا : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : لو شاء الله إرسال الرسل لأرسل رسلا من الملائكة. وإنما قال : لأنزل ولم يقل : لأرسل ؛ لأنّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال ، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال ، أي : لو شاء ربنا إنزال شىء من الوحى لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا ، (ما سَمِعْنا بِهذا) أي : بمثل هذا الكلام ، الذي هو الأمر بعبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ، أو : ما سمعنا بأنّ البشر يكون رسولا ، أو بمثل نوح عليه‌السلام فى دعوى النبوة ، (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي : الماضين قبل بعثة نوح عليه‌السلام. وإنما قالوا ذلك ؛ إما من فرط عنادهم ، أو لأنهم كانوا فى فترة متطاولة ، وقيل : معناه : ما سمعنا به أنه نبى ، (إِنْ هُوَ) أي : ما هو (إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي : جنون ، أو جن يخبلونه ، ولذلك يقول ما يقول. (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) أي : انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلى أمره ، فإن أفاق من جنونه ، وإلا قتلتموه.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ، لمّا أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال عليه‌السلام ، بعد ما سمع هذه الأباطيل؟ فقيل : قال ، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب ، وتمادوا فى الغواية والضلال ، حتى أيس من إيمانهم بالكلية ، وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن : (رَبِّ انْصُرْنِي) بإهلاكهم بالمرة ، فهو حكاية إجمالية لقوله : (لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١). (بِما كَذَّبُونِ) ؛ بسبب تكذيبهم إياى ، أو بدل تكذيبهم ، كقولك : هذا بذلك ، أي : بدل ذاك ، والمعنى : أبدلنى من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم.

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) ؛ أجبنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) أي : ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا ، كأنّ معك حفاظنا يكلؤونك بأعينهم ، لئلا يتعرض لك أحد ، يفسد عملك ، ومنه قولهم : عليه من الله عيون كالئة ، (وَوَحْيِنا) أي : أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها. روى : أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وفى القاموس جؤجؤ ـ كهدهد ـ : الصدر. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي : عذابنا بأمرنا ، (وَفارَ التَّنُّورُ) أي : فار الماء من تنور الخبز ، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق ؛ ليكون أبلغ فى الإنذار والاعتبار. روى أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور ؛ فاركب أنت وأهلك السفينة ، فلما نبع الماء من التنور ؛ أخبرته امرأته ، فركب ، وكان

__________________

(١) من الآية ٢٦ من سورة نوح.

٥٧١

التنور تنور آدم ، فصار إلى نوح ، وكان من حجارة. واختلف فى مكانه ، فقيل : فى مسجد الكوفة عن يمين الداخل ، وقيل : بالشام ، وقيل : بالهند.

فإذا فار (فَاسْلُكْ فِيها) : فأدخل فى السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ؛ من كل أمة اثنين مزدوجين ، ذكر وأنثى. قال الحسن : لم يحمل نوح فى السفينة إلا ما يلد ويبيص ، فأما البق والدود والذباب ، فلم يحمل منه شيئا ، وإنما يخرج من الطير. ه. (وَ) احمل فى السفينة (أَهْلَكَ) ؛ نساءك وأولادك ، أو من آمن معك ، (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي : القول من الله بهلاكه ، وهو ابنه وإحدى زوجتيه ، وإنما جىء بعلى ؛ لكون السابق ضارا ، كما جىء باللام فى قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ...) (١) ، (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (٢) ؛ لكونه نافعا ، ونحوه : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (٣) ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) أي : لا تسألنى نجاة الذين كفروا ، إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة ؛ لظلمهم بالإشراك والإصرار ، ومن هذا شأنه لا يشفع له ، وكأنه عليه‌السلام ندم على الدعاء عليهم ، حين تحقق هلاكهم ، فهمّ بمراجعة الحق فيهم ؛ شفقة ورحمة ، فنهى عن ذلك.

