البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

أي : ذلا وهوانا ؛ لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذاما» (١). وتكون عونا عليهم ، وآلة لعذابهم ، حيث تجعل وقود النار وحصب جهنم ، أو تكون الكفرة ضدا وأعداء للآلهة ، كافرين بها ، بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ، ويعبدونها من دون الله ، وتوحيد الضد ؛ لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم ، فإنهم بذلك كشىء واحد ، كقوله عليه الصلاة والسلام : «وهم يد على من سواهم» (٢).

وسبب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان ، وفاء بقوله : (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٣) كما قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) أي : سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم ، بقوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) (٤) الآية.

وهذا تعجيب لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة ، العتاة المردة ، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل ، والتمادي فى الغى ، والانهماك فى الضلال ، والتصميم على الكفر ، من غير صارف يلويهم ، ولا عاطف يثنيهم ، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتضاحه ، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم ، لا أن له مسوغا فى الجملة ، أي : ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم ، وليس المراد تعجيبه عليه‌السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم ، كما يوهمه تقليل الرؤية ، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) أي : تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا ، بأنواع الوساوس والتسويلات. فالأز والاستفزاز أخوان ، معناهما : شدة الانزعاج ، وجملة (تَؤُزُّهُمْ) : حال مقدرة من الشياطين ، أو استئناف وقع جوابا عن صدر الكلام ، كأنه قيل : ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).

(فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) بأن يهلكوا حسبما تقتضى جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم ، وتطهر الأرض من فسادهم ، (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : لا تستعجل بهلاكهم ، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدا ، ثم نأخذهم أخذا. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه البزار (كشف الأستار ٤ / ٢١٨) من حديث السيدة عائشة. وقال الهيثمي فى المجمع : (١٠ / ٢٢٨) : رواه البزار من طريق قطبة بن العلاء عن أبيه ، وكلاهما ضعيف. وورد معنى الحديث عند الترمذي ، ولفظه : «من التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط الله عليه ، وأسخط الناس عليه».

(٢) طرف من حديث أخرجه أحمد فى المسند (١ / ١٢٢) وأبو داود فى : (الديات ، باب إيقاد المسلم بالكافر) ، والنسائي فى (القسامة ، باب القود بين الأحرار والعبيد) من حديث سيدنا على.

(٣) من الآية ٣٩ من سورة الحجر.

(٤) من الآية ٦٤ من سورة الإسراء ٤٣.

٣٦١

الإشارة : كل من اتخذ شيئا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذلا وهوانا ، ولذلك قيل : «من تعزز بمخلوق مات عزه». فإن أردت عزا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى ، وهو التعزز بالمال أو الجاه ، أو غير ذلك مما يفنى ، وسيأتى عند قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (١). (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) زيادة بيان. وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله ، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله. فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة ، والواردات تزعجه إلى الحضرة ، تخرجه عن عوائده وتدمغ له من علائقه ، وعوائقه ، حتى ينفرد لحضرة الحق : وفى الحكم : «الوارد يأتى من حضرة قهار ، لأجل ذلك لا يصادمه شىء إلا دمغه ؛ (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ»). وقال أيضا : «متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك ؛ «إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها».

وقال القشيري على قوله : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي : تزعجهم إزعاجا ، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة ، وخاطر الحقّ يكون بروح وسكون ، وهذه إحدى الفوارق بينهما. ه. قلت : ومن الفوارق أيضا : أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح فى القلب وسكون وأناة .. وفى الحديث «العجلة من الشيطان ، والأناة من الرحمن» (٣). ه. بخلاف خاطر الشيطان ؛ فإنه لا يأمر إلا بالشر ، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرّ به إلى الشر ، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودخن وعجلة وبطش ، وقد استوفى الكلام عليهم فى النصيحة الكافية. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مآل فريق الإيمان وفريق الضلال ، فقال :

(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))

قلت : (يَوْمَ نَحْشُرُ) : إما ظرف لفعل مؤخر ؛ للإشعار بضيق العبارة عن حصره ؛ لكمال جماله أو فظاعته ، والتقدير : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن ، ونسوق المجرمين ، نفعل بالفريقين ما لا يفى به نطاق المقال ، أو ظرف لا ذكر ، و (وَفْداً) و (وِرْداً) : حالان.

__________________

(١) من الآية ١٠ من سورة فاطر.

(٢) من الآية ٨ من سورة المنافقون.

(٣) أخرجه البيهقي فى السنن الكبرى (١٠ / ١٠٤) بتقديم وتأخير ، من حديث أنس بن مالك ، وعزاه فى مجمع الزوائد لأبى يعلى عن أنس ، وقال : ورجاله رجال الصحيح.

٣٦٢

يقول الحق جل جلاله : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ) : نجمعهم (إِلَى الرَّحْمنِ) أي : إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة ، (وَفْداً) : وافدين عليه ، كما يفد الوفود على الملوك ، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم. وعن على كرم الله وجهه : (لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله ، إنى قد رأيت الملوك ووفودهم ، فلم أر وفدا إلا راكبا ، فما وفد الله؟ قال : «يا على ؛ إذا حان المنصرف من بين يدى الله ، تلقت الملائكة المؤمنين بنوق بيض ، رحالها وأزمّتها الذهب ، على كل مركب حلة لا تساويها الدنيا ، فيلبس كل مؤمن حلة ، ثم يستوون على مراكبهم ، فتهوى بهم النوق حتى تنتهى بهم إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ)».

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) كما تساق البهائم (إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) : عطاشا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ، أو كالدواب التي ترد الماء ، أي : يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفى به نطاق العبارة ، لما يقع فيه من الدواهي الطامة ، أو الكرائم العامة ، أو : اذكر يوم نحشر الفريقين ، على طريق الترغيب والترهيب.

وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) : استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الواو : إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها ، أو إلى المتقين فقط ، أو إلى المجرمين.

و (مَنِ اتَّخَذَ) : منصوب على الاستثناء ، أو بدل من الواو ، أي : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى ، ففيه ترغيب للعباد فى تحصيل الإيمان والتقوى ، المؤدى إلى نيل هذه الرتبة العليا. أولا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح ، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلما ، فيشفع فى مثله. فمن ، على هذا الثالث ، بدل من الواو فقط. والأول أحسن ؛ لعمومه.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أما يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عهدا عند الله ، يقول كلّ صباح ومساء : اللهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشّهادة ، إنّى أعهد إليك فى هذه الحياة الدنيا ، بأنى أشهد أن لا إله إلّا أنت ، وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك ، فلا تكلنى إلى نفسى ، فإنك إن تكلنى إلى نفسى تقرّبنى من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإنّى لا أثق إلّا برحمتك ، فاجعل لى عندك عهدا توفّينيه يوم القيامة ، إنّك لا تخلف الميعاد. فإذا قال ذلك طبع عليه طابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد فيدخلون الجنّة». ه.

الإشارة : ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم فى الدنيا ، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده فى الآخرة ، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة ، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية ، ومن ورد من باب الطاعات

٣٦٣

السرية ـ كالفكرة والنظرة فى مقام المشاهدة ـ حمله الحق إلى الحضرة القدسية ، فيكون فى مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن العارف فى قوله تعالى : (وَفْداً) : قيل : ركبانا على نجائب طاعتهم ، وهم مختلفون ، فمن راكب على صور الطاعات ، ومن راكب على نجائب الهمم ، ومن راكب على نجائب الأنوار ، ومن محمول يحمله الحق فى عقباه ، كما يحمله اليوم فى دنياه ، وليس محمول الحق كمحمول الخلق. ه.

وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ ...) الآية ، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة ، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم ، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم ، وهم أعظم من أهل المقام الأول ، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم ، وهم أعظم من القسمين ، حتى إن منهم من يشفع فى أهل عصره كلهم ، وقد سمعت من شيخنا الفقيه ، شيخ الجماعة سيدى التاودى بن سودة ، أن بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفعنى فى أهل زمانى ، فقال له الحق تعالى ـ من جهة الهاتف ـ : لم يبلغ قدرك هذا ، فقال : يا رب إن كان ذلك من جهة عملى واجتهادي فلعمرى إنه لم يبلغ ذلك ، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا ، فقال له : إنى شفعتك فى أهل عصرك. ه. بالمعنى. فمن رجع إلى كرم الله وجوده ، ودخل من هذا الباب ، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شىء. وبالله التوفيق.

ثم كرر الرد على أهل الشرك والضلال وشنّع عليهم ، فقال :

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))

قلت : (هَدًّا) : مصدر مؤكد لمحذوف ، هو حال من الجبال ، أي : تهد هدّا. و (أَنْ دَعَوْا) : على حذف اللام ، أي : لأن دعوا ، وفيه احتمالات أخر.

يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى ، ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، لعن الله جميعهم ، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فحكى جنايتهم إثر جناية عبدة الأصنام ، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم فى الضلالة ، قال تعالى فى شأنهم : (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) أي : فعلتم أمرا منكرا شديدا ، لا يقادر قدره ، فهو رد لمقالتهم الباطلة ، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات

٣٦٤

المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب ، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح ، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل. و (جاء) يستعمل بمعنى فعل ، فيتعدى تعديته ، والإد ـ بكسر الهمزة وفتحها ، وقرئ بهما فى الشاذ ـ : العظيم المنكر ، الإدّ : الشدة ، قيل : الأدّ : فى كلام العرب : أعظم الدواهي.

ثم وصفه وبيّن هوله فقال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) : يتشققن مرة بعد أخرى ، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله ، وهو أبلغ من «ينفطرن» كما قرئ به ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ) أي : وتكاد تنشق وتذهب ، (وَتَخِرُّ الْجِبالُ) أي : تسقط وتنهدم (هَدًّا) بحيث لا يبقى لها أثر. والمعنى : أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها ، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة ، لم يطق سمعها تلك الأجرام العظام ، ولتفتتت من شدة قبحها ، أو : إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لو لا حلمه تعالى ، لخر العالم وتبددت قوائمه ، غضبا على من تفوه بها. قال محمد بن كعب : كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ، يعنى : لأن ما ذكر أوصاف الساعة.

وذلك (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي : تكاد تنفطر السموات وتنشق الأرض ، وتنهدم الجبال ؛ لأجل أن دعوا ، أي : نسبوا أو سموا للرحمن ولدا ، (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدا ، أو دعوا له ولدا ، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد ؛ لاستحالته عليه تعالى. ووضع الرحمن موضع الضمير ؛ للإشعار بعلية الحكم ؛ لأن كل ما سواه تعالى منعّم عليه برحمته ، أو نعمة من أثر الرحمة ، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها ، حتى يتوهم أن يتخذه ولدا ، وقد صرح به قوله عز قائلا : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ؛ مملوكا لله فى الحال بالانقياد وقهرية العبودية. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) أي : حصرهم وأحاط بهم ، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وقهريته ، ما وجد منهم وما سيوجد ، وما يقدر وجوده لو وجد ، كل ذلك فى علمه وقضائه وقدره وتدبيره ، لا خروج لشىء عنه ، وفى ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شىء ، وأنه عالم بكل شىء ، جملة وتفصيلا ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) أي : وكل واحد منهم يأتى يوم القيامة فردا من الأموال والأنصار والأتباع ، متفردا بعمله ، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئا منهم ولدا؟!.

