البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

الإشارة : من علامة الغفلة عن الله : الإنكار على أولياء الله ، والإعراض عما خصهم الله تعالى به من الآيات وخوارق العادات ، كالعلوم اللدنية والمواهب القدسية ، وكمال المعرفة ، والرسوخ فى اليقين ، وشهود رب العالمين ، مع الاشتغال بعمارة هذه الدار ، ونسيان دار القرار ؛ كأنه أمن من الموت ؛ من شدة الاغترار. وسبب ذلك : عدم التفكر والاعتبار. ولذلك قال تعالى بإثر قصص من أهلكهم من الأمم الغافلة :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الكائنات (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : إلا خلقا ملتبسا بالحق ، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا ، فمن كمال القدرة : إهلاك أهل الفساد ، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم ، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم. فالحكمة رداء للقدرة ، القدرة تبرز ، والحكمة تستر ، فإظهار الكائنات يدل على كمال القدرة ، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة. ومن مقتضيات الحكمة : ترتيب الجزاء على العمل ، بحيث لا يهمل عملا ، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح ، واعتقادهم الصحيح ، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة. وأهل الانتقام يترتب الانتقام منهم على عملهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل ، وعلى ما قالوا فى الدنيا ، التي هى مزرعة الآخرة ، من الدعة والحظوظ الفانية ، ولذلك رتّب عليه قوله :

(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فيجازى فيها من يستحق الإكرام ، ويعاقب من يستحق الانتقام ، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك ، (فَاصْفَحِ) اليوم (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ولا تعجل بالانتقام ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وكان هذا قبل الأمر بالقتال. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلقك وخلقهم ، وبيده أمرك وأمرهم ، (الْعَلِيمُ) بحالك وبحالهم ، فهو الحقيق بأن تتكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم. أو : هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم ، العليم بما هو الأصلح لكم فى الوقت ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة ، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة.

الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق ، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع. وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار ، وإنما جعلها قنطرة ومعبرا لدار القرار. إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية. وإن الساعة لآتية ، فاصبر فى هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان ، وجفوة الإخوان ، واصفح الصفح الجميل ،

١٠١

حتى ترد النعيم الباقي ، والجزاء الجزيل. وتخلق بأخلاق الحليم الكريم ، إن ربك هو الخلاق العليم ، فلا قدرة لك على شىء إلا بقدرة السميع العليم.

ثم أمر نبيه بالغنى بالله وبكلامه ، عن التطلع إلى زهرة الدنيا ، والمراد : الأمر بدوامه على ما كان عليه ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))

قلت : السبع المثاني : هى الفاتحة عند الجمهور ، و (من المثاني) : للبيان ، وعطف القرآن عليها من عطف العام على الخاص. و (أنزلنا) : نعت لمفعول النذير ، أي : أنا النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين. وقيل : صفة لمصدر محذوف يدل عليه : (ولقد آتيناك) ؛ فإنه بمعنى أنزلنا إليك إنزالا مثل ما أنزلنا على المقتسمين ، وهم ، على هذا ، أهل الكتاب. و (عضين) : جمع عضة. وأصله : عضوة ، من عضوت الشيء : فرّقته ، حذفت لامه ، وعوض منها هاء التأنيث ، فجمع على عضين ، كعزة وعزين. وقيل : أصله : عضة ؛ من عضهته : رميته بالبهتان ، قال فى الصحاح : عضهه عضها : رماه بالبهتان. وقد أعضهت ، أي : جئت بالبهتان. فهما قولان فى أصل عضة. هل هو واوي أو هائى. والموصول مع صلته نعت للمقتسمين.

يقول الحق جل جلاله ، لنبيه عليه الصلاة والسلام : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) ، وهى فاتحة الكتاب ؛ لأنها سبع آيات ، وتثنى ـ أي : تكرر ـ فى كل صلاة ، فالمثانى من التثنية ، وقيل : من الثناء ؛ لأن فيها الثناء على الله تعالى ، وقيل : السبع المثاني هى السبع الطوال ، وهى البقرة وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال مع براءة. ولذلك تركت البسملة بينهما. وكونها مثانى ؛ لتثنية قصصها ، أو ألفاظها ، وقيل : هى الحواميم السبع. (وَ) آتيناك (الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ، ففيه الغنية والكفاية عن كل شىء.

١٠٢

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) : لا تطمح ببصرك طموح راغب (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي : أصنافا من الكفار ، من زهرة الحياة الدنيا ، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته. وفى حديث أبى بكر : «من أوتى القرآن ، فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى ، فقد صغر عظيما وعظم صغيرا». (١) قال ابن جزى : أي : لا تنظر إلى ما متعناهم به فى الدنيا ، ومعنى الآية : تزهيد فى الدنيا ، كأنه يقول : قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم ؛ فلا تنظر إلى الدنيا ، فإن الذي أعطيناك أعظم منها. ه.

وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وافى مع أصحابه أذرعات ، فرأى سبع قوافل ليهود بنى قريظة والنّضير ، فيها أنواع البرّ ، والطيب والجواهر ، وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقربنا بها ، ولأنفقناها فى سبيل الله ، فقال لهم عليه الصلاة والسلام : «قد أعطيتم سبع آيات هى خير من هذه السبع القوافل». (٢).

(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : لا تتأسف على كفرهم ؛ حيث أنذرتهم فلم ينزجروا ولم يؤمنوا. أو : حيث متعناهم بالدنيا فلم ينتفعوا بها ، ولم يصرفوها فى مرضاة الله ، (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) ؛ أي : تواضع وألن جانبك للمؤمنين ، وارفق بهم. والجناح ، هنا ، استعارة. (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) : البين الإنذار ، أنذرتكم ببيان وبرهان أن عذاب الله نازل بكم إن لم تؤمنوا ، وفى الحديث : «أنا النذير ، والموت مغير ، والقيامة الموعد». أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، وفى حديث آخر : «أنا النّذير العريان». وكانت العرب ، إذا رأى أحدهم جيشا يقصدهم ، تجرد من ثيابه ، ثم أنذر قومه ليصدقوه ، أي : وقل : إنى أنذرتكم أن ينزل بكم عذابه.

(كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) ، أي : مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين ، وهم أهل الكتاب ، الذين آمنوا ببعض الكتب وكفروا ببعض ، فاقتسموا قسمين. والعذاب الذي نزل بهم هو الذل والهوان وضرب الجزية ، أو تسليط عدوهم عليهم. وقيل : هم كفار قريش ؛ اقتسموا أبواب مكة فى الموسم ، فوقف كل واحد منهم على باب ، وكانوا اثنى عشر رجلا ، لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام ، يقول أحدهم : هو ساحر ، والآخر : هو شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر. وقيل : هم الرهط الذين اقتسموا ، أي : تقاسموا ليبيتوا صالحا ، فأسقط الله عليهم الغار الذي كمنوا فيه ، فشدخهم.

أو : آتيناك القرآن ، وأنزلناه عليك كما أنزلنا التوراة على المقتسمين ، وهم اليهود ، (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي : أجزاء متفرقة ، وقالوا فيه أقوالا مختلفة ، فقالوا ؛ عنادا وكفرا : بعضه موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه

__________________

(١) قال الولي العراقي : لم أقف عليه ، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف : لم أجده من حديث أبى بكر.