ثم قال له : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) ؛ فإذا تمكنتم عليها راكبين (فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم على طريق : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤). ولم يقل : فقولوا ، وإن كان أهله ومن معه قد استووا معه ؛ لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة.

(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) فى السفينة ، أو منها (مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي : إنزالا مباركا ، أو موضع إنزال يستتبع خيرا كثيرا ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ؛ خير من ينزل فى كل خير ، أمر عليه‌السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عليه تعالى ، توسلا به إلى إجابة دعائه ، فالبركة فى السفينة : النجاة فيها ، وبعد الخروج منها : كثرة النسل وتتابع الخيرات ، (إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما فعل بنوح وقومه (لَآياتٍ) : لعبرا ومواعظ ، (وَإِنْ كُنَّا) أي : وإن الشأن والقصة كنا (لَمُبْتَلِينَ) : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو : مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويذّكر ، كقوله : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٥). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ١٠١ من سورة الأنبياء.

(٢) الآية ١٧١ من سورة الصافات.

(٣) من الآية ٢٨٦ من سورة البقرة.

(٤) الآية ٤٥ من سورة الأنعام.

(٥) الآية ١٥ من سورة القمر.

٥٧٢

الإشارة : تقدمت إشارة هذه القصة مرارا بتكررها ، وفيها تسلية لمن أوذى من الأولياء بقول قبيح أو فعل ذميم. وقال القشيري فى قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) : الإنزال المبارك : أن تكون بالله ولله على شهود الله ، من غير غفلة عن الله ، ولا مخالفة لأمر الله. ه.

ثم ذكر قصة هود أو صالح ، فقال :

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١))

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) ؛ من بعد قوم نوح (قَرْناً) أي : قوما (آخَرِينَ) هم عاد قوم هود ، حسبما روى عن ابن عباس ، ويشهد له قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) (١) ، ومجىء قصة هود على إثر قصة نوح فى الأعراف وهود والشعراء ، ونقل ابن عطية عن الطبري : أن المراد بهم ثمود قوم صالح ، قال : والترتيب يقتضى قوم عاد ، إلّا أنهم لم يهلكوا بالصيحة ، بل بالريح. قال فى الحاشية : والظاهر أنهم صالح. كما قاله الطبري. وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب ، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود ، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد. ثم قال : وفى السيرة : عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وثمود بن عابر بن أرم بن سام بن نوح. ه.

__________________

(١) من الآية ٦٩ من سورة الأعراف.

٥٧٣

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ) ، الإرسال يعدّى بإلى ، ولم يعدّ بهاهنا وفى قوله : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ) (١) ، (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) (٢) ؛ لأن الأمة والقرية جعلت موضعا للإرسال ، إيذانا بأن المرسل إليهم لم يأتيهم من غير مكانهم ، بل إنما نشأ بين أظهرهم ، كما ينبىء عنه قوله : (رَسُولاً مِنْهُمْ) أي : من جملتهم نسبا ، وهو : هود أو صالح ، فإنهما ـ عليهما‌السلام ـ كانا منهم. قائلا لهم : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) عذابه ، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.

(وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) ، ذكر مقال قوم هود ، فى جوابه ، فى الأعراف وهود بغير «واو» ؛ لأنه على تقدير سؤال سائل ، قال : فما قال قومه؟ فقيل : قالوا : كيت وكيت ، وهنا مع الواو ؛ لأنه عطف لما قالوه على ما قاله الرسول ؛ ومعناه : حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق ، وليس بجواب للنبى متصل بكلامه ، وجىء بالفاء فى قصة نوح عليه‌السلام ؛ لأنه جواب لقوله ، واقع عقبه ، أي : وقال الأشراف من قومه (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وصفوا بالكفر ؛ ذمّا لهم ، وتنبيها على غلوّهم فيه ، (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) أي : بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية ، (وَأَتْرَفْناهُمْ) : نعّمناهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بكثرة الأموال والأولاد ، أي : قالوا لأتباعهم ، مضلين لهم : ما هذا النبي (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فى الصفة والأحوال ، والاحتياج إلى القوام ، ولم يقولوا : مثلنا ؛ تهوينا لأمره عليه‌السلام.

