أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

المحرجة هذه قوم من قبلكم (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (١) ، لأنهم كلفوا ما لم يطيقوا وشق عليهم جزاء تعنتهم في أسئلتهم لأنبيائهم فتركوا العمل بها فكفروا. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (١٠١) والثانية (١٠٢) وأما الثالثة (١٠٣) فقد قال تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) ومن الجائز أن يكون هناك من يسأل الرسول عن البحيرة وما بعدها فأنزل الله تعالى قوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) أي ما بحر الله بحيرة ولا سيب سائبة ولا وصل وصيلة ولا حمى حاميا ، ولكن الذين كفروا هم الذين فعلوا ذلك افتراء على الله وكذبا عليه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، ولو عقلوا ما افتروا على الله وابتدعوا وشرعوا من أنفسهم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى ، وأول من سيب السوائب وغير دين اسماعيل عليه‌السلام عمرو بن لحي الذي رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجرّ قصبه في النار أي أمعاءه في جهنم. هذا ما تضمنته الآية الثالثة أما الرابعة (١٠٤) فقد أخبر تعالى أن المشركين المفترين على الله الكذب بما ابتدعوه من الشرك إذ قيل لهم (تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) ليبين لكم كذبكم وباطلكم في بحر البحائر وتسييب السوائب ، يرفضون الرجوع إلى الحق ويقولون : (حَسْبُنا) أي يكفينا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) فلسنا في حاجة إلى غيره فرد تعالى عليهم منكرا عليهم قولهم الفاسد (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً) أي يتبعونهم ويحتجون بباطلهم ولو كان أولئك الآباء جهالا حمقا لا يعقلون شيئا من الحق ، (وَلا يَهْتَدُونَ) إلى خير أو معروف.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كراهية الإلحاف في السؤال والتقعر في الأسئلة والتنطع فيها.

٢ ـ حرمة الابتداع في الدين وأنه سبب وجود الشرك في الناس.

٣ ـ وجوب رد المختلف فيه إلى الكتاب والسنة والرضا بحكمهما.

٤ ـ حرمة تقليد الجهال واتباعهم في أباطيلهم.

__________________

(١) من أمثلة ذلك : سؤال قوم صالح الناقة ، وقوم عيسى المائدة ، وفي الآية تحذير للمؤمنين أن يقعوا فيما وقع فيه غيرهم فيهلكوا كما هلكوا. وفي صحيح مسلم يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم عن المسلمين فحرم من أجل مسألته».

٢١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : صدقوا الله ورسوله واستجابوا لهما بفعل المأمور وترك المنهي.

(عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (١) : ألزموا أنفسكم هدايتها وإصلاحها.

(إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) : إلى معرفة الحق ولزوم طريقه.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) : ضلّالا ومهتدين.

(فَيُنَبِّئُكُمْ) : يخبركم بأعمالكم ويجازيكم بها.

معنى الآية الكريمة :

ينادي الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (٢) ألزموها الهداية والطهارة بالإيمان والعمل الصالح وإبعادها عن الشرك والمعاصي ، (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) : أي أن ضلال غيركم غير ضار بكم إن كنتم مهتدين إذ لا تزر وازرة وزر أخرى ، كل نفس تجزى بما كسبت لا بما كسب غيرها ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها إلا أن من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك المؤمنون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعتبرون مهتدين إذ بالسكوت عن المنكر يكثر وينتشر ويؤدّي حتما إلى أن يضلّ المؤمنون فيفقدون هدايتهم ولذا قام أبو بكر الصديق رضى الله عنه خطيبا يوما فقال : (يا أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ (٣) آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (٤) ..) الخ وإنكم تضعونها (٥) على غير

__________________

(١) وإن قيل في معنى احفظوا أنفسكم من الوقوع في المعاصي لكان وجيها لأنّ عليكم اسم فعل بمعنى احفظ كذا.

(٢) في الآية التحذير مما وقع فيه من تقدّم ذكرهم من التقليد الأعمى والابتداع المضر المهلك وهو وجه المناسبة بين هذه الآية وما سبقها من الآيات.

(٣) قيل هذه الآية هي الوحيدة التي جمعت بين الناسخ والمنسوخ ، فالناسخ فيها قوله : (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) والمنسوخ هو (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) إذ من اهتدى لا يضره من ضل ولا تتم الهداية إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٤) أنفسكم منصوب على الإغراء الدال عليه اسم الفعل عليكم.

(٥) ورد بدل تضعونها ... إلخ : وتتأوّلونها على غير تأويلها.

٢٢

موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيه وعد ووعيد ، وعد لمن أطاع الله ورسوله ، ووعيد لمن عصاهما.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إصلاح المؤمن نفسه وتطهيرها من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.

٢ ـ ضلال الناس لا يضر المؤمن إذا أمرهم بالمعروف (١) ونهاهم عن المنكر.