وأخرجه ابن عدى فى الكامل (٢ / ٧٨٧) ، ولفظه : (من تعلم القرآن وظن أن أحدا ...) فذكره من حديث ابن مسعود مرفوعا ..

وراجع الفتح السماوي (٢ / ٧٥٠).

(٢) قال المناوى فى الفتح السماوي : لم أقف عليه. وذكره الواحدي فى الأسباب (٢٨٣) عن الحسين بن الفضل ؛ مرسلا.

١٠٣

باطل مخالف لهما. وإذا قلنا المقتسمين : هم كفار قريش ، حيث اقتسموا أبواب مكة ، فقد جعلوا القرآن عضين ؛ أجزاء متفرقة ، فقد قسموه إلى شعر وسحر وكهانة وأساطير الأولين ، أو جعلوه بهتانا متعددا ، على تفسير العضة بالبهت. وفى الحديث : «لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العاضهة والمستعضهة» (١) أي : الباهتة ، والمستبهتة : الطالبة له.

قال تعالى فى وعيد المقتسمين : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من التقسيم والتكذيب ، أو عن كل ما عملوه من الكفر والمعاصي ، وفى البخاري : «لنسألنهم عن لا إله إلا الله». فإن قيل : كيف يجمع بين هذا وبين قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ)؟ (٢) فالجواب : أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ ، والسؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض ؛ لأن الله تعالى يعلم الأعمال ، فلا يحتاج إلى سؤال. وقيل : فى القيامة مواطن وخوارق ، فموطن يقع فيه السؤال ، وموطن يذهب بهم إلى النار بغير سؤال.

قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) : فاجهر ، وصرح به ، وأنفذه ، من صدع بالحجة : إذا تكلم بها جهارا. أو : فرّق ، بما تؤمر به ، بين الحق والباطل ، وأصله : الشق والإبانة ، وما : مصدرية ، أو موصولة ، والعائد محذوف ، أي : بما تؤمر به من الشرائع. (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) فلا تلتفت إلى ما يقولون ، ولا يمنعك ذلك من تبليغ الوحى والصدع به وإظهاره.

(إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بك ، وبما أنزلنا إليك ؛ بأن أهلكنا كل واحد منهم بمصيبة تخصه ، من غير سعى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك. وكانوا خمسة من أشراف قريش : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، وعدى بن قيس ، والأسود بن المطلب ، والأسود بن يغوث ، كانوا يبالغون فى إيذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والاستهزاء به ، فقال جبريل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت بأن أكفيكهم» فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبّال فتعلق بثوبه سهم ، فلم ينعطف لأخذه ، تعظما ، فأصاب عرقا فى عقبه فمات. وقيل : خدش بأسفل رجله فمات من تلك الخدشة. وأومأ إلى أخمص العاص ؛ فدخلت فيها شوكة ، فانتفخت حتى صارت كالرحى ، فمات. وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات. وأومأ إلى الأسود ابن عبد يغوث ، وهو قاعد فى أصل شجرة ، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات. وقيل : استسقى بطنه فمات ، ولعله جمع بينهما. وأومأ إلى عينى الأسود بن المطلب فعمي. وفى السيرة ، بدل عدى بن قيس ، الحارث بن الطلاطلة ، وأن جبريل أشار إلى رأسه فامتخط قيحا فقتله (٣).

__________________

(١) عزاه فى الفتح السماوي (٢ / ٧٥٢) لابن عدى فى الكامل من حديث ابن عباس ، وفى إسناده ضعف.

وقوله : العاضهة والمستعضهة : أي : الساحرة والمستسحرة ... انظر النهاية (٣ / ٢٥٥).

(٢) الآية ٣٩ من سورة الرحمن.

(٣) أخرجه الطبراني فى الأوسط ، كما فى المجمع (٧ / ٤٦) ، وأبو نعيم فى الدلائل ، (باب قوله : فاصدع بما تؤمر ٢ / ٣١٦) والبيهقي فى الدلائل (باب المستهزءون وأسماؤهم) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

١٠٤

وقيل : هم الذين قتلوا ببدر ؛ كأبى جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبى معيط. والأول أرجح ؛ لأن الله تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة. إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل ؛ لتحققه ، أي : إنا سنكفيك المستهزئين (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبدونه من دون الله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم فى الدارين.

ثم سلّى نبيه عن أذاهم فقال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فى جانبنا ؛ من الشرك والطعن فى القرآن ، والاستهزاء بك ، فلا تعبأ بهم ، ولا تلتفت إليهم. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : فنزه أنت ذاتنا وصفتنا ، مكان مقالتهم فينا ؛ فإن مثلك منزهنا لا غير ، (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : المصلين ، أو : فافزع إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد. (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ؛ من المصلين ، يكفك ، ويكشف الغم عنك ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» (١) أو : فنزهه عما يقولون ، حامدا له على أن هداك للحق ، وكن من الساجدين له شكرا.

(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي : الموت ، فإنه متيقن لحاقه ، وليس اليقين من أسماء الموت ، وإنما العلم به يقين ، لا يمترى فيه ، فسمى يقينا ؛ تجوزا. أو : لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيبا سمى يقينا. والمعنى : فاعبده ما دمت حيا ، ولا تخلّ بالعبادة لحظة. وفى بعض الأحاديث عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : «إن الله لم يوح إلىّ أن أجمع المال ، وأكون من التاجرين ، وإنما أوحى إلىّ أن : سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» (٢). أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

الإشارة : يقال للعابد ، أو الزاهد : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، تتمتع بحلاوته ، وبالتهجد بتلاوته ، ففيه كفايتك وغناك ، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الدنيا ، الراغبين فيها ، المشتغلين بها عن عبادة خالقها. قيل : لما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والنظر فى أبناء الدنيا ، فإنه يقسى القلب ويورث حب الدنيا ، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة ، فتميلوا لزينة الدنيا ؛ فو الله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لغنى لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة ، وذهب ثلثا دينه». هذا إن تواضع بجسمه فقط ، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله.

ويقال للعارف : ولقد آتيناك شهود المعاني ، وغيبناك عن حس الأوانى ، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني ، فسمعت القرآن من منزله دون واسطة. وذلك بالفناء ، عن الوسائط ، فى شهود الموسوط ، حتى يفنى عن نفسه فى حال قراءته.

__________________

(١) أخرجه بنحوه أبو داود فى (الصلاة ، باب وقت قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الليل) عن حذيفة ، وأخرجه الإمام أحمد (٥ / ٣٨٨) فى قصة الخندق مطولا.

(٢) أخرجه ابن عدى فى الكامل (٥ / ١٨٩٧) والواحدي : فى الوسيط (٣ / ٥٤) والبغوي فى تفسيره (٤ / ٣٩٧) عن جبير بن نفيل ، مرسلا ..

١٠٥

ويقال له : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الحس ، الواقفين مع شهود الحس ؛ فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأوانى ، بل المفنية للأوانى عند سطوع المعاني. ولا تحزن عليهم حيث رأيتهم منهمكين فى الحس ؛ فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، وقل : إنى أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة ، والغفلة ، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ؛ أجزاء متفرقة ؛ فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به ، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها ، والانقطاع إلى الله عنها ، والتجريد عن أسبابها ، رفضوه. فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون.