ثم فسر المثلية بقوله : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) أي : منه ، فحذف ؛ لدلالة ما قبله عليه ، (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) بالانقياد لمثلكم ، ومن حمقهم أنهم أبو اتّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) ـ بالكسر والضم ـ ؛ من مات يمات ويموت ، (وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) نخرة ، (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) ، فأنكم الثانية ، توكيد للأولى ؛ للفصل بينهما ، والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم ترابا وعظاما؟ (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) ، تكرير ؛ لتأكيد البعد ، وهو اسم فعل مبنى على الفتح ، واقع موقع بعد ، فاعلها مضمر ، أي : بعد التصديق أو الوقوع (لِما تُوعَدُونَ) من العذاب ، أو فاعلها : «ما توعدون» ، واللام زائدة ، أي : بعد ما تعدون من البعث ، وقيل : ما توعدون من البعث. وقيل : مبتدأ ، وهما اسم للبعد ، و (لِما تُوعَدُونَ) : خبر ، أي : بعد بعد لما توعدون ، (إِنْ) : ما (هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) ، والضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما بعده من بيانه ، وأصله : إن الحياة إلا حياتنا ، وأتى بالضمير ؛ حذرا من التكرير ، أي : لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ، ودنت منا ، (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي : يموت بعضنا ويولد بعض ، إلى انقراض العصر ، (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد

__________________

(١) من الآية ٣٠ من سورة الرعد.

(٢) من الآية ٩٤ من سورة الأعراف.

٥٧٤

الموت ، (إِنْ) ؛ ما (هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) فيما يدّعيه من الإرسال ، وفيما يعدنا من البعث ، (وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) : بمصدّقين بما يقول.

(قالَ) هود ، أو صالح ـ عليهما‌السلام ـ بعد ما سلك فى دعوتهم كل مسلك ، متضرعا إلى الله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم ، وانتقم منهم (بِما كَذَّبُونِ) أي : بسبب تكذيبهم إياى وإصرارهم عليه ، (قالَ) تعالى ؛ إجابة لدعائه : (عَمَّا قَلِيلٍ) أي : عن زمان قليل ، زيدت «ما» ، بين الجار والمجرور ؛ لتأكيد معنى القلة ، أو نكرة موصوفة ، أي : عن شىء قليل (لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) عما فعلوا من التكذيب ، وذلك عند معاينتهم العذاب.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) ، لعلهم ، حين أصابتهم الريح العقيم ، أصيبوا فى تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها : صرير الريح وصوته. وقد روى أن شدّادا حين أتم بناء إرم ، سار إليها بأهله ، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء ، فهلكوا ، وقيل : الصيحة : العذاب المصطلم ، قال الشاعر :

صاح الزّمان بآل فدك صيحة

خرّوا ؛ لشدّثها ، على الأذقان

وإذا قلنا : هم قوم صالح ، فالصيحة صيحة جبريل عليه‌السلام ، صاح عليهم فدمرهم. وقوله : (بِالْحَقِ) أي : بالعدل من الله ، يقال : فلان يقضى بالحق ، أي : بالعدل ، أو : أخذتهم بالحق ، أي : بالأمر الثابت الذي لا دفاع له ، (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) أي : كغثاء السيل ، وهو ما يحمله من الورق والحشيش ، شبههم فى دمارهم بالغثاء ، وهو ما يرميه السيل ، من حيث إنهم مرمىّ بهم فى كل جانب وسهب. (فَبُعْداً) : فهلاكا ، يقال بعد بعدا ، أي : هلك هلاكا ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها ، أي : فسحقا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، وهو إخبار ، أو دعاء ، واللام ؛ لبيان من دعى عليه بالبعد ، كقوله : (هَيْتَ لَكَ) (١). والله تعالى أعلم.