وفى الحديث القدسي : «قال الله تعالى : كذّبنى عبدى ، ولم يكن له ذلك ، وشتمنى عبدى ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبه إياى ؛ فأن يقول : من يعيدنا كما بدأنا؟ وأما شتمه إياى ؛ فأن يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لى كفوا أحد» (١). وهو فى البخاري. وفى صيغة اسم الفاعل فى قوله : (آتِيهِ) من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس فى صيغة المضارع لو قيل يأتيه. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاري (فى تفسير سورة الإخلاص) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٣٦٥

الإشارة : إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جل جلاله يغضب هذا الغضب الكلى على من أشرك مع الله ، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال ، فينبغى لك أن تخلص مشرب توحيدك من الشرك الجلى والخفي ، علما وعقدا وحالا وذوقا ، حتى لا يبقى فى قلبك محبة لشىء من الأشياء ولا خوف من شىء ، ولا تعلق بشىء ، ولا ركون لشىء ، إلا لمولاك ، وحينئذ يصفى مشرب توحيدك ، وتكون عبدا لله خالصا حرا مما سواه ، ومهما بقي فيك شىء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره ، ولم تصل إليه مادمت تميل إلى شىء سواه. وفى ذلك يقول الششترى رضي الله عنه :

إن ترد وصلنا فموتك شرط

لا ينال الوصال من فيه فضله

فكن عبدا لله حقيقة ، وانخرط فى سلك قوله : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً). فحينئذ تكون حرا مما سواه ، ويملك الوجود بأسره ، يكون عند أمرك ونهيك. وفى ذلك يقول القائل :

دعونى لملكهم فلما أجبتهم

قالوا دعوناك للملك لا للملك

وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شىء فى محله ، فتتنزه بعين القدرة فى رياض الملكوت وبحار الجبروت ، وتتنزه بعين الحكمة فى بهجة الملك وأسرار الحكمة. فعين القدرة تقول : كل من فى السموات والأرض نور من أنوار الرحمن ، وسر من أسرار ذاته ، وعين الحكمة تقول : كل من فى السموات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته ، فاعرف الضدين ، وأنزل كل واحد فى محله ، تكن عارفا بالله ، فإن أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلا به. فالحكمة تثبت العبودية صورة ؛ صونا لكنز الربوبية ، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية ، وفى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية فى إظهار العبودية».

فالعبودية لازمة من حيث العبد ، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب ، فإثبات العبودية ، حكمة ، فرق ، والغيبة عنها فى شهود أنوار الربوبية : جمع ، فالعارف مجموع فى فرقه ، مفروق فى جمعه.

ولما ذكر قبائح الكفرة أتبعه بذكر محاسن المؤمنين ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦))

قلت : لما استحقر الكفرة أحوال المؤمنين حتى قالوا : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم فى قلوب عباده.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ) فى قلوب الناس مودة وعطفا ، حتى يحبهم كل من سمع بهم ، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السموات والأرض ، أي : سيحدث

٣٦٦

لهم فى القلوب مودة من غير تعرض لأسبابها ، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح ، أو (وُدًّا) فيما بينهم ، فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله.

قال القشيري : يجعل فى قلوبهم ودّا لله ، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة ، وفى الخبر : «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه». والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لما أنّ الموعود من آثارها ، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال لعلىّ رضي الله عنه : «قل اللهمّ اجعل لى عندك عهدا ، واجعل لى فى صدور المؤمنين مودّة» فنزلت الآية (١). وفى حديث البخاري وغيره : «إذا أحبّ الله عبدا قال لجبريل : إنى أحب فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل ، ثمّ ينادى فى أهل السّماء إنّ الله قد أحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السّماء ، ثمّ يضع له المحبة فى الأرض» (٢).

وقال قتادة : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : أي والله ودا فى قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول : ما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت : ولفظ الحديث : «ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عزوجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالودّ والرحمة ، وكان الله إليه بكل خير أسرع» (٣). نقله فى الترغيب. وفى حديث آخر : «يعطى المؤمن ودّا فى صدور الأبرار ، ومهابة فى صدور الفجار». فتودّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء الله فى أرضه. وفى بعض الأثر : «لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يحب ، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره». بالمعنى.

وأتى الحق جل لجلاله بالسين ؛ لأن السورة مكية ، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة ، فوعدهم ذلك ، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام ، فعزوا وانتصروا ، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب ، كما هو مسطر فى تواريخهم. وقيل : الموعود فى القيامة ، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية (٤) ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين مالهم من الكرامات السنية ؛ لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) عزاه فى المنثور (٤ / ٥١٢) لابن مردويه والديلمي ، عن البراء.

(٢) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب : ذكر الملائكة) ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبدا) من حديث أبى هريرة.

(٣) أخرجه الطبراني فى الأوسط (٥ / ١٨٦ ح ٥٠٢٥) بزيادة فى أوله ، من حديث أبى الدرداء ، وقال الهيثمي فى المجمع : (١٠ / ٢٤٧) : رواه الطبراني فى الكبير والأوسط. وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب ، وهو كذاب.

(٤) التعبير بالاستقبال بالنسبة إلى الله تحقيق ، كالماضى ، والحاضر ، فليس عند الله زمن كما هو عندنا. والأحسن فى تأويل الآية أن نجعل السين حرف توكيد. والله أعلم.

٣٦٧

الإشارة : سنّة الله تعالى فى أوليائه ، فى حال بدايتهم ، أن يسلط عليهم الخلق ، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده ، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم ، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم ؛ لئلا تسكن إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا .. إلخ. فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا ، وتمكنوا من معرفة الحق ، أعزهم وألقى مودتهم فى قلوب عباده ، هذا دأبه معهم فى الغالب ، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك ، ولا يكون ذلك نقصا فى حقه بل كمالا ، وهم شهداء الملكوت ، لم يأخذوا من أجرهم شيئا. والله تعالى أعلم.

ولما ختم السورة الكريمة ، أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغها ، فقال :

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))

قلت : الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم ، كأنه قيل ـ بعد إيحاء السورة الكريمة : بلغ هذا المنزّل عليك ، وبشر به ، وأنذر ؛ فإنما يسرناه .. إلخ. قاله أبو السعود.

يقول الحق جل جلاله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي : القرآن (بِلِسانِكَ) بأن أنزلناه على لغتك ، والباء بمعنى «على» وقيل : ضمّن التيسير معنى الإنزال ، أي : يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي : السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهى ، (وَتُنْذِرَ بِهِ) أي : تخوف به (قَوْماً لُدًّا) لا يؤمنون به ، لجاجا وعنادا ، واللّدّ : جمع ألد ، وهو الشديد الخصومة ، اللجوج المعاند.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : كثيرا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين ، فهو وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك ، وحث له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الإنذار ، أي : دم على إنذارك لهم ، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي : هل تشعر بأحد منهم ، وترى له من باقية (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي : صوتا خفيا ، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم ، وخربت قصورهم وديارهم ، وكذلك نفعل بغيرهم ، والمعنى : أهلكناهم بالكلية ، واستأصلناهم بحيث لا يرى منهم أحد ، ولا يسمع لهم صوت خفى ولا جلى. وجملة : (هَلْ تُحِسُّ) : استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، وأصل الّركز : الخفاء ، ومنه : ركز الرمح ؛ إذا غيب طرفه فى الأرض ، والرّكاز : المال المدفون المخفي. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير ، فأمر الله رسوله فى حياته بالبشارة والإنذار به ، وبقي الأمر لخلفائه ، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير ، ولا يكفى عنه تعليم رسوم الشريعة ، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير ، كما قال تعالى : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا).

٣٦٨

لكن لا يتصدى للوعظ إلا من له نور يمشى به فى الناس ، فيسبقه نور قلبه إلى القلوب المستمعة ، فيقع كلامهم فى قلوب السامعين. قال فى الحكم : «تسبق أنوار الحكماء أقوالهم ، فحيثما صار التنوير وصل التعبير». هذا النور هو نور المعرفة الذي هى مقام الفناء ، ويشترط فيه أيضا : أن يكون مأذونا له فى الكلام من شيخ كامل ، أو وحي إلهامى حقيقى ، فحينئذ يقع كلامه فى مسامع الخلق. وفى الحكم : «من أذن له فى التعبير حسنت فى مسامع الخلق عبارته ، وجليت إليهم إشارته».

وقال أيضا : «ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار ، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار». وفى أمثال هؤلاء المتصدين للوعظ والتذكير ورد الخبر القدسي : «إنّ أودّ الأودّاء إلىّ من يحببنى إلى عبادى ، ويحبب عبادى إلىّ ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة» .. جعلنا الله من خواصهم بمنّه وكرمه آمين. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلّم تسليما.

٣٦٩
٣٧٠

سورة طه

مكية. وهى مائة وخمس وثلاثون آية. ووجه مناسبتها لما قبلها قوله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) (١) مع قوله : (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ، كأنه يقول : فإنما سهلناه عليك لترتاح به لا لتتعب. ثم افتتحها برموز بينه وبين حبيبه ، فقال :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

قلت : عن ابن عباس أن (طه) من أسماء الله تعالى ، وقيل : معناه : طوبى لمن هدى ، وقيل : يا طاهر يا هادى ، فالطاء تشير إلى طهارته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطهيره من دنس الحس ، والهاء تشير إلى هدايته فى نفسه ، وهدايته غيره إلى حضرة القدس.

وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لى عشرة أسماء ..» فذكر أن منها «طه ويس» ، وقيل : معناه : طأ الأرض بقدمك ؛ لأنه كان يرفع رجلا فى الصلاة ويضع أخرى فى طول تهجده ، فأبدل الهمزة ألفا ، والضمير للأرض ، ورد بأنه لو كان كذلك لكتبت بالألف ، فإنّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم. وقيل : معناه : يا رجل. وهو مروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم ، وهو عندهم على اللغة النبطية ، أو السريانية (٢). قيل : من جعل معنى (طه) يا رجل ، لم يقف على طه ، وكذا من جعله اسما للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن النداء تنبيه على ما بعده ، ومن جعلها افتتاحا ، أو على وجه من الوجوه المذكورة فى البقرة ، وقف عليها ، إلا فى قول من جعلها قسما ، فإنه لا يقف عليها ؛ لأن قوله : (ما أَنْزَلْنا ...) إلخ جواب قسم.

__________________

(١) من الآية ٩٧ من سورة مريم.

(٢) انظر تفسير البغوي (٥ / ٢٦٢) ، وزاد المسير (٥ / ٢٦٩).

٣٧١

قلت : المتبادر من سبب نزولها ومن قوله : (ما أَنْزَلْنا) : إما القسم أو النداء ، فالقسم على أن ذلك من أسماء الله ، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل ، أو من أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأمّا غير ذلك فبعيد ، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافا بعد الوقف على (طه). قاله فى الحاشية.

و (إِلَّا تَذْكِرَةً) : مفعول لأجله. والاستثناء منقطع ، أي : ما أنزلناه لتتعب به ، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ ، و (تَنْزِيلاً) : مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله ، أي : أنزل تنزيلا ، والأصح : أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له ، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه ، وفيه معنى التأكيد لما قبله ، أو هو نص فى معناه ، وإنما تلون الكلام بالالتفات ، أو منصوب على المدح والاختصاص ، أو مفعول بيخشى ، أو حال من (الْقُرْآنَ) ، و (الرَّحْمنُ) : رفع على المدح ، وقد عرفت أن المرفوع مدحا ، فى حكم الصفة الجارية على ما قبلها ، وإن لم يكن تابعا له فى الإعراب ، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ؛ ليكون فى صورة متعلق من متعلقاته. وقرئ بالجر ؛ صفة للموصول ، وما قيل من أن الموصولات لا توصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفى ، أو (الرَّحْمنُ) : مبتدأ ، و (عَلَى الْعَرْشِ) : خبره. و (عَلَى) : متعلقة باستوى ، قدمت للفواصل. و (إِنْ تَجْهَرْ) : شرط ، والجواب محذوف دل عليه (فَإِنَّهُ ...) إلخ ، أي : فالله غنى عن جهرك ، فإنه ... إلخ.

يقول الحق جل جلاله ؛ تسلية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو ترويحا له من التعب : يا محمد (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) أي : لتتعب نفسك بالمجاهدة فى العبادة.

روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقوم باللّيل حتّى تورّمت قدماه ، فقال له جبريل عليه‌السلام : «أبق على نفسك ، فانّ لها عليك حقا». أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك (١) وحملها على الرياضات الشاقة ، والشدائد الفادحة ، وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة. أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك فى تبليغه بمكابدة الشدائد فى مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم ، كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٢) ، بل للتبليغ ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء فى هذا المعنى شائع ، ومنه قولهم : أشقى من رائض مهر ، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك شقى ، حيث تركت دين آباءك ، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى ، فردّ الله ذلك عليهم. والأول أظهر ، والعموم أحسن ، فإنه نفى عنه جميع الشقاء فى الدنيا والآخرة.

(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي : ما أنزلناه لتتعب ، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله ـ عزوجل ـ ؛ ليتأثر بالإنذار ، لرقة قلبه ولين عريكته ، أو لمن علم الله أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ ؛ لأنهم المنتفعون بها.

__________________

(١) أي : إجهاد نفسك.

(٢) الآية ٣ من سورة الشعراء.

٣٧٢

(تَنْزِيلاً) أي : أنزل تنزيلا ، أو حال كون القرآن تنزيلا ، أي : منزلا (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) ، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله : (ما أَنْزَلْنا) ؛ لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات ، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر ؛ لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس ، ووصف السموات بالعلى ، وهو جمع «عليا» ؛ لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، مسوق لتعظيم المنزل ـ عزوجل ـ المستتبع بتعظيم المنزّل عليه ، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة ، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان ، واستمالتهم إلى الخشية ، المفضية إلى التذكير والإيمان.

ثم قال تعالى : (الرَّحْمنُ) أي : هو الرحمن ، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية ؛ للإيذان بأن ربوبيته تعالى ، وقيامه بالأشياء ، من طريق الرحمة والإحسان ، لا بالإيجاب ، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضا من رحمته ـ تعالى ـ ، كما ينبئ عنه قوله عز من قائل : (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (١). أو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب ؛ للإيذان بأن ذلك أمر بيّن لا خفاء فيه ، غنى عن الإخبار صريحا. والاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان ، يقال : استوى فلان على سرير الملك ؛ مرادا به ملك الملك والتصرف ، وإن لم يقعد على سرير أصلا ، والمراد : تعلق قدرته وقهريته فى جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.

وسئل أحمد بن حنبل عن الاستواء ، فقال : استواء من غلب وقهر ، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي ـ رضى الله عنهما ـ فقالا : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة ، آمنوا بلا تشبيه ، وصدّقوا بلا تمثيل ، وأمسكوا عن الخوض فى هذا كل الإمساك.

وقال الجنيد رضي الله عنه : خلق الله العرش فوق سبع سموات ، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات ، وقابله بقلب عبده المؤمن ، ليكون محلا للتجليات والتنزلات والمخاطبات. ه. وقد تقدم الكلام عليها فى الأعراف مستوفيا (٢).

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ، (وَما بَيْنَهُما) من الموجودات الكائنة فى الجو دائما ، كالهواء والسحاب ، أو أكثريا ؛ كالطير ، أي : له ذلك وحده دون غيره ، لا شركة ولا استقلالا ، كل ما ذكر هو له ؛ ملكا وتصرفا ، وإحياء وإماتة ، وإيجادا واعداما ، (وَما تَحْتَ الثَّرى) : وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب : أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدى : أن

__________________

(١) الآيتان : ١ ـ ٢ من سورة الرحمن.

(٢) راجع تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف.

٣٧٣

الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة ، وذكره مع دخوله تحت ما فى الأرض ؛ لزيادة التقرير. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) أي : وإن تجهر بذكره تعالى ـ أو دعائه ، فاعلم أنه تعالى غنى عن جهرك ؛ (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) أي : ما أسررته إلى غيرك ، وشيئا أخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، من غير أن تتفوه به أصلا أو : السر : ما أسررته فى نفسك ، وأخفى منه : ما ستسره فى المستقبل. وهو إمّا نهى عن الحركة ، كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) (١) وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى ؛ بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها ، ومنعها من الاشتغال بغيره ، وقطع الوسوسة عنها ، وهضمها بالتضرع والجؤار. هذا والغرض من الآية : بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء ، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات.

ثم بيّن الموصوف بتلك الكمالات ، فقال : (اللهُ) أي : ما ذكر من صفات الكمال ، موصوفها الله المعبود بالحق ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق إلا هو ، ولا مستحق للعبادة إلا هو. وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه ، فإنّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات ، ومن الرحمانية والمالكية للكل ، والعلم الشامل ، يقتضى اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية ، وقوله تعالى : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) بيان لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية أسماءه تعالى وصفاته ، من غير تعدد فى ذاته تعالى ؛ فالأسماء والصفات كثيرة ، والمسمى والموصوف واحد. و (الْحُسْنى) : تأنيث الأحسن ، فعلى ، يوصف به الواحد المؤنث ، والجمع المذكر والمؤنث ، ك (مَآرِبُ أُخْرى) (٢) ، و (آياتِنَا الْكُبْرى) (٣). والله تعالى أعلم.

الإشارة : من تأمل القرآن العظيم ، وما جاء به الرسول ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ وجده يدل على ما يفضى إلى الراحة دون التعب ، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء ، لكن لا يتوصل إلى الراحة إلا بعد التعب ، ولا يفضى العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب ، فإذا اجتهد العبد فى طلب ربه ، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب ، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح ، وأفضى حينئذ إلى روح وريحان ، وجنة ورضوان ، أعنى جنة العرفان. ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : «ليس شيخك من يدلك على تعبك ، إنما شيخك من يريحك من تعبك» ، كما فى لطائف المنن.

وقال شيخنا القطب ابن مشيش : وقد سئل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسّروا ولا تعسّروا» فقال : دلوهم على الله ، ولا تدلوهم على غيره ، فإن من دلّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلّك على الله فقد

__________________

(١) من الآية ٢٠٥ من سورة الأعراف.

(٢) من الآية ١٨ من سورة طه.

(٣) من الآية ٢٣ من سورة طه.

٣٧٤

نصحك. ه. فإذا دلك على الله غيّبك عن وجود نفسك بشهود ربك ، وهى السعادة العظمى ، كما تقدم فى سورة هود. فمن اتخذ شيخا ثم لم ينقله من مقام التعب ، ولم يرحله من مقام إلى مقام ، فاعلم أنه غير صالح للتربية.

وقوله تعالى : (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) ، قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن العارف : قيل : أنزل الله القرآن لتذكير سابق الوصال ؛ لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها ، فأنزل الله القرآن تأنيسا ؛ لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه. وقال جعفر الصادق : أنزل الله القرآن موعظة للخائفين ، ورحمة للمؤمنين ، وأنسا للمحبين. وأيضا : القرآن يذكّر عظمة الله الموجبة خشيته ، فهو مذهب للغفلة. ثم قال : وفى الشهود الحاصل بالتذكير رفع المشقة ، ووجدان الراحة بالطاعة ، لكونه يصير محمولا ، وقد قال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١) ، أي : لشهودى فيها ، وفى ذلك قرة عين ، وراحة ، وأنس ، وتشابه حال المصلى بحال موسى ، بجامع النجوى ، فلذلك ذكر فى سياقه. والله أعلم. ه.

وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله فى الحكم بقوله : «يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبا فى رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبا فى عرشه ، محقت الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار». وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته ؛ فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته ، وهى أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار ، ومحت كل شىء ، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شىء ، وليس معه شىء ، وهو السميع البصير. وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء فى الهواء. والله تعالى أعلم وأعظم.

ثم ذكر قصص موسى عليه‌السلام ، وتسليته لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعما لقى من التعب فى تبليغ الوحى ، فقال :

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ

__________________

(١) من الآية ١٤ من سورة طه.

٣٧٥

أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

قلت : قال القشيري : أجرى الله [سنته] (١) فى كتابه أن يذكر قصة موسى فى أكثر المواضع التي يذكر فيها حديث نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتبعه بذكر موسى ، تنبيها على علو شأنه ، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور ، فالتكرير فى التفصيل يوجب التفضيل فى الوصف ؛ لأن القضية الواحدة إذا أعيدت مرارا كثيرة كانت فى باب البلاغة أتم ، ولا سيما فى كل مرة فائدة زائدة. ه.

قلت : ولعل وجه تناسقهما فى الذكر قرب المنزلة ، ومشاركة الصفة ، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة ، فإن أمة موسى عليه‌السلام كانت انتشرت فلم يقع لنبى هداية على يديه لقومه مثله ، إلا لنبينا ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر ، وفى حديث البخاري ما يدل على هذا ، حين عرضت عليه الأمم صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرة ، فرأى أمة موسى عليه‌السلام كثيرة ، ثم رأى أمته قد سدت الأفق. فانظر لفظه فيه (٢).

وقال أبو السعود : المناسبة إنما هى تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مساق الحديث ، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء ، كابرا عن كابر ، وقد خوطب به موسى عليه‌السلام ، حيث قيل له : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) ، وبه ختم عليه‌السلام مقاله ، حيث قال : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٣) ، ثم ردّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه‌السلام عن اقتحام المشاق. فانظره.

و (هَلْ) : لفظة استفهام ، والمراد به التشويق لما يخبره به ، أو التنبيه. و (إِذْ رَأى) : ظرف للحديث ؛ لأن فيه معنى الفعل ، أو لمضمر مؤخر ، أي : حين رأى كان كيت وكيت ، أو : لاذكر ، أي : اذكر وقت رؤيته .. إلخ.

يقول الحق جل جلاله : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) أي : قصته فى معالجة فرعون ، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرا لأمر التوحيد ، (إِذْ رَأى ناراً) تلمع فى الوادي ، وذلك أنه عليه‌السلام استأذن شعيبا عليه‌السلام فى

__________________

(١) ما بين المعكوفتين زيادة ليست فى الأصول.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنه : خرح علينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما ، فقال : عرضت علىّ الأمم ، فجعل يمر النبي معه الرجلان ، والنبي معه الرهط ، والنبي ليس معه أحد ، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فرجوت أن تكون أمتى. فقيل : هذا موسى وقومه. ثم قيل لى : انظر ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل لى : انظر هكذا وهكذا ، فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق ، فقيل : هؤلاء أمتك ، ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ...» الحديث أخرجه البخاري فى (الطب ، باب من لم يرق)

(٣) من الآية ٩٨ من سورة طه.

٣٧٦

الخروج إلى أمه وأخيه ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق ، مخافة من ملوك الشام ، فلما وافى وادي طوى ، وهو بالجانب الغربي من الطور ، ولد له ولد فى ليلة مظلمة شاتية مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد ضل عن الطريق ، وتفرقت ماشيته ، ولا ماء عنده ، فقدح النار فلم تور المقدحة.

فبينما هو فى ذلك (إِذْ رَأى ناراً) على يسار الطريق من جانب الطور ، (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي : أقيموا مكانكم. أمرهم عليه‌السلام بذلك ؛ لئلا يتبعوه ، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد ، وقيل : لها وحدها ، والجمع للتعظيم ، (إِنِّي آنَسْتُ) أي : أبصرت (ناراً) ، وقيل : الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) أي : بشعلة مقتبسة من معظم النار ، وهو المراد بالجذوة فى سورة القصص (١) ، وبالشهاب القبس ، (٢) (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) ؛ هاديا يدلنى إلى الطريق ، فهو مصدر بمعنى الفاعل ، و (أَوْ) فى الموضعين : لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ؛ إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديا. ومعنى الاستعلاء فى قوله : (عَلَى النَّارِ) ؛ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء ، ولما كان الإيتاء بها غير محقق ، صدّر الجملة بكلمة الترجي.

(فَلَمَّا أَتاها) أي : النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي الله عنه : رأى شجرة خضراء ، حفت بها ، من أسفلها إلى أعلاها ، نار بيضاء ، تتقد كأضوء ما يكون ، فوقت متعجبا من شدة ضوئها ، روى أن الشجرة كانت عوسجة ، وقيل : سمرة (٣) .. بينما هو ينظر ، (نُودِيَ) فقيل : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، أو بأنى أنا ربك ، وتكرير الضمير ؛ لتأكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودى يا موسى ، قال عليه‌السلام : من المتكلم؟ فقال الله عزوجل : (أَنَا رَبُّكَ) ، فوسوس إليه الخاطر : لعلك تسمع كلام شيطان ، قال : فلما قال : (إِنَّنِي أَنَا) ، عرفت أنه كلام الله عزوجل. قيل : إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.

ثم قال له : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ؛ لأنه أليق بحسن الأدب ، ومنه أخذ الصوفية ـ رضى الله عنهم ـ خلع نعالهم بين يدى المشايخ والأكابر ، وقيل : ليباشر الوادي المقدس بقدميه ، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد ، بخلعها ولو طاهرة ، وقيل : إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل : النعلين : الكونين ، أي : فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى : (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) : تعليل لوجوب الخلع ، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك. روى أنه عليه‌السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي ، و (طُوىً) : بدل من الوادي ، وهو اسم له. وقرأ منونا ؛ لتأوله بالمكان ، وغير المنون ؛ لتأوله بالبقعة.

__________________

(١) فى قوله : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ، من الآية ٢٩ من سورة القصص.

(٢) فى قوله : (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ ؛ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ، من الآية ٧ من سورة النمل.

(٣) انظر تفسير الطبري (١٦ / ١٤٣) ، والبغوي (٤ / ٢٦٥).

٣٧٧

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي : اصطفيتك للنبوة والرسالة ، وقرأ حمزة : (وإنّا اخترناك) بنون العظمة ، (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي : للذى يوحى إليك ، أو لوحينا إليك ، وهو : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) ، فالجملة بدل من «ما». (فَاعْبُدْنِي) ؛ أفردنى بالعبادة والخضوع ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى. (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) : لتذكرنى فيها ؛ لاشتمالها على الأذكار ، وأفردت بالذكر ، مع اندراجها فى الأمر بالعبادة ؛ لفضلها على سائر العبادات ؛ لما نيطت به من ذكر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره ، فإنّ الذكر كما ينبغى لا يتحقق إلا فى ضمن العبادة.

أو (لِذِكْرِي) : لإخلاص ذكرى وابتغاء وجهى ، بحيث لا ترائى بها غيرى. وقيل : لذكرى إياها ، وأمرى بها فى الكتب ، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء ، وقيل : لأوقات ذكرى ، وهى مواقيت الصلوات ، وقيل : لذكر صلاتى إذا نسيتها ، لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من نام عن صلاة ، أو نسيها ، فليصلّها إذا ذكرها ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)» (١).

قال بعضهم : [أصول العمل ثلاثة] (٢) : أقوال وأفعال وأحوال ، فأفضل الأقوال : لا إله إلا الله ، وأفضل الأفعال : الصلاة لله أو بالله ، وأفضل الأحوال : الطمأنينة بشهود الله.

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) : كائنة لا محالة ، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة ، وإنما عبّر بالإتيان ؛ تحقيقا لحصولها ، بإبرازها فى معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين. (أَكادُ أُخْفِيها) أي : لا أظهرها ، بأن أقول : آتية فقط ، فلا تأتى إلا بغتة ، أو أكاد أظهرها بإيقاعها ، من أخفاه ، إذا أظهره ، فأخفى ـ على هذا ـ من الأضداد. وردّه ابن عطية ، فإن الذي بمعنى الظهور هو : «خفى» ؛ الثلاثي ، لا «أخفى». وقال الزمخشري : قد جاء فى بعض اللغات : أخفى بمعنى خفى ، أي : ظهر ، فلا اعتراض.

ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى : أكاد أخفيها عن نفسى ، فكيف عن غيرى؟ وكذلك هو فى مصحف أبى ، وفى مصحف عبد الله : فكيف يعلمها مخلوق ، وفى بعض القراءات : وكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب : فإن قيل : كيف يخفى الله تعالى عن نفسه ، وهو خلق الأشياء؟ قلنا : إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه. انظر بقية كلامه.

__________________

(١) أخرجه بنحوه : البخاري فى (مواقيت الصلاة ، باب من نسى صلاة فليصل إذا ذكرها) ، ومسلم فى (المساجد ، باب قضاء الصلاة الفائتة ، واستحباب تعجيل قضائها) ، من حديث أنس رضي الله عنه.

(٢) ما بين المعكوفتين : مشتبه فى المخطوطة الأمّ ، وغير موجود فى غيرها.

٣٧٨

وظهور علاماتها لا يزيل إخفاءها. قال ابن عرفة فى تفسيره : وإذا ظهرت عند وقوع الأشراط لم ينسلخ عنها معنى الخفاء المتقدم ، غاية الأمر أنها بذكر الأشراط وسط بين الإخفاء والإظهار ، فتكون مقاربة لكل واحد منهما. ه.

وقوله تعالى : (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) متعلق بآتية ، أو بأخفيها ـ على معنى : أظهرها ، لتجزى كل نفس بسعيها ، أي : بعملها خيرا كان أو شرا. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها) أي : عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها (مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها) حتى تكسل عن التزود لها. والنهى ـ وإن كان بحسب الظاهر متوجها للكافر عن صد موسى عليه‌السلام ـ لكنه فى الحقيقة نهى له عليه‌السلام عن الانصداد عنها ، على أبلغ وجه ، فإنّ النهى عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني ، كقوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) (١) ، أي : لا تتبع فى الصد عنها من لا يؤمن بها (وَاتَّبَعَ هَواهُ) أي : ما تهواه نفسه من اللذات الفانية ، (فَتَرْدى) : فتهلك ؛ فإنّ الإغفال عنها ، وعن تحصيل ما ينجى من أهوالها ، مستتبع للهلاك لا محالة. وبالله التوفيق.

الإشارة : وهل أتاك أيها العارف حديث موسى ، كيف سار إلى نور الحبيب ، ومناجاة القريب ، إذ رأى نارا فى مرأى العين ، وهو نور تجلّى الحبيب بلا بين ، فقال لأهله ومن تعلق به : امكثوا ، أقيموا فى مقام الطلب ، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم ، فى نيل المطلب ، إنى آنست نارا ، وهو نور وجه الحبيب فى مرائى تجلياته ، وهذا مقام الفناء ، لعلى آتيكم منها بقبس ، تقتبسون منه أنوارا لقلوبكم واسراركم. أو أجد على النار هدى يهدينى إلى مقام البقاء والتمكين ، فلما أتاها ، وتمكن من شهودها ، نودى يا موسى : إنى أنا ربك ، فلا نار ولا أثر ، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر ، فى مرأى الأثر ، فاخلع نعليك ، أي : اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون ، كما قال القائل:

واخلع النعلين ، إن جئت إلى

ذلك الحي ؛ ففيه قدسنا

وعن الكونين كن منخلعا

وأزل ما بيننا من بيننا

إنك بالواد المقدس ، أي : بحر حضرة القدس ومحل الأنس ، قد طويت عنك الأكوان ، وأبصرت نور الشهود والعيان ، وأنا اخترتك لحضرتى ، واصطفيتك لمناجاتى ، فاستمع لما يوحى إليك منى ، فأنا الله لا إله إلا أنا وحدي ، فإذا تمكنت من شهودى ، فانزل لمقام العبودية ؛ شكرا ، وأقم الصلاة لذكرى ، إن الساعة آتية لا محالة ، فأكرم مثواك ، وأجل منصبك ، وأرفعك مع المقربين ، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهل العناد والجحود ، فتسقط عن مقام القرب والأنس ، وتصير فى جوار أهل حجاب الحس ، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابن الفارض ، حيث قال فى كلام له :

__________________

(١) من الآية ٨٩ من سورة هود.

٣٧٩

آنست فى الحىّ نارا

ليلا فبشّرت أهلي

قلت : امكثوا ، فلعلّى

أجد هداى ، لعلّى

دنوت منها فكانت

نار التكلم قبلى

نوديت منها كفاحا :

ردّوا ليالى وصلي

حتى إذا ما تدانى ال

ميقات فى جمع شملى

صارت جبالىّ دكا

من هيبة المتجلّى

ولاح سرّ خفي

يدريه من كان مثلي

فالموت فيه حياتى

وفى حياتى قتلى

وصرت موسى زمانى

مذ صار بعضى كلى

قوله : «صارت جبالى دكا» ، أي : جبال وجوده ، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلى ، وهو الكبير المتعال. وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها ، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها ، حياة لا موت بعدها. وقوله : «مذ صار بعضى كلى» يعنى : إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه ، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به ، وهو بحر المعاني المفنى للأوانى. وبالله التوفيق.

ثم ذكر مكالمته مع كليمه عليه‌السلام ، فقال :

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣))

قلت : (وَما) : استفهامية ، مبتدأ ، و (تِلْكَ) : خبر ، أو بالعكس ، فما : خبر ، وتلك : مبتدأ ، وهو أوفق بالجواب. و (بِيَمِينِكَ) : متعلق بالاستقرار ؛ حالا ، أي : وما تلك ، قارة أو مأخوذة بيمينك ، والعامل معنى الإشارة. وقيل : (تِلْكَ) : موصولة ، أي : وما التي هى بيمينك ، والاستفهام هنا : إيقاظ وتنبيه له عليه‌السلام على مما سيبدو له من العجائب ، وتكرير النداء ؛ لزيادة التأنيس والتنبيه.

٣٨٠