٣ ـ تقرير مبدأ البعث الآخر.

٤ ـ للعمل أكبر الأثر في سعادة الإنسان أو شقائه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ

__________________

(١) قالت العلماء : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعيّن متى رجي القبول والتغيير فإن كان هناك عدم رجاء فلا يجب الأمر والنهي. وكذا يسقط إذا خاف ضررا يلحقه لا يقوى عليه أو يلحق غيره من المسلمين.

٢٣

أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١) (١٠٨))

شرح الكلمات :

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) : الشهادة : قول صادر عن علم حاصل بالبصر أو البصيرة ، وبينكم : أي شهادة بعضكم على بعض.

(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي بأن كنتم مسافرين.

(مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) : صلاة العصر.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) : شككتم في سلامة قولهما وعدالته.

(فَإِنْ عُثِرَ) : أي وقف على خيانة منهما فيما عهد به إليهما حفظه.

(أَدْنى) : أقرب.

(عَلى وَجْهِها) (٢) : أي صحيحة كما هي لا نقص فيها ولا زيادة.

(الْفاسِقِينَ) : الذين لم يلتزموا بطاعة الله ورسوله في الأمر والنهي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم إلى ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآيات الثلاث (١٠٦) ، (١٠٧) ، (١٠٨) ينادى الله تعالى عباده المؤمنين فيقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي ليشهد اثنان (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي من المسلمين على وصية أحدكم إذا حضرته الوفاة ، أو ليشهد اثنان من غيركم أي من غير المسلمين (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) أي كنتم مسافرين ولم يوجد مع من حضره الموت في السفر إلا كافر ، فإن ارتبتم في صدق خبرهما وصحة

__________________

(١) هذه الآية نزلت فيما ذهب إليه أكثر المفسرين : في تميم الداري وعدي بن بداء إذ روى البخاري وغيره أن تميم الداري وابن بداء كانا يختلفان إلى مكة فخرج معهما : فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوحى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما (إناء) من فضة مخوصا بالذهب فاستحلفهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما كتمتما ولا أطلعتما» ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أنّ هذا الحام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال : فأخذوا الجام وفيهم نزلت هذه الآية «لفظ الدارقطني» والظاهر أن استحلاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهما : كان بعد نزول الآية مبيّنة طريق الحكم في هذه القضية فاتبعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكم بينهم بما في الآية نصّا وروحا والله أعلم.

(٢) أي غير مشوّه بالتغيير والتبديل والنقص والزيادة ، والتعبير بالوجه شائع يقال : جاء بالشيء الفلاني على وجهه أي : من كمال أحواله.

٢٤

شهادتهما فاحبسوهما أي أوقفوهما بعد صلاة العصر في المسجد ليحلفا لكم فيقسمان بالله فيقولان والله لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا ، ولو كان المقسم عليه أو المشهود عليه ذا قربى أي قرابة ، (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ، إِنَّا إِذاً) أي إذا كتمنا شهادة الله (لَمِنَ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) أي وإن وجد أن الذين حضرا الوصية وحلفا على صدقهما فيما وصاهما به من حضره الموت إن وجد عندهما خيانة أو كذب فيما حلفا عليه ، (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) (١) فيقسمان بالله قائلين والله : لشهادتنا أحق من شهادتهما أي لأيماننا أصدق وأصح من أيمانهما ، (وَمَا اعْتَدَيْنا) أي عليهما باتهام باطل ، إذ لو فعلنا ذلك لكنا من الظالمين ، فإذا حلفا هذه اليمين استحقا ما حلفا عليه ورد إلى ورثة الميت ما كان قد أخفاه وجحده شاهدا الوصية عند الموت ، قال تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها) أي أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة عادلة لا حيف فيها ولا جور وقوله (أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ) ، أي وأقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم فلا يكذبوا خوف الفضيحة ، وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه أيها المؤمنون فلا تخرجوا عن طاعته ، (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به واستجيبوا لله فيه ، فإن الله لا يهدي إلى سبيل الخير والكمال الفاسقين الخارجين عن طاعته ، فاحذروا الفسق واجتنبوه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الوصية في الحضر والسفر معا ، والحث عليها والترغيب فيها.

٢ ـ وجوب الإشهاد على الوصية.

٣ ـ يجوز شهادة غير المسلم (٢) على الوصية إذا تعذر وجود مسلم. (٣)

٤ ـ استحباب الحلف بعد صلاة العصر تغليظا في شأن اليمين.

__________________

(١) واحد الأوليان : الأولى بمعنى الأجدر والأحق ، وعرفا باللّام العهدية لأنه معهود للمخاطب ذهنا ، والأوليان : الأحقّان بالشهادة لقرابتهما من الميت ، قال أهل العلم إنّ هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما.

(٢) هذا بناء على أن الآية غير منسوخة وهو قول الأقلية كأحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو الراجح والآية دلالتها قوية عليه ، وأما التخوف من قوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) فلا داعي إليه مع وجود ضرورة السفر وانعدام وجود المسلم ، كما لا محذور من تحليف الشاهد إذا حامت حوله ريبة أوشك في عدالته لا سيما في ظروف تقل فيها العدالة لفساد أحوال الناس. ولهذا ذهبت في تفسير الآية على أنّها محكمة والعمل بها جائر.

(٣) وممن قال بعدم نسخ هذه الآية وأنها محكمة والعمل بها من الصحابة : أبو موسى الأشعري وقضى بها ، وعبد الله بن قيس ، وعبد الله بن عباس ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وابراهيم النخعي وغيرهم ، ومن الأئمة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحم الله الجميع.

٢٥

٥ ـ مشروعية تحليف الشهود إذا ارتاب القاضي فيهم أو شك في صدقهم.

(يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١))

شرح الكلمات :

(١) (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) : أي اذكر يوم يجمع الله الرسل وذلك ليوم القيامة.

(الْغُيُوبِ) : جمع غيب : وهو ما غاب عن العيون فلا يدرك بالحواس.

(أَيَّدْتُكَ) : قويتك ونصرتك.

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبريل عليه‌السلام.

(الْمَهْدِ) : سرير الطفل الرضيع.

__________________

(١) وجه اتصال هذه الآية بسابقتها ظاهر ، إذ أمرهم تعالى في الآية الأولى بالتقوى والسمع والطاعة لأوامره ونواهيه ، وذكّرهم في هذه الآية بأهوال يوم القيامة ليكون ذلك حافزا لهم على التقوى مقوّيا لهم على السمع والطاعة.

٢٦

الكهل : من تجاوز سن الشباب أي ثلاثين سنة.

(الْكِتابَ) : الخط والكتابة.

(وَالْحِكْمَةَ) : فهم أسرار الشرع ، والإصابة في الأمور كلها.

تخلق كهيئة الطير : أي توجد وتقدر هيئة كصورة الطير.

(الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) : الأكمه : من ولد أعمى ، والأبرص : من به مرض البرص.

(تُخْرِجُ الْمَوْتى) : أي أحياء من قبورهم.

(كَفَفْتُ) : أي منعت.

الحواريون : جمع حواري : وهو صادق الحب في السر والعلن.

معنى الآيات :

يحذر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين من أهوال البعث الآخر يوم يجمع (١) الرسل عليهم‌السلام ويسألهم وهو أعلم بهم : (فَيَقُولُ : ما ذا أُجِبْتُمْ؟) أطاعتكم أممكم أم عصتكم؟ فيرتج عليهم ويذهلون ويفوضون الأمر إليه تعالى ويقولون : (لا عِلْمَ لَنا : (٢) إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، إذا كان هذا حال الرسل فكيف بمن دونهم من الناس ويخص عيسى عليه‌السلام من بين الرسل بالكلام في هذا الموقف العظيم ، لأن أمتين كبيرتين غوت فيه وضلت اليهود ادعوا أنه ساحر وابن زنى ، والنصارى ادعوا أنه الله وابن الله ، فخاطبه الله تعالى وهم يسمعون : (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) فأنت عبدي ورسولي وأمك أمتي ، وذكر له أنواع نعمه عليه فقال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ (٣) بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، جبريل عليه‌السلام (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) وأنت طفل. إذ قال وهو في مهده (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) وقوله (وَكَهْلاً) أي وتكلمهم وأنت كهل أيضا وفيه بشرى لمريم أن ولدها يكبر ولا يموت صغيرا وقد كلم الناس وهو شاب وسيعود إلى الأرض ويكلم الناس وهو كهل ويعدد نعمه عليه

__________________

(١) (يَوْمَ) منصوب على الظرفية معمول ل اسمعوا لفعل محذوف يقدّر ب اذكروا ، أو اسمعوا ، أو احذروا.

(٢) أي : لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا ، ويشهد له حديث الصحيح : «يرد عليّ أقوام الحوض فيختلجون فأقول : أمتي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

(٣) أي : قويتك مأخوذ من الأيد الذي هو القوة ومنه قوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ).

٢٧

فيقول : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) ، فكنت تكتب الخط وتقول وتعمل بالحكمة ، وعلمتك التوراة كتاب موسى عليه‌السلام والإنجيل الذي أوحاه إليه (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) فيكون طيرا بإذني أي اذكر لما طالبك بنو إسرائيل بآية على نبوتك فقالوا لك اخلق لنا طيرا فأخذت طينا وجعلته على صورة طائر وذلك بإذني لك ونفخت فيه بإذني فكان طائرا ، واذكر أيضا (تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) وهو الأعمى الذي لا عينين له ، (وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) أي بعوني لك وإقداري لك على ذلك (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء فقد أحيا عليه‌السلام عددا من الأموات بإذن الله تعالى ثم قال بنو إسرائيل أحيي لنا سام بن نوح فوقف على قبره وناداه فقام حيا من قبره وهم ينظرون ، واذكر (إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (١) فكذبوك وهموا بقتلك وصلبك ، (فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). واذكر (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ) (٢) على لسانك (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) أي بك يا عيسى (قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) أي منقادون مطيعون لما تأمرنا به من طاعة ربنا وطاعتك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ شدة هول يوم القيامة وصعوبة الموقف حتى إن الرسل ليذهلون.

٢ ـ وجوب الاستعداد لذلك اليوم بتقوى الله تعالى.

٣ ـ توبيخ اليهود والنصارى بتفريط اليهود في عيسى وغلو النصارى فيه.

٤ ـ بيان إكرام الله تعالى لعيسى وما حباه به من الفضل والإنعام.

٥ ـ ثبوت معجزات عيسى عليه‌السلام وتقريرها.

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) أي : الدلالات والمعجزات وهي المذكورة في هذه الآيات من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى.

(٢) الوحي يكون بمعنى الإلهام لغير الرسول أمّا الرسول فطرق الوحي إليهم جاءت في آخر سورة الشورى.

٢٨

مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

شرح الكلمات :

(هَلْ يَسْتَطِيعُ) : هل يطيع ويرضى.

(مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) : المائدة : الخوان وما يوضع عليه أو الطعام والمراد بها هنا الطعام.

(وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) : أي تسكن بزيادة اليقين فيها.

(وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) : أي نشهد أنها نزلت من السماء.

(عِيداً) : أي يوما يعود علينا كل عام نذكر الله تعالى فيه ونشكره.

(وَآيَةً مِنْكَ) : علامة منك على قدرتك ورحمتك ، ونبوة نبيك.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) : فمن يكفر بعد نزول المائدة منكم أيها السائلون للمائدة.

(أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) : أي من الناس أجمعين.

معنى الآيات :

يقول تعالى لعبده ورسوله عيسى واذكر (إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ) ، (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ) : (هَلْ يَسْتَطِيعُ (١) رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ

__________________

(١) اضطربت نفوس المؤمنين في توجيه هذه العبارة : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ..) كيف يقول هذا أنصار الله الحواريون وهو دالّ دلالة واضحة على جهل بالله تعالى وعدم معرفة الأدب مع نبيّه عيسى عليه‌السلام ، فمن قائل : أنّ يستطيع بمعنى : يطيع أي : هل يطيعك ربّك في هذا؟ ومن قائل : إن قراءة (هَلْ يَسْتَطِيعُ) بالتاء ، وربك معمول أي : هل تقدر على سؤال ربّك أن ـ

٢٩

عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ؟) ولما كان قولهم هذا دالا على شك في نفوسهم وعدم يقين في قدرة ربهم قال لهم عيسى عليه‌السلام (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فلا تقولوا مثل هذا القول. فاعتذروا عن قيلهم الباطل و (قالُوا : نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ، وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا ، وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) أنها نزلت من السماء بسؤالك ربك ذلك وهنا قال عيسى عليه‌السلام داعيا ربه ضارعا إليه (اللهُمَ) أي يا الله (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ، تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا) أي للموجودين الآن منا (وَآخِرِنا) أي ولمن يأتون بعدنا ، (وَآيَةً مِنْكَ) ، أي وتكون آية منك أي علامة على وحدانيتك وعظيم قدرتك ، وعلى صدقي في إرسالك لي رسولا إلى بني إسرائيل ، (وَارْزُقْنا) وأدم علينا رزقك وفضلك (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ، فأجابه تعالى قائلا : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ، وحقا قد أنزلها ، (١) (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) يا بني إسرائيل السائلين المائدة بأن ينكر توحيدي أو رسالة رسولي ، أو عظيم قدرتي (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، ولذا مسخ من كفروا منهم قردة وخنازير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جفاء اليهود وغطرستهم وسوء أدبهم مع أنبيائهم إذ قالوا لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وقالوا لعيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ).

٢ ـ في قول عيسى لهم (اتَّقُوا اللهَ) دال على أنهم قالوا الباطل كما أن قولهم : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) دال على شكهم وارتيابهم.

٣ ـ مشروعية الأعياد الدينية لعبادة الله بالصلاة والذكر شكرا لله تعالى وفي الإسلام عيدان : الأضحى والفطر.

٤ ـ من أشد الناس عذابا يوم القيامة آل فرعون والمنافقون ومن كفر من أهل المائدة.

__________________

ـ ينزل الخ ومن قائل إنّ هذا كان منهم في أوّل أمرهم قبل أن يتعلموا ، ومن قائل : أنّ هذا صدر ممن كان مع الحواريين ولم يكن من الحواريين ، وما ذكرته في التفسير أولى لانسجامه مع السياق إذ قول عيسى لهم : اتقوا الله ، وقولهم : ونعلم أن قد صدقتنا دال على جهلهم بالله ومقام عيسى عليه‌السلام ، وقد يكون أصحاب هذا القول ليسوا من فضلاء الحواريين ولكن كالذين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعل لنا ذات أنواط وكالذين قالوا لموسى عليه‌السلام : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والله أعلم.

(١) روى الترمذي عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما».

٣٠

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨) قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

شرح الكلمات :

(إِلهَيْنِ) : معبودين يعبدان من دوني.

(سُبْحانَكَ) : تنزيها لك وتقديسا.

(ما يَكُونُ لِي) : ما ينبغي لي ولا يتأتى لي ذلك.

(شَهِيداً) : رقيبا.

(الرَّقِيبَ) : الحفيظ.

(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) : أي بنارك فإنهم عبادك تفعل بهم ما تشاء.

(وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) : أي تستر عليهم وترحمهم بأن تدخلهم جنتك.

(الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : العزيز : الغالب الذي لا يحال بينه وبين مراده ، الحكيم : الذي يضع كل شيء في موضعه فيدخل المشرك النار ، والموحد الجنة.

٣١

(الصَّادِقِينَ) : جمع صادق : وهو من صدق ربه في عبادته وحده.

(وَرَضُوا عَنْهُ) : لأنه أثابهم بأعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

(عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : أي على فعل أي شيء تعلقت به إرادته وأراد فعله فإنه يفعله ولا يعجزه بحال من الأحوال.

معنى الآيات :

يقول الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واذكر لقومك (إِذْ قالَ اللهُ) (١) تعالى يوم يجمع الرسل ويسألهم ما ذا أجبتم ، ويسأل عيسى بمفرده توبيخا للنصارى على شركهم (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ) أي معبودين يقرره بذلك فينفي عيسى ذلك على الفور ويقول منزها ربه تعالى مقدسا (سُبْحانَكَ (٢) ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) ، ويؤكد تفصيه مما وجه إليه توبيخا لقومه : (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) يا ربي ، إنك (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) فكيف بقولي وعملي ، وأنا (لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) إلا أن تعلمني شيئا ، لأنك (أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ما (قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) أن أقوله لهم وهو (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (٣) أي رقيبا (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) برفعي إليك (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) ترقب أعمالهم وتحفظها لهم لتجزيهم بها. (وَأَنْتَ عَلى كلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) رقيب وحفيظ. (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) أي من مات منهم على الشرك بأن تصليه نارك فأنت على ذلك قدير ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) أي لمن مات على التوحيد فتدخله جنتك فإنه لذلك أهل فإنك أنت العزيز الغالب على أمره الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه فلا ينعم من أشرك به ولا يعذب من أطاعه ووحده. فأجابه الرب تبارك وتعالى قائلا : (هذا يَوْمُ (٤) يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) : صدقوا الله تعالى في إيمانهم به فعبدوه وحده لا شريك له ولم يشركوا

__________________

(١) هذا مثل أتى أمر الله أتى بصيغة الماضي لتحقق الوقوع وكذلك هناك (إِذْ قالَ) فهو بمعنى يقول : اذكر إذ يقول الله يا عيسى .. الخ.

(٢) أخرج الترمذي وصححه عن أبي هريرة قال : «تلقى عيسى حجته ولقّاه الله في قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلقاه الله : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) الآية.

(٣) شهيدا : أي رقيبا أراعي أحوالهم وأدعوهم إلى العمل بطاعتك وأنهاهم عن مخالفتك.

(٤) قال الله هذا يوم ينفع الصادقين ...» الخ كلام مستأنف ختم به الحديث عما يقع يوم يجمع الله الرسل فذكر ثواب الصادقين وهو الجنة ورضوان الله وهو الفوز العظيم.

٣٢

سواه. ونفعه لهم أن أدخلوا به جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا ، مع رضى الله تعالى عنهم ورضاهم عنه بما أنعم به عليهم من نعيم لا يفنى ولا يبيد ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إنّه النّجاة من النار ودخول الجنات. وفي الآية الأخيرة (١٢٠) يخبر تعالى أن له (مُلْكُ (١) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) من سائر المخلوقات والكائنات خلقا وملكا وتصرفا يفعل فيها ما يشاء فيرحم ويعذب (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ توبيخ النصارى في عرصات القيامة على تأليه عيسى ووالدته عليهما‌السلام.

٢ ـ براءة عيسى عليه‌السلام من مشركي النصارى وأهل الكتاب.

٣ ـ تعذيب المشركين وتنعيم الموحدين قائم على مبدأ الحكمة الإلهية.

٤ ـ فضيلة الصدق وأنه نافع في الدنيا والآخرة ، وفي الحديث : «عليكم بالصدق (٣) فإنه يدعو إلى البر وأن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا».

٥ ـ سؤال غير الله شيئا ضرب من الباطل والشرك ، لأن غير الله لا يملك شيئا ، ومن لا يملك كيف يعطي ومن أين يعطي؟

__________________

(١) في هذه الآية البرهنة الصحيحة على ألوهية الله تعالى وربوبيته للعالمين وإبطال دعوى النصارى في تأليه عيسى وأمّه عليهما‌السلام.

(٢) فما تعلقت إرادته بشيء فأراده إلّا كان كما أراد من سائر الممكنات.

(٣) أخرجه غير واحد من أصحاب الصحاح والسنن.

٣٣

سورة الأنعام (١)

مكية

وآياتها خمس وستون ومائة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

شرح الكلمات :

(الْحَمْدُ) (٢) : الثناء باللسان على المحمود بصفات الجمال والجلال.

(خَلَقَ) : أنشأ وأوجد.

(يَعْدِلُونَ) : يسوون به غيره فيعبدونه معه.

الأجل : الوقت المحدد لعمل ما من الأعمال يتم فيه أو ينتهي فيه ، والأجل الأول أجل كل إنسان ، والثاني أحل الدنيا.

(تَمْتَرُونَ) : تشكّون في البعث الآخر والجزاء : كما تشكون في وجوب توحيده بعبادته وحده دون عيره.

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ) : أي معبود في السموات وفي الأرض.

__________________

(١) روى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد ، وسميت بالأنعام لذكر لفظ الأنعام فيها ست مرّات نزلت بمكة ليلا».

(٢) الحمد لله : تفيد استغراق المحامد لله تعالى إذ ال للاستغراق واللّام للاستحقاق فجميع المحامد مستحقة لله تعالى ، والقصر في الحمد لله قصر إضافي دال على إبطال حمد المشركين لآلهتهم الباطلة.

٣٤

(ما تَكْسِبُونَ) : أي من خير وشر ، وصلاح فساد.

معنى الآيات :

يخبر تعالى بأنه المستحق للحمد كله وهو الوصف بالجلال والجمال والثناء بهما عليه وضمن ذلك يأمر عباده أن يحمدوه كأنما قال قولوا الحمد لله ، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضَ (٢) وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) ، فالذي أوجد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من سائر المخلوقات وجعل الظلمات (٣) والنور وهما من أقوى عناصر الحياة هو المستحق للحمد والثناء لا غيره ومع هذا فالذين كفروا من الناس يعدلون به أصناما وأوثانا ومخلوقات فيعبدونها معه يا للعجب!!

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١) أما الآية الثانية (٢) فإنه تعالى يخاطب المشركين موبخا لهم على جهلهم منددا بباطلهم فيقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ (٤) طِينٍ) لأن آدم أباهم خلقه من طين ثم تناسلوا منه فباعتبار أصلهم هم مخلوقون من طين ثم الغذاء الذي هو عنصر حياتهم من طين ، ثم قضى لكل أجلا وهو عمره المحدد له وقضى أجل الحياة كلها الذي تنتهي فيه وهو مسمى عنده معروف له لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه ولحكم عالية أخفاه ، ثم أنتم أيها المشركون الجهلة تشكّون في وجوب توحيده ، وقدرته على إحيائكم بعد موتكم (٥) لحسابكم ومجازاتكم على كسبكم خيره وشره ، حسنه وسيئه ، وفي الآية الثالثة (٣) يخبر تعالى أنه هو الله المعبود بحق في السموات (٦) وفي الأرض لا إله غيره ولا رب سواه (يَعْلَمُ

__________________

(١) (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) هاتان الجملتان هما مقتضيات الحمد لله وموجباته له تعالى ، إذ من أوجد الكون كلّه وهو جواهر وأعراض ، فالجواهر السموات والأرض وما فيهما وما بينهما ، والأعراض الظلمة والنور هو المستحق للعبادة دون غيره فأبطل بهذا عبادة الأجسام كالأصنام والملائكة والأنبياء ، وعبادة الأعراض كالظلمة والنور إلها المانوية.

(٢) الأرض : اسم جنس ، فالمراد بالأرض : الأرضون السبع كالنور اسم جنس والمراد به كل نور.

(٣) من رشاقة الكلم جعل خلق للأجسام وجعل للأعراض في قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

(٤) قال القرطبي هل في هذه الآية دليل على أنّ الجواهر من جنس واحد؟ الجواب : نعم لأنّه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جاز أن ينقلب إلى كل حال من أحوال الجواهر إذ صح انقلاب الجماد إلى حيوان بدلالة هذه الآية.

(٥) ذكره تعالى أصل خلق الناس من طين فيه إشارة إلى الردّ على منكري البعث المحتجين على عدم إمكان الحياة الآخرة بكونهم بعد الموت يصيرون ترابا ، وجهلوا أنّ صيرورتهم إلى تراب هو دليل إعادتهم إلى خلقهم من جديد إذ عادوا إلى أصل خلقهم ليعودوا إلى حياة أكمل من حياتهم الأولى.

(٦) قال القرطبي في تفسير هذه الآية : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي : وهو الله المعظّم والمعبود في السموات وفي الأرض كما تقول : زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه.

٣٥

سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) من خير وشر فهو تعالى فوق عرشه بائن من خلقه ويعلم سر عباده وجهرهم ويعلم أعمالهم وما يكتسبون بجوارحهم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، لذا وجبت الرغبة فيما عنده من خير ، والرهبة مما لديه من عذاب ، ويحصل ذلك لهم بالإنابة إليه وعبادته والتوكل عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله.

٢ ـ لا يصح حمد أحد بدون ما يوجد لديه من صفات الكمال ما يحمد عليه.

٣ ـ التعجب من حال من يسوون المخلوقات بالخالق عزوجل في العبادة.

٤ ـ التعجب من حال من يرى عجائب صنع الله ومظاهر قدرته ثم ينكر البعث والحياة الآخرة.

٥ ـ صفة العلم لله تعالى وأنه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء يعلم السر وأخفى.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))

٣٦

شرح الكلمات :

(مِنْ آيَةٍ) : المراد بالآية هنا آيات القرآن الكريم الدالة على توحيد الله تعالى والإيمان برسوله ولقائه يوم القيامة.

(مُعْرِضِينَ) : غير ملتفتين إليها ولا مفكرين فيها.

(بِالْحَقِ) : الحق هنا هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الدين الحق.

(أَنْباءُ) : أخبار ما كانوا به يستهزئون وهو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

(مِنْ قَرْنٍ) : أي أهل قرن من الأمم السابقة ، والقرن مائة سنة.

(مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) : أعطيناهم من القوة المادية ما لم نعط هؤلاء المشركين.

(مِدْراراً) : مطرا متواصلا غزيرا.

(بِذُنُوبِهِمْ) : أي بسبب ذنوبهم وهي معصية الله ورسله.

(وَأَنْشَأْنا) : خلقنا بعد إهلاك الأولين أهل قرن آخرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أولئك الذين يعدلون بربهم غيره من مخلوقاته فيقول تعالى عنهم : وما تأتيهم (١) من آية من آيات ربهم التي (٢) يوحيها إلى رسوله ويضمها كتابه القرآن الكريم ، إلا قابلوها بالإعراض التام ، وعدم الالتفات إلى ما تحمله من هدى ونور ، وسبب ذلك أنهم قد كذبوا بالحق لما جاءهم وهو الرسول وما معه من الهدى ، وبناء على ذلك (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وقد استهزأوا بالوعيد وسينزل بهم العذاب الذي كذبوا به واستهزأوا ، وأول عذاب نزل بهم هزيمتهم يوم بدر ، ثم القحط سبع سنين ، ومن مات منهم على الشرك فسوف يعذب في نار جهنم أبدا ، ويقال لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تستهزئون

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ (٣) قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي كثيرا من أهل القرون

__________________

(١) (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) من الأولى لاستغراق الجنس ، ومن الثانية للتبعيض.

(٢) وجائز أن يراد بالآية أيضا المعجزة كانشقاق القمر ونحوها.

(٣) القرن : الأمّة من الناس ، والجمع : قرون قال الشاعر :

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم

وخلّفت في قرن فأنت غريب.

فالقرن : كل عالم في عصره مأخوذ من الإقتران أي عالم مقترن بعضهم ببعض وفي الحديث : «خير الناس قرني ..» ويطلق القرن على المائة سنة ، إذ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن بشر «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة وقرن الشاة معروف.

٣٧

الماضية مكن الله تعالى لهم في الأرض من الدولة والسلطان والمال والرجال ما لم يمكن لهؤلاء المشركين من كفار قريش ، وأرسل على أولئك الذين مكن لهم السماء (١) مدرارا بغزير (٢) المطر وجعل لهم في أرضهم الأنهار تجري من تحت أشجارهم وقصورهم ، فلما أنكروا توحيدي وكذبوا رسولي ، وعصوا أمري (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) ، لا ظلما منا ولكن بظلمهم هم لأنفسهم ، وأوجدنا بعدهم قوما آخرين ، وكان ذلك علينا يسيرا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التكذيب بالحق هو سبب الإعراض عنه فلو آمنوا به لأقبلوا عليه.

٢ ـ الاستهزاء والسخرية بالدين من موجبات العذاب وقرب وقوعه.

٣ ـ العبرة بهلاك الماضين ، ومصارع الظالمين.

٤ ـ هلاك الأمم كان بسبب ذنوبهم ، فما من مصيبة إلا بذنب. (٣)

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)

__________________

(١) (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) عبر عن المطر بالسماء لأنّه منها ينزل قال الشاعر :

إذا سقط السماء بأرض قوم

رعيناها وإن كانوا غضابا

(٢) مدرارا : بناء دال على الكثرة نحو امرأة مذكار إذا كثر أولادها الذكور وهو مشتق من درّت الشاة تدر إذا أقبل لبنها على الحالب لها بكثرة.

(٣) شاهده من القرآن الكريم : قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

٣٨

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١))

شرح الكلمات :

قرطاسا : القرطاس : ما يكتب عليه جلدا أو كاغدا.

(فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) : مسوه بأصابعهم ليتأكدوا منه.

(مَلَكٌ) : الملك أحد الملائكة.

(لَقُضِيَ الْأَمْرُ) : أي أهلكوا وانتهت حياتهم.

(لا يُنْظَرُونَ) : لا يمهلون.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً) : ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا لإنكارهم البشر.

(لَلَبَسْنا) : خلطنا عليهم.

(اسْتُهْزِئَ) : سخر وتهكم واستخف.

حاق بهم : نزل بهم العذاب وأحاط بهم فأهلكوا.

معنى الآيات

مازال السياق في شأن العادلين بربهم أصنامهم التي يعبدونها ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله يقول تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) أيها الرسول (كِتاباً) أي مكتوبا في ورق جلد أو كاغد ورأوه منزلا من السماء (١) ولمسوه بأيديهم وحسوه بأصابعهم ما آمنوا ولقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). أي سحر واضح سحركم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلا كيف ينزل الكتاب من السماء ، (وَقالُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ (٢) عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي هلا أنزل عليه ، لم لا ينزل عليه ملك يساعده ويصدقه بأنه نبي الله ورسوله ، فقال تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) ، وليس من شأن الله أن ينزل الملائكة ولو أنزل ملكا فكذبوه لأهلكهم ، إذ الملائكة لا تنزل إلا لإحقاق الحق وعليه فلو نزل ملك لقضي أمرهم بإهلاكهم وقطع دابرهم وهذا ما لا يريده الله تعالى لهم. وقوله : (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي لا يمهلون ولو ساعة ليتوبوا أو يعتذروا مثلا. وقوله تعالى : (وَلَوْ

__________________

(١) قال ابن عباس : كتابا معلّقا بين السماء والأرض يشاهدونه. أمّا إنزال الوحي فهو حاصل وأبوا أن يؤمنوا به.

(٢) هذا اقتراح منهم حملهم عليه الكبر والعناد.

٣٩

جَعَلْناهُ مَلَكاً) أي الرسول ملكا لقالوا كيف نفهم عن الملك ونحن (١) بشر فيطالبون بأن يكون بشرا وهكذا كما قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً ، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ) خلطنا وشبهنا ما يخلطون على أنفسهم ويشبهون. ثم أخبر تعالى رسوله مسليا له قائلا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ (٢) بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) كما استهزيء بك فاصبر ، فقد حاق بالمستهزئين ما كانوا به يستهزئون ، كانوا إذا خوفهم الرسل عذاب الله سخروا منهم واستخفوا بهم وبالعذاب الذي خوفوهم به ، ثم أمر الله تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لأولئك المستهزئين بما يعدهم من عذاب ربهم وهم أكابر مجرمي قريش : (قُلْ (٣) سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) جنوبا لتقفوا على ديار عاد أو شمالا لتقفوا على ديار ثمود ، أو غربا لتقفوا على بحيرة لوط فتعرفوا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) من أمثالكم لعلكم تحققون من طغيانكم وتكذيبكم فيسهل عليكم الرجوع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الآيات بمعنى المعجزات والخوارق لا تستلزم الإيمان بل قد تكون سببا للكفر والعناد ، ولذا لم يستجب الله لقريش ولم يعط رسوله ما طالبوه به من الآيات.

٢ ـ إنكار رسالة البشر عام في كل الأمم وقالوا ما هذا إلا بشر مثلكم في آيات كثيرة في حين أن إرسال الملائكة لا يتم معه هدف لعدم قدرة الانسان على التلقي عن الملائكة والتفاهم معهم ، ولو أنزل الله ملكا رسولا لقالوا نريده بشرا مثلنا ولحصل الخلط واللبس بذلك.

٣ ـ الاستهزاء بالرسل والدعاة سنة بشرية لا تكاد تتخلف ولذا وجب على الرسل والدعاة الصبر على ذلك.

٤ ـ عاقبة التكذيب والاستهزاء هلاك المكذبين المستهