البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

سورة الأنبياء

مكية. وهى مائة واثنتا عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) (١) ؛ لأن علم ذلك إنما يظهر ، حقيقة ، يوم الحساب الذي صدّر به السورة ، فقال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ...)

قلت : (وَهُمْ) : مبتدأ ، و (فِي غَفْلَةٍ) : خبر ، و (مُعْرِضُونَ) : خبر بعد خبر ، والجملة : حال من الناس. و (مِنْ ذِكْرٍ) : فاعل بيأتي. و (مِنْ) : صلة ، و (مِنْ رَبِّهِمْ) : صفة لذكر ، أي : حاصل من ربهم ، أو متعلق بيأتيهم ، أو صفة لذكر ، وجملة (اسْتَمَعُوهُ) : حال من مفعول (يَأْتِيهِمْ) ، بإضمار (قد) أو بدونه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال. و (هُمْ يَلْعَبُونَ) : حال أيضا من فاعل (اسْتَمَعُوهُ) ، و (لاهِيَةً) : حال من واو (يَلْعَبُونَ) ، و (قُلُوبُهُمْ) : فاعل بلاهية.

يقول الحق جل جلاله : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) أي : قرب قيام الساعة التي هى محل حسابهم. قال ابن عباس : «المراد بالناس : المشركون» وهو الذي يفصح عنه ما بعده ، ولم يقل تعالى : «اقترب حساب الناس» ، بل قدّم لام الجر على الفاعل ؛ للمسارعة إلى إدخال الروعة ، فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا ، كما أن تقديم اللام فى قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ؛ (٢) لتعجيل المسرة ؛ لأن كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة وشوقا إليه تعالى.

وفى إسناد الاقتراب إلى الحساب المنبئ عن التوجه نحوهم ، مع صحة إسناد الاقتراب إليهم بأن يتوجهوا نحوه ، من تفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، مالا يخفى ، لما فيه من تصويره بشىء مقبل عليهم ، لا يزال يطلبهم حتى يصيبهم لا محالة. ومعنى اقترابه : دنوه منهم شيئا فشيئا حتى يلحقهم ؛ لأن كل آت قريب ، أي : دنا حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب.

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) تامة منه ، ساهون بالمرة عنه ، غير ذاكرين له ، لا أنهم غير مبالين به ، مع اعترافهم بإتيانه ، بل هم منكرون له ، كافرون به ، (مُعْرِضُونَ) عن الآيات والنذر المنبهة لهم عن سنة الغفلة. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ)

__________________

(١) من الآية ١٣٥ من سورة طه.

(٢) من الآية ٢٩ من سورة البقرة.

٤٤١

أي : من طائفة نازلة من القرآن ، تذكر ذلك الحساب ، وتنبههم عن الغفلة عنه ، كائن أو نازل (مِنْ رَبِّهِمْ) ، أو ذاكر ومذكر من ناحية ربهم. وفى إضافته إليه سبحانه دلالة على شرفه ، وكمال شناعة ما فعلوه من الإعراض عنه ، وفى التعبير بعنوان الربوبية تشنيع لكمال عتوهم ، ومن صفة ذلك الذكر (مُحْدَثٍ) تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة ، بمعنى أنه نزل شيئا فشيئا ، أو قريب عهد بالنزول ، فمعانى القرآن قديمة ، وإظهاره بهذه الحروف والأصوات حادث. وقال ابن راهويه : قديم من رب العزة ، محدث إلى أهل الأرض.

فما ينزل عليهم شىء من القرآن يذكرهم ويعظهم (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) ؛ لا يتعظون به ، ولا يتدبرون فى معانيه ، (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ؛ ساهية ، معرضة عن التفكر والتدبر فى معانيه. وتقدير الآية : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، فى حال من الأحوال ، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزءين به ، لاهين عنه ، حال كون قلوبهم لاهية عنه ؛ لتناهى غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر فى عواقب الأمور. والله تعالى أعلم.

الإشارة : حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية. وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبنى ، فلقى بعض الصحابة فقال : ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال له : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) ، فنفض التراب ، وقال : والله لا بنيت. ه. أي : اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير ، وهم فى غفله عن التأهب والاستعداد ، معرضون عن اتخاذ الزاد ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم ، يعظهم ويوقظهم ، إلا استمعوه بآذانهم ، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم ؛ لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية. لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار.

قال القشيري : ويقال : الغفلة على قسمين ؛ غافل عن حسابه ؛ لاستغراقه فى دنياه ، وغافل عن حسابه ؛ لاستهلاكه فى مولاه ، فالغفلة الأولى سمة الهجر ، والثانية صفة الوصل ، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا فى عسكر الموتى ، وهؤلاء لا يرجعون عن غيبتهم أبد الأبد ؛ لفنائهم فى وجود الحق. ه. قلت : القسمة ثلاثية : قوم غفلوا عن حسابهم ؛ لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم ، وهم : الغافلون الجاهلون ، وقوم ذكروا حسابهم ، وجعلوه نصب أعينهم ، وتأهبوا له ، وهم : الصالحون والعباد والزهاد ، وقوم غفلوا عنه ، وغابوا عنه ؛ لاستغراقهم فى شهود مولاهم ، وهم : العارفون المقربون. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.

ثم ذكر المنهمكين فى الغفلة ، فقال :

(... وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))

٤٤٢

قلت : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) : بدل من الواو ، منبئ عن كونهم موصوفين بالظلم فيما أسروا به. وقال الكلبي : فيه تقديم وتأخير ، أراد الذين ظلموا أسروا النجوى. فيكون (الَّذِينَ) : مبتداء و (أَسَرُّوا) : خبر مقدم.

وقال قطرب : على لغة بعض العرب ، يقولون : أكلونى البراغيث ، وهى بلغة بلحارث وغيرهم. وقال الفراء : بدل من الناس ، أي : اقترب للناس وهم الذين ظلموا. و (هَلْ هذا ..) إلخ : بدل من النجوى ، أو مفعول بقول مضمر ، كأنه قيل : ماذا قالوا فى نجواهم؟ فقيل : قالوا : هل هذا .. إلخ و (أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) : حال من واو «تأتون» ؛ مقررة للإنكار ، مؤكدة للاستبعاد. و (مِنْ قَرْيَةٍ) : فاعل آمنت ، و (مِنْ) : صلة للعموم. و (أَهْلَكْناها) : صفة لقرية.

يقول الحق جل جلاله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) : أخفوا تناجيهم بحيث لم يشعر أحد بما قالوا ، وهم (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر والطغيان ، قائلين فى تلك النجوى الشنيعة : (هَلْ هذا) أي : ما هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : من جنسكم ، وما أتى به سحر ، (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي : تعلمون ذلك فتأتونه ، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول ، وأنتم تعاينون أنه سحر؟. قالوا ذلك ، بناء على ما ارتكز فى اعتقادهم الزائغ ، أن الرسول لا يكون إلا ملكا ، وأنّ كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق هو من قبيل السحر ، وغاب عنهم أن إرسال البشر إلى البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. قاتلهم الله أنى يؤفكون. وإذا أسروا ذلك ولم يعلنوه ؛ لأنه كان على طريق توثيق العهد ؛ خفية ، وتمهيدا لمقدمات المكر والكيد فى هدم أمر النبوة ، وإطفاء نور الدين. (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

ثم فضح الله سرهم ونجواهم بقوله : (قالَ) (١) (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : قل يا محمد : ربى يعلم القول ، سرا كان أو جهرا ، سواء كان فى السماء أو الأرض ، فلا يخفى عليه ما تناجيتم به ، فيفضحكم به ويجازيكم عليه. وقرأ أكثر أهل الكوفة : (قالَ) ؛ على الخبر ، وهو حكاية من جهته تعالى لما قاله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم ؛ بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ، وإيثار القول المشتمل على السر والجهر ؛ للإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة ، لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء ، كما فى علوم الخلق.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي : المبالغ فى العلم بالمسموعات والمعلومات ، التي من جملة ما أسروه من النجوى ، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم. (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، هو إضراب من جهته تعالى ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب فى مضارب البطلان ، أي : لم يقتصروا على أن يقولوا فى حقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : هل هذا إلا بشر ، وفى حق ما ظهر على يديه من القرآن الكريم : إنه السحر ، بل قالوا : هو تخاليط

__________________

(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص : «قال ربى». وقرأ الباقون : «قل» على الأمر. انظر الإتحاف (٢ / ٢٦١).

٤٤٣

أحلام وأباطيلها ، فهو أشبه شىء بالهذيان ، ثم أضربوا عنه ، وقالوا : (بَلِ افْتَراهُ) من تلقاء نفسه ، من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل. ثم قالوا : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ، وما أتى به شعر يخيل إلى السامع ، لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج ، متحير ، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد.

فالإضراب الأول ، كما ترى ، من جهته تعالى ، والثاني والثالث من قبلهم. وقد قيل : الكل من قبلهم ، حيث أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهو بعيد ؛ لأنه لو كان كذلك لقال : قالوا : بل أضغاث أحلام ... إلخ.

ثم قالوا : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) ؛ وهو جواب عن شرط محذوف ، يفصح عنه السياق ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولا من الله تعالى ، فليأتنا بمعجزة ظاهرة (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي : مثل الآية التي أرسل بها الأولون ؛ كاليد ، والعصا ، والناقة وشبه ذلك. فالكاف : صفة لمصدر محذوف ، أي : إتيانا مثل إتيان الأولين.

قال تعالى : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي : أهلكنا أهلها ، (أَفَهُمْ) أي : هؤلاء المقترحون عليك الآيات ، (يُؤْمِنُونَ) أي : قد اقترحت الأمم السالفة الآيات على رسلها ، فأعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، فأهلكناهم ، فكيف يؤمن هؤلاء ، وهم أعتى منهم؟ فالهمزة : لإنكار الوقوع ، والفاء : للعطف على مقدر ، فأفادت إنكار وقوع إيمانهم. والمعنى : لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يؤمنون ، لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوه ، مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ فهم فى اقتراح الآيات كالباحث على حتفه فطلبه ، وفى ترك إجابتهم إبقاء عليهم ، كيف لا ، ولو أعطوا ما اقترحوا ، مع عدم إيمانهم قطعا ، لوجب استئصالهم ، بجريان سنّة الله تعالى فى الأمم السالفة أن المقترحين ، إذا أعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هؤلاء لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، فلذلك لم يظهر لهم ما اقترحوا من الآيات. والله تعالى أعلم.

الإشارة : العلماء بالله ، الداعون إلى الله ، هم ورثة الأنبياء والرسل ، فما قيل فى الأصل قد قيل فى الفرع ، فكل عصر يوجد من ينكر على خواص ذلك العصر ، ويرميهم بالسحر والجنون. والافتراء على الله سنة ماضية. غير أن أولياء هذه الأمة على قدم نبيهم ، رحمة للعالمين ، فمن آذاهم لا يعاجل بالعقوبة فى الغالب ، وقد تكون باطنية ، كقسوة القلوب ، والخذلان ، والشكوك ، والأوهام. وهذا الوصف فى العارفين الكلمة ، وأما الزهاد والعباد والصالحون : فمن آذاهم عوجل بالعقوبة فى الغالب ؛ لنقص كمالهم ، وعدم اتساع دائرة معرفتهم. وبالله التوفيق.

٤٤٤

ثم ردّ على من أنكر رسالة البشر ، فقال :

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))

يقول الحق جل جلاله فى جواب قول الكفرة : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١) بعد تقديم الجواب عن قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) ؛ لأنهم قالوه بطريق التعجيز ، فلابد من المسارعة إلى رده ، كما تقدم مرارا فى الكتاب العزيز ، كقوله (إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ ..) (٢) الآية ، (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) الآية (٣). إلى غير ذلك ، فقال جل جلاله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) فى الأمم السالفة (إِلَّا رِجالاً) ؛ بشرا من جنس القوم الذين أرسلوا إليهم ؛ لأن مقتضى الحكمة أن يرسل البشر إلى البشر ، والملك إلى الملك ، حسبما نطق به قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (٤) فإن عامة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك ؛ لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض ؛ فبعث لكل جنس ما يناسبه ؛ للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع ، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدين بالقوة القدسية ، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني ، ليتلقوا من جانب العالم الروحاني ، ويلقوا إلى العالم الجسماني ، فبعث رجالا من البشر يوحى إليهم على أيدى الملائكة أو بلا واسطة.

والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم ، قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالا مخصوصين من أفراد الجنس ، متأهلين للاصطفاء والإرسال ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، بواسطة الملك ، ما يوحى من الشرائع والأحكام ، وغيرهما من القصص والأخبار ، كما يوحى إليك من غير فرق بينهما ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي : فاسألوا ، أيها الجهلة ، أهل العلم ؛ كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك. أمروا بذلك ؛ لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم الضروري ، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشاورونهم فى أمورهم ، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرا ، ولم يكونوا ملائكة ، حصل لهم العلم بالحق ، وقامت الحجة عليهم.

__________________

(١) من الآية ٣ من سورة الأنبياء.

(٢) من الآية ٣٣ من سورة هود.

(٣) الآية ٨ من سورة الحجر.

(٤) الآية ٩٥ من سورة الإسراء.

٤٤٥

وتوجيه الخطاب إلى الكفرة فى السؤال ، بعد توجيهه إلى الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى الإرسال ؛ لأنه الحقيق بالخطاب فى أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة ، وأما الوقوف عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام.

ثم بيّن كون الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ أسوة لأفراد الجنس فى أحكام البشرية ، فقال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) أي : أجسادا ، فالإفراد لإرادة الجنس ، أو ذوى جسد ، (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) أي : وما جعلناهم أجسادا صمدانيين ، أغنياء عن الطعام والشراب ، بل محتاجين إلى ذلك ؛ لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. (وَما كانُوا خالِدِينَ) ؛ لأن كل من يفتقر إلى الغذاء لا بد يتحلل بدنه بسرعة ، حسبما جرت العادة الإلهية ، والمراد بالخلود : المكث المديد ، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى : بل جعلناهم أجسادا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم ، لا ملائكة ولا أجسادا صمدانية.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) بالنصر وإهلاك أعدائهم ، وهو عطف على ما يفهم من وحيه تعالى إليهم ، كأنه قيل : أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم فى الوعد ، الذي وعدناهم فى تضاعيف الوحى ، بإهلاك أعدائهم ، (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) من المؤمنين وغيرهم ، ممن تستدعى الحكمة إبقاءه ، كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه ، وهو السر فى حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبى الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإن أمته لا تستأصل ، وإن بقي فيها من يكفر بالله ؛ لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله تعالى. (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أي : المجاوزين الحد فى الكفر والمعاصي.

ولمّا ذكر برهان حقّيّة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكر حقية القرآن المنزل عليه ، الذي ذكر فى صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، فقال : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ) ، صدّره بالقسم ؛ إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه ، وإيذانا بكون المخاطبين فى أقصى مراتب التنكير ، أي : والله لقد أنزلنا إليكم ، يا معشر قريش ، (كِتاباً) عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم ، أي : كتابا جليل القدر (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي : شرفكم وحسن صيتكم ، كقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (١) ، أو فيه تذكيركم وموعظتكم ، أو ما تحتاجون إليه فى أمر دينكم ودنياكم ، أو ما تطلبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتتدبروا فى معانيه حتى تدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر فى أمر الكتاب ، والتأمل فى تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر ، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة ، والمعطوف : محذوف ، أي : أعميت بصائركم فلا تعقلون؟ والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ٤٤ من سورة الزخرف.

٤٤٦

الإشارة : ثبوت الخصوصية لا ينافى وصف البشرية ، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر. ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية فى الاتصاف بأوصاف البشرية ، التي لا تؤدى إلى نقص فى مراتبهم العلية. وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام ، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل ، وبالغيبة عن رؤية الأكوان ، بإشراق شمس العرفان ، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثر ، ثم بالبقاء بشهود الأثر ؛ حكمة ، مع الغيبة عنه ، قدرة ، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي ، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم ، ولا يسأل عنهم إلا أمثالهم ؛ (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). فلا يشترط فى الولي استغناؤه عن الطعام والشراب ؛ إذ لم يكن للأنبياء ، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) (١) ، نعم ؛ صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه ، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ فى اليقين. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه. وتقدم الكلام على قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) فى سورة النحل (٢). وبالله التوفيق.

ثم بيّن ما أجمل فى قوله : (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، فقال :

(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))

قلت : كم : خبرية مفيدة للتكثير ، ومحلها نصب ، مفعول بقصمنا ، و (مِنْ قَرْيَةٍ) : تمييز ، و (كانَتْ ..) إلخ : صفة لقرية.

يقول الحق جل جلاله : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : كثيرا أهلكنا من أهل قرية (كانَتْ ظالِمَةً) بآيات الله تعالى ، كافرين بها. وفى لفظ القصم ـ الذي هو عبارة عن الكسر ؛ بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية ـ من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. (وَأَنْشَأْنا) أي : أحدثنا (بَعْدَها) أي : بعد إهلاكها (قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم نسبا ولا دينا ، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهد المحسوس (إِذا هُمْ مِنْها) أي : من القرية (يَرْكُضُونَ) : يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم ، بلسان الحال أو المقال من الملك ، أو ممن حضرهم من المؤمنين ،

__________________

(١) من الآية ٣٨ من سورة الرعد.

(٢) الآية ٤٣ من سورة النحل.

٤٤٧

بطريق الاستهزاء والتوبيخ : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) من النعم والتلذذ (وَ) إلى (مَساكِنِكُمْ) التي كنتم تفتخرون بها ، (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ؛ تقصدون للسؤال ، إذ كانوا أغنياء ، أو للتشاور والتدبر فى المهمات والنوازل ، أو تسألون الفداء فتفتدوا من العذاب ، أو تسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه.

قيل : نزلت فى أهل حاضورا ، قرية باليمن ، وكان أهلها العرب ، فبعث الله إليهم نبيا فكذبوه وقتلوه ، فسلط الله تعالى عليهم بختنصّر ، فقتلهم وسباهم ، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم ؛ استهزاء بهم ، وأتبعهم بختنصر ، فأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من السماء : يا لثارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم ، فقالوا : (يا وَيْلَنا) ؛ يا هلاكنا ؛ (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندم حين لم ينفعهم ذلك.

(فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) أي : فما زالوا يرددون تلك الكلمة ، ويدعون بها ، ويقولون : يا ويلنا ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) أي : مثل الحصيد ، وهو المحصود من الزرع والنبات ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، فلذلك لم يجمع ، كجريح وقتيل. وجعلناهم (خامِدِينَ) ؛ ميتين ، من خمدت النار إذا طفئت. وهو ، مع (حَصِيداً) ، فى حيز المفعول الثاني لجعل ، كقولك : جعلته حلوا حامضا ، والمعنى : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، أو حال من الضمير المنصوب فى (جَعَلْناهُمْ) ، ولفظ الآية يقتضى العموم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : وكم من قرية من قرى القلوب قصمنا أهلها ، أي : ما فيها من الشكوك والأوهام ، كانت ظالمة بتلك الخواطر ، فأخرجناهم منها ، وأنشأنا بعدها أنوارا وأسرارا وعلوما آخرين. فلما أحسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها ، التي تأتى من حضرة القهار ، إذا هم منها يركضون ؛ لأن الواردات الإلهية تأتى من حضرة القهار ، لأجل ذلك لا تصادم شيئا من الظلمات إلا دمغته ، فيقال لتلك الظلمات ، التي هى الشكوك والأوهام : لا تركضوا ، ولكن ارجعوا أنوارا ، وانقلبوا واردات وأسرارا ، وتنعموا فى محلكم بشهود الحق ، لعلكم تسألون ، أي : تستفتون فى الأمور ، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى فى العلوم ، وفى الأمور التي تعرض ، قالوا بلسان الحال ـ أي تلك الظلمات ـ : يا ويلنا إنا كنا ظالمين ؛ بحجب صاحبنا عن الله ، فما زالت تلك دعواهم حتى صاروا خامدين ، هامدين ، ساكنين تحت مجارى الأقدار ، مطمئنين بالله الواحد القهار ، وهذه إشارة دقيقة ، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم. وبالله التوفيق.

ثم بيّن أن إهلاك تلك القرى الظالمة كان لحكمة بليغة ومصلحة بديعة ، ولم يكن عبثا ؛ لأنه تعالى منزه عن اللعب فى خلقه ، فقال :

٤٤٨

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨))

قلت : (لاعِبِينَ) : حال من فاعل خلق ، و (إِنْ كُنَّا) : شرط حذف جوابه ، أي : إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدنا ، وقيل : نافية.

يقول الحق جل جلاله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات التي لا تحصى أجناسها ، ولا تعد أفرادها ، ولا تحصر أنواعها وآحادها ، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب ، (لاعِبِينَ) ؛ خالية عن الحكم والمصالح ، بل لحكم بديعة ومصالح عديدة ، دينية تقضى بسعادة الأبد أو بشقاوته ، ودنيوية لا تعد ولا تحصى ، وهذا كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) (١) ، فالمراد من الآية : إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم ، وإبداع بنى آدم ، مؤسس على قواعد الحكم البالغة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، وتنبيه على أن ما حكى من العذاب الهائل ، والعقاب النازل بأهل القرى ، من مقتضيات تلك الحكم ، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم. وإنما فعل ذلك ؛ عدلا منه ، ومجازاة على أعمالهم ، وأن المخاطبين المتقدمين ـ وهو قريش ـ على آثارهم ؛ لأن لهم ذنوبا مثل ذنوبهم. وإنما عبّر عن نفى الحكمة باللعب ، حيث قال : (لاعِبِينَ) ؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة ، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد فى استحالة صدوره منه سبحانه ، وهو اللهو واللعب ، بل إنما خلقناهما ، وما بينهما ؛ لتكون مبدأ الوجود الإنسانى وسببا لمعاشه ، ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا ، التي هى الغاية القصوى والسعادة العظمى.

ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه ، فقال : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي : ما يلهى به ويلعب ، (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) أي : من أنفسنا ؛ لعلمنا بحقائق الأشياء ، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد. والمعنى : لو أردنا أن نخلق شيئا ، لا لتحصيل مصلحة لكم ، ولا لدرء مفسدة عنكم ، لفعلنا ذلك فى أنفسنا ؛ بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة ؛ لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة ، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها ، وأنا لم نخلق شيئا عبثا ، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات ؛ لمصلحة ومنفعة ، علمها ، من علمها وجهلها من جهلها ، فحصل من هذا نفى التحسين والتقبيح ؛ عقلا ، بهذه الشرطية ، وإثباته سمعا.

__________________

(١) من الآية ٢٧ من سورة ص.

٤٤٩

أو : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) مما يليق بشأننا من المجردات ، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة ، كعادة الجبابرة ؛ من رفع العروش وتحسينها ، وتمهيد الفرش وتزيينها ، لأغراض عراض ، لكن يستحيل إرادتنا لذلك ؛ لمنافاته للحكمة الإلهية المنزهة عن الأغراض. ه. من أبى السعود ، وأصله للزمخشرى. وفيه تكلف.

وسأل طاوس ومجاهد الحسن عن هذه الآية؟ فقال : اللهو : المرأة. وقال ابن عباس : «الولد». ومعنى (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) : بحيث لا يطلعون عليه ، وما اتخذنا نساء وولدا من أهل الأرض. نزلت فى الذين قالوا : اتخذ الله ولدا. وتكون الآية ، حينئذ تتميما لما قبلها ، أي : ليس اللعب واللهو من شأننا ، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى : حمل الآية على الزوجة غير مفيد ، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة ، مما يمكن عقلا ، فيصح دخول النفي الشرعي عليه. انظر ابن عرفة ، فقد جوّز ، عقلا ، اتخاذه على معنى الرحمة. وكذا ابن عطية فى آية الزمر (١). ومنع ذلك القشيري. قلت : وكأنه لما يشير إليه قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢) فإن القهر لا يناسب التبني بوجه ، وقد يقال : إنه مانع سمعى شرعى ، لا عقلى ، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية. وفيه نظر ؛ لأنه يؤدى إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه ، وهو محال ، والله أعلم ه.

قلت : قد حمل النسفي الآية على الولد ، فقال : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي : ولدا ، أو امرأة ، رد على من قال عيسى ابنه ، ومريم صاحبته ، (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) من الولدان أو الحور ، (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي : إن كنا ممن يفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله لاستحالته فى حقنا. ه. قلت : والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضى جواز الاتخاذ عقلا ؛ وإنما منعه عدم الإرادة. وأجاب ابن عرفة : بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة ، لا على حقيقة البنوة. قلت : من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع ، لا يتوقف فى مثل هذا ؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر ، لكن لم يوجد منها ، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال فى حقه تعالى فى باب القدرة ، وأما باب الحكمة ، فهى رداء لمحل النقائص ، فافهم ، واصحب أهل الجمع حتى يفهموك ما ذكرت لك ، والسلام.

ثم قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) أي : نرمى بالحق ، الذي هو الجد ، على الباطل ، الذي من جملته اللهو ، وهو إضراب عن اتخاذ الولد ، بل عن إرادته ، كأنه قيل : لكنا لا نريده ، بل شأننا أن نقذف بالحق على الباطل (فَيَدْمَغُهُ) : فيمحقه بالكلية ، كما فعلنا بأهل القرى المحكية وأمثالهم. وقد استعير ، لإيراد الحق على الباطل ، القذف ، الذي هو الرمي الشديد ، وللباطل الدمغ ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح ، فكأنّ الباطل حيوان له دماغ ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل ، (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) أي : فإذا الباطل ذاهب بالكلية ، متلاش عن أصله. وفى (إذا) الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السرعة فى الذهاب والبطلان ما لا يخفى.

__________________

(١) فى قوله تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ ...) الآية.

(٢) من الآية ٤ من سورة الزمر.

٤٥٠

ثم ردّ على أهل الباطل فقال : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي : وقد استقر لكم الويل والهلاك ؛ من أجل ما تصفونه ، سبحانه ، بما لا يليق بشأنه الجليل ، من الولد والزوجة ، وغير ذلك مما هو باطل. وهو وعيد لقريش ومن دان دينهم ، بأنّ لهم أيضا مثل ما لأولئك القرى المتقدمة من الهلاك ، إن لم ينزجروا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات ، بل لتراها أنوارا وتجليات ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالغير والسّوى عند أهل الحق باطل ، والباطل لا يثبت مع الحق. قال تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). قال القشيري : ندخل نهار التحقيق على ليالى الأوهام ، أي : فتمحى ، وتبقى شمس الأحدية ساطعة. ه. وبالله التوفيق.

ثم قرر وحدانيته تعالى فى ملكه وملكوته ، فقال :

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له جميع المخلوقات ، خلقا وملكا ، وتدبيرا وتصرفا ، وإحياء وإماتة ، وتعذيبا وإثابة ، من غير أن يكون لأحد فى ذلك دخل ، لا استقلالا ولا استتباعا ، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلى ، (وَمَنْ عِنْدَهُ) وهم الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ عبّر عنهم بذلك إثر ما عبّر عنهم بمن فى السموات ؛ تنزيلا لهم ـ لكرامتهم عليه ، وزلفاهم عنده ـ منزلة المقربين عند الملك ، وهو مبتدأ وخبره : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي : لا يتعاظمون عنها ، ولا يعدون أنفسهم كبراء ، (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يكلّون ولا يعيون ، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي : ينزهونه فى جميع الأوقات ، ويعظمونه ويمجدونه دائما. وهو استئناف بيانى ، كأنه قيل : ماذا يصنعون فى عبادتهم ، أو كيف يعبدون؟ فقال : يسبحون ... إلخ. (لا يَفْتُرُونَ) أي : لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا ، ولا شغل آخر.

٤٥١

ولمّا برهن على وحدانيته تعالى فى ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة ، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره ، وأنّ عباده مذعنون لطاعته ، ومثابرون على عبادته ، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه ، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان ، فقال : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) يعبدونها (مِنَ الْأَرْضِ) أي : اتخذوها من جنس الأرض ، أحجارا وخشبا ، (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي : يبعثون الموتى. وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع لا محالة ، أي : بل اتخذوا آلهة من الأرض ، هم مع حقارتهم ، ينشرون الموتى ، كلا .. فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك ، وهم ، وإن لم يقولوا بذلك صريحا ، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية ، فكأنهم ادعوا لها الإنشار ، ضرورة ؛ لأنه من خصائص الإلهية ، ومعنى التخصيص فى تقديم الضمير فى : (هُمْ يُنْشِرُونَ) : التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار ، الموجبة لمزيد الإنكار ، كما فى قوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌ) (١). وفى قوله تعالى : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) ، فإنّ تقديم الجار والمجرور ؛ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به.

ثم أبطل الاشتراك فى الألوهية ، فقال : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) أي : لو كان فى السماوات والأرض آلهة غير الله ، كما هو اعتقادهم الباطل ، (لَفَسَدَتا) أي : لفسد نظامهما بما فيهما ، لوجود التمانع ، كعادة الملوك ، أو لبطلتا بما فيهما ، ولم يوجد شىء منهما ؛ للزوم العجز لهما ، بيان ذلك : أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق ، تغييرا وبديلا ، وإيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد ، إما بتأثير كل منها ، وهو محال ؛ لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين ، وإما بتأثير واحد منها ، فالباقى بمعزل عن الإلهية ، والمسألة مقررة فى علم الكلام.

و (إِلَّا) : صفة لآلهة ، كما يوصف بغير ، ولمّا كانت حرفا ، ظهر إعرابها فى اسم الجلالة ، ولا يصح رفعه على البدل ؛ لعدم وجود النفي. ثم قال تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ) أي : فسبحوا سبحان الله اللائق به ، ونزهوه عما لا يليق به من الأمور ، التي من جملتها : أن يكون له شريك فى الألوهية. وإيراد الجلالة فى موضع الإضمار ، حيث لم يقل فسبحانه ؛ للإشعار بعلية الحكم ، فإنّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله ، التي من جملتها : تنزهه تعالى عما لا يليق به ، ولتربية المهابة وإدخال الروعة. ثم وصفه بقوله : (رَبِّ الْعَرْشِ) ، وخصه بالذكر ، مع كونه رب كل شىء ؛ لعظم شأنه ؛ لأنّ الأكوان فى جوفه كلا شىء ، أي : تنزيها له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة.

ثم بيّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر ، فقال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي : لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل ؛ هيبة وإجلالا ، (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) أي : وعباده يسألون عما يفعلون ، نقيرا وقطميرا ؛ لأنهم مملوكون له تعالى ، مستعبدون ، ففيه وعيد للكفرة ، فالآية تتميم لقوله : (لاعِبِينَ) ، بل خلقنا الأشياء كلها

__________________

(١) من الآية ١٠ من سورة إبراهيم.

(٢) من الآية ٦٥ من سورة التوبة.

٤٥٢

لحكمة ، فمنها ما أدركتم حكمته ، ومنها ما غاب عنكم ، فكلوا أمره إلى الله ، ولا تسألوه عما يفعل ، فإنه لا يسأل عن فعله ، وأنتم تسألون.

ثم قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) ، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة ؛ بإظهار خلوها من خصائص الألوهية ، التي من جملتها إنشار الموتى ، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله ، إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة ، مع عرائها عن تلك الخصائص ، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة. والهمزة : لإنكار ما اتخذوه واستقباحه ، أي : بل اتخذوا من دونه ـ أي : متجاوزين إياه تعالى ، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية ـ آلهة ، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية.

(قُلْ) لهم ، بطريق التبكيت : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على ما تدّعونه ، من جهة العقل والنقل ؛ فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه فى الأمور الدينية ، لا سيما فى هذا الأمر الخطير ، فإن بهتوا فقل لهم : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) أي : بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة ، وشهدت به سنّة الرسل المتقدمة كافة. فهذا الوحى الوارد فى شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) من أمتى ، أي : عظتهم ، (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) من الأمم السالفة ، أي : بهذا أمرنا ربنا ووعظنا ، وبه أمر من قبلنا ، يعنى : انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها.

وقيل : المعنى : هذا كتاب أنزل على أمتى ، وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ قبلى ، فانظروا : هل فى واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك ، ففيه تبكيت لهم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) أي : لا يفهمونه ، ولا يميزون بينه وبين الباطل ، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان ، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة ؛ لجهلهم وعنادهم ، ولذلك قال : (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي : فهم ؛ لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، لا يرعوون عما هم عليه من الغى والضلال ، وإن كررت عليهم البينات والحجج. أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية ؛ لانهماكهم.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي) (١) (إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، هذا مقرر لما قبله ؛ من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية ، وأجمعت عليه الرسل ـ عليهم‌السلام ـ قاطبة. وصيغة المضارع فى (يوحى) ؛ لحكاية الحال الماضية ؛ استحضارا لصورة الوحى العجيبة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) ، العندية ، هنا ، عندية اصطفاء وتقريب ، وهذه صفة العارفين المقربين ، لا يستكبرون عن عبادته ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام ، ولا يستحسرون :

__________________

(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص : (نُوحِي) ؛ بالنون وكسر الحاء ، على التعظيم ، وقرأ الآخرون ـ بالياء وفتح الحاء ، (انظر : الإتحاف ٢ / ٢٦٢).

٤٥٣

لا يملّون منها ولا يشبعون ، غير أنهم يتلونون فيها ؛ من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب ؛ كالتفكر والاعتبار ، إلى عبادة الأرواح ؛ كالشهود والاستبصار ، إلى عبادة الأسرار ؛ كالعكوف فى حضرة الكريم الغفار ، ينزهون الله تعالى فى جميع الأوقات ، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال.

وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً ...) إلخ ، تصدق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان ، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات ، وقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) ، اعلم أن ثلاثة أشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها ؛ أولها : الألوهية ، فلو تعددت لفسد نظام العالم ، وثانيها : السلطنة ، إذا تعددت فى قطر واحد فسدت الرعية ، وثالثها : الشيخوخة ، إذا تعددت على مريد واحد فسدت تربيته ، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) قال الكواشي : يعنى : لا يسأل عن فعله وحكمه ؛ لأنه الرب ، وهم يسألون ؛ لأنهم عبيده. وبعض الناس يقول : هذه آية الدبوس (١). قلت : وقد تقلب السين زايا ، ومعناها : أن كل ما تحكم به القدرة : يجب حنو الرأس له ، من غير تردد ولا سؤال. ثم قال : ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية فى كتاب الله تعالى ؛ وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية. ه.

وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) يعنى : أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية. والفناء فيه على ثلاثة أقسام : فناء فى توحيد الأفعال ، وهو ألا يرى الفعل إلا من الله ، ويغيب عن الوسائط والأسباب ، وفناء فى توحيد الصفات ، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله ، وفناء فى توحيد الذات ، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله ، ذوقا ووجدا وعقدا. كما قال صاحب العينية :

هو الموجد الأشياء ، وهو وجودها

وعين ذوات الكلّ ، وهو الجوامع (٢)

وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات ، فقال :

فيفنى ، ثم يفنى ، ثم يفنى ،

فكان فناؤه عين البقاء

وهنا ـ أي : فى مقام الفناء والبقاء ـ انتهت أقدام السائرين ، ورسخت أسرار العارفين ، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين ، جعلنا الله من حزبهم. آمين.

__________________

(١) هكذا فى الأصول.

(٢) المراد : أن الحق تعالى قيوم الأشياء ومفيضها من العدم ، والمتجلى عليها بمراده منها ، إذ أنها فى ذاتها فانية من قبل ومن بعد ؛ لأنه لا قيومية لها من ذاتها. هذا هو المعنى الذي ينبغى أن يفهم من خلال هذا البيت وأشباهه.

٤٥٤

ثم أنكر على من ادعى الولد له ، فقال :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين ، جىء بها ؛ لبيان بطلانها. والقائل بهذه المقالة حى من خزاعة ، وقيل : قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح ، يقولون : الملائكة بنات الله ، وأمهاتهم سروات الجن ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوبا له تعالى ، نعمة أو منعما عليه ؛ لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة ، (سُبْحانَهُ) أي : تنزه تنزيها يليق بكمال ذاته ، وتقدّس عن الصاحبة والولد ، (بَلْ) هم (عِبادٌ) لله تعالى ، و (بَلْ) إبطال لما قالوا ، أي : ليست الملائكة كما قالوا ، (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) ؛ مقربون عنده ، (لا يَسْبِقُونَهُ) أي : لا يتقدمونه (بِالْقَوْلِ) ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به. وهذه صفة أخرى لهم ، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى ، أي : لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به. وأصله : لا يسبق قولهم قوله ، ثم أسند السبق إليهم ؛ لمزيد تنزههم عن ذلك ، (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي : لا يعملون إلا ما أمرهم به ، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى فى الأفعال ، إثر بيان تبعيتهم له فى الأقوال ، فإن نفى سبقيتهم له تعالى بالقول : عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه ، كأنه قيل : هم بأمره يقولون وبأمره يعملون ، لا بغير أمره أصلا.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : ما عملوا وما هم عاملون ، وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم. وهو تقرير لتحقق عبوديتهم ؛ لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتسبة من مجانسة البنوة ، (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أن يشفع له ، مهابة منه تعالى. قال ابن عباس : «هم أهل لا إله الا الله» ، (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) عزوجل (مُشْفِقُونَ) : خائفون مرتعدون. قال بعضهم : أصل الخشية : الخوف مع التعظيم ، ولذلك خص بها العلماء ، وأصل الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فعند تعديته بمن : يكون معنى الخوف فيه أظهر ، وعند تعديته بعلى : ينعكس الأمر ؛ فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) أي : من الملائكة ؛ إذ الكلام فيهم ، (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) أي : متجاوزا إياه تعالى ، (فَذلِكَ) الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال ، (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) كسائر المجرمين ، ولا ينفى هذا عنهم

٤٥٥

ما ذكر قبل من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية ؛ لأنه فرض تقدير ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى ، وعزة جبروته ، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم فى حقهم ما توهمه أولئك الكفرة ، ما لا يخفى ، (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزى الظالمين ، الذين يضعون الأشياء فى غير مواضعها ، ويتعدون أطوارهم.

قال الكواشي : هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك ، كقوله : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١). ه. فالقصد : تفظيع أمر الشرك ، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله ، وكان جزاء صاحبه جهنم ، ومثل ذلك الجزاء نجزى الظالمين ، وهم الكافرون ، والحاصل : أنه على سبيل الفرض ، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة ، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون ؛ لعلمه بما لا يكون ، مما جاز أن يكون ، كيف يكون. ه. من الحاشية الفاسية ببعض اختصار.

فالكاف من (كَذلِكَ) : فى محل مصدر تشبيهى ، مؤكد لمضمون ما قبله. والقصر ، المستفاد من التقديم للمصدر ، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة ، أي : لا جزاء أنقص منه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت ، من غير تفريع ، ولا تولد ، ولا علاج ، ولا امتزاج ، بل : كن فيكون ، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض ، ليبقى السر مصونا والكنز مدفونا. فأسرار الذات العلية منزهة عن اتخاذ الصاحبة والولد ، بل القدرة تبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب ، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب. فكل ما ظهر فى عالم التكوين قد عمّته قهرية العبودية ، وانتفت عنه نسبة البنوة لأسرار الربوبية ، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون ، مقدّسون من دنس الحس ، مستغرقون فى هيمان القرب والأنس ، وأهل الملأ الأسفل مختلفون ، فمن غلب عقله على شهوته ، ومعناه على حسه ، وروحانيته على بشريته ، فهو كالملائكة أو أفضل. ومن غلبت شهوته على عقله ، وحسه على معناه ، وبشريته على روحانيته ، كان كالبهائم أو أضل. ومن التحق بالملأ الأعلى ، من الأولياء المقربين ، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ، ومن قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) ، بأن يدبروا معه شيئا قبل ظهور تدبيره ، وهم بطاعته يعملون ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشية هيبته مشفقون ، (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ؛ بأن يدعى شيئا من أوصاف الربوبية ، كالكبرياء ، والعظمة على عباده ، فذلك نجزيه جهنم ، وهى نار القطيعة ، كذلك نجزى الظالمين. وفى الحكم : «منعك أن تدعى ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدعى وصفه وهو رب العالمين»؟.

__________________

(١) من الآية ٨٨ من سورة الأنعام.

٤٥٦

ثم برهن على وحدانيته ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))

قلت : (فِجاجاً) : حال من «سبل» ، وأصله : وصف له ، فلما تقدم أعرب حالا. وقيل (سُبُلاً) : بدل من (فِجاجاً). وفى إتيانه : إيذان أن تلك الفجاج نافذة ؛ لأن الفج قد يكون نافذا وقد لا. قاله المحشى.

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) رؤية اعتبار (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : جماعة السموات وجماعة الأرض (كانَتا) ، ولذلك لم يقل كنّ ، (رَتْقاً) أي : ملتصقة بعضها ببعض. والرتق : الضم والالتصاق. وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : كانتا مرتوقتين ، أي : ملتصقتين ، (فَفَتَقْناهُما) ؛ فشققناهما ، فالفتق ضد الرتق. قال ابن عباس رضي الله عنه : «كانتا شيئا واحدا متصلتين ، ففصل الله بينهما ، فرفع السماء إلى حيث هى ، وأقرّ الأرض». وفى رواية عنه : أرسل ريحا فتوسطتهما ففتقتهما. وقال السدى : (كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرض ، كانت طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين).

فإن قيل : متى رأوهما رتقا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا : مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها ، وهو مشاهد بالأبصار ، وهم متمكنون من النظر والاعتبار ، فيعلمون أن لها مدبرا حكيما ، فتقها ورفعها ، وهو الحق جل جلاله ، وذكر الرتق زيادة إخبار ، فكأنه قال : ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي : لمّا كان القرآن معجزا ، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي ، أو : لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين ، وما بينهما ، وتباينهما ، جائزا عقلا ، وجب تخصيص التلاصق من التباين ، وليس ذلك إلا لله تعالى. ه.

وقيل : كانت السماوات صلبة لا تمطر ، والأرض رتقا لا تنبت ، ففتق السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات. وروى هذا عن ابن عباس أيضا ، وعليه أكثر المفسرين ، وعلم الكفرة الرتق والفتق ، بهذا المعنى ، مما لا خفاء فيه. والرؤية على الأول رؤية علم ، وعلى الثاني رؤية عين.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي : خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) (١) ، وذلك لأنه من أعظم مواده ، أو لفرط احتياجه إليه ، وحبه له ، وعدم صبره عنه ، وانتفاعه به ، ويدخل

__________________

(١) من الآية ٤٥ من سورة النور.

٤٥٧

فى ذلك : النبات ؛ مجازا دون الملائكة ، فأل فيه للحقيقة والماهية ، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينة الجعل ، كما فى آية : (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) (١) ، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص. وقيل : المراد به : المنىّ. فأل فيه ، حينئذ ، للعهد الذهني فقط. قال القشيري : كلّ مخلوق حىّ فمن الماء خلقه ، فإنّ أصل الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفة ، وهى من جملة الماء. ه. وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها. (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) بالله وحده ، وهو إنكار لعدم إيمانهم ، مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الآفاقية والأنفسية ، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت ، من رسا الشيء ؛ إذا ثبت ورسخ ، (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) أي : كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم ، أو لئلا تميد بهم ـ بحذف اللام ، و «لا» ؛ لعدم الإلباس. (وَجَعَلْنا فِيها) أي : فى الأرض ، وتكرير الجعل ؛ لاختلاف المجعولين ، ولتوفية مقام الامتنان حقه ، أو فى الرواسي ؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق ، (فِجاجاً) : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، نفذ أم لا ، أي : جعلنا فى الأرض مسالك واسعة ، و (سُبُلاً) نافذة. فالسبل هى الفجاج مع قيد النفوذ. فإن قيل : أىّ فرق بين هذا وبين قوله : (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) (٢)؟ فالجواب : أنه هنا بيّن أنه خلقها على هذه الصفة ، وهناك بيّن أنه جعل فيها طرقا واسعة ، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك ، فما هنا تفسير لما هناك. انظر النسفي.

وقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي : إلى البلاد المقصودة بتلك السبل ، أو إلى مصالحهم ومهماتهم. (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) من السقوط ، كقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٣) ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم ، أو من استراق السمع بالشهب ، كما قال : (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٤). (وَهُمْ) أي : الكفار (عَنْ آياتِها) أي : عن الأدلة التي فيها ، كالشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته ، التي بعضها محسوس ، وبعضها معلوم بالبحث فى علمى الطبيعة والهيئة ، (مُعْرِضُونَ) لا يتدبرون فيها ، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال ، فيؤمنون.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ) لتسكنوا فيه ، (وَالنَّهارَ) لتتصرفوا فيه ، (وَالشَّمْسَ) لتكون سراج النهار ، (وَالْقَمَرَ) ليكون سراج الليل ، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون. وقوله : (كُلٌ) أي : كلهم ، والمراد : جنس الطوالع ، (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي : يسيرون سير العائم فى الماء. عن ابن عباس رضي الله عنه : الفلك السماء ، وقيل : موج مكفوف تحت السماء ، يجرى فيه الشمس والقمر والنجوم. وجمهور أهل الهيئة أن الفلك :

__________________

(١) من الآية ١٧ من سورة يوسف.

(٢) من الآية ٢٠ من سورة نوح.

(٣) من الآية ٦٥ من سورة الحج.

(٤) الآية ٧ من سورة الصافات.

٤٥٨

جسم مستدير ، وأنهن تسعة ، وهل هى السموات السبع ، فيكون الكرسي ثامنا ، والعرش تاسعا ، أو غيرهن ، فتكون تحت السموات أو فوقها؟ قولان لهم. والمراد هنا : الجنس ، كقولك : كساهم الأمير حلة ، أي : حلة حلة ، وجعل الضمير واو العقلاء ؛ لأن السباحة حالهم.

قال فى المستخرج من كتاب الغزنونى : (كُلٌّ) أي : كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة ، وإن لم تذكرن ؛ لأنه جمع قوله : (يُسَبِّحُونَ) والمعنى : يجرون كالسابح ، أو يدورون ، والسيارة تجرى فى الفلك على عكس جرى الفلك ، ولها تسعة أفلاك ، فالقمر فى الفلك الأدنى ، ثم عطارد ، ثم الزهرة ، ثم الشمس ، ثم المريخ ، ثم المشترى ، ثم زحل ، والثامن : فلك البروج ، والتاسع : الفلك الأعظم. ه. وقال فى سورة يس : خص الشمس والقمر هنا ، وفى سورة الأنبياء ؛ لأن سيرهما أبدا على عكس دور الفلك ، وسير الخمسة قد يكون موافقا لسيره عند رجوعها. ه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : أو لم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سموات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقا صلبة ، ميتة بالجهل ، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد؟ والمعنى : أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة ، فإذا صحبت أهل التربية ، انفتقت بالعلوم والأسرار ، فهذا شاهد بوجود أهل التربية ، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة. وجعلنا من ماء الغيب ـ وهى الخمرة الأزلية ـ كلّ شىء حى ، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه؟ وجعلنا فى أرض النفوس جبالا من العقول ؛ لئلا تميل إلى الهوى فتموت ، وجعلنا فيها طرقا يسلك منها إلى الحضرة ، وهى كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة ، وهى طرق كثيرة ، والمقصد واحد ، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء ، التي هى معرفة الحق بالعيان ، وهو قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الوصول إلى حضرتنا.

وجعلنا السماء ، أي : سماء القلوب الصافية ، سقفا محفوظا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين ، قال بعضهم : (إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين ، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ). وهم عن آياتها ، أي : عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون ؛ لانهماكهم فى الغفلة. وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان ، كلّ فى موضعه ، لا يتعدى أحد على صاحبه ، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم. وبالله التوفيق.

ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكر من الآيات والدلائل القاطعة ، وانقطعوا ، قالوا : ننتظر به ريب المنون ، فنستريح منه ، فأنزل الله تعالى :

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥))

٤٥٩

يقول الحق جل جلاله لنبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) أي : البقاء الدائم ؛ لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية ، (أَفَإِنْ مِتَ) بمقتضى حكمتنا (فَهُمُ الْخالِدُونَ) بعدك؟ نزلت حين قالوا : نتربص به رب المنون ، فنفى عنه الشماتة بموته ، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغى أن يصدر من عاقل ، أي : قضى الله ألا يخلد فى الدنيا بشرا ، فإن متّ ـ يا محمد ـ أيبقى هؤلاء الكفرة؟ كلا ؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي : ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، فتستوى أنت وهم فيها ، فلا تتصور الشماتة بأمر عام.

(وَنَبْلُوكُمْ) ، الخطاب : إما للناس كافة بطريق التلوين ، أو للكفرة بطريق الالتفات ، وسمى ابتلاء ، وإن كان عالما بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم ؛ لأنه فى صورة الاختبار ، أي : نختبركم (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) ، أي : بالفقر والغنى ، أو بالضر والنفع ، أو بالعطاء والمنع ، أو بالذل والعز ، أو بالبلاء والعافية ، (فِتْنَةً) ؛ اختبارا ، هل تصبرون وتشكرون ، أو تجزعون وتكفرون. و (فِتْنَةً) : مصدر مؤكد «ل (نَبْلُوكُمْ») ، من غير لفظه. (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) لا إلى غيرنا ، فنجازيكم على حسب ما يؤخذ منكم ؛ من الصبر والشكر ، أو الجزع والكفران. وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا : الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب. والله تعالى أعلم.

الإشارة : لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه ، وتسلب كرائمه ، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار التعب إلى دار الهناء ، ومن دار العمل إلى دار الجزاء. فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار ، وصرف وجهته إلى دار القرار ، فاشتغل بالتزود للرحيل ، وبالتأهب للمسير ، فلا مطمع للخلود فى هذه الدار ، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار ، وتأمل قول الشاعر :

صبرا فى مجال الموت صبرا

فما نيل الخلود بمستطاع

وقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) ، اعلم أن تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه ، إن صحبته اليقظة ، فيرجع إلى الله تعالى فى كل حال تنزل به ، إن أصابته ضراء رجع إلى الله بالصبر والرضا ، وإن أصابته سواء رجع إليه بالحمد والشكر ، فيكون دائما فى السير والترقي ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) أي : بهما. فالرجوع إلى الله فى السراء والضراء من أركان الطريق ، والرجوع إلى الله فى الضراء بالصبر والرضا ، وفى السراء بالحمد والشكر ، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة. وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ابتلى فصبر ، وأعطى فشكر ، وظلم فغفر أو ظلم فاستغفر» ، ثم سكت ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقالوا : ماله يا رسول الله؟ قال : «أولئك لهم الأمن وهم مهتدون» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عجبا لأمر المؤمن ، إنّ أمره كلّه خير ، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن ، إن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له» (٢).

__________________

(١) عزاه فى الجامع الصغير (ح ٨٢٨١) ، للطبرانى والبيهقي ، عن سخبرة ، وحسّنه.

(٢) أخرجه مسلم فى (الزهد ، باب : المؤمن أمره كله خير) ، عن صهيب رضي الله عنه.

٤٦٠