البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

فقد آمن من هو أعلى منكم وأحسن إيمانا منكم. ويجوز أن يكون تعليلا لقل ، على سبيل التسلية للرسول ـ عليه الصلاة السلام ، كأنه يقول : تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ، ولا تكثرت بإيمانهم وإعراضهم.

(وَيَقُولُونَ) فى سجودهم : (سُبْحانَ رَبِّنا) عن خلف وعده ؛ (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) أي : إن الأمر والشأن كان وعد ربنا مفعولا لا محالة ، (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ) كرره ؛ لاختلاف السبب ، فإن الأول : لتعظيم الله وشكر إنجاز وعده. والثاني : لما أثر فيهم من مواعظ القرآن ، (يَبْكُونَ) : حال ، أي : حال كونهم باكين من خشية الله ، (وَيَزِيدُهُمْ) القرآن (خُشُوعاً) ، كما يزيدهم علما بالله تعالى.

الإشارة : وبالحق أنزلناه ، أي بالتعريف بأسرار الربوبية ، وبالحق نزل ؛ لتعليم آداب العبودية. أو : بالحق أنزلناه ، يعنى : علم الحقيقة ، وبالحق نزل علم الشريعة والطريقة. وما أرسلناك إلا مبشرا لأهل الإخلاص بالوصول والاختصاص ، ونذيرا لأهل الخوض بالطرد والبعد. وقرآنا فرقناه ، لتقرأه نيابة عنا ، كى يسمعوه منا بلا واسطة ، عند فناء الرسوم والأشكال ، ونزّلناه ، للتعريف بنا تنزيلا ، قل آمنوا به ؛ لتدخلوا حضرتنا ، أو لا تؤمنوا ، فإن أهل العلم بنا قائمون بحقه ، خاشعون عند تلاوته ، متنعمون بشهودنا عند سماعه منا. وبالله التوفيق.

ولما كان القرآن مشتملا على أسماء كثيرة من أسماء الله الحسنى ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول فى دعائه : «يا الله ، يا رحمن» ، قالوا : إنه ينهانا عن عبادة إلهين ، وهو يدعو إلها آخر. وقالت اليهود : إنك لتقل ذكر الرحمن ، وقد أكثر الله تعالى ذكره فى التوراة ، فأنزل الله ردا على الفريقين :

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ...)

قلت : «أي» : شرطية ، و (ما) : زائدة ؛ تأكيدا لما فى «أيا» من الإبهام ، وتقدير المضاف : أىّ الأسماء تدعو به فأنت مصيب.

يقول الحق جل جلاله : (قُلِ) يا محمد للمؤمنين : (ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ؛ نادوه بأيهما شئتم ، أو سموه بأيهما أردتم. والمراد : إما التسوية بين اللفظين ؛ فإنهما عبارتان عن ذات واحد ، وإن اختلف الاعتبار ، والتوحيد إنما هو للذات ، الذي هو المعبود بالحق ، وإما أنهما سيان فى حسن الإطلاق والوصول إلى المقصود ، فلذلك قال : (أَيًّا ما تَدْعُوا) ؛ أىّ اسم تدعوا به تصب ، (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فيكون الجواب محذوفا ، دلّ عليه الكلام. وقيل : التقدير أياما تدعو به فهو حسن ، فوضع موضعه : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ؛ للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه ؛ إذ حسن جميع الأسماء يستدعى حسن ذينك الاسمين ، وكونها حسنى ؛ لدلاتها على صفات الكمال من الجلال والجمال ؛ إذ كلها راجعة إلى حسن ذاتها ، وكمالها ؛ جمالا وجلالا.

٢٤١

قال فى شرح المواقف : ورد فى الصحيحين : «إنّ لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلّا واحدا ، من أحصاها دخل الجنّة» (١) ، وليس فيها تعيين تلك الأسماء. لكن الترمذي والبيهقي عيّناها. وهى الطريقة المشهورة ، ورواية الترمذي : «الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ المصور ، الغفار القهار ، الوهاب الرزاق ، الفتاح العليم ، القابض الباسط ، الخافض الرافع ، المعز المذل ، السميع البصير ، الحكم العدل ، اللطيف الخبير ، الحليم العظيم ، الغفور الشكور ، العلى الكبير ، الحفيظ المقيت ، الحسيب الجليل ، الكريم الرقيب ، المجيب ، الواسع الحكيم ، الودود المجيد ، الباعث الشهيد ، الحق الوكيل ، القوى المتين ، الولي الحميد ، المحصى المبدئ المعيد ، المحيي المميت ، الحي القيوم ، الواجد الماجد ، الواحد ، الأحد الصمد ، القادر المقتدر ، المقدم المؤخر ، الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الوالي المتعالي ، البر التواب ، المنتقم العفو الرؤوف ، مالك الملك ذو الجلال والإكرام ، المقسط الجامع ، الغنى المغني المانع ، الضار النافع ، النور الهادي ، البديع الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور» (٢).

وقد ورد التوقيف بغيرها ، أمّا فى القرآن ؛ فكالمولى ، والنصير والغالب ، والقاهر والقريب ، والرب والأعلى ، والناصر والأكرم ، وأحسن الخالقين ، وأرحم الراحمين ، وذى الطول ، وذى القوة ، وذى المعارج ، وغير ذلك. وأما فى الحديث ، فكالمنان ، والحنان ، وقد ورد فى رواية ابن ماجة (٣) أسماء ليست فى الرواية المشهورة ؛ كالقائم ، والقديم ، والوتر ، والشديد ، والكافي ، وغيرها.

وإحصاؤها : إما حفظها ؛ لأنه إنما يحصل بتكرار مجموعها وتعدادها مرارا ، وإما ضبطها ؛ حصرا وعلما وإيمانا وقياما بحقوقها ، وإما تعلقا وتخلقا وتحققا. وقد ذكرنا فى شرح الفاتحة الكبير كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها. وفى ابن حجر : أن اسماء الله مائة ، استأثر الله بواحد ، وهو الاسم الأعظم ، فلم يطلع عليه أحدا ، فكأنه قيل : مائة لكن واحد منها عند الله. وقال غيره : ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيا ، بل هو الجلالة. وممن جزم بذلك البيهقي ، فقال : الأسماء الحسنى مائة ، على عدد درجات الجنة ، والذي يكمل المائة : «الله» ، ويؤيده قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٤). فالتسعة والتسعون لله ؛ فهى زائدة عليه وبه تكمل المائة. ه.

__________________

(١) أخرجه البخاري (الدعوات ، باب لله مائة اسم غير واحد) ، ومسلم فى (الذكر ، باب فى أسماء الله تعالى ...) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الترمذي فى (الدعوات ، باب ٨٣). وأخرج البيهقي روايته فى (السنن الكبرى ، كتاب الإيمان ، باب أسماء الله عزوجل ثناؤه) من حديث أبى هريرة.

(٣) أخرجها فى (الدعاء ، باب أسماء الله عزوجل).

(٤) من الآية ١٨٠ من سورة الأعراف.

٢٤٢

قلت : ولعله ذكر اسما آخر يكمل التسعة والتسعين. وإلا فهو مذكور فى الرواية المتقدمة من التسعة والتسعين. والله تعالى أعلم.

الإشارة : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) ، قال الورتجبي : إن الله سبحانه دعا عباده إلى معرفة الاسمين الخاصين ، اللذين فيهما أسرار جميع الأسماء والصفات والذات ، والنعوت والأفعال ؛ فالله اسمه ، وهو اسم عين جمع الجمع ، والرحمن اسم عين الجمع ؛ فالرحمن مندرج تحت اسمه : «الله» ؛ لأنه عين الكل ، وإذا قلت : الله ؛ ذكرت عين الكل. ثم قال : وإذا قال «الله» ؛ يفنى الكل ، وإذا قال : «الرحمن» ؛ يبقى الكل ، من حيث الاتصاف والاتحاد ، فالاتصاف بالرحمانية يكون ، والاتحاد بالألوهية يكون. ثم قال : عن الأستاذ : من عظيم نعمه سبحانه على أوليائه : أنه ينزههم بأسرارهم فى رياض ذكره ؛ بتعداد أسمائه الحسنى ، فيتنقلون من روضة إلى روضة ، ومن مأنس إلى مأنس ، ويقال : الأغنياء تنزههم فى بساتينهم ، وتنزههم فى منابت رياحينهم. والفقراء تنزههم فى مشاهد تسبيحهم ، ويستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله. ه. قلت : والعارفون تنزههم فى مشاهدة أسرار محبوبهم ، وما يكشف لهم من روض جماله وجلاله. وبالله التوفيق.

ثم أمره بإخفاء قراءته عن المشركين ؛ لئلا يسبوا القرآن ومن جاء به ، فقال :

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١))

يقول الحق جل جلاله : (وَلا تَجْهَرْ) بقراءة صلاتك ، بحيث تسمع المشركين ، فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها ، (وَلا تُخافِتْ) أي : تسر (بِها) ؛ حتى لا تسمع من خلفك من المؤمنين ، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ؛ واطلب بين المخافتة والإجهار طريقا قصدا ، فإنّ خير الأمور أوسطها. والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه طريق يتوجه إليه المتوجهون ، ويؤمه المقتدون ليوصلهم إلى المطلوب. روى أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت ، ويقول : أناجى ربّى ، وقد علم حاجتى. وعمر رضي الله عنه كان يجهر ، ويقول : أطرد الشّيطان وأوقظ الوسنان. فلما نزلت ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر أن يجهر قليلا ، وعمر أن يخفض قليلا (١).

وقيل : المعنى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) كلها ، (وَلا تُخافِتْ بِها) بأسرها ، (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ؛ بالمخافتة نهارا والجهر ليلا. وقيل : (بِصَلاتِكَ) ؛ بدعائك. وذهب قوم إلى أنها منسوخة ؛ لزوال علة السب واللغو ؛

__________________

(١) أخرجه بنحوه أبو داود فى (التطوع ، باب فى رفع الصوت بالقراءة فى صلاة الليل) ، والترمذي فى (المواقيت ، باب ما جاء فى قراءة الليل) عن أبى قتادة.

٢٤٣

بإظهار الدين وإخفاء الشرك وبطلانه ؛ فالحمد لله على ذلك كما قال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مدلج ؛ حيث قالوا : عزيز ابن الله ، والمسيح ابن الله ، والملائكة بنات الله. تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ؛ فى الألوهية ؛ كما تقول الثنوية القائلون بتعدد الآلهة. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) أي : لم يكن له ناصر ينصره (مِنَ الذُّلِّ) أي : لم يذل فيحتاج إلى ولي يواليه ؛ ليدفع ذلك عنه. وفى التعرض فى أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة ؛ إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته ، دون غيره ؛ إذ بذلك يتم الكمال ، وما عداه ناقص حقير ، ولذلك عطف عليه : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) عظيما ، وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ فى التنزيه والتمجيد ، واجتهد فى العبادة والتحميد ، ينبغى أن يعترف بالقصور عن حقه فى ذلك. روى أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علّمه هذه الآية : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) إلخ (١). والله تعالى أعلم.

الإشارة : الإجهار بالذكر والقراءة والدعاء ، مباح لأهل البدايات ، لمن وجد قلبه فى ذلك ، وأما النهى الذي فى الآية فمنسوخ ؛ لأن الصحابة ، حين هاجروا من مكة ، رفعوا أصواتهم بالقراءة والتكبير. لكن المداومة عليه من شأن أهل البعد عن الحضرة ، وأما أهل القرب فالغالب عليهم السكوت أو المخافتة ؛ قال تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (٢). وأما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأبى بكر رضي الله عنه بالإجهار قليلا ، وعمر بالخفض قليلا ؛ فإخراج لهم عن مرادهم ؛ تربية لهم. وختم السورة بآية العز ؛ إشارة إلى أن من أسرى بروحه ، أو بجسده إلى الملأ الأعلى كان عاقبته العز والرفعة فى الدارين.

__________________

(١) أخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يلقن الصبى إذا أفصح بالكلام) ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده.

(٢) من الآية ١٠٨ من سورة طه.

٢٤٤

سورة الكهف

مكية. وهى مائة وإحدى عشرة آية ، أو خمس عشرة. ووجه المناسبة لما قبلها : أنه لمّا أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحمد لله على كمال تنزيهه ، أخبر أنه يستحق ذلك لإنعامه بأجلّ النعم ، وهو إنزال الكتاب العزيز ، الذي هو سبب الهداية الموصلة إلى النعيم المقيم. أو تكون تتميما لقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ...) (١) إلخ.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥))

قلت : (قَيِّماً) : حال من الكتاب ، والعامل فيه : (أَنْزَلَ) ، ومنعه الزمخشري ؛ للفصل بين الحال وذى الحال ، واختار أن العامل فيه مضمر ، تقديره : جعله قيّما ، و (لِيُنْذِرَ) : يتعلق بأنزل ، أو بقيّما. والفاعل : ضمير الكتاب ، أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ؛ و (بَأْساً) : مفعول ثان ، وحذف الأول ، أي : لينذر الناس بأسا ، كما حذف الثاني من قوله : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ...) إلخ ؛ لدلالة هذا عليه ، و (مِنْ عِلْمٍ) : مبتدأ مجرور بحرف زائد ، أو فاعل بالمجرور ؛ لاعتماده على النفي ، و (كَلِمَةً) : تمييز.

يقول الحق جل جلاله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : الثناء الجميل حاصل لله ، والمراد : الإعلام بذلك ؛ للإيمان به ، أو الثناء على نفسه ، أو هما معا. ثم ذكر وجه استحقاقه له ، فقال : (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) أي : الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب ، الحقيق باختصاص اسم الكتاب ، وهو جميع القرآن. رتّب استحقاق الحمد على إنزاله ؛ تنبيها على أنه أعظم نعمائه ، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد ، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.

وفى التعبير عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعبد ، مضافا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال ، حيث كان فانيا عن حظوظه ، قائما بحقوقه ، خالصا فى عبوديته لربه.

__________________

(١) الآية ١٠٦ من سورة الإسراء.

٢٤٥

(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ) أي : للكتاب (عِوَجاً) ؛ شيئا من العوج ، باختلاف فى اللفظ ، وتناقض فى المعنى ، وانحراف فى الدعوة. قال القشيري : صانه عن التناقض والتعارض ، فهو كتاب عزيز من ربّ عزيز ، ينزل على عبد عزيز.

(قَيِّماً) : مستقيما متناهيا فى الاستقامة ، معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط ، فهو تأكيد لما دل عليه نفى العوج ، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية ، حسبما تنبئ عنه الصيغة. أو قيّما بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد ، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير ، فيكون وصفا له بالتكميل ، بعد وصفه بالكمال ، أو : قيّما على ما قبله من الكتب السماوية ، وشاهدا بصحتها ومهيمنا عليها. (لِيُنْذِرَ) : ليخوّف الله تعالى به ، أو الكتاب ، والأول أولى ؛ لتناسب المعطوفين بعده ، أي : أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا (بَأْساً) : عذابا (شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) أي : صادرا من عنده ، نازلا من قبله ، فى مقابلة كفرهم وتكذيبهم.

(وَيُبَشِّرَ) ـ بالتشديد والتخفيف ، (الْمُؤْمِنِينَ) : المصدقين به ، (الَّذِينَ يَعْمَلُونَ) أي : العمال (الصَّالِحاتِ) التي تنبثّ فى تضاعيفه (أَنَّ لَهُمْ) أي : بأن لهم فى مقابلة إيمانهم وأعمالهم (أَجْراً حَسَناً) ، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى ، (ماكِثِينَ فِيهِ) أي : فى ذلك الأجر (أَبَداً) على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع فى الصلة ـ أعنى : الذين يعملون ـ ؛ للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها ، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان ؛ إيماء بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.

وتقديم الإنذار على التبشير ؛ لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه ، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) : متعلق بفرقة خاصة ، ممن عمّه الإنذار السابق ، من مستحقى البأس الشديد ؛ للإيذان بكمال فظاعة حالهم ، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم ، أي : وينذر ، من بين سائر الكفرة ، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة ، وهم كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود القائلون : عزير ابن الله ، والنصارى القائلون : المسيح ابن الله.

(ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي : ما لهم باتخاذه الولد شىء من علم أصلا ؛ لضلالهم وإضلالهم ، (وَلا لِآبائِهِمْ) الذين قلدوهم ، فتاهوا جميعا فى تيه الجهالة والضلالة ، أو : ما لهم علم بما قالوا ، أصواب أم خطأ ، بل إنما قالوه ؛ رميا بقول عن عمى وجهالة ، من غير فكر ولا روية ، كقوله تعالى : (خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (١). أو : ما لهم علم بحقيقة ما قالوا ، وبعظم رتبته فى الشناعة ، كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) (٢) ، وهو الأنسب لقوله (كَبُرَتْ كَلِمَةً) أي : عظمت مقالتهم هذه فى الكفر والافتراء ؛ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه ؛ لما فيه من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي : يتفوهون

__________________

(١) الآية ١٠٠ من سورة الأنعام.

(٢) الآيات : ٨٨ ـ ٩٠ من سورة مريم.

٢٤٦

بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها ، (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) : ما يقولون فى ذلك إلا قولا كذبا ، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلا.

الإشارة : من كملت عبوديته لله ، وصار حرا مما سواه ، بحيث تحرر من رق الأكوان ، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان ، أنزل الله على قلبه علم التحقيق ، وسلك به منهاج أهل التوفيق ، منهاجا قيما ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، محفوظا فى باطنه من الزيغ والإلحاد ، وفى ظاهره من الفساد والعناد ، قد تولى الله أمره وأخذه عنه ، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أذن له فى التذكير وقع فى مسامع الخلق عبارته ، وجليت إليهم إشارته ، فبشّر وأنذر ، ورغّب وحذّر ، يبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان ، وبالنظر إلى وجه الرحمن ، وينذر أهل الشرك بعذاب النيران ، وبالذل والهوان ، نعوذ بالله من موارد الفتن.

ولمّا كانت قريش تتفوه بشىء من هذه الكلمات ، التي شنّع الله على من تفوه بها ، وكان عليه الصلاة والسلام يتأسف من ذلك ، خفف عنه ذلك ، وأمره بالتسلى عنهم ، فقال :

(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

قلت : (أسفا) : مفعول من أجله لباخع ، أو حال ، أي : متأسفا ، وجواب «إن» : محذوف ، أي : إن لم يؤمنوا فلعلك باخع نفسك.

يقول الحق جل جلاله : (فَلَعَلَّكَ) يا محمد (باخِعٌ) : مهلك (نَفْسَكَ) وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك ، (عَلى آثارِهِمْ) إذا تولوا عنك ، عند ما تدعوهم إلى الله. شبهه ، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم ، بمن فارقته أعزته ، وهو يتحسر على آثارهم ، ويبخع نفسه وجدا عليهم. (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ) أي : القرآن الذي عبّر عنه فى صدر السورة بالكتاب ، صدر ذلك منك (أَسَفاً) أي : بفرط الحزن والتأسف عليهم.

ثم علل وجه إدبارهم عن الإيمان ، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا ، فقال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ) ؛ من الأشجار والأزهار والثمار ، وما اشتملت عليه من المعادن ، وأنواع الملابس والمطاعم ، والمراكب والمناكح ، (زِينَةً لَها) أي : مبهجة لها ، يستمتع بها الناظرون ، وينتفعون بها مأكلا وملبسا ، ونظرا واعتبارا ، حتى إن الحيّات والعقارب ؛ من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة ، من قبيل المنافع ، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيث دلالته على الصانع ، وكذلك الأزواج والأولاد ، بل هم من أعظم زينتها ، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك (لِنَبْلُوَهُمْ) :

٢٤٧

لنختبرهم ، حتى يظهر ذلك للعيان ، (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أيهم أزهد فيها ، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح ؛ إذ لا عمل أحسن من الزهد فى الدنيا ؛ إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة ، بدنية وقلبية.

قال أبو السعود : وحسن العمل : الزهد فيها ، وعدم الاكتراث بها ، والقناعة باليسير منها ، وصرفها على ما ينبغى ، والتأمل فى شأنها ، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها ، والتمتع بها حسبما أذن الشرع ، وأداء حقوقها ، والشكر على نعمها ، لا جعلها وسيلة إلى الشهوات ، والأغراض الفاسدة ، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء .. انظر بقية كلامه.

(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) ؛ عند تناهى الدنيا ، (صَعِيداً جُرُزاً) أي : ترابا يابسا ، لا نبات فيه ، بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار ، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له ، فلا تستغرب إدبارهم ، إذ لا عقل لهم.

ويحتمل أن يكون تسلية للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق ، فيسلو ، بذلك ، عن إعراضهم ؛ لغيبته فى المصور المدبر عن الصور ، وعن الزينة فى المزيّن ، فالكون مظهر الصفات ومرآتها ، ويغيب فى الذات ـ التي هى معدنها ـ بإفناء الظاهر ، وإفناء الأفعال ، كما نبّه عليه بقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ...) إلخ.

الإشارة : الخصوصية ـ من حيث هى ـ لها بداية ونهاية ، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله ، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون ، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم ، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم ، زيادة فى الهداية لعباد الله ، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها ، وحصل لهم الفناء الأكبر ، لم يحرصوا على شىء ، ولم يتأسفوا من فوات شىء ، لهم ولغيرهم. وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص فى بدايتهم ؛ تكميلا لهم ، وترقية إلى المقام الأكمل.

وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ...) إلخ ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية ، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها ، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها ، فاتته الخصوصية ، وبقي من عوام الناس ، ومن أعرض عنها وعن بهجتها ، وتوجه بقلبه إلى الله ، كان من المخصوصين بها ، المقربين عند الله.

وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، وفى الحديث : «الدنيا مال من لا مال له ، لها يجمع من لا عقل له. وعليها يعادى من لا علم عنده» (١). وفى الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٦ / ٧١) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الزهد / ١٠٦٣٧) عن السيدة عائشة. رضى الله عنها ، بدون العبارة الأخيرة.

٢٤٨

ثم شرع فى قصة أهل الكهف المقصودة بالذات ، فقال

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

قلت : (أَمْ) : منقطعة مقدرة ببل ، التي هى للانتقال من حديث إلى حديث ، لا للإبطال ، والهمزة : للاستفهام عند الجمهور ، وبمعنى «بل» ، فقط ، عند غيرهم ، و (عَجَباً) : خبر كان ، و (مِنْ آياتِنا) : حال منه ، و (إِذْ أَوَى) : ظرف لعجبا ، لا لحسبت ، أو مفعول اذكر ، أي : اذكر هذا الوقت العجيب ، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف ، و (لَنا) و (مِنْ أَمْرِنا) : يتعلق ب (هَيِّئْ) ، و (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) : معلق لنعلم عن المفعولين ؛ لما فيه من معنى الاستفهام ، وهو مبتدأ ، و (أَحْصى) : خبره ، وهو فعل ماض ، و (أَمَداً) : مفعوله.

و (لِما لَبِثُوا) : حال منه ، أو مفعول (أَحْصى) ، واللام زائدة ، و (لِما) : موصولة ، و (أَمَداً) : تمييز ، وقيل : (أَحْصى) : اسم تفضيل ، من الإحصاء بحذف الزوائد ، و (أَمَداً) : منصوب بفعل دل عليه أحصى ، أي : يحصى كقوله :

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (١)

لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به ، إجماعا ، ويجوز أن يكون تمييزا بعد اسم التفضيل.

يقول الحق جل جلاله : (أَمْ حَسِبْتَ) أي : ظننت يا محمد ، والمراد : حسبان أمته (أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ) ، وهو الغار الواسع فى الجبل. واختلف فى موضعه ؛ فقيل : بقرب فلسطين ، وقيل : بالأندلس بمقربة من لوشة فى جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم ، وفيه موتى ، ومعهم كلبهم ، وعليهم مسجد ، وقريب منه بناء يقال له الرّقيم ، قد بقي موضع جدرانه ، وفى تلك الجهة آثار يقال لها : مدينة «دقيوس» ، والله أعلم. وقال ابن جزى : ومما يبعد ذلك ما روى أن معاوية مرّ عليهم ، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل ، هيبة ، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط ، وأيضا : فإن الموتى فى لوشة يراهم الناس ، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر الله فى أهل الكهف. ه.

__________________

(١) هذا عجز : صدره : أكرّ وأحمى للحقيقة منهم ... وهو للعباس بن مرداس ... وقوله : القوانسا : جمع قونس ، وهو أعلى بيضة الرأس. انظر : اللسان (قنس ٥ / ٣٧٥١) ، والمغني لابن هشام (٢ / ٧٠٩).

٢٤٩

والمشهور : أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم ، وكان جعل ذلك الكتاب فى خزانة الملك ، وهو لوح من رصاص أو حجر ، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومهم فقدهم. وقيل : اسم كلبهم.

أي : أظننت أنهم (كانُوا) فى قصتهم (مِنْ) بين (آياتِنا عَجَباً) أي : كانوا عجبا دون باقى آياتنا ، ليس الأمر كذلك. والمعنى : أن قصتهم ، وإن كانت خارقة للعادة ، ليست بعجيبة ، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر من خلق الله تعالى على الأرض ، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة ، بل هى عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري : أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم ، بما أضاف إلى نفسه بقوله : (مِنْ آياتِنا) ، وقلب العادة من قبل الله غير مستنكر ولا مبتدع. ه.

ثم ذكر أول قصتهم ، فقال : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ) : جمع فتى ، وهو الشاب الكامل ، أي : اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف ، هاربين بدينهم ، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم ، ورأسهم «دقيانوس» ، على ما يأتى فى قصتهم. (فَقالُوا) ؛ حين دخلوا الغار : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ) ؛ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات ، (رَحْمَةً) خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء ، (وَهَيِّئْ) : أصلح (لَنا مِنْ أَمْرِنا) الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم ، (رَشَداً) : هداية نصير بها راشدين مهتدين ، أو : اجعل أمرنا كله رشدا وصوابا ، كقولك : لقيت منك أسدا ، فتكون من باب التجريد ، أو : إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب ، وأصل التهيئة : إحداث هيئة الشيء.

(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي : أنمناهم ، شبّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها فى الحجب عن الشعور عند النوم ؛ لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر ، إذ هى الطريقة للتيقظ غالبا. والفاء فى (فَضَرَبْنا) : مثلها فى قوله : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) (١) ، بعد قوله : (إِذْ نادى) ، فإنّ الضرب المذكور ، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال ، والبعث ، وغير ذلك ، إيتاء رحمة لدنّيّة خفية عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية ؛ استجابة لدعوتهم ، أي : فاستجبنا لهم وأنمناهم ، (فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي : ذوات عدد ، أو تعدّ عددا ، أو معدودة ، ووصف السنين بذلك : إمّا للتكثير ، وهو الأنسب بكمال القدرة ، أو التقليل ، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من سائر الآيات العجيبة ؛ فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.

__________________

(١) من الآية ٩٠ من سورة الأنبياء.

٢٥٠

(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) ؛ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت ، (لِنَعْلَمَ) علم مشاهدة ، أي : ليتعلق علمنا تعلقا حاليا كتعلّقه أولا تعلقا استقباليا ، (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) : الفريقين المختلفين فى مدة لبثهم المذكور فى قوله : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً ...) إلخ ، (أَحْصى) أي : أضبط (لِما لَبِثُوا) : للبثهم ، (أَمَداً) أي : غاية ، فيظهر بذلك عجزهم ، ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، من حفظ أبدانهم وأديانهم ، فيزدادوا يقينا بكمال قدرته وعلمه ، وليتيقنوا به أمر البعث ، ويكون ذلك لطفا بمؤمنى زمانهم ، وآية بينة لكفارهم ، وعبرة لمن يأتى بعدهم ، فهذه حكم إيقاظهم بعد نومهم ، والله عليم حكيم.

الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته ، وآوى إلى كهف رعايته ، وأيس من رفق مخلوقاته ، أن يكلأه بعين عنايته ، ويرعاه بحفظ رعايته ، ويغيّب سمع قلبه عن صوت الأكدار ، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار ، حين انحاشوا إلى حمى رحمته المانع ، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.

ثم تمّم قصتهم ، فقال :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

قلت : (بِالْحَقِّ) : إما صفة لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير (نَقُصُّ) ، أو من (نَبَأَهُمْ) ، أو صفة له ، على رأى من يرى حذف الموصول مع بعض صلته ، أي : نقصّ قصصا ملتبسا بالحق ، أو نقصه متلبسين بالحق ، أو نقص نبأهم ملتبسا بالحق ، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق. و (إِذْ قامُوا) : ظرف لربطنا ، و (شَطَطاً) : صفة لمحذوف ، أي : قولا شططا ، أي : ذا شطط ، وصف به ؛ للمبالغة. و (هؤُلاءِ) : مبتدأ ، وفى اسم الإشارة : تحقير لهم ، و (قَوْمُنَا) : عطف بيان له. و (اتَّخَذُوا) : خبر ، و (ما يَعْبُدُونَ) : موصول ، عطف على الضمير المنصوب ، أو مصدرية ، أي : وإذ

٢٥١

اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله ، أو عبادتهم إلا عبادة الله ، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام. ومنقطع ؛ على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان ، ويجوز أن تكون (ما) نافية ؛ على أنه إخبار من الله ـ تعالى ـ عن الفتية بالتوحيد ، معترض بين (إِذِ) وجوابه العامل فيها.

يقول الحق جل جلاله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ) ، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر ، قصصا ملتبسا (بِالْحَقِ) : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.

وخبرهم ، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل ، وظهرت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وكان من بالغ فى ذلك وعتا عتوا كبيرا : «دقيانوس» ؛ فإنه غلا فيه غلوا كبيرا ، فجاس خلال الديار والبلاد ؛ بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح ، وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمن رغب فى الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع ، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه (١) ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتية ذلك ، وكانوا عظماء مدينتهم ، وكانوا بنى الملوك ، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى ، واشتغلوا بالصلاة والدعاء ، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار ، فأحضروهم بين يديه ، فقال لهم ما قال ، فخيّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمة وجبروتا ، لن ندعو من دونه أحدا ، ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا ، فاقض ما أنت قاض ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة ، وأخرجهم من عنده. زاد فى رواية : وضمنهم أهلهم ، وخرج إلى مدينة (نينوى) ؛ لبعض شأنه ، وأمهلهم إلى رجوعه ؛ ليتأملوا فى أمرهم ، وإلّا فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.

فأجمعت الفتية على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كلّ منهم من بيت أبيه شيئا ، فتصدقوا ببعضه ، وتزودوا بالباقي ، فأووا إلى الكهف. وفى رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم ، على ما يأتى فى شأنه ، فجعلوا يصلّون فى ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار ، ويبتهلون إلى الله ـ سبحانه ـ بالأنين والجؤار ، ففوضوا أمر نفقتهم إلى «يمليخا» ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ، ويلبس ثياب المساكين ، ويدخل المدينة ويشترى ما يهمهم ، ويتحسس ما فيها من الأخبار ، ويعود إلى أصحابه ، فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار المدينة فطلبهم ، وأحضر آباءهم ، فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم ، وبذروها فى الأسواق ، وفروا إلى الجبل.

فلما رأى «يمليخا» ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكى ، ومعه قليل من الزاد ، فأخبرهم بما شهد من الهول ، ففزعوا إلى الله ـ عزوجل ـ وخروا له سجدا ، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون فى أمرهم ، فبينما هم كذلك

__________________

(١) أي أعضاءه. واحده : إرب .. انظر اللسان (أرب ١ / ٥٥).

٢٥٢

إذ ضرب الله على آذانهم فناموا ، ونفقتهم عند رؤوسهم. فخرج «دقيانوس» فى طلبهم بخيله ورجله ، فوجدهم قد دخلوا الكهف ، فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد منهم أن يدخله ، فلما ضاق بهم ذرعا ، قال قائل منهم : أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال : بلى. قال : فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا ؛ جوعا وعطشا ، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى ، إذ قال :

(إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) ، استئناف بيانى ، كأن سائلا سأل عن حالهم ، فقال : إنهم فتية شبان كاملون فى الفتوة (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم ، (وَزِدْناهُمْ هُدىً) ؛ بأن ثبّتناهم على ما كانوا عليه ، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم ؛ لزيادة الاعتناء بشأنهم ، (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : قويناهم ، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان ، والنعيم والإخوان ، واجترءوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر ، والرد على دقيانوس الجبار ؛ (إِذْ قامُوا) أي : انتصبوا لإظهار شعار الدين ، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم : إنى لأجد فى نفسى شيئا ، إن ربى هو رب السموات والأرض ، فقالوا : نحن أيضا كذلك ، فقاموا جميعا (فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل : قاموا بين يدى الجبار من غير مبالاة به ، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ، فحينئذ يكون ما سيأتى من قوله تعالى : (هؤُلاءِ ...) إلخ : منقطعا صادرا عنهم ، بعد خروجهم من عنده.

ثم قالوا : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) ، لا استقلالا ولا اشتراكا ، ولم يقولوا : ربا ؛ للتصميم على الرد على المخالفين ، حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. (لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) : قولا ذا شطط ، وهو الجور والتعدي ، أي : لقد جرنا وأفرطنا فى الكفر ، وقلنا قولا خارجا عن حد المعقول ، إن دعونا إلها غير الله جزما.

(هؤُلاءِ قَوْمُنَا) قد (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ، فيه معنى الإنكار ، (لَوْ لا) : هلا (يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ) : على ألوهيتهم (بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) : بحجة ظاهرة ، (فَمَنْ أَظْلَمُ) أي : لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بنسبة الشريك إليه ؛ فإنه أظلم من كل ظالم.

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) أي : فارقتموهم (وَ) فارقتم (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) : فالتجئوا إليه ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا ، (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ) : يبسط لكم ويوسع عليكم (مِنْ رَحْمَتِهِ) فى الدارين ، (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ) الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ، (مِرْفَقاً) : ما ترتفقون به ، أي : تنتفعون ، وجزمهم بذلك ؛ لنصوع يقينهم ، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.

٢٥٣

الإشارة : قد وصف الله ـ تعالى ـ أهل الكهف بخمسة أوصاف هى من شعار الصوفية ؛ الإيمان ، الذي هو الأساس ، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول الى صريح العرفان ، وربط القلب فى حضرة الرب ، والقيام فى إظهار الحق أو لداعى الوجد ، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.

وقال الورتجبي فى قوله تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) : أي : زدناهم نورا من جمالى ، فاهتدوا به طرق معارف ذاتى وصفاتى ، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نورى لا نهاية له. وقال عند قوله : (إِذْ قامُوا) : قد استدل بهذه الآية بعض المشايخ على حركة الواجدين فى وقت السماع والذكر ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرّكها أنواع الأذكار وما يرد عليها من فنون السماع. والأصل قوله : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا) ، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قياما بالصورة ، أي : الحسية فى القيام الحسى ، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية ، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين ، فالاستدلال بها فى السكون فى الوجد أحسن ، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. ه.

قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسى ففيه دليل لأهل البداية على القيام فى الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي ، وهو النهوض فى الشيء ، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك ، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد فى بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.

وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء فى القيام لذكر الله ـ تعالى ـ وقد أباحته الصوفية ، وفعلته ودامت عليه ، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله ـ عزوجل ـ فى أصحاب الكهف : (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وإن كانت الآية لها محامل أخر سوى هذا. ه. قلت : وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) (١) : صريح فى الجواز.

وقال فى القوت : وقد روينا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ برجل يظهر التأوه والوجد ، فقال من كان معه : أتراه يا رسول الله مرائيا؟ فقال : «لا ، بل (أَوَّاهٌ مُنِيبٌ») (٢) ، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية : «أسمع الله عزوجل ولا تسمّع» ، فأنكر عليه بما شهد فيه ، ولم ينكر على أبى موسى قوله : (لو علمت أنك تسمع لحبّرته لك تحبيرا) ؛ لأنه ذو نية فى الخير وحسن قصد به ، ولذا كل من كان له حسن قصد ، ونية خير ، فى إظهار عمل ، فليس من السمعة والرياء فى شىء ؛ لتجرده من الآفة الدنيوية ، وهى الطمع والمدح. ه.

__________________

(١) من الآية ١٥١ من سورة آل عمران.

(٢) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (٤ / ١٥٩) ، والطبراني فى الكبير (١٧ / ٢٩٥) ، عن عقبة بن عامر ، وحسّنه الهيثمي فى المجمع (٩ / ٣٧٢).

٢٥٤

ثم ذكر حالهم فى الكهف ، فقال :

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

قلت : (تزاور) أصله : تتزاور ، فأدغمت التاء فى الزاى. وقرأ الكوفيون بحذفها ، وابن عامر ويعقوب : «تزوّر» كتمرد ، كلها من الزّور بمعنى الميل. و (ذات اليمين) : ظرف بمعنى الجهة. وجملة : (وهم فى فجوة) : حال ، و (ذراعيه) : مفعول «باسط» ؛ لأنه حكاية حال ، أي : يبسط ، و (فرارا) : مصدر ؛ لأنه عبارة عن معنى التولية ، أو حال ، أي : لوليت فارا ، و (رُعْباً) : مفعول ثان لملئت ، أو تمييز.

يقول الحق جل جلاله ، فى بيان حالهم بعد ما أووا الى الكهف : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ) أي : تنتحى وتميل (عَنْ كَهْفِهِمْ) الذي أووا إليه ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا ، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم (ذاتَ الْيَمِينِ) أي : جهة ذات يمين الكهف ، عند الداخل إلى قعره ، (وَإِذا غَرَبَتْ) أي : وتراها إذا غربت (تَقْرِضُهُمْ) أي : تقطعهم وتتعدى عنهم (ذاتَ الشِّمالِ) أي : جهته وجانبه الذي يلى المشرق. وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة ؛ كرامة لهم. وقيل : كان باب الكهف شماليا يستقبل بنات نعش (١) ، (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : فى موضع واسع منه ، وذلك موقع لإصابة الشمس ، ومع ذلك ينحيها الله عنهم.

(ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي : ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها ، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته ، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم : هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف ، قلت : كان قبل السد وبعد هدم السد ؛ لأنه هدم بعد ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدوما. وظاهر الآية يرجح من قال : إنه من باب خرق العادة.

__________________

(١) بنات نعش : سبعة كواكب تشاهد جهة القطب الشمالي .. انظر المعجم الوسيط (نعش).

٢٥٥

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الذي أصاب الفلاح. والمراد : إما الثناء عليهم ، والشهادة بإصابة المطلوب ، والإخبار بتحقيق ما أمّلوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق ، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة ، ولكن المنتفع بها هو من وفقه الله وهداه للاستبصار بها ، (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي : يخلق فيه الضلال ؛ بصرف اختياره إليه ، (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ) ، ولو بالغت فى التتبع والاستقصاء ، (وَلِيًّا) : ناصرا (مُرْشِداً) ، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح. والجملة معترضة بين أجزاء القصة.

ثم قال : (وَتَحْسَبُهُمْ) بالفتح والكسر ، أي : تظنهم (أَيْقاظاً) ، لانفتاح أعينهم ، أو لكثرة تقلبهم ، وهو جمع «يقظ» ؛ بضم القاف وكسرها ، (وَهُمْ رُقُودٌ) أي : نيام ، (وَنُقَلِّبُهُمْ) فى رقودهم (ذاتَ الْيَمِينِ) أي : جهة تلى أيمانهم ، (وَذاتَ الشِّمالِ) أي : جهة تلى شمائلهم ؛ لكى لا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنه : لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض. قيل : كانوا يتقلبون مرتين فى السنة. وقيل : مرة يوم عاشوراء. وقيل : فى تسع سنين.

(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) ، حكاية حال ماضية أي : يبسط ذراعيه ، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع. (بِالْوَصِيدِ) أي : بموضع من الكهف ، وقيل : بالفناء من الكهف ، وقيل : العتبة. وهذا الكلب ، قيل : هو كلب مروا به فتبعهم ، فطردوه مرارا ، فلم يرجع ، فأنطقه الله ، فقال : يا أولياء الله لا تخشوا إصابتى ؛ فإنى أحب أحباء الله ، فناموا حتى أحرسكم. وقيل : هو كلب راع مروا به فتبعهم (١) على دينهم ، ومر معه كلبه ، ويؤيده قراءة : (وكالبهم) أي : وصاحب كلبهم ، وقيل : هو كلب صيد لهم أو زرع ، واختلف فى لونه ؛ قيل أحمر ، وقيل : أصفر ، وقيل : أصهب (٢).

(لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي : لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع : الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) : هربا بما شاهدت منهم ، (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) ، أي : خوفا يملأ الصدور برعبه ، لما ألبسهم الله من الرهبة ، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم ، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية : أنه غزا الروم فمرّ بالكهف ، فقال : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس لك ذلك ؛ قد منع الله تعالى من هو خير منك ، حيث قال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ...) الآية ، فلم يسمع ، وقال : ما أنتهي حتى أعلم علمهم ، فبعث ناسا ، وقال : اذهبوا فانظروا ، ففعلوا ، فلما دخلوا بعث الله ريحا فأحرقتهم. ه (٣).

الإشارة : للصوفية ـ رضى الله عنهم ـ تشبه قوى بأهل الكهف ، فى الانقطاع إلى الله ، والتجرد عن كل ما سواه ، والانحياش إلى الله ، والفرار من كل ما يشغل عن الله ، والتماس الرحمة الخاصة من الله ، وطلب التهيئة لكل رشد

__________________

(١) أي الراعي.

(٢) الأصهب : الأشقر. وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٣ / ٧٦) : واختلفوا فى لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ، ولا دليل ولا حاجة إليها ، بل هى مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب.

(٣) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢ / ٧٩٢) لابن أبى حاتم ، وعبد بن حميد ، وابن أبى شيبة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : وإسناده صحيح.

٢٥٦

وصواب ، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دعوا به ، حين أووا إلى كهف الإيواء ؛ تشبّها بهم فى مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لمّا تشبهوا بهم حفظهم الله ـ أي : الصوفية ـ ممن رام أذاهم ، وغيّبهم عن حس أنفسهم ، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته ، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلّ أن تجد فرقة تسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم ، حتى شهدت ذلك فى جل أسفارنا مع الفقراء ؛ تحقيقا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر بعثهم من نومهم ، فقال :

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَكَذلِكَ) أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل ، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا ، (بَعَثْناهُمْ) من النوم (لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي : ليسأل بعضهم بعضا ، فيترتب عليه ما فصّل من الحكم البالغة ، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله ، ويستبصروا أمر البعث ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) هو رئيسهم ، واسمه : «مكسليمنيا» : (كَمْ لَبِثْتُمْ) فى منامكم؟ لعله قال ذلك ؛ لما رأى من مخالفة حالهم ، لما هو المعتاد فى الجملة ، (قالُوا) أي : بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، قيل : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم دخلوا الكهف غدوة ، وكان انتباههم آخر النهار ، فقالوا : (لَبِثْنا يَوْماً) ، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا : (أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، وكان ذلك إخبارا عن ظن غالب ، فلم يعزوا إلى الكذب.

(قالُوا) أي : بعض آخر منهم ، بما سنح له من الأدلة ، ولما رأى من طول أظافرهم وشعورهم : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله ـ سبحانه ـ ، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب ، (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) (١) (هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، أعرضوا عن البحث عن المدة ، وأقبلوا على

__________________

(١) قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر : بورقكم ـ ساكنة الراء ـ والباقون بكسرها. راجع الإتحاف ٢ / ٢١٢.

٢٥٧

ما يهم فى الوقت ، والورق : الفضة ، مضروبة أو غير مضروبة ، ووصفها باسم الإشارة يقتضى أنها كانت معينة ليشترى بها قوت ذلك اليوم ، وحملها دليل على أن التزود لا ينافى التوكل ، وقد كان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها) أي : أىّ أهلها (أَزْكى طَعاماً) أي : أحل وأطيب ، أو أكثر وأرخص ، (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي : من ذلك الأزكى طعاما ، (وَلْيَتَلَطَّفْ) : وليتكلف اللطف فى دخول المدينة وشراء الطعام ، لئلا يعرف ، (وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) ؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدا من أهل المدينة ، أو : لا يفعل ما يؤدى إلى ذلك.

ثم علل النهى بقوله : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) : يطلعوا عليكم ، أو يظفروا بكم ، والضمير : للأهل المقدر فى «أيها» أي : إنّ أهل المدينة إن يظفروا بكم (يَرْجُمُوكُمْ) إن ثبتم على ما أنتم عليه ، (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) أي : يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها ؛ كرها ، كقوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) (١) ، وقيل : كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً) ؛ إن دخلتم فيها ، ولو بالكره والجبر ، (أَبَداً) ، لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.

الإشارة : وكذلك بعثنا من توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة ، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة ، استصغروا أيام البطالة ؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها ، وإن كثرت آمادها ، وفى الحكم : «رب عمر اتسعت آماده ، وقلّت أمداده» ، بخلاف زمان اليقظة ، فإنه كثيرة أمداده ، وإن قلّت آماده ، فهو طويل ؛ معنى ، وإن قلّ ؛ حسا ، ولذلك قال فى الحكم أيضا : «ورب عمر قليلة آماده ، كثيرة أمداده». وقال أيضا : «من بورك له فى عمره : أدرك فى يسير من الزمان من منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة».

فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله ، فإنّ أكل الحلال ينور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة ، وتلطفوا فى أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب ، فإن أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا فى إخفائه ، حتى لا يشعروا به أحدا من خلقه ، غير من هو أهل له ؛ لأنهم ، إن أظهروه لغيرهم ، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم ، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم ، ولن يفلحوا إذا أبدا. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من الآية ١٣ من سورة إبراهيم.

٢٥٨

ثم ذكر اطلاع قوم أهل الكهف عليهم ، فقال :

(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ...)

قلت : (إِذْ يَتَنازَعُونَ) : ظرف لقوله : (أَعْثَرْنا) ، لا ليعلموا ، أي : أعثرناهم عليهم حين يتنازعون بينهم ... إلخ ، و (رَجْماً) : حال ، أي : راجمين بالغيب ، أو مفعول مطلق ، أي : يرجمون رجما.

يقول الحق جل جلاله : (وَكَذلِكَ) أي : وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : أطلعنا الناس عليهم (لِيَعْلَمُوا) أي : ليعلم القوم الذين كانوا فى ذلك الوقت (أَنَّ وَعْدَ اللهِ) أي : وعده بالبعث والثواب والعقاب (حَقٌ) صادق لا خلف فيه ، أو : ثابت لا مرد له ؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يبعث ، (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أي : القيامة ، التي هى عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا ؛ للحساب والجزاء ، (لا رَيْبَ فِيها) : لا شك فى قيامها ، فإنّ من شاهد أنه جل وعلا توفّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر ، حافظا لأبدانها من التحلل والفساد ، ثم أرسلها كما كانت ، لا يبقى معه ريب ، ولا يختلجه شك ، فى أن وعده تعالى حق ، وأنه يبعث من فى القبور ، ويجازيهم بأعمالهم.

وكان ذلك الإعثار (إِذْ يَتَنازَعُونَ) : حين كانوا يتنازعون (بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) ، فى أمر البعث مختلفين فيه ؛ ففرقة أقرّت ، وفرقة جحدت ، وقائل يقول : تبعث الأرواح فقط ، وآخر يقول : تبعث جميع الأجسام بالأرواح ، قيل : كان ملك المدينة حينئذ رجلا صالحا ، ملكها ثمانيا وعشرين سنة ، ثم اختلف أهل مملكته فى البعث كما تقدم ، فدخل الملك بيته وغلق الباب ، ولبس مسحا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يظهر الحق ، فألقى الله ـ عزوجل ـ فى نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف ، أن يهدم بنيان فم الكهف ، فهدم ما سدّ به «دقيانوس» باب الكهف ؛ ليتخذه حظيرة لغنمه ، فعند ذلك بعثهم الله ـ تعالى ـ فجرى بينهم من التقاول ما جرى.

روى أنّ المبعوث لمّا دخل المدينة ؛ ليشترى الطعام ، أخرج دراهمه ، وكانت على ضرب (دقيانوس) ، فاتهموه أنه وجد كنزا ، فذهبوا به إلى الملك ، فقص عليه القصة ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من

٢٥٩

(دقيانوس) ، فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملك وأهل المدينة ؛ من مسلم وكافر ، فدخلوا عليهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك : نودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، فماتوا ، فألقى الملك عليهم ثيابه ، وجعل لكل منهم تابوتا من ذهب ، فرآهم فى المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف مسجدا. وقيل : لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى : مكانكم حتى أدخل أولا ؛ لئلا يفزعوا ، فدخل ، فعمّى عليهم المدخل ، فبنوا ثمّة مسجدا.

وقيل : المتنازع فيه : أمر الفتية قبل بعثهم ، أي : أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم ، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال ، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال. وعلى التقديرين : فالفاء فى قوله : (فَقالُوا ابْنُوا) فصيحة ، أي : أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا ، ثم ماتوا ، فقال بعضهم : (ابْنُوا عَلَيْهِمْ) : على باب كهفهم (بُنْياناً) ؛ لئلا يتطرق إليهم الناس ، ففعلوا ذلك ؛ ضنا بمقامهم ومحافظة عليهم.

ثم قالوا : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) ، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم ؛ من حيث النسبة ، ومن حيث العدد ، ومن حيث بعد اللبث فى الكهف ، قالوا ذلك ؛ تفويضا إلى علام الغيوب. أو : يكون من كلامه سبحانه ؛ ردا لقول الخائضين فى حديثهم من أولئك المتنازعين ، (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) ، وهو الملك والمسلمون ، وكانوا غالبين فى ذلك الوقت : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ، فذكر فى القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه.

ثم وقع الخوض فى عهد نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين نصارى نجران حين قدموا المدينة ، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين فى عددهم ، كما قال تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وهو قول اليعقوبية من النصارى ، وكبيرهم السيد ، وقيل : قالته اليهود ، (وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، هو قول النسطورية منهم ، وكبيرهم العاقب ، (رَجْماً بِالْغَيْبِ) : رميا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر ، أو ظنا بالغيب من غير تحقيق ، (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحى ، وعدم نظمه فى سلك الرجم بالغيب ، وتغيير سبكه ؛ بزيادة الواو المفيدة لزيادة تأكيد النسبة فيما بين طرفيها ، يقضى بصحته.

قال تعالى : (قُلْ) يا محمد ؛ تحقيقا للحق ، وردا على الأولين : (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) أي : ربى أقوى علما بعدتهم ، (ما يَعْلَمُهُمْ) أي : ما يعلم عددهم (إِلَّا قَلِيلٌ) من الناس ، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي الله عنه : «أنا من ذلك القليل» ، قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة ، وأيضا حين سكت عنه تعالى ولم يقل : رجما بالغيب ، علم أنه حق. وعن على ـ كرم الله وجهه ـ : أنهم سبعة ، أسماؤهم : يمليخا ، وهو الذي ذهب بورقهم ، ومكسيلمينيا ، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومشلينا ، وفى رواية الطبري : ومجسيسيا بدله ، وهؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس ، وكان يستشير هؤلاء الستة

٢٦٠