فاصدع ، أيها العارف الواعظ ، بما تؤمر ؛ من الأمر بالزهد ، والانقطاع إلى الله ، ولرفض كل ما يشغل عن الله ، ولا تراقب أحدا فى ذات الله ، وأعرض عن المشركين ، الذين أشركوا فى محبة الله سواه ، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله ، وهى ثابتة بإثباته ، ممحوه بأحدية ذاته ، فلا وجود لها فى الحقيقة مع الله. فإن استهزءوا بك ، وصغروا أمرك ، فسيكفيكهم الله. فاشتغل بالله عنهم ، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون ، (فسبح بحمد ربك) أي : نزهه عن شهود السّوى معه ، حامدا الله على ما أولاك من نعمة توحيده ، (وكن من الساجدين) لله شكرا ، وقياما برسم العبودية ، أو : كن من الساجدين بقلبك فى حضرة القدس ، حتى يأتيك اليقين (١).

وفى الورتجبي ، فى قوله : (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) ، قال : واسى الحقّ حبيبه بما سمع من أعدائه ، وقال له : أنت بمرأى منا ، يضيق صدرك ؛ من لطافتك ، بما يقول الجاهلون بنا فى حقنا ، مما لا يليق بتنزيهنا ، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا ، فإنّ مثلك منزهنا لا غير ، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا ، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا ، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم. ه.

وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

__________________

(١) اليقين ـ هنا ـ هو الموت. أي : اعبد ربك إلى آخر لحظة من عمرك.

١٠٦

سورة النّحل

مكية ، إلا قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...) الآية ، نزلت فى غزوة أحد. وهى مائة وثمان وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١) ؛ وهو الموت وما بعده من البعث والحساب ، وهو أمر الله الذي أشار إليه بقوله :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١))

يقول الحق جل جلاله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي : البعث والحساب. وعبّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه ، أو : ثبت أمره وقضاؤه ، وقد جف القلم بما يكون ، لا عن سؤال واستعجال ، وتدبير من الخلق ، ولو كان كذلك لنافى انفراده بتدبير ملكه ، ولذلك نزه نفسه بقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ). أو : إهلاك الله إياهم يوم بدر ، وكانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول من قيام الساعة ، وإهلاكهم ونصره عليهم ، استهزاء وتكذيبا ؛ ولذلك قال : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، والمعنى : أن الأمر الموعود به بمنزلة الماضي ، لتحقق وقوعه من حيث إنه واجب الوقوع ؛ فلا تستعجلوا وقوعه ، فإنه لا خير لكم فيه ، ولا خلاص لكم منه.

وروى لما نزل قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) ، وثب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما ، ورفع الناس رؤوسهم ، فلما قال : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، سكن. وكان المشركون يقولون : إن صح ما يقول محمد من قيام الساعة ، فالأصنام تشفع لنا وتخلصنا ، فقال تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزه وجلّ عن أن يكون له شريك ، فيدفع ما أراد بهم. ه.

وقرأ الأخوان بالخطاب ، على وفق قوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ، والباقون بالغيب ، على تلوين الخطاب ، أو على أن الخطاب للمؤمنين ، أي : أتى أمر الله أيها المؤمنون فلا تستعجلوه ، سبحانه وتعالى عما يشركه به المشركون. أو : لهم ولغيرهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : إذا أشرق نور اليقين فى صميم القلوب تحقق وقوع ما وعد الله به من أمر الغيوب ، فصار الماضي آتيا ، والمستقبل واقعا. وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها». وكذلك المقادير المستقبلة والمواعيد الغيبية ، كلها عند أهل اليقين محققة الوقوع ، واجبة الحصول ، ينتظرون وقوعها فى مواقيتها ، شيئا فشيئا ، ويتلقونها بالمعرفة والأدب ؛ فإن كانت جلالية فبالرضى والتسليم ، وإن كانت جمالية فبالحمد والشكر ، هكذا نظرهم دائما إلى ما يبرز من عنصر القدرة ، ليس لهم

__________________

(١) من الآية الأخيرة من سورة الحجر.

١٠٧

وقت دون ما هم فيه ، ولا أمل دون ما أقامهم الحق تعالى فيه ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار ، ولا يستعجلون ما تأخر وقوعه من أقداره ، ولا يشركون مع الله فى تدبيره واختياره. قد هجم عليهم اليقين ، فهم ، فى عموم أوقاتهم ، مستغرقون فى شهود المحبوب ، غائبون عن كل مرغوب ومطلوب ، سوى شهود وجه المحبوب ، جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه. آمين.

وسبب وجود هذا فى قلوبهم حياة روحهم بالإيمان التام ، والمعرفة الكاملة ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢))

قلت : (أن أنذروا) : مفسرة ، بمعنى أي ؛ لأن الوحى فيه معنى القول. أو مصدرية فى موضع الجر ، بدلا من الروح ، أو النصب بنزع الخافض ، أو مخففة من الثقيلة. وقوله : (لا إله إلا أنا) : جرى على المعنى ، ولم يجر على اللفظ ، وإلا لقال : لا إله إلا الله. انظر ابن عطية. قال المحشى الفاسى : وسر ذلك هنا : التصريح بالمقصود ، وأن الإله الواحد هو المتكلم لا غيره ، كما قيل فى قوله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (١) ، أي : ولم يقل : فإياه فارهبوا ، بل نقل الكلام من الغيبة إلى التكلم ؛ مبالغة فى الترهيب ، وتصريحا بالمقصود ، كأنه قال : فأنا ذلك الإله الواحد ، فإياى فارهبون لا غير. ه.

قلت : وكأنه قال هنا : ينزل الملائكة بالوحى أن أعلموا أنه لا يعبد إلا إله واحد ، وأنا ذلك الواحد.

يقول الحق جل جلاله ، تحقيقا لما وعدهم به ، وأن ذلك الوعد ، مع دنوه وقربه بالوحى ، فلا خلف فيه ، فقال : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) أي : جبريل ، جمعه ؛ تعظيما ، أو : لأنه قد ينزل معه غيره من الملائكة ، فيحضرون الوحى ؛ حرّسا له. أو : لأنه قد ينزل بالوحى غيره من الملائكة ، كما فى صحيح مسلم : «إن سورة الحمد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قبل ذلك» (٢). وقال عليه الصلاة والسلام : «إن إسرافيل وكّل بي فى ثلاث سنين ، فكان يأتينى بالكلمة والكلمتين ، ثم كان جبريل يأتينى بالقرآن فى كل وقت». وروى أن خالد بن سنان كان نبيا ، وكان يأتيه بالوحى مالك خازن النار ، وكان بعد عيسى عليه‌السلام ، ولم يبق فى النبوة إلا عشرين يوما ، ثم مات ، فلقصر مدته لم يعد نبيا ، بعد عيسى ونبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما كانت فترة خمسمائة عام. وذكر ابن العربي أن ذا القرنين كان ينزل عليه ملك ، يقال له : رفائيل ، فكان يلقى إليه الوحي ، ويطوى له الأرض. هكذا نقل الشطيبى عنه فى اللباب ، فانظره.

__________________

(١) من الآية ٥١ من سورة النحل.

(٢) أخرجه بطوله مسلم فى (صلاة المسافرين ، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة) عن ابن عباس رضي الله عنه.

١٠٨

وقوله : (بِالرُّوحِ) أي : بالوحي ، أو القرآن ؛ فإنه سبب حياة القلوب والأرواح الميتة بالجهل والحجاب ، أو سبب حياة الدين بعد موته واندراسه بالكفر ؛ فإن الوحي يقوم فى الدين مقام الروح من الجسد. ينزل ذلك (مِنْ أَمْرِهِ) أي : من أجل أمره وبيان شأنه ، أو بأمره وإذنه ، (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أن يصطفيه للرسالة ، قائلا لهم : (أَنْ أَنْذِرُوا) : خوفوا أهل الشرك ، أو أعلموا عبادى (أَنَّهُ) أي : الأمر والشأن ، (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) ؛ بترك الكفر والمعاصي ، أي : اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بأن توحدوه ، وتطيعوه فيما أمر به.

قال البيضاوي : والآية تدل على أن نزول الوحى بواسطة الملائكة ، وأن حاصله : التنبيه على التوحيد ، الذي هو القوة العلمية ، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمالات القوة العملية. وأن النبوة عطائية ـ أي : لا كسبية ـ ، والآيات التي بعدها دليل على وحدانيته ، من حيث إنها تدل على أنه تعالى هو الموجد لأصول العالم وفروعه ، على وفق الحكمة والمصلحة ، ولو كان له شريك لقدر على ذلك ، فيلزم التمانع. ه.

الإشارة : قوله تعالى : (بِالرُّوحِ) : قال الورتجبي : الروح : الوحي الإلهي ، سماه بالروح ؛ لأنه كلامه صدر من ذاته ، وهو حياة قلوب الصديقين من المكلّمين والمحدّثين ، وهو سبب حياة قلوب المؤمنين ، يحييهم بعلمه من موت الجهالة. ه.

وقال القشيري فى قوله : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) : على الأنبياء بالوحى والرسالة ، وعلى أسرار أرباب التوحيد ، وهم المحدّثون بالتعريف والعلم. فالتعريف للأولياء من حيث الإلهام والخواطر ، أي : الواردات. وإنزال الملائكة على قلوبهم غير ممنوع ، ولكنهم لا يؤمرون أن يتكلموا بذلك ، ولا يحملون الرسالة إلى الخلق. ه.

قلت : وكأنه ينظر إلى قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «علماء أمتى كأنبياء بنى إسرائيل» ، فهم يشاركون الأنبياء فى الوحي الإلهامى ، ولا يبلغون ذلك إلا لمن صدقهم وتبعهم فى طريقهم. والله تعالى أعلم.

ثم عرّف بنفسه ، بما أظهر من تجلياته العلوية والسفلية ، فقال :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩))

١٠٩

قلت : (وَالْأَنْعامَ) : منصوب بمحذوف ، يفسره : (خَلَقَها) ، أو معطوف على «الإنسان» ، و (خَلَقَها لَكُمْ) : بيان لما خلقت لأجله ، وما بعده تفصيل له. و (مِنْها تَأْكُلُونَ) : إنما قدّم المعمول ؛ للمحافظة على رؤوس الآي ، أو : لأن الأكل منها هو المعتمد عليه فى المعاش ، وأما الأكل من غيرها من سائر الحيوانات المأكولات فعلى سبيل التداوى والتفكه. قاله البيضاوي. قلت : ولعله ، عند مالك ، للاختصاص ، أي : منها تأكلون لا من غيرها ؛ إذ لا يؤكل عنده غيرها من البهائم الإنسية.

وقوله : (لَكُمْ) : يحتمل أن يتعلق بما قبلها أو بما بعدها ، ويختلف الوقف باختلاف ذلك. (إِلَّا بِشِقِّ) : فيه لغتان : الكسر والفتح ، بمعنى التعب والكلفة ، وقيل : المفتوح مصدر شقّ الأمر عليه ، أي : صعب ، والمكسور بمعنى : النصف ، كأنه ذهب نصف قوّته بالتعب. (وَالْخَيْلَ) : عطف على (الْأَنْعامَ). و (زِينَةً) : مفعول من أجله ، عطف على موضع (لِتَرْكَبُوها) : أي : للركوب والزينة ، أو مفعول مطلق ، أي : لتتزينوا بها زينة.

يقول الحق جل جلاله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أوجدهما (بِالْحَقِ) أي : ملتبسا بالحق ؛ لتدل على وحدانية الحق ، وكمال قدرته وباهر حكمته ، حيث أوجدهما على مقدار مخصوص ، وشكل بديع ، وأوضاع مختلفة ، وهيئات متعددة. أو : خلقهما بقضائه وتدبيره الحق ، لا بمشاركة وتدبير أحد معه ، ولا بمعاونة شريك ولا ظهير ، ولذلك نزه نفسه بقوله : (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، كما نزه نفسه ، ابتداء ، لمّا نفى الاستعجال ؛ لأنه من تدبير الخلق أيضا والصدور عن رأيهم ، وفى معناه : تنزيل الوحى على ما يشاء ، لا على ما يشاء غيره ؛ لانفراده أيضا فى ملكه. وفى إبرازه ذلك ، على ما يخالف آراء الخلق ، أدل دليل على وحدانيته فى ملكه ، وإنما وضع كل شىء ودبره ؛ دلالة على وحدانيته وهدايته لخلقه إليه.

ثم شفع بخلق الإنسان فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : جنسه (مِنْ نُطْفَةٍ) : من ماء مهين يخرج من مكان مهين ، (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) : مجادل ، كثير الجدل والخصام ، مبين لحجته ، أو : خصيم : مكافح لخالقه ، قائل : (من يحيى العظام وهى رميم). روى أن أبىّ بن خلف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم ، فقال : يا محمد ، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ؟ فقال : «نعم». فنزلت. فعلى الأول : تكون الآية عامة لكل إنسان ، وعلى الثاني : خاصة بالكافر. والأول أظهر.

ولمّا ذكر نعمة الإيجاد ذكر نعمة الإمداد ، فقال : (وَالْأَنْعامَ) وهى : الإبل والبقر والغنم ، (خَلَقَها) : أوجدها (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ؛ ما يدفأ به فيقى البرد ، يعنى : ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ، (وَ) لكم

١١٠

فيها أيضا (مَنافِعُ) أخر ؛ كنسلها وظهورها. وإنما عبّر بالمنافع ؛ ليتناول عوضها. (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : تأكلون ما يؤكل منها ؛ من اللحوم والشحوم والألبان. (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي : زينة وبهجة (حِينَ تُرِيحُونَ) ؛ تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي ، (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) ؛ تخرجونها إلى المرعى بالغداة ؛ فإن الأفنية والمشارع والطرق تتزين بها فى الذهاب والرواح ، ويجل أهلها فى أعين الناظرين إليها. وقدّم الإراحة ؛ لأن الجمال فيها أظهر ؛ لأنها تقبل ملأى البطون ، حاملة الضروع ، ثم تأوى إلى الحظائر حاضرة لأهلها.

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) : أحمالكم عليها من الأمتعة وغيرها (إِلى بَلَدٍ) بعيد ، (لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ) عليها ، فضلا عن أن تحملوها على ظهوركم ، (إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ؛ إلا بكلفة ومشقة فديحة ، أو : إلا بذهاب شقها ، أي : نصف قوتها من التعب. (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ؛ حيث رحمكم بخلقها وذللها للحمل ، والركوب عليها ، وأنعم عليكم بالأكل من لحومها وألبانها.

(وَ) خلق لكم (الْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها) ، (وَ) تتزينوا بها (زِينَةً) ، أو للركوب والزينة. قال البيضاوي : وتغيير النظم ـ أي : حيث لم يقل : وللزينة ـ ؛ لأن الزينة بفعل الخالق ، والركوب من فعل المخلوق ـ أي : باعتبار الحكمة ـ ، ولأن المقصود خلقها للركوب ، وأما التزين بها فحاصل بالعرض. وقرئ بغير واو ، فيحتمل أن يكون علة لركوبها ، أو مصدرا فى موضع الحال من الضمير ، أي : متزينين ، أو متزينا بها. واستدلّ به على حرمة لحومها ، ولا دليل فيه ؛ إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه ، غالبا ، ألا يقصد منه غيره أصلا ، ويدل عليه أن الآية مكية. وعامة المفسرين والمحدثين أن الحمر الأهلية حرمت عام خيبر. ه. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) مما لا يحيط البشر بعلمها ؛ من عجائب المخلوقات ، وضروب المصنوعات ، مما يؤكل ومما لا يؤكل ، وما خلق فى الجنة والنار ، مما لا يخطر على قلب بشر.

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي : وعلى الله بيان السبيل القصد ، أي : الطريق الموصل إلى المقصود. أو : على الله تقويم طريق الهدى ؛ بنصب الأدلة وبعث الرسل ، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : السبيل القصد ، أي : القاصد المستقيم الموصل إلى المطلوب ؛ كأنه يقصد الوجه الذي يقصده السالك لا يميل عنه. والمراد من السبيل : الجنس ، ولذلك أضاف إليه القصد ، وقال : (وَمِنْها جائِرٌ) عن القصد ، أو عن الله ، كطريق اليهود والنصارى وغيرهم. والسبيل بمعنى الطريق ، يذكر ويؤنث ، وأنّث هنا. وتغيير الأسلوب ـ أي : حيث لم يقل : قصد السبيل والجائر ـ ؛ لأنه ليس بحق على الله أن يبين طريق الضلالة ، ولأن المقصود ، بالأصالة ، بيان سبيله ، وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي : ولو شاء هدايتكم أجمعين لهداكم إلى قصد السبيل ، هداية مستلزمة للاهتداء. قاله البيضاوي.

١١١

الإشارة : هذه العوالم من العرش إلى الفرش كلها نصبت للآدمى ، وخلقت من أجله ، السماوات تظله ، والأرض تقله ، والحيوانات تخدمه وتنفعه ، يتصرف فيها ؛ خليفة عن الله فى ملكه. فالواجب عليه شكر هذه النعم ، وألا يقف معها ، ويشتغل بها عن خدمة خالقها. يقول الحق تعالى ، فى بعض كلامة بلسان الحال أو المقال : «يا ابن آدم ، خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلى ، فلا تشتغل بما خلق لأجلك عمّا خلقت لأجله». والواجب عليه أيضا من طريق الخصوص : ألا يقف مع حس أجرامها ، دون النفوذ إلى أسرار معانى خالقها ومظهرها ؛ لئلا يبقى مسجونا بمحيطاته ، محصورا فى هيكل ذاته ، بل ينفذ إلى فضاء شهود بحر المعاني ، المحيط بالأوانى ، والمفنى لها ، بصحبة شيخ كامل ، يخرجه من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوّن. وبالله التوفيق.

وقوله : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) : اعلم أن الحق ـ جل جلاله ـ بيّن طريق الوصول إلى نعيمه الحسى والفوز برضوانه ، وطريق الوصول إلى حضرة قدسه ومحل شهوده وعيانه ، وأرسل الرسل ببيان الطريقين. فوكل ببيان الأولى العلماء ، ووكل ببيان الثانية الأولياء. فالعلماء قاموا ببيان الشرائع الموصلة إلى نعيم الأشباح ، والأولياء العارفون قاموا ببيان الحقائق الموصلة إلى نعيم الأرواح ، وهو النعيم الأكبر ؛ قال تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١). فالرضوان على قسمين : قوم نالهم الرضوان من طريق الخطاب مع سدل الحجاب ، وهم أهل الشرائع ، وقوم نالهم الرضوان بمكافحة الخطاب ورفع الحجاب ، وهم أهل الحقائق ، وهم المقربون ، نفعنا الله بهم ، وخرطنا فى سلكهم. آمين.

ثم ذكر بقية التجليات ، فقال :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي

__________________

(١) من الآية ٧٢ من سورة التوبة.

١١٢

الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦))

قلت : (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) : يحتمل أن يتعلق بأنزل ، أو يكون فى موضع خبر (شَرابٌ) ، أو صفة لماء ؛ و (مَواخِرَ) : جمع ماخرة ، يقال : مخرت السفينة الماء مخرا : شقته ، وقيل : المخر : صوت جرى الفلك فى البحر من هبوب الريح. وقيل : معناه : تجيىء وتذهب بريح واحدة. و (لِتَبْتَغُوا) : عطف على (لِتَأْكُلُوا) ، و (أَنْ تَمِيدَ) : مفعول من أجله ، أي : كراهة أن تميد بكم. و (أَنْهاراً وَسُبُلاً) : مفعول بمحذوف ، أي : وخلق أو وجعل أنهارا ، وقيل : معطوف على (رَواسِيَ) ؛ لأن ألقى ، فيه معنى الجعل ، و (عَلاماتٍ) : عطف على (أَنْهاراً وَسُبُلاً) ، أو نصب على المصدر ، أي : ألقى ذلك ؛ لعلكم تعتبرون ، وعلامات دالة على وحدانيته.

يقول الحق جل جلاله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي : السحاب ، أو جانب السماء ، (ماءً) : مطرا (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) تشربونه بلا واسطة ، أو بواسطة العيون والأنهار والآبار ؛ لأنه يحبس فيها ، ثم يشرب منها ، لقوله : (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) (١) ، وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) (٢) ، (وَمِنْهُ شَجَرٌ) أي : ومنه يكون شجر ، يعنى : الشجر الذي ترعاه المواشي ، وقيل : كل ما نبت على الأرض فهو شجر ، (فِيهِ تُسِيمُونَ) : ترعون مواشيكم ، من أسام الماشية : رعاها ، وأصلها : السومة ، التي هى العلامة ؛ لأنها تؤثر بالرعي علامات.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ) ، وقرأ أبو بكر بالنون ؛ على التفخيم ، (وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : ومن بعض كل الثمرات ؛ إذ لم ينبت فى الأرض كل ما يمكن من الثمار. قال البيضاوي : ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه ؛ لأنه سيصير غذاء حيوانيا هو أشرف الأغذية ـ يعنى اللحم ـ ، ومن هذا : تقديم الزرع ، والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها. ه.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، فيستدلون على وجود الصانع وباهر قدرته ، فإن من تأمل الحبة تقع فى الأرض يابسة ، ويصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشق أعلاها ، ويخرج منه ساق الشجر ، وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ، ثم ينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار ، والأكمام والثمار ، ويشتمل كل منها على أجسام مختلفة الأشكال والطبائع ، مع اتحاد المواد ، علم أن ذلك ليس إلا بفعل فاعل مختار ، مقدس عن منازعة الأضداد والأنداد ، ولعل وصل الآية به ؛ لذلك. قاله البيضاوي باختصار.

