البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

(ما عِنْدَكُمْ) من أعراض الدنيا (يَنْفَدُ) ؛ ينقضى ويفنى ، (وَما عِنْدَ اللهِ) من خزائن رحمته ، وجزيل نعمته (باقٍ) لا يفنى ، وهو تعليل للنهى عن نقض العهد ؛ طمعا فى العرض الفاني ، (وَلَنَجْزِيَنَ) (١) (الَّذِينَ صَبَرُوا) على الوفاء بالعهود ، أو على الفاقات وأذى الكفار ، أو مشاق التكاليف ، (أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) بما يرجح فعله من أعمالهم ، كالواجبات والمندوبات ، أو بجزاء أحسن من أعمالهم. وبالله التوفيق.

الإشارة : الوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، من شأن الصالحين الأبرار ، كالعباد والزهاد ، والعلماء الأخيار. وأما أهل الفناء والبقاء من العارفين : فلا يقفون مع شىء ، ولا يعقدون على شىء ، هم مع ما يبرز من عند مولاهم فى كل وقت وحين ، ليس لهم عن أنفسهم إخبار ، ولا مع غير الله قرار. يتلونون مع المقادير كيفما تلونت ، وذلك من شدة قربهم وفنائهم فى ذات مولاهم. قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢) ، فهم يتلونون مع الشئون البارزة من السر المكنون ؛ فمن عقد معهم عقدا ، أو أخذ منهم عهدا ، فلا يعول على شىء من ذلك ؛ إذ ليست أنفسهم بيدهم ، بل هى بيد مولاهم. وليس ذلك نقصا فى حقهم ، بل هو كمال (٣) ؛ لأنه يدل على تغلغلهم فى التوحيد حتى هدم عزائمهم ، ونقض تدبيرهم واختيارهم. ولا يذوق هذا إلا من دخل معهم ، وإلّا فحسبه التسليم ، وطرح الميزان عنهم ، إن أراد الانتفاع بهم. والله تعالى أعلم.

وهذه الحالة التي أقامهم الحق تعالى فيها هى الحياة الطيبة ، التي أشار إليها الحق تعالى بقوله :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))

يقول الحق جل جلاله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً) ؛ بأن صحبه الإخلاص ، وتوفرت فيه شروط القبول ، (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ؛ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب ، وإنما المتوقع عليها تحقيق العقاب ، (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) فى الدنيا ، بالقناعة والكفاية مع التوفيق والهداية. قال البيضاوي : يعيش عيشا طيبا ، فإنه ، إن كان موسرا ، فظاهر ، وإن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة ، والرضا بالقسمة ، وتوقع الأجر العظيم ، بخلاف الكافر ، فإنه ، إن كان معسرا ، فظاهر ، وإن كان موسرا لم يدعه الحرص وخوف الفوات أن يهنأ بعيشه ، وقيل : فى الآخرة ، أي : فى الجنة. ه. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الطاعة ، فيجازيهم على الحسن بجزاء الأحسن. وبالله التوفيق.

__________________

(١) قرأ ابن كثير وعاصم وأبو جعفر : (ولنجزين) ؛ بالنون ، وقرأ الباقون بالياء على الغيب.

(٢) من الآية ٢٩ من سورة الرحمن.

(٣) العارف الحق هو الذي يلتزم أمر الله ويجتنب مناهيه ، وهو شاهد بقلبه مولاه ، فان عما سواه.

١٦١

الإشارة : الحياة الطيبة إنما تتحقق بكمالها عند أهل التجريد ؛ حيث انقطعت عنهم الشواغل فى الظاهر ، والعلائق فى الباطن ، فاطمأنت قلوبهم بالله ، وسكنت أرواحهم فى حضرة الله ، وتحققت أسرارهم بشهود الله ، فدام سرورهم ، واتصل حبورهم بحلاوة معرفة محبوبهم ، وهذه نتيجة شرب الخمرة الأزلية ، كما قال ابن الفارض فى مدحها :

وإن خطرت يوما على خاطر امرئ

أقامت به الأفراح ، وارتحل الهمّ

هذا فى الخطور ، فما بالك بالسكون ودوام الحضور؟ وقال أيضا فى شأنها :

فما سكنت والهمّ ، يوما ، بموضع

كذلك لا يسكن مع النّغم الغم

وإنما تحقق لهم هذا الأمر العظيم ؛ لرسوخ قدمهم فى مقام الإحسان ، وسكونهم فى جنة العرفان ، فهبّ عليهم نسيم الرضا والرضوان ، وترقت أرواحهم إلى مقام الروح والريحان ، فقلوبهم بحار زاخرة لا تكدرها الدلاء ، وأرواحهم أنوار ساطعة لا يؤثر فيها ليل القبض والابتلاء ، وأسرارهم بأنوار المواجهة مشرقة ، فدام سرورها بكل ما يبرز من عنصر القضاء. والحاصل : أن أهل هذا المقام عندهم من الإكسير والقوة ما يقلبون به الأعيان ، فيقلبون الشرّيات خيريات ، والمعاصي طاعات ، والإساءة إحسانا ، والجلال جمالا .. وهكذا ، فأنّى تغير قلوب هؤلاء الأكدار؟ وأنى تنزل بساحتهم الأغيار ، وهم فى حضرة الكريم الغفار؟ نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا فى سلكهم ، آمين.

ومن جملة الحياة الطيبة : التنعم بحلاوة القرآن ، ولا يتحقق ذلك إلا بالبعد والحفظ من خوض الشيطان ، ولذلك أمر بالتعوذ منه عند قراءته ، فقال :

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

يقول الحق جل جلاله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) ؛ أردت قراءته ، كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (١) ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) أي : فسل الله أن يعيذك من وسواسه ؛ لئلا يوسوسك فى القراءة ، فيحرمك حلاوة التلاوة ؛ فإنه عدو لا يحب لابن آدم الربح أبدا ، والجمهور على أنه مستحب عند التلاوة ، وعن عطاء : أنه واجب. ومذهب مالك : أنه لا يتعوذ فى الصلاة. وعند الشافعي وأبى حنيفة : يتعوذ فى كل ركعة ؛ تمسكا بظاهر

__________________

(١) من الآية ٦ من سورة المائدة.

١٦٢

الآية ؛ لأن الحكم المرتب على شرط يتكرر بتكرره ، وأخذ مالك بعمل أهل المدينة فى ترك التعوذ فى الصلاة. وهو تابع للقراءة فى السر والجهر ، وعن ابن مسعود : قرأت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال : «قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (١).

ثم قال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) أي : تسلط وولاية (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : لا تسلط له على أولياء الله المؤمنين به ، والمتوكلين عليه ، فإنهم لا يطيعون أوامره ، ولا يصغون إلى وساوسه ، إلا فيما يحتقر ، على ندور وغفلة. (إِنَّما سُلْطانُهُ) أي : تسلّطه (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) : يحبونه ويطيعونه ، (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ) أي : بالله ، أو : بسبب الشيطان ، (مُشْرِكُونَ) ؛ حيث حملهم على الشرك فأطاعوه.

الإشارة : الاستعاذة الحقيقية من الشيطان هى : الغيبة عنه فى ذكر الله أو شهوده ، فلا ينجح فى دفع الشيطان إلا الفرار منه إلى الرحمن. قال تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) (٢). فإن الشيطان كالكلب ، كلما اشتغلت بدفعه قوى نبحه عليك ، فإما أن يخرق الثياب ، أو يقطع الإهاب ، فإذا رفعت أمره إلى مولاه كفه عنك. وقد قال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضي الله عنه : عداوة العدو حقا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو ، فاتتك محبة الحبيب ، ونال مراده منك. ه.

فالعاقل هو الذي يشتغل بذكر الله باللسان ، ثم بالقلب ، ثم بالروح ، ثم بالسر ، فحينئذ يذوب الشيطان ولا يبقى له أثر قط ، أو يذعن له ويسلم شيطانه ، فإنما حركه عليك ؛ ليوحشك إليه. وفى الحكم : «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده». فإذا تعلقت بالقوى المتين ، هرب عنك الشيطان اللعين. وسيأتى مزيد كلام إن شاء الله عند قوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ..) (٣) الآية. وبالله التوفيق.

ومن أقبح وسوسة الشيطان : الطعن فى القرآن ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣))

__________________

(١) عزاه المناوى فى الفتح السماوي (٢ / ٧٥٨) للثعلبى.

(٢) من الآية ٥٠ من سورة الذاريات.

(٣) من الآية ٦ من سورة فاطر.

١٦٣

قلت : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) : معترض بين الشرط ، وهو : (إِذا) وجوابه ، وهو : (قالُوا) ؛ لتوبيخ الكفار ، والتنبيه على فساد سندهم. و (هُدىً وَبُشْرى) : عطف على : (لِيُثَبِّتَ).

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) ؛ بأن نسخنا الأولى ؛ لفظا أو حكما ، وجعلنا الثانية مكانها ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ) من المصالح ، فلعل ما يكون فى وقت ، يصير مفسدة بعده ، فينسخه ، وما لا يكون مصلحة حينئذ ، يكون مصلحة الآن ، فيثبته مكانه. فإذا نسخ ، لهذا المصلحة ، (قالُوا) أي : الكفرة : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) : كذاب متقوّل على الله ، تأمر بشىء ثم يبدو لك فتنهى عنه ، قال تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن ، ولا يميزون الخطأ من الصواب.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ) يعنى : جبريل. والقدس : الطهر والتنزيه ؛ لأنه روح منزه عن لوث البشرية. نزله (مِنْ رَبِّكَ) ملتبسا (بِالْحَقِ) : بالحكمة الباهرة ، أو مع الحق فى أمره ونهيه وإخباره ، أو أنزله حقا ، (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الإيمان ؛ لأنه كلام الله ، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح ، رسخت عقائدهم ، واطمأنت قلوبهم. (وَ) أنزله (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) المنقادين لأحكامه ، أي : نزله ؛ تثبيتا وهداية وبشارة للمسلمين.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يعنون : غلاما نصرانيا اسمه : جبر ، وقيل : يعيش. قيل : كانا غلامين ، اسم أحدهما : جبر ، والآخر يسار ، وكانا يصنعان السيوف ، ويقرآن التوراة والإنجيل ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس إليهما ، ويدعوهما إلى الإسلام ، فقالت قريش : هذان هما اللذان يعلمان محمدا ما يقول. قال تعالى فى الرد عليهم : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) أي : لغة الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه ، وينسبون إليه تعليم القرآن ، أعجمى ، (وَهذا) القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ؛ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي : والجملتان مستأنفتان ؛ لإبطال طعنهم ، وتقريره يحتمل وجهين ؛ أحدهما : أن ما سمعه منه كلام أعجمى لا يفهمه هو ولا أنتم ، والقرآن عربى تفهمونه بأدنى تأمل ، فكيف يكون ، ـ أي : القرآن ـ ما تلقفه منه؟ وثانيهما : هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه ، لكن لم يتلقف منه اللفظ ؛ لأن ذلك أعجمى وهذا عربى ، والقرآن ، كما هو معجز باعتبار المعنى ، معجز باعتبار اللفظ ، مع أن العلوم الكثيرة التي فى القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق فى تلك العلوم مدة متطاولة ، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سوقى ، سمع منه ، بعض أوقات ، كليمات عجمية ، لعله لم يعرف معناها؟! فطعنهم فى القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. ه.

الإشارة : كما وقع النسخ فى وحي أحكام ، يقع فى وحي إلهام ؛ فقد يتجلى فى قلب الولي شىء من الأخبار الغيبية ، أو يأمر بشىء يليق ، فى الوقت ، بالتربية ، ثم يخبر أو يأمر بخلافه ؛ لوقوع النسخ أو المحو ، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب ، فيطعن أو يشك ، فيكون ذلك قدحا فى بصيرته ، وإخمادا لنور سريرته ، إن كان داخلا تحت تربيته. والله تعالى أعلم.

١٦٤

ثم ذكر وبال من طعن فى كلام الله ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))

قلت : (مَنْ كَفَرَ) : شرطية مبتدأ ، وكذلك (مَنْ شَرَحَ). و (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) : جواب عن الأولى والثانية ؛ لأنهما بمعنى واحد ، ويكون جوابا للثانية ، وجواب الأولى : محذوف يدل عليه جواب الثانية. وقيل : (مَنْ كَفَرَ) : بدل من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ، أو من المبتدأ فى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، أو من الخبر. و (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : استئناف من قوله : (مَنْ كَفَرَ).

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ لا يصدّقون (بِآياتِ اللهِ) ، ويقولون : هى من عند غيره ، (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى سبيل النجاة ، أو إلى اتباع الحق ، أو إلى الجنة. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فى الآخرة. وهذا فى قوم علم أنهم لا يؤمنون ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (١). وقال ابن عطية : فى الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله. ولكنه قدّم وأخر ؛ تهمما بتقبيح أفعالهم. ه.

قال البيضاوي : هددهم على كفرهم ، بعد ما أماط شبهتهم ، ورد طعنهم فيه ، ثم قلب الأمر عليهم ، فقال : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) ؛ لأنهم لا يخافون عذابا يردعهم عنه ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) على الحقيقة ، أو الكاملون فى الكذب ؛ لأن تكذيب آيات الله ، والطعن فيها ، بهذه الخرافات أعظم الكذب. وأولئك الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروءة. أو الكاذبون فى قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ). ه. والكلام كله مع كفار قريش.

__________________

(١) من الآية ٩٦ من سورة يونس.

١٦٥

ثم ذكر حكم من ارتد عن الإيمان ؛ طوعا أو كرها ، فقال : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) فعليهم غضب من الله ، (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على التلفظ بالكفر ، أو على الافتراء على الله ، (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ؛ لم تتغير عقيدته ، (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي : فتحه ووسعه ، فاعتقده ، وطابت به نفسه ، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ؛ إذ لا أعظم من جرمه.

روى أن قريشا أكرهوا عمّارا وأبويه ـ وهما ياسر وسمية ـ على الارتداد ، فربطوا سمية بين بعيرين ، وطعنوها بحربة فى قلبها ، وقالوا : إنك أسلمت من أجل الرجال ، فماتت ـ رحمة الله عليها ـ وقتلوا ياسرا زوجها ، وهما أول قتيلين فى الإسلام. وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا ؛ مكرها ، فقيل : يا رسول الله ؛ إن عمارا كفر ، فقال : «كلا ، إن عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه». فأتى عمّار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يبكى ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح عينيه ، ويقول : «ما لك ، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» (١).

وهو دليل على جواز التكلم بالكفر عند الإكراه. وإن كان الأفضل أن يجتنب عنه ، إعزازا للدين ، كما فعل أبواه. لما روى أنّ مسيلمة أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول فى محمد؟ فقال : رسول الله. وقال : ما تقول فىّ؟ فقال : أنت أيضا ، فخلى سبيله ، وقال للآخر : ما تقول فى محمد؟ فقال : رسول الله ، فقال : ما تقول فىّ؟ فقال : أنا أصم ، فأعاد عليه ثلاثا ، فأعاد جوابه ، فقتله ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : أما الأول فقد أخذ برخصة الله ، وأما الآخر فقد صدع بالحق ، فهنيئا له (٢). ه. قاله البيضاوي.

قال ابن جزى : وهذا الحكم فيمن أكره على النطق بالكفر ، وأما الإكراه على فعل وهو كفر ، كالسجود للصنم ، فاختلف ؛ هل يجوز الإجابة إليه أو لا؟ فأجازه الجمهور ، ومنعه قوم. وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين ، ولا طلاق ، ولا عتاق ، ولا شىء فيما بينه وبين الله ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز له الإجابة إليه ؛ كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله. ه. وذكر ابن عطية أنواعا من الأمور المكره بها ، فذكر عن مالك : أن القيد إكراه ، والسجن إكراه ، والوعيد المخوف إكراه ، وإن لم يقع ، إذا تحقق ظلم ذلك المتعدى ، وإنفاذه فيما يتوعد به. ثم ذكر خلافا فى الحنث فى حق من حلف ؛ للدرء عن ماله ، لظالم ، بخلاف الدرء عن النفس والبدن ، فإنه لا يحنث ، قولا واحدا ، إلا إذا تبرع باليمين ، ففى لزومه خلاف. وانظر المختصر فى الطلاق.

__________________

(١) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (٢٢٨) عن ابن عباس. وأخرجه بنحوه الحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٥٧) من حديث محمد بن عمار بن ياسر ، وصححه ، ووافقه الذهبي. وانظر تفسير الطبري (١٤ / ١٨٠).

(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٤ / ٢٥٠) لابن أبى شيبة عن الحسن ؛ مرسلا.

١٦٦

ثم علل نزول العذاب بهم ، فقال : (ذلِكَ) الوعيد (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) أي : بسبب أنهم آثروها عليها ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ، الذين سبق لهم الشقاء ، فلا يهديهم إلى ما يوجب ثبات الإيمان فى قلوبهم ، ولا يعصمهم من الزيغ. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ؛ فغابت عن إدراك الحق والتدبر فيه ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون فى الغفلة ، حتى أغفلتهم الحالة الزائفة عن التأمل فى العواقب. (لا جَرَمَ) : لا شك (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ؛ حيث ضيعوا أعمارهم ، وصرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد. قاله البيضاوي.

الإشارة : من سبق له البعاد لا ينفعه الكد والاجتهاد ، ومن سبقت له العناية لا تضره الجناية. ففى التحقيق : ماثمّ إلا سابقة التوفيق. فمن كان فى عداد المريدين السالكين ، ثم أكره على الرجوع إلى طريق الغافلين ، (مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) ، أي : بالتصديق بطريق الخصوص ، وهو مصمم على الرجوع إليها ؛ فلا بأس عليه أن ينطق بلسانه ، ما يرى أنه رجع إليهم. فإذا وجد فسحة فرّ بدينه. وكذلك إذا أخذه ضعف أو فشل وقت القهرية ، ثم أنهضته العناية ، ففرّ إلى الله ، التحق بأولياء الله ، وأما من شرح صدره بالرجوع عن طريق القوم ، وطال مقامه مع العوام ، فلا يفلح أبدا فى طريق الخصوص ، والتحق بأقبح العوام ، إلا إن بقي فى قلبه شىء من محبة الشيوخ والفقراء ، فلعله يحشر معهم ، ودرجته مع العوام.

قال القشيري : إذا علم الله صدق عبده بقلبه ، وإخلاصه فى عقده ، ثم لحقته ضرورة فى حاله ، خفّف عنه حكمه ، ورفع عنه عناءه ، فإذا تلفظ بكلمة الكفر ؛ مكرها ، وهو بالتوحيد محقق ، عذر فيما بينه وبين ربه. وكذلك الذين عقدوا بقلوبهم ، وتجردوا لسلوك طريق الله ، ثم اعترضت لهم أسباب ، فاتفقت لهم أعذار ، فنفذ ما يوجبه الحال ، وكان لهم ببعض الأسباب اشتغال ، أو إلى شىء من العلوم رجوع ، لم يقدح ذلك فى حجة إرادتهم ، ولا يعدّ ذلك منهم شكا وفسخا لعهودهم ، ولا تنتفى عنهم سمة الفيئة إلى الله. ه. قلت : هذا إن بقوا فى صحبة الشيوخ ، ملازمين لهم ، أو واصلين إليهم ، وأما إن تركوا الصحبة ، أو الوصول ، فلا شك فى رجوعهم إلى العمومية.

ثم قال فى قوله : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) : من رجع باختياره ، ووضع قدما فى غير طريق الله ، بحكم هواه ، فقد نقض عهد إرادته لله ، وفسخ عقد قصده إلى الله ، وهو مستوجب الحجبة ، إلى أن تتداركه الرحمة. ه. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرحمن الفاسى ، ما نصه : وفى مكاتبة لشيخنا العارف أبى المحاسن يوسف بن محمد : فإن اختلفت الأشكال ، وتراكمت الفتن والأهوال ، وتصدعت الأحوال ، ربما ظهر على العارف وصف لم يكن معهودا ، وأمر لم يكن بالذات مقصودا ، فيكون معه قصور فى جانب الحق ، لا فى جانب الحقيقة ، فلا يضر ، إن رجع فى ذلك لمولاه ؛ فرارا ، وإلى ربه ؛ اضطرارا. (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ). ه.

١٦٧

ثم رغب فى التوبة ، فقال :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))

قلت : (إِنَ) الثانية : تأكيد ، والخبر للأول.

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) من دار الكفر إلى المدينة (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي : عذبوا على الإسلام ؛ كعمار بن ياسر ، وأشباهه ؛ من المعذبين على الإسلام. هذا على قراءة الضم. وقرأ ابن عامر : (فُتِنُوا) ؛ بفتح التاء ، أي : فتنوا المسلمين وعذبوهم ، فتكون فيمن عذب المسلمين ، ثم أسلم وهاجر وجاهد ، كعامر ابن الحضرمي ، أكره مولاه جبرا حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا ثم جاهدا ، وصبرا على الجهاد وما أصابهم من المشاق ، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) ؛ من بعد الهجرة والجهاد والصبر ، (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : لغفور لما مضى قبل ، رحيم ؛ يجازيهم على ما صنعوا بعد.

الإشارة : من نزلت به قهرية ، أو حصلت له فترة ، حتى رجع عن طريق القوم ، ثم تاب وهاجر من موطن حظوظه وهواه ، وجاهد نفسه فى ترك شواغل دنياه ، واستعمل السير إلى من كان يدله على الله ؛ (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ يغفر له ما مضى من فترته ، ويلحقه بأصحابه وأبناء جنسه. وبالله التوفيق.

ثم ذكر يوم الجزاء لمن صبر وهاجر ، أو الخسران لمن جحد وكفر ، فقال :

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

قلت : (يَوْمَ) : منصوب باذكر ، أو بغفور رحيم.

يقول الحق جل جلاله : واذكر (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) ؛ عن ذاتها ، وتسعى فى خلاصها ، لا يهمها شأن غيرها ؛ (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) (١) ، (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) جزاء (ما عَمِلَتْ) على التمام ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) : لا ينقصون من أجورهم مثقال ذرة.

الإشارة : النفس التي تجادل عن نفسها ، وتوفى ما عملت من خير أو شر ، إنما هى النفس الأمارة أو اللوامة. وأما النفس المطمئنة بالله ، الفانية فى شهود ذات الله ، لا ترى وجودا مع الله ؛ فلا يتوجه عليها عتاب ، ولا يترتب عليها حساب ؛ إذ لم يبق لها فعل تحاسب عليه. وعلى تقدير وجوده فقد حاسبت قبل أن تحاسب ، بل هى فى عداد

__________________

(١) الآيات : ٣٤ ـ ٣٦ من سورة عبس.

١٦٨

السبعين ألفا ، الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وهم المتوكلون. أو تقول : هى فى عداد من يلقى الله بالله ، فليس لها شىء سوى الله ، فحجته ، ايوم تجادل النفوس ، هو الله. كما قال الشاعر :

وجهك المحمود حجتنا

يوم يأتى الناس بالحجج

وبالله التوفيق.

ثم ضرب مثلا لمن كفر النعم ، فقال :

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))

قلت : (قَرْيَةً) : بدل من : (مَثَلاً).

يقول الحق جل جلاله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ، ثم فسره بقوله : (قَرْيَةً) : مكة ، وقيل : غيرها. (كانَتْ آمِنَةً) من الغارات ، لا تهاج ، (مُطْمَئِنَّةً) لا تحتاج إلى الانتقال عند الضيق أو الخوف ، (يَأْتِيها رِزْقُها) : أقواتها (رَغَداً) : واسعا (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من نواحيها ، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) ؛ بطرت بها ، أو بنبي الله ، سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ، استعار الذوق لإدراك أثر الضرر ، واللباس لما غشيهم واشتمل عليهم من الجوع والخوف ، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها فى البلايا حتى صارت كالحقيقة ، وأما اللباس فقد يستعيرونه لما يشتمل على الشيء ويستره ؛ يقول الشاعر :

غمر الرّداء إذا تبسّم ؛ ضاحكا

غلقت لضحكته رقاب المال

فقد استعار الرداء للمعروف ، فإنه يصون عرض صاحبه صون الرداء ؛ لما يلقى عليه ، والمعنى : أنهم لما كفروا النعم أنزل الله بهم النقم ، فأحاط بهم الخوف والجوع إحاطة الثوب بمن يستتر به ، فإن كانت مكة ، فالخوف من سرايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغاراته عليهم ، وإن كان غيرها ، فمن كل عدو ، وذلك بسبب ما كانوا يصنعون من الكفر والتكذيب.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) ، يعنى : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير لأهل مكة. عاد إلى ذكرهم بعد ذكر مثلهم. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) : الجوع والقحط ، ووقعه بدر ، (وَهُمْ ظالِمُونَ) ؛ ملتبسون بالظلم ، غير تائبين منه. والله تعالى أعلم.

١٦٩

الإشارة : ضرب الله مثلا ؛ قلبا كان آمنا مطمئنا بالله ، تأتيه أرزاق العلوم والمواهب من كل مكان ، فكفر نعمة الشيخ ، وخرج من يده قبل كماله ، فأذاقه الله لباس الفقر بعد الغنى بالله ، والخوف من الخلق ، وفوات الرزق ، بعد اليقين ؛ بسبب ما صنع من سوء الأدب وإنكار الواسطة ، ولو خرج إلى من هو أعلى منه ؛ لأن من بان فضله عليك وجبت خدمته عليك ، ومن رزق من باب لزمه. وهذا أمر مجرب عند أهل الذوق بالعيان ، وليس الخبر كالعيان ، هذا إن كان أهلا للتربية ، مأذونا له فيها ، جامعا بين الحقيقة والشريعة ، وإلا انتقل عنه إلى من هو أهل لها. وبالله التوفيق.

ثم أمر بالشكر ، الذي هو قيد النعم ، فقال :

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))

قلت : (الْكَذِبَ) : مفعول بتقولوا ، و (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) : بدل منه ، أي : لا تقولوا الكذب ، وهو قولكم : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) ، و (لِما) فى قوله : (لِما تَصِفُ) ؛ موصولة ، ويجوز أن ينتصب الكذب ب (تَصِفُ) ، ويكون «ما» مصدرية. ويكون قوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) معمولا لتقولوا ، أي : لا تقولوا : هذا كذا وهذا كذا ؛ لأجل وصف ألسنتكم الكذب.

يقول الحق جل جلاله : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) ، أمرهم بأكل ما أحل لهم ، وشكر ما أنعم عليهم ، بعد ما زجرهم عن الكفر ، وهددهم عليه ، بما ذكر من التمثيل والعذاب الذي حل بهم ؛ صدا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة. قاله البيضاوي. (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) ؛ لتدوم لكم (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) فلا تنسبوا نعمه إلى غيره ، كشفاعة الأصنام وغيرها. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، تقدم تفسيرها فى البقرة

١٧٠

والمائدة (١). قال البيضاوي : أمرهم بتناول ما أحل لهم ، وعدد عليهم محرماته ، ليعلم أن ما عداها حل لهم. ثم أكد ذلك بالنهى عن التحريم والتحليل بأهوائهم بقوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) لما لم يحله الله ولم يحرمه ، كما قالوا : (ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ...) (٢) الآية. ه. تقولون ذلك ؛ (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بنسبة ذلك إليه. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أبدا ؛ لأنهم تعجلوا فلاح الدنيا بتحصيل أهوائهم ، فحرموا فلاح الآخرة ، ولذلك قال : (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : لهم تمتع فى الدنيا قليل ، يفنى ويزول. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فى الآخرة.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) فى سورة الأنعام بقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ..) (٣) الآية ، (وَما ظَلَمْناهُمْ) بالتحريم ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ؛ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. ذكر الحق تعالى ما حرم على المسلمين ، وما حرم على اليهود ؛ ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يقول الحق ـ جل جلاله ـ ، لمن بقي على العهد ؛ من شكر النعم ؛ بالإقرار بفضل الواسطة : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من قوت اليقين وفواكه العلوم ، (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ) إن كنتم تخصونه بالعبادة وإفراد الوجهة. إنما حرّم عليكم ما يشغلكم عنه ، كجيفة الدنيا والتهارج عليها ، ونجاسة الغفلة ، وما يورث القساوة والبلادة ، وقلة الغيرة على الحق ، وما قبض من غير يد الله ، أو ما قصد به غير وجه الله ، إلا وقت الضرورة فإنها تبيح المحذور. والله تعالى أعلم.

ثم حضّ على التوبة لمن وقع فى شىء من هذا ، فقال :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

يقول الحق جل جلاله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ) ؛ كالشرك ، والافتراء على الله ، وغير ذلك ، (بِجَهالَةٍ) أي : ملتبسين فى حال العمل بجهالة ، كالجهل بالله وبعقابه ، وعدم التدبر فى عواقبه ؛ لغلبة الشهوة عليه ، (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) عملهم ، (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي : التوبة ، أو الجهالة ، (لَغَفُورٌ) لذلك السوء ، (رَحِيمٌ) بهم ؛ يثيبهم على الإنابة.

__________________

(١) راجع تفسير الآية ١٧٣ من سورة البقرة ، والآية ٣ من سورة المائدة.

(٢) من الآية ١٣٩ من سورة الأنعام.

(٣) من الآية ١٣٦ من سورة الأنعام.

١٧١

الإشارة : كل من أساء الأدب ، ثم تاب وأناب ، التحق بالأحباب. قال بعضهم : «كل سوء أدب يثمر أدبا فهو أدب». والتوبة تتبع المقامات ؛ فتوبة العوام : من الهفوات ، وتوبة الخواص : من الغفلات ، وتوبه خواص الخواص : من الفترات عن شهود الحضرات. وبالله التوفيق.

ولمّا رغّب فى الشكر ذكر أنه من ملة خليله إبراهيم عليه‌السلام ، ودين حبيبه ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ـ ؛ تحريضا عليه ، فقال تعالى :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) أي : إماما قدوة ؛ قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (١) ، قال ابن مسعود : «الأمة : معلّم الناس الخير» ، أو أمة وحده ، اجتمع فيه ما افترق فى غيره ، فكان وحده أمة من الأمم ؛ لكماله واستجماعه لخصال الكمال التي لا تكاد تجتمع إلا فى أشخاص كثيرة ، كقول الشاعر :

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم فى واحد (٢)

وهو رئيس الموحدين ، وقدوة المحققين ، جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة. ولذلك عقّب ذكره بتزييف مذاهب المشركين. أو : لأنه كان وحده مؤمنا وسائر الناس كفارا. قاله البيضاوي. وكان (قانِتاً لِلَّهِ) ؛ مطيعا قائما بأوامره ، (حَنِيفاً) ؛ مائلا عن الباطل ، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وأنتم يا معشر قريش تزعمون أنكم على دينه ، وأنتم مشركون.

وكان (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) ، لا يخل بشكر قليل منها ولا كثير. ولذلك ذكرها بلفظ جمع القلة ، (اجْتَباهُ) : اختاره للنبوة والرسالة والخلة. (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ؛ التي توصل إلى حضرة النعيم ، ودعا إليها ، (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ؛ بأن حببناه إلى كافة الخلق ، ورزقناه الثناء الحسن فى الملل كلها ، حتى إنّ أرباب

__________________

(١) من الآية ١٢٤ من سورة البقرة.

(٢) البيت للحسن بن هانئ ، هو لمعروف بأبى نواس.

١٧٢

الملك والجبابرة يتولونه ويثنون عليه. ورزقناه أولادا طيبة ، وعمرا طويلا فى الطاعة والمعرفة ، ومالا حلالا. (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لحضرتنا ، المقربين عندنا ، اللذين لهم الدرجات العلا ؛ كما سأله ذلك بقوله : (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (١).

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) يا محمد (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ؛ دينه ومنهاجه فى التوحيد ، والدعوة إليه بالرفق ، والمجادلة بالتي هى أحسن ، كل واحد بحسب فهمه. وكان (حَنِيفاً) ؛ مائلا عما سوى الله ، (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، بل كان قدوة الموحدين. كرره ؛ ردا على اليهود والنصارى والمشركين فى زعمهم أنهم على دينه مع إشراكهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من تمسك بطاعة الله ظاهرا ، أو مال عما سوى الله باطنا ، وشكر الله دائما ، ودعا الناس إلى هذا الأمر العظيم : كان وليا إبراهيميا ، محمديا ، خليلا حبيبا ، مقربا ، قد اجتباه الحق تعالى إلى حضرته ، وهداه إلى صراط مستقيم ، وعاش فى الدنيا سعيدا ، ومات شهيدا ، وألحق بالصالحين. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.

ولما ادّعت اليهود أنها على ملة إبراهيم دون غيرها ، رد الله عليهم بأن السبت ليس من ملته ، فقال :

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) أي : فرض تعظيمه وإفراده للعبادة ، (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) على نبيهم ، وهم : اليهود ؛ أمرهم موسى عليه‌السلام أن يتفرغوا للعبادة يوم الجمعة ، فأبوا وقالوا : نريد يوم السبت ؛ لأنه تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض ، فألزمهم الله السبت ، وشدّد عليهم فيه. وقيل : لما أمرهم بيوم الجمعة ، قبل بعضهم ، وأبى أكثرهم ، فاختلفوا فيه. وقيل : اختلافهم : هو أن منهم من حرّم الصيد فيه ، ومنهم من أحله ، فعاقبهم الله بالمسخ. والتقدير على هذا : إنما جعل وبال السبت ـ وهو المسخ ، (عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) ؛ فأحلوا فيه الصيد تارة ، وحرموه أخرى ، أو أحله بعضهم ، وحرمه بعضهم ، وذكرهم هنا ؛ تهديدا للمشركين ، كذكر القرية التي كفرت بأنعم الله ، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ؛ فيجازى كل فريق بما يستحقه ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي.

الإشارة : الاختلاف على الأكابر ؛ كالشيوخ والعلماء ، والتقدم بين أيديهم بالرأى والكلام ، من أقبح المساويء ، وسو الأدب يوجب لصاحبه العطب ؛ كالقطع عن الله ، والبعد من ساحة حضرته. قال بعضهم : إذا جالست الكبراء ؛ فدع ما تعلم لما لا تعلم ؛ لتفوز بالسر المكنون. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ٨٣ من سورة الشعراء.

١٧٣

ثم أمر نبيه بالدعوة إلى الله ، فقال :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥))

يقول الحق جل جلاله : (ادْعُ) يا محمد الناس (إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) ؛ إلى طريقه الموصل إليه ، وهو : الإسلام والإيمان ، والإحسان ؛ لمن قدر عليه ، (بِالْحِكْمَةِ) ؛ بسياسة النبوة ، أو بالمقالة المحكمة ، وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة ، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ؛ مواعظ القرآن ورقائقه ، أو الخطابات المقنعة والعبر النافعة ، (وَجادِلْهُمْ) أي : جادل معاندتهم (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ؛ بالطرق التي هى أحسن طرق المجادلة ؛ من الرفق واللين ، وإيثار الوجه الأيسر ، والمقدمات التي هى أشهر ؛ فإن ذلك أنفع فى تليين لهبهم ، وتبيين شغبهم ، فالأولى : لدعوة خواص الأمة الطالبين للحق. والثانية : لدعوة عوامهم ، والثالثة : لدعوة معاندهم.

قال ابن جزى : الحكمة هى : الكلام الذي يظهر جوابه ، والموعظة : هى : الترغيب والترهيب. والجدال هو : الرد على الخصم. وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدل ، وهذه الآية تقتضى مهادنة نسخت بالسيف. وقيل : إن الدعاء بهذه الطريقة ، من التلطف والرفق ، غير منسوخ ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الموعظة من الكفار ، وأما العصاة فهى فى حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق. ه.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : إنما عليك البلاغ والدعوة. وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فليس من شأنك ، بل الله أعلم بالضالين والمهتدين ، وهو المجازى للجميع.

الإشارة : الدعاء بالحكمة هو الدعاء بالهمة والحال ، يكون من أهل الحق والتحقيق ؛ لأهل الصدق والتصديق. والدعاء بالموعظة الحسنة هو الدعاء بالمقال من طريق الترغيب والتشويق ، يكون لأهل التردد فى سلوك الطريق. والدعاء بالمجادلة الحسنة هو الدعاء بالوعظ والتذكير. وذكر بيان الطريق ، وفضيلة علم التحقيق ، يكون لأهل الإنكار ؛ إن وصلوا إلى أهل التحقيق. والحاصل : أن الدعاء بالحكمة : لأهل المحبة والتصديق. والدعاء بالموعظة : لأهل التردد فى الطريق. والدعاء بالمجادلة : لأهل الإنكار ؛ حتى يعرفوا الحق من الباطل. وإن شئت قلت : الدعاء بالحكمة هو للعارفين الكبار ، والدعاء بالموعظة الحسنة هو لأهل الوعظ والتذكار من الصالحين الأبرار ، والدعاء بالمجادلة الحسنة هو للعلماء الأخيار. وقد تجتمع فى واحد ؛ إن جمع بين الظاهر والباطن. والله تعالى أعلم.

١٧٤

ولما أمره بالدعوة العامة أمره بالصبر العام ؛ لأن الدعوة لا تنفك عن الأذى ، فيحتاج صاحبها إلى صبر كبير ، فقال :

(وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) من آذاكم (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي : إن صنع بكم صنيع سوء فافعلوا مثله ، ولا تزيدوا عليه. والعقوبة ، فى الحقيقة ، إنما هى فى الثانية. وسميت الأولى عقوبة ؛ لمشاكلة اللفظ. وقال الجمهور : إن الآية نزلت فى شأن حمزة بن عبد المطلب ، لما بقر المشركون بطنه يوم أحد ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لئن أظفرنى الله بهم لأمثّلنّ بسبعين منهم». فنزلت الآية (١) ، فكفّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن يمينه ، وترك ما أراد من المثلة. ولا خلاف أن المثلة حرام ، وقد وردت أحاديث بذلك. ومقتضى هذا : أن الآية مدنية. ويحتمل أن تكون الآية عامة ، ويكون ذكرهم حمزة على وجه المثال. وتكون ، على هذا ، مكية كسائر السورة.

واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل فى مال ، ثم ائتمن عليه ، هل يجوز خيانته ، فى القدر الذي ظلمه فيه؟ فأجاز ذلك قوم ؛ لظاهر الآية ، ومنعه مالك ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك» (٢). قاله ابن جزى. (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) ، ولم تعاقبوا من أساء إليكم ، (لَهُوَ) أي : الصبر (خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) ؛ فإن العقوبة مباحة ، والصبر أفضل من الانتقام ، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم ، أو يريد المخاطبين ، كأنه قال : فهو خير لكم.

ثم صرح بالأمر لرسوله به ؛ لأنه أولى الناس به ؛ لزيادة علمه بالله ، فقال : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) ؛ إلا بتوفيقه وتثبيته. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه : «أما أنا فأصبر كما أمرت ، فماذا تصنعون؟» قالوا : نصبر كما ندبنا. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ؛ على الكافرين ؛ حيث لم يؤمنوا ؛ حرصا عليهم. أو على المؤمنين ؛ لأجل ما فعل بهم. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي : لا يضيق صدرك بمكرهم ، ولا تهتم بشأنهم ، فأنا ناصرك عليهم. والضيق ـ بفتح الضاد مخفّفا ـ من ضيّق ؛ كميت وميّت. وقرئ بالكسر ، وهو مصدر. ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين ، معا ، لضاق.

__________________

(١) أخرجه الواحدي فى أسباب النزول (ص ٢٩١) عن ابن عباس. وأخرجه البزار (كشف الأستار ، ٢ / ٣٢٧) فى سياق أطول ، عن أبى هريرة ، وراجع طبقات ابن سعد (٣ / ١٢ ـ ١٣) وتفسير ابن كثير (٢ / ٥٩٢).

(٢) أخرجه أبو داود فى (البيوع والإجارات ، باب فى الرجل يأخذ حقه من تحت يده) ، والترمذي فى (البيوع ، ح ١٢٦٤) عن أبى هريرة رضي الله عنه.

١٧٥

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصي ، (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) فى أعمالهم ، فهو معهم بالولاية والنصر والرعاية والحفظ. أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره. والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. أو مع الذين اتقوا ما يقطعهم عن الله ، والذين هم محسنون بشهود الله كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه». فهو معهم بالمحبة والوداد ؛ «فإذا أحببته كنت له». والله تعالى أعلم.

الإشارة : من شأن الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والتمسك بالأحسن فى كل شىء ، ممتثلين لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١). ولذلك قالوا : الصوفي : دمه هدر ، وماله مباح ؛ لأنه لا ينتصر لنفسه ، بل يدفع بالتي هى أحسن السيئة. فالصبر دأبهم ، والرضى والتسليم خلقهم.

وحقيقة الصبر هى : حبس القلب على حكم الرب ، من غير جزع ولا شكوى. ومواطنه أربعة : الطاعة ، والمعصية ، والنعمة ، والبلية. فالصبر على الطاعة : بالمبادرة إليها ، وعن المعصية : بتركها ، وعلى النعمة : بشكرها ، وأداء حق الله فيها ، وعلى البلية : بالرضى وعدم الشكوى بها.

وأقسام الصبر ستة : صبر فى الله ، وصبر لله ، وصبر مع الله ، وصبر بالله ، وصبر على الله ، وصبر عن الله. أما الصبر فى الله : فهو الصبر فى طلب الوصول إلى الله ، بارتكاب مشاق المجاهدات والرياضات. وهو صبر الطالبين والسائرين. وأما الصبر لله : فهو الصبر على مشاق الطاعات وترك المنهيات ونزول البليات ، يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله ، لا لطلب أجر ولا نيل حظ. وهو صبر المخلصين. وأما الصبر مع الله : فهو الصبر على حضور القلب مع الله ، على سبيل الدوام ؛ مراقبة أو مشاهدة. فالأول : صبر المحبين ، والثاني : صبر المحبوبين.

وأما الصبر بالله : فهو الصبر على ما ينزل به من المقادير ، لكنه بالله لا بنفسه ، وهو صبر أهل الفناء من العارفين المجذوبين السالكين. وأما الصبر على الله : فهو الصبر على كتمان أسرار الربوبية عن غير أهلها ، أو الصبر على دوام شهود الله. وأما الصبر عن الله : فهو الصبر على الوقوف بالباب عند جفاء الأحباب ، فإذا كان العبد فى مقام القرب واجدا لحلاوة الأنس ، مشاهدا لأسرار المعاني ، ثم فقد ذلك من قلبه ، وأحس بالبعد والطرد ـ والعياذ بالله ـ فليصبر ، وليلزم الباب حتى يمن الكريم الوهاب ، ولا يتزلزل ، ولا يتضعضع ، ولا يبرح عن مكانه ، مبتهلا ، داعيا إلى الله ، راجيا كرم مولاه ، فإذا استعمل هذا فقد استعمل الصبر ؛ قياما بأدب العبودية. وهو أشد الصبر وأصعبه ، لا يطيقه إلا العارفون المتمكنون ، الذين كملت عبوديتهم ، فكانوا عبيدا لله فى جميع الحالات ، قرّبهم أو أبعدهم.

روى أن رجلا دخل على الشبلي رضي الله عنه ، فقال : أي صبر أشد على الصابر؟ فقال له الشبلي : الصبر فى الله ، قال :

__________________

(١) من الآية ١٨ من سورة الزمر.

١٧٦

لا ، قال : الصبر لله ، قال : لا ، قال : الصبر مع الله ، قال : لا ، فقال له : وأي شىء هو؟ فقال : الصبر عن الله. فصاح الشبلي صيحة عظيمة ، كادت تتلف فيها روحه. ه. لأن الحبيب لا يصبر عن حبيبه. لكن إذا جفا الحبيب لا يمكن إلا الصبر والوقوف بالباب ، كما قال الشاعر :

إن شكوت الهوى ، فما أنت منّا

احمل الصّد والجفا ، يا معنا

وقال رجل لأبى محمد الحريري رضي الله عنه : كنت على بساط الأنس ، وفتح على طريق البسط ، فزللت زلة ، فحجبت عن مقامى ، فكيف السبيل إليه؟ دلنى على الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد وقال : يا أخى ، الكل فى قهر هذه الخطة ، لكنى أنشدك أبياتا لبعضهم ، فأنشأ يقول :

قف بالديار ؛ فهذه آثارهم

تبكى الأحبة ؛ حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بربعها مستخبرا

عن أهله ، أو سائلا ، أو مشفقا

فأجابنى داعى الهوى فى رسمها

فارقت من تهوى ؛ فعز الملتقى

ومن هذا المعنى قضية الرجل الذي بقي فى الحرم أربعين سنة يقول : لبيك. فيقول له الهاتف : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك. فقيل له فى ذلك ، فقال : هذه بابه ، وهل ثمّ باب أخرى أقصده منها؟ فقبله الحق تعالى ، ولبى دعوته. وكذلك قضية الرجل الذي قيل له ، من قبل الوحى : إنك من أهل النار ؛ فزاد فى العبادة والاجتهاد. فهذا كله يصدق عليه الصبر عن الله. لكن لا يفهم كماله إلا من كملت معرفته ، وتحقق بمقام الفناء ، فحينئذ قد يسهل عليه أمره ؛ لكمال عبوديته ، كما قال القائل :

وكنت قديما أطلب الوصل منهم

فلمّا أتانى العلم وارتفع الجهل

تيقنت أنّ العبد لا طلب له

فإن قربوا : فضل ، وإن بعدوا : عدل

وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم

وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو

وأما من لم تكمل معرفته ، فقد ينكره ويذمه ، كالعباد والزهاد والعشاق ، فإنهم لا يطيقونه ، فإما أن يختل عقلهم ، أو يرجعون إلى الانهماك فى البطالة. والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

١٧٧
١٧٨

سورة الإسراء

مكية ، إلا قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ...) الآيات الثمان. وهى : مائة وعشر آيات. وكأنّ وجه المناسبة لما قبله قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (١) ، إشارة إلى أن من اتقى الله ، وحصّل مقام الإحسان ، أسرى بروحه إلى عالم الملكوت وأسرار الجبروت. وافتتح السورة بالتنزيه ، لئلا يتوهم الجهال أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عرج به للقاء الحق تعالى فى جهة مخصوصة ، فنزه الحقّ تعالى نفسه ، فى افتتاح سورة الإسراء ؛ دفعا لهذا الإيهام ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))

قلت : (سُبْحانَ) : مصدر غير متصرف ، منصوب بفعل واجب الحذف ، أي : أسبح سبحان. وهو بمعنى التسبيح ، أي : التنزيه ، وقد يستعمل علما له ، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف ، كقول الشاعر :

قد أقول لمّا جاءنى فخره

سبحان من علقمة الفاخر (٢)

و (لَيْلاً) : منصوب على الظرفية لأسرى. وفائدة ذكره ، مع أن السرى هو السير بالليل ، ليفيد التقليل ، ولذلك نكّره ، كأنه قال : أسرى بعبده مسيرة أربعين ليلة فى بعض الليل ، وذلك أبلغ فى المعجزة. ويقال : أسرى وسرى ، رباعيا وثلاثيا.

يقول الحق جل جلاله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وهو : نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : تنزيها له عن الأماكن والحدود والجهات ، إذ هو أقرب من كل شىء إلى كل شىء. وإنما وقع الإسراء برسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليقتبس أهل العالم العلوي ، كما اقتبس منه أهل العالم السفلي ، فأسرى به (لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) بعينه ؛ لما روى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «بينما أنا فى المسجد الحرام فى الحجر ، عند البيت ، بين النّائم واليقظان ، إذ أتانى جبريل بالبراق» (٣).

__________________

(١) من الآية ١٢٨ من سورة النحل.

(٢) البيت للأعشى. انظر ديوانه ، ص ٩٣ ، ولسان العرب (سبح).

(٣) أخرجه بطوله البخاري فى مواضع ، منها : (مناقب الأنصار ، باب المعراج) ، ومسلم فى (الإيمان ، باب الإسراء) ، من حديث أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة.

١٧٩

أو : من الحرم ؛ لما روى أنه كان نائما فى بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء ، فأسري به ، وسماه مسجدا ؛ لأن الحرم كله مسجد. قاله البيضاوي. قلت : والظاهر أنه وقع مرتين : مرة بجسده من البيت ، ومرة بروحه من بيت أم هانئ. والله تعالى أعلم بما كان.

قال فى المستخرج من تفسير الغزنونى وغيره : قيل : كان رؤيا صادقة ، وقيل : أسرى بروحه ، وهو خلاف القرآن ، وإن أسند إلى عائشة ـ رضى الله عنها ـ ، والجمهور على ما رواه عامة الصحابة ، دخل كلام بعضهم فى بعض ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتانى جبريل عليه‌السلام ، وإذا دابة فوق الحمار ودون البغل ، خطوها مد بصرها ، فمرّ بي بين السماء والأرض إلى بيت المقدس ، فنشر لى رهط من الأنبياء ، فصليت بهم. وإذا أنا بالمعراج ، وهو أحسن ما رأيت ، فعرج بي ، فرأيت فى سماء الدنيا رجلا أعظم الناس وجها وهيكلا ، فقيل : هذا أبوك آدم ، وفى السماء الثانية شابين ، فقيل : هما يحيى وعيسى ، وفى الثالثة رجلا أفضل الناس حسنا ، فقيل : أخوك يوسف ، وفى الرابعة إدريس ، وفى الخامسة هارون ، وفى السادسة موسى ، وفى السابعة إبراهيم ـ صلوات الله على جميعهم. فانتهيت إلى سدرة المنتهى ، فغشيتها ملائكة ، كأنهم جراد من ذهب ، فرأيت جبريل عليه‌السلام يتضاءل كأنه صعوة ـ أي : عصفور ـ فتخلف ، وقال : وما منا إلا له مقام معلوم ، فجاوزت سبعين حجابا ، ثم احتملنى الرفرف إلى العرش ، فنوديت : حيّ ربك. فقلت : لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١). فلما أخبر بما رأى كذّبه أهل مكة ، ولو كان فى النوم ما أنكره المشركون. وقيل : كانا معراجين ، بمكة والمدينة ، فى النوم واليقظة. ه.

قلت : وقوع المعراج بالمدينة غريب. قال المهدوى : مرتبة الإسراء بالجسم إلى تلك الحضرات العلية خاصة بنبينا ، لم يكن لغيره من الأنبياء. وعدّه السيوطي من الخصائص. قال ابن جزى : وحجة الجمهور : أنه لو كان مناما ، لم تنكره قريش ، ولم يكن فى ذلك ما يكذّب ، ألا ترى أن أم هانئ قالت له ـ عليه الصلاة والسلام : (لا تخبر بذلك أحدا). وحجة من قال إنه كان مناما : قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ) (٢) ، وإنما يقال : الرؤيا ، فى المنام ، ويقال ، فيما يرى بالعين : رؤية ، وقوله ، فى آخر حديث الإسراء : «فاستيقظت وأنا فى المسجد الحرام» ، ثم قال : وقد يجمع بينهما بأنه وقع مرتين (٣). ه.

وقوله تعالى : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) هو : بيت المقدس ؛ لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد ، (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) ببركات الدين والدنيا ؛ لأنه مهبط الوحى ومتعبد الأنبياء ، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار. أسرينا

__________________

(١) أخرج حديث الإسراء والمعراج ، برواياته المتعددة ، وطرقه ؛ البخاري فى (الصلاة ، باب كيف فرضت الصلاة فى الإسراء) ، و (بدء الخلق ، باب ذكر الملائكة) ، و (مناقب الأنصار ، باب المعراج). ومسلم فى (الإيمان ، باب الإسراء).

(٢) من الآية ٦٠ من سورة الإسراء.

(٣) وهذا هو الصواب.

١٨٠