الإشارة : من عادة الحق ـ سبحانه ـ ، إذا أكب الناس على دنياهم ، واتخذوا إلههم هواهم ، بعث من يذكرهم بالله ، فيقول لهم : اعبدوا الله ، ما لكم من إله غيره ، أي : أفردوه بالمحبة ، واقصدوه بالوجهة ، فما عبد الله من عبد هواه ، فيقول المترفون ، وهم المنهمكون فى الغفلة ، المحجوبون بالنعمة عن المنعم ، الذين اتسعت دائرة حسهم : ما هذا الذي يعظكم ، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم ، إلا بشر مثلكم ، يأكل مما تأكلون ، ويشرب مما تشربون ، ومادروا أنّ وصف البشرية لا ينافى وجود الخصوصية ، فإذا تمادوا فى غفلتهم ، وأيس من هدايتهم ، ربما دعا عليهم ، فأصبحوا نادمين ، حين لا ينفعهم الندم ، وذلك عند نزول هواجم الحمام. وبالله التوفيق.

(ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

__________________

(١) من الآية ٢٣ من سورة يوسف.

٥٧٥

قلت : القرن : أهل العصر ، سموا به ؛ لقران بعضهم البعض ، و (تَتْرا) : حال ، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى ، وهو من الوتر ، واحدا بعد واحد ، فالتاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : وترى ، كتراث وتقوى ، والألف للتأنيث ، باعتبار أن الرسل جماعة ، ومن نوّنه جعله كأرطى ومعزى ، فيقال : أرطى ومعزى ، وقيل : مصدر بمعنى فاعل ، أي : متتابعين.

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد قوم هود ، (قُرُوناً آخَرِينَ) ؛ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ، (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) ، «من» : صلة ، أي : ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة (أَجَلَها) الذي عيّن لهلاكها فى الأزل ، (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عنه ساعة. (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) ، عطف على «أنشأنا» ، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة ، وما بينهما اعتراض ، والمعنى : ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به ، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم أجلها المضروب لهلاكهم ؛ للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجه إجمالي.

وقوله : (تَتْرا) أي : متواترين واحدا بعد واحد ، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضا ، (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) ، الرسول يلابس المرسل والمرسل إليه ، والإضافة تكون بالملابسة ، فأضافهم أولا إلى نون العظمة ، وهنا إلى المرسل إليهم ؛ للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم ، حيث كذبت كلّ أمة رسولها المعين لها ، وعبّر عن التبليغ بالمجيء ؛ للإيذان بأنهم كذبوه فى الملاقاة الأولى ، (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) فى الهلاك ، كما تبع بعضهم بعضا فى الكفر والتكذيب ، الذي هو سبب الهلاك ، (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) ؛ أخبار ، يسمر بها ويتعجب منها ، أي : لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون ، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه : أحاديث النبي ـ عليه الصلاة السّلام ـ ويكون جمعا للأحدوثة ، وهى ما يتحدث به الناس ؛ تلهيا وتعجبا ، وهو المراد هنا ، (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) به وبرسله ، اقتصر هنا على عدم إيمانهم ، وأما القرون الأولى ، فحيث نقل عنهم ما مرّ من العتو وتجاوز الحد فى الكفر والعدوان ، وصفهم بالظلم. والله تعالى أعلم وأحكم.

الإشارة : كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة ، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية ، وإزعاج لها عن أسباب الهلاك ، وإنهاض لها إلى العمل الصالح ، لتكون أحاديث حسانا بين الأمم ، فكل إنسان ينبغى له أن يجتهد فى تحصيل الكمالات العلمية والعملية ، ليكون حديثا حسنا لمن بعده ، كما قال القائل :

ما المرء إلا حديث من بعده

فكن حديثا حسنا لمن وعا

وقال آخر : وما المرء إلا كالشّهاب وضوءه

يحور رمادا بعد ما هو ساطع

وما المال والأهلون إلا وديعة

ولا بدّ يوما (١) أن تردّ الودائع

وبالله التوفيق ،

__________________

(١) فى الأصول : ولا بد من يوم.

٥٧٦

ثم ذكر رسالة موسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ فقال :

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

قلت : «هارون» : بدل من «أخاه».

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) التسع ؛ من اليد ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، ونقص الثمرات ، والطاعون. ولا مساغ لعدّ فلق البحر منها ؛ إذ المراد الآيات التي كذبوها واستكبروا عنها ، بدليل ما بعدها. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) ؛ وحجة واضحة ملزمة للخصم الإقرار بما دعى إليه ، وهى إمّا العصا ، وإفرادها بالذكر مع اندراجها فى الآيات ؛ لأنها أبهر آياته عليه‌السلام ، وقد تضمنت معجزات شتى ؛ من انقلابها ثعبانا ، وتلقفها ما أفكته السحرة ، كما تقدم. وأما التعرض لانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر ؛ بضربها ، وحراستها ، وصيرورتها شمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ودلوا ورشاء ، وغير ذلك مما ظهر منها فى غير مشهد فرعون وقومه ، فغير ملائم لمقتضى المقام ، وإمّا ما أتى به من الحجج الباهرة ، فيشمل ما تقدم وغيره.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : أشراف قومه ، خصهم بالذكر ؛ ليرتب عليه ما بعده من قوله : (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد وتمردوا. تكبرا وترفعا ، (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) : متكبرين ، متمردين ، (فَقالُوا) ، فيما بينهم ، على طريق المناصحة : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) ، «مثل» و «غير» يوصف بها الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ، والبشر يطلق على الواحد ، كقوله : (بَشَراً سَوِيًّا) (١) ، وعلى الجمع ، كقوله : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٢) ، وأراد به هنا الواحد ، فثناه ، أي : كيف نؤمن لبشرين مثلنا فى العجز والافتقار ، (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي : خادمون منقادون لنا كالعبيد ، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بهما ـ عليهما‌السلام ـ ، وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية ، بناء على زعمهم الفاسد ، من قياس الرئاسة الدينية على الرئاسات الدنيوية ، الدائرة على التقدم فى نيل الحظوظ الدنيوية ، من المال والجاه ، كدأب قريش ، حيث قالوا : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٣). (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٤). وعلى جهلهم بأن مناط الاصطفاء

__________________

(١) من الآية ١٧ من سورة مريم.

(٢) من الآية ٢٦ من سورة مريم.

(٣) الآية ١١ من سورة الأحقاف.

(٤) الآية ٣١ من سورة الزخرف.

٥٧٧

للرسالة هو السبق فى حيازة النعوت العلية ، وإحراز الكمالات السنية ، جبلّة أو اكتسابا ، (فَكَذَّبُوهُما) أي : فتمادوا على تكذيبهما ، وأصروا ، واستكبروا استكبارا ، (فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) بالغرق فى بحر القلزم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا) بعد إهلاكهم ، وإنجاء بنى إسرائيل من ملكهم واسترقاقهم ، (مُوسَى الْكِتابَ) : التوراة ، ولمّا نزلت لإرشاد قومه جعلوا كأنهم أوتوها ، فقيل : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام ، وقيل : على حذف مضاف ، أي : آتينا قوم موسى ، كقوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) (١) ، أي : من آل فرعون وملئهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من طرد وأبعد عن ساحة رحمة الله تعالى والوصول إليه ، فإنما سببه التكبر والعلو ، وكل من قرب ووصل إلى الله فإنما سببه التواضع والحنو ، ولذلك ورد : «لا يدخل الجنّة من كان فى قلبه مثقال ذرّة من كبر» (٢). وحقيقة الكبر : بطر الحقّ وغمط النّاس ، أي : إنكار الحق واحتقار الناس ، وفى مدح التواضع والخمول مالا يخفى. فمن تواضع ، دون قدره ، رفعه الله فوق قدره ، فالتواضع مصيدة الشرف ، به يصطاد وينال ، ومن أوصاف أهل الجنة : «كل ضعيف مستضعف ، لو أقسم على الله لأبره فى قسمه» (٣) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد ، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافى أوصاف البشرية ، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية ، فأسقط من لا رئاسة له فى الظاهر ولا جاه ، أو لعدم ظهور الكرامة ، وهى غير مطلوبة عند المحققين. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر عيسى عليه‌السلام ، فقال :

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) دالة على كمال قدرتنا ؛ بولادته منها من غير مسيس بشر ، ووحّدها ؛ لأن الأعجوبة فيهما واحدة. أو المراد : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ، فحذفت الأولى ؛ لدلالة الثانية عليها ، أي : وجعلنا ابن مريم وحده ، من غير أن يكون له أب ، آية ، وأمه ، من حيث إنها ولدت من غير ذكر ، آية ، وتقديمه عليه‌السلام ؛ لأصالته فيما ذكر من كونه آية ، كما أن تقديم أمه فى قوله تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٤) ، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ.

__________________

(١) من الآية ٨٣ من سورة يونس.

(٢) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه) عن عبد الله بن مسعود. رضى الله عنه.

(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٣ / ١٤٥) من حديث أنس بن مالك. وأخرجه ابن ماجة فى (الزهد ، باب من لا يؤبه به) من حديث معاذ بن جبل ، بلفظ : «ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟» قلت : بلى ، قال : رجل ضعيف مستضعف ، ذو طمرين ، لا يؤبه ، لو أقسم على الله لأبره».

(٤) الآية ٩١ من سورة الأنبياء.

٥٧٨

(وَآوَيْناهُما) أي : جعلنا مأويهما ومنزلهما (إِلى رَبْوَةٍ) أي : أرض مرتفعة ، وهو بيت المقدس ؛ فإنها كبد الأرض ، وأقرب الأرض إلى السماء ، بمعنى أنه يزيد علوها على علو الأرض ، فينتقص بعدها عن السماء عن بعد غيرها منها بثمانية عشر ميلا ، كما جاء ، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر ، وكون الإسراء وقع منها. قاله المحشى ، وقيل : دمشق ، وقيل : فلسطين ، والرملة. (ذاتِ قَرارٍ) ؛ مستقر من الأرض ، مستوية ، منبسطة ، سهلة ، أو ذات ثمار ، يستقر ؛ لأجل ثمارها ، ساكنوها فيها ، (وَمَعِينٍ) أي : ماء معين ، ظاهر ، جار ، فقيل : من معن ، إذا جرى ، أو مدرك بالعين لظهوره ، من عانه ، إذا أدركه بعينه ، أو من الماعون ، وهو النفع ؛ لأنه نفاع لظهوره وجريه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كان عيسى عليه‌السلام منقطعا عن هذا العالم ، متبتلا زاهدا ، لم يتخذ فى هذه الدنيا قرارا ، ولم يبن فيها مسكنا ولا دارا ، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال. كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات ، فى التبتل والانقطاع ، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء ، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء ، وجعل ، جل جلاله ، أولياءه على قدم أنبيائه ، فمنهم على قدم نوح عليه‌السلام فى القوة ونفوذ الهمة ، مهما دعا على أحد هلك. ومنهم على قدم إبراهيم عليه‌السلام فى الشفقة والرحمة وعلو الهمة ، وتحقيق التوحيد ، وإمام أهل التفريد ، ومنهم على قدم موسى عليه‌السلام فى المناجاة والمكالمة والقوة والعزم ، ومنهم على قدم عيسى عليه‌السلام فى الزهد والانقطاع ، ومنهم على قدم نبينا محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ ؛ وهو الجامع لما افترق فى غيره ، وهو قطب الدائرة ، نفعنا الله بهم جميعا.

ولمّا كان جلّ الأنبياء بالشام ، التي هى ذات قرار وأنعام ، أمرهم بالأكل من تلك النعم ، والشكر بالعمل الصالح ، فقال :

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

قلت : (وإن هذه) : من كسره استأنف ، ومن فتحه حذف اللام ، أي : فاتقون ؛ لأنّ هذه ، أو معطوف على ما قبله : (بما تعملون عليم) ، وبأن هذه ، أو بتقدير : واعلموا أن هذه. و (زُبُراً) : حال من : «أمرهم» ، أو من «واو» (تقطعوا) ، و (نسارع) : خبر «أن» ، و «ما» : موصولة.

٥٧٩

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما ؛ لأنهم أرسلوا متفرقين فى أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى : الإعلام بأنّ كل رسول فى زمانه نودى بذلك ، ووصى به ؛ للإيذان بأن إباحة الطيبات شرع قديم ، جرى عليه جميع الرسل ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ ووصّوا به ، أي : وقلنا لكل رسول : كل من الطيبات واعمل صالحا. فعبّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع ؛ للإيجاز ، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات مالا يخفى. قاله أبو السعود. وقيل : خطاب لعيسى عليه‌السلام ؛ لا تصال الآية به ، وكان يأكل من غزل أمه ، وهو من أطيب الطيبات ، وقيل : لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لفضله وقيامه مقام الكل ، وكان يأكل من الغنائم ، وما رزقه الله من غير اختيار على الله ، والجمع : للتعظيم فيهما ، والطيبات : ما يستطاب ويستلذ من مباحات المآكل والفواكه ، حسبما ينبىء عنه سياق النظم الكريم.

(وَاعْمَلُوا) عملا (صالِحاً) ، فإنه المقصود منكم ؛ شكرا لما أسدى إليكم ، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده ، (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال الظاهرة والباطنة ، (عَلِيمٌ) ، فأجازيكم عليه ، وفيه تهديد للمذكورين ، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره؟!

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) (١) أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها (أُمَّةً واحِدَةً) أي : ملة واحدة ، متحدة فى أصول الشرائع ، التي لا تبدل بتبدل الأعصار ، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد. (وَأَنَا رَبُّكُمْ) من غير أن يكون لى شريك فى الربوبية ، (فَاتَّقُونِ) : فخافوا عتابى فى مخالفتكم أمرى ، أو فى شق العصا ، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي.

والخطاب للرسل والأمم جميعا ، على أن الأمر فى حق الرسل للتهييج ، وفى حق الأمم للتحذير. قيل : وجاء هنا : «فاتقون» ، الذي هو أبلغ فى التخويف والتحذير من قوله فى الأنبياء : (فَاعْبُدُونِ) (٢) ؛ لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين ، وفى الأنبياء ، وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها ، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام ، فى قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته.

ثم قال تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي : فتفرقوا فى أمر دينهم مع اتحاده ، وجعلوه قطعا متفرقة ، وأديانا مختلفة ، (بَيْنَهُمْ زُبُراً) أي : قطعا ـ جمع زبور ، بمعنى الفرقة ، ويؤيده قراءة من قرأ : (زُبُراً) بفتح الباء ، جمع زبرة ؛ كغرفة ، أي : قطعا مختلفة ، كلّ ينتحل كتابا ، وقيل : جمع زبور ، بمعنى كتاب ، أي : كل فريق يزعم أن له كتابا يتمسك به. وعن الحسن : قطعوا كتاب الله قطعا وحرّفوه ، والأول أقرب ، أي : تفرقوا فى أصل الدين فرقا ،

__________________

(١) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب «وأن» بفتح الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف .. انظر الإتحاف (٢ / ٢٨٥).

(٢) أي : فى قوله تعالى : «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون». الآية ٩٢ من سورة الأنبياء.

٥٨٠