__________________

(١) من الآية ٢١ من سورة الزمر.

(٢) من الآية ١٨ من سورة المؤمنون.

١١٣

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ) (١) ؛ بأن هيأها لمنافعكم ، (مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) ، أي : مذللات لما يريد منها ، وهو حال من الجميع ، أي : نفعكم بها حال كونها مسخرات لله ، منقادة لحكمه ، أو لما خلقن له ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لأهل العقول السليمة الصافية من ظلمة الغفلة والشهوات ، وإنما جمع هنا ، دون ما قبله وما بعده ؛ لأن الأولى راجعة إلى إنزال المطر ، وهو متحد ، والثالثة راجعة إلى ما ذرأ فى الأرض ، وهو متحد فى الجنس والهيئة ، بخلاف العوالم العلوية ، فإنها مختلفة فى الجنس والهيئة. وقال البيضاوي : جمع الآية وذكر العقل ؛ لأنها تتضمن أنواعا من الدلالة ظاهرة لذوى العقول السليمة ، غير محوجة إلى استيفاء فكر ، كأحوال النبات. ه.

(وَما ذَرَأَ) أي : وسخر لكم ما ذرأ ، فهو عطف على الليل ، أي : سخر لكم ما خلق لكم فى الأرض من حيوانات ونبات ، (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) ؛ أبيض وأسود ، أحمر وأصفر ، مع اتحاد المادة ، فالماء واحد والزهر ألوان ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ؛ يتذكرون أن اختلافها فى الألوان والطبائع ، والهيئات والمناظر ، ليس إلا بصنع صانع حكيم.

(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) : ذلله بحيث هيأه للتمكن من الانتفاع به ؛ بالركوب فيه ، والاصطياد ، والغوص ، (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك ، ووصفه بالطراوة ؛ لأنه أرطب اللحوم ، فيسرع إليه الفساد ، فيسارع إلى أكله طريا ، ولإظهار قدرته فى خلقه ؛ عذبا طريا فى ماء زعاق (٢) أجاج ، واحتج به مالك على أن من حلف ألا يأكل لحما حنث بأكل السمك ، وأجيب بأن مبنى الأيمان على العرف ، وهو لا يفهم منه عند الإطلاق ؛ ألا ترى أن الله سمى الكافر دابة ، ولا يحنث من حلف ألا يركب دابة بركوبه. قاله البيضاوي. ويجاب بالاحتياط للحنث ؛ فالحنث يقع بأدنى شىء ، بخلاف البر ، لا يقع إلا بأتم الأشياء.

(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً) ؛ كاللؤلؤ والمرجان ، (تَلْبَسُونَها) ؛ يلبسها نساؤكم ، وأسند اللباس إليهم ؛ لأن لباس النساء تزين للرجال (٣) ، فكأنه مقصود لهم ، (وَتَرَى الْفُلْكَ) : السفن (مَواخِرَ فِيهِ) ؛ جوارى فيه تمخر الماء ، أي : تشقه ، أو تصوت من هبوب الريح ، (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : من سعة رزقه ؛ بركوبه للتجارة ، أو : وترى الفلك جوارى فيه ؛ لتركبوها ، ولتبتغوا من سعة رزقه. قال ابن عطية : فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح. ه. (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : تعرفون نعم الله فتقوموا بشكرها. ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر ؛ لأنه أقوى فى باب الإنعام ؛ من حيث جعل المهالك سببا للانتفاع ، وتحصيل المعاش. قاله البيضاوي.

__________________

(١) قرأ حفص وابن عامر : (والنجوم مسخرات) ؛ بالرفع على الابتداء ، وقرأ الباقون بالنصب .. انظر الإتحاف (٢ / ١٨١).

(٢) الزّعاق من الماء : المرّ الغليظ ، لا يطاق شربه ... انظر : لسان العرب (زعق).

(٣) هذا فى المنزل ، وللأزواج فقط ، وأما ما سوى ذلك فهو ـ أي : اللباس ـ للتستر والاحتشام ، تعبدا لله ، وطاعة لأمره ، (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ ...) الآية.

١١٤

(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) ؛ جبالا رواسى أرست الأرض ؛ كراهة (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ؛ تميل وتضطرب ؛ لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة ، وكان من حقها أن تتحرك كالسفينة على البحر ، فلما خلقت الجبال تقاومت جوانبها ؛ بثقلها نحو المركز ، فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل : لما خلق الله الأرض جعلت تمور ـ أي : تتحرك ـ فقالت الملائكة : ما يستقر أحد على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال. (وَأَنْهاراً) أي : وجعل فيها أنهارا تطرد ؛ لسقى الناس والبهائم ، وسائر المنافع ، وذكره بعد الجبال ؛ لأن الغالب انفجارها منها ، (وَسُبُلاً) أي : وجعل فيها طرقا (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) لمقاصدكم ، أو لمعرفة ربكم ، بالنظر فى دلالة هذه المصنوعات المتقدمة ، على صانعها.

(وَ) جعل فيها (عَلاماتٍ) : معالم يستدلّ بها السابلة على معرفة الطرق ؛ من الجبال ، والمناهل ، والرياح ، وغير ذلك ، (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) إلى الطرق بالليل ، فى البراري والبحار ، والمراد بالنجم : الجنس ، بدليل قراءة : «وبالنّجم» ؛ بضمتين ؛ على الجمع. وقيل : المراد : الثريا ، والفرقدان وبنات نعش (١) ، والجدى. والضمير لقريش ؛ لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة ، مشهورين بالاهتداء فى مسايرهم بالنجوم ، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب ، وتقديم النجم ، وإقحام الضمير ؛ للتخصيص ، كأنه قيل : وبالنجم خصوصا ، هؤلاء خصوصا يهتدون ، يعنى : قريشا ، فالاعتبار بذلك ، والشكر عليهم ألزم لهم وأوجب عليهم. ه. وأصله للزمخشرى.

الإشارة : هو الذي أنزل من سماء الغيوب ماء ، أي : علما لدنيا تحيا به القلوب ، وتتطهر به النفوس من أدناس العيوب. لكم منه شراب ، أي : خمرة تحيا بها الأرواح ، وتغيب عن حضرة الأشباح ، ويخرج منه على الجوارح أشجار العمل ، تثمر بالأذواق ، فيه تسيمون ، أي : فى أذواق العمل ترعون بنفوسكم وقلوبكم ، ثم ترحلون عنه إلى حلاوة شهود ربكم ، فمن وقف مع حلاوة العمل ، أو المقامات أو الكرامات ، بقي محجوبا عن ربه ، وعليه نبّه صاحب البردة بقوله :

وراعها ، وهى فى الأعمال سائمة

وإن هى استحلت المرعى فلا تسم

وقال فى الحكم : «ربما وقفت القلوب مع الأنوار ، كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار».

وقال الششترى :

وقد تحجب الأنوار للعبد مثل ما

تبعد (٢) من إظلام نفس حوت ضغنا.

__________________

(١) الفرقدان : نجمان فى السماء لا يغربان ، انظر اللسان (فرقد). وبنات نعش : سبعة كواكب ، تشاهد جهة القطب الشمالي. انظر (المعجم الوسيط / نعش).

(٢) فى ديوان الششترى : تقيّد.

١١٥

ينبت بذلك العلم طعام نفوسكم من قوت الشريعة ، ومصباح قلوبكم من عمل الطريقة ، وثمرة الأعمال فى عوالم الحقيقة ، وفواكه العلوم من مخازن الفهوم. وسخر لكم ليل القبض ، ونهار البسط ؛ لتسكنوا فيه ؛ لما خصكم فيه من مقام التسليم والرضا ، ولتبتغوا من فضله ؛ من فيض العلوم وكشف الغطاء ، فتشرق حينئذ شمس العرفان ، ويستنير قمر الإيمان ، وتطلع نجوم العلم ، كل مسخر فى محله ، لا يستتر أحد بنور غيره ، وهذا مقام أهل التمكين ، يستعملون كل شىء فى محله. وما ذأر لكم فى أرض نفوسكم من أنواع العبادات وأحوال العبودية ، متلونة باعتبار الأزمنة والأمكنة ، وهو الذي سخر بحر المعاني ؛ لتأكلوا منه لحما طريا ؛ علما جديدا لم يخطر على قلب بشر ، وتستخرجوا منه جواهر ويواقيت من الحكم ، تلبسونها وتتزين قلوبكم وألسنتكم بها.

وترى الفلك ، أي : سفن الفكرة ، فيه مواخر ؛ عائمة فى بحر الوحدة ، بين أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ؛ لتبتغوا من فضله ، وهى معرفة الحق بذاته وأسمائه وصفاته ، ولعلكم تشكرون ، فتقيدوا هذه النعم الجسام ؛ لئلا تزول. وألقى فى أرض البشرية جبال العقول ؛ لئلا يلعب بها ريح الهوى ، وأجرى عليها أنهارا من العلوم حين انزجرت عن هواها ، وجعل لها طرقا تهتدى بها إلى معرفة ربها ، فتهتدى أولا إلى نجم الإسلام ، ثم إلى قمر توحيد البرهان ، ثم إلى شهود شمس العرفان. وبالله التوفيق.

ولما ذكر دلائل التوحيد ، أنكر على من أشرك بعد هذا البيان ، فقال :

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣))

قلت : (وما يشعرون أيان يبعثون) ، الضمير الأول للأصنام ، والثاني للكفار الذين عبدوهم ، وقيل : للأصنام فيهما ، وقيل : للكفار فيهما ، و (لا جرم) : إما أن يكون بمعنى لا شك ، أو لا بد ، أو تكون «لا» نفيا لما تقدم. و «جرم» : فعل ، بمعنى وجب ، أو حق ، و (أن الله) : فاعل بجرم.

يقول الحق جل جلاله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ) كل شىء ، ويقدر على كل شيء ، (كَمَنْ لا يَخْلُقُ) شيئا ، ولا يقدر على شيء ، بل هو أعجز من كل شىء؟ وهو إنكار على من أشرك مع الله غيره ، بعد إقامة الدلائل

١١٦

المتكاثرة على كمال قدرته ، وباهر حكمته ، بذكر ما تقدم من أنواع المخلوقات وبدائع المصنوعات ، وكان حق الكلام : أفمن لا يخلق كمن يخلق ، لكنه عكس ؛ تنبيها على أنهم ، بالإشراك بالله ، جعلوه من جنس المخلوقات العجزة ، شبيها بها. والمراد بمن لا يخلق ، كل ما عبد من دون الله ، وغلب أولى العلم منهم ، فعبّر بمن ، أو يريد الأصنام ، وأجراها مجرى أولى العلم ؛ لأنهم سموها آلهة ، ومن حق الإله أن يعلم ، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ؛ فتعرفوا فساد ذلك ؛ فإنه لظهوره كالحاصل للعقل الذي يحضر عنده بأدنى تذكر والتفات.

ولما ذكر أنواعا من المخلوقات على وجه الاستدلال على وحدانيته ـ وفى ضمنها : تعداد النعم على خلقه ـ أعقبها بقوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) أي : لا تطيقوا عدها ، فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها. ثم أعقبها بقوله : (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ تنبيها على أن العبد فى محل التقصير ، لو لا أن الله يغفر له تقصيره فى أداء شكر نعمه ، ويرحمه ببقائها مع تقصيره فى شكرها.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) من عقائدكم وأعمالكم ، وهو وعيد لمن كفر النعم وأشرك مع الله غيره ، سرا أو علانية ، ثم قال تعالى : والذين تدعون (١) أي : والأصنام الذين تعبدونهم (مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) ؛ لظهور عجزهم. لمّا نفى المشاركة بين من يخلق ومن لا يخلق ، بيّن أنها لا تخلق شيئا ؛ ليتحقق نفي الألوهية عنها ؛ ضرورة. ثم علل عجزها ، وعدم استحقاقها للألوهية بقوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي : وهم مخلوقون مفتقرون فى وجودهم إلى التخليق ، والإله لا بد أن يكون واجب الوجود.

وهم ، أيضا ، (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي : لم تكن لهم حياة قط ، ولا تكون ، وذلك أغرق فى موتها ممن تقدمت له حياة ، ثم مات. والإله ينبغى أن يكون حيا بالذات لا يعتريه الممات. (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي : لا يعلمون وقت بعثهم ، أو بعث عبدتهم ، فكيف يكون لهم وقت يجازون فيه من عبدهم ، والإله ينبغى أن يكون عالما بالغيوب ، قادرا على الجزاء لمن عبده؟ وفيه تنبيه على أن البعث من توابع التكليف. قاله البيضاوي.

قال ابن جزى : نفى عن الأصنام صفة الربوبية ، وأثبت لهم أضدادها ؛ وهى أنهم مخلوقون غير خالقين ، وغير أحياء ، وغير عالمين وقت البعث ، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم ، أثبت الربوبية لله وحده ، فقال : (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). ه. وهو تصريح بما أقام عليه الحجج والبراهين بما تقدم.

__________________

(١) قرأ عاصم ويعقوب : «يدعون» : بالياء. على الالتفات. وقرأ الباقون «تدعون» بتاء الخطاب انظر الإتحاف (٢ / ١٨٢).

١١٧

ثم ذكر سبب إصرارهم على الكفر ـ وهو إنكار البعث والتكبر ـ فقال : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي : فالمنكرون للبعث قلوبهم منكرة لوحدانيته تعالى ، وهم مستكبرون عن اتباع الرسل فيما جاءوا به ، والخضوع لهم ؛ لأن المؤمن بالآخرة يكون طالبا للدلائل ، متأملا فيما يسمع ، فينتفع به ، خاضعا للحق ، متبعا لمن جاء به ، بخلاف الكافر ، يكون حاله بالعكس ؛ منهمكا فى الغفلة ، متبعا للهوى ، ينكر بقلبه ما لا يعرف إلا بالبرهان (١) ، اتباعا للأسلاف ، وتقليدا لهم ، وركونا إلى المألوف.

قال تعالى ؛ تهديدا لمن هذا وصفه : (لا جَرَمَ) : لا بد ، أو لا شك ، أو حقّ (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) ، فيجازيهم عليه ؛ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) مطلقا ، فضلا عن الذين استكبروا عن توحيده واتباع رسوله. ومفهومه : أنه يحب المتواضعين الخاضعيين للحق ، ولمن جاء به ، وهم المؤمنون. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قد تضمنت الآية ثلاث خصال من خصال أهل التوحيد : الأولى : رفع الهمة عن الخلق ، وتعلقها بالخالق فى جميع المطالب والمآرب ؛ إذ لا يترك العبد من هو خالق كل شىء ، قادر على كل شىء ، دائم لا يموت ، ويتعلق بعبد عاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) ، (والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء). وأنشدوا فى هذا المعنى :

حرام على من وحّد الله ربّه

وأفرده أن يحتذى أحدا رفدا

فيا صاحبى قف بي على الحقّ وقفة

أموت بها وجدا ، وأحيا بها وجدا

وقل لملوك الأرض تجهد جهدها

فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى

والخصلة الثانية : تذكر البعث وما بعده ، وتقريبه وجعله نصب العين ؛ إذ بذلك يحصل الزهد فى هذه الدار الفانية ، والاستعداد والتأهب للدار الباقية ، وبه تلين القلوب ، وتتحقق بعلم الغيوب ، وبه يحصل الخضوع للحق ، والتعظيم لمن جاء به. بخلاف من أنكره ، أو استبعده ، قال تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).

__________________

(١) هذا من سمات المؤمنين ، وليس الكافرين ، فالكافرون : لا برهان لهم ؛ (.. لا برهان له به ..) ، (قل هاتوا برهانكم ..) .. (قل هل عندكم من علم ..) (لو لا يأتون عليهم بسلطان).

ويرحم الله أسلافنا ، علمونا ذلك ، فنقلنا عنهم هذه القاعدة : (إن كنت ناقلا ـ فالصحة ، وإن كنت مدّعيا : فالدليل) ، والله ـ تقدس وتعالى ـ أمرنا ألا نتبع إلا ما قام عليه الدليل ، (ولا تقف ما ليس لك له علم) ، والعلم هو ما قام عليه البرهان الجلي.

١١٨

الخصلة الثالثة : التواضع والخضوع لله ، ولمن دعا إلى الله ، وهو سبب المحبة من الله ، ورفع الدرجات عند الله ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لله رفعه ، ومن تكبر وضعه الله». وقال أيضا : «من تواضع دون قدره ، رفعه الله فوق قدره». بخلاف المتكبر ؛ فإنه ممقوت عند الله ، مطرود عن باب الله ؛ قال تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ). وفى الحديث : «لا يدخل الجنّة من فى قلبه مثقال ذرّة من خردل من كبر» (١) ، أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتكبر : بطر الحق وغمط الناس ، أي : جحد الحق ، واحتقار الناس. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر وصف المتكبرين ، ووبال تكبرهم ، فقال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩))

قلت : (ما ذا) ، يجوز أن يكون اسما واحدا مركبا منصوبا ب (أَنْزَلَ) ، وأن تكون (ما) : استفهامية فى موضع رفع بالابتداء ، و (ذا) : بمعنى «الذي» : خبر ، وفى أنزل ضمير محذوف ، أي : ما الذي أنزله ربكم؟ واللام فى (لِيَحْمِلُوا) : لام العاقبة والصيرورة ، أي : قالوا : هو أساطير الأولين ؛ فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ، وقيل : لام الأمر ، و (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول فى (يُضِلُّونَهُمْ) ، أو من الفاعل ، و (تُشَاقُّونَ) : من قرأه بالكسر ؛ فالمفعول : ضمير المتكلم ، وهو الله تعالى ، ومن قرأه بالفتح ؛ فالمفعول محذوف ، أي : تشاقون المؤمنين من أجلهم. و (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : حال من ضمير المفعول فى : «تتوفاهم».

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه) ، من حديث ابن مسعود ـ رضى الله عنه.

١١٩

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي : كفار قريش : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) على رسوله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ؟ (قالُوا) : هو (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات. وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ ، ويقول : إنما يحدّث محمد بأساطير الأولين ، وحديثى أجمل من حديثه. والقائل لهم هم المقتسمون ، وتسميته ، حينئذ ، منزلا ؛ إما على وجه التهكم ، أو على الفرض والتقدير ، أي : على تقدير أنه منزل ، فهو أساطير لا تحقيق فيه. ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين ، فلا يحتاج إلى تأويل.

(لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : قالوا ذلك ؛ ليضلوا الناس ، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة ، (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) : وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم ـ وهو حصة التسبب فى الوقوع فى الضلال ـ حال كونهم (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال. وفيه دليل على أن الجاهل فى العقائد غير معذور ؛ إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله ، وينظر فى دلائله وحججه (١).

قال البيضاوي : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) : حال من المفعول ؛ أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضلّال ، وفائدتها : الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم ؛ إذ كان عليهم أن يبحثوا ، ويميزوا بين المحق والمبطل. ه. وقال المحشى : ففيه ذم تقليد المبطل ، وأن مقلده غير معذور ، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة ، أو غير ذلك ، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته. ه. قلت : ويجوز أن يكون حالا من الفاعل ، أي : يضلّون فى حال خلوهم من العلم ، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال.

قال تعالى فى شأن أهل الإضلال : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ، أي : بئس شيئا يزرونه فعلهم هذا.

(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : دبروا أمورا ليمكروا بها الرسل ، (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) أي : قصد ما دبروه من أصله ، فهدمه ، (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ، وصار ما دبروه ، وبنوه من المكر ، سبب هلاكهم ، (وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ؛ لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل. وقال ابن عباس وغيره : المراد به نمرود بن كنعان ، بنى الصرح ببابل ، سمكه خمسة آلاف ذراع ؛ ليترصّد أمر السماء ، فبعث الله ريحا فهدمته ، فخرّ عليه وعلى قومه ، فهلكوا ، وقيل : إن جبريل عليه‌السلام هدمه ، فألقى أعلاه فى البحر ، وانجعف (٢) من أسفله.

__________________

(١) ما ذكر الشيخ هو كلام المعتزلة ـ عموما ـ أما كلام أهل السنة ـ فيما يختص بمن ثبت له عقد الإسلام ـ فهو إعذاره بالجهل ، وتبليغه الحجة حتى يتبين له الحق بيانا لا يغيب على مثله ، وحتى يعرف الحق ويميزه ، كما يميز الشمس .. فإن أصر على فعل الشرك أو الكفر بعد هذا فهو كافر ، لا عذر له ، يقول الشوكانى تعليقا على حديث سجود معاذ للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وفى هذا الحديث دليل على أن من سجد ـ جاهلا ـ لغير الله ، لم يكفر» وقال فى السيل الجرار : «فلا بد من شرح الصدر بالكفر ، فلا اعتبار بما يقع من طوارئ عقائد الشرك ، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لعقائد الإسلام ، إلى غير ذلك مما قرره ابن العربي ، والقاسمى ، وابن القيم وغيرهم ، فى هذه المسائل. فتأملها ؛ لأنها خطيرة جدا ، فعدم إحكام هذه الأصول يوقعنا فى جحيم تكفير جهلة المسلمين. والأمر لله.

(٢) يقال : جعفه جعفا : قلبه وقلعه. فانجعف. انظر اللسان : (جعف).

١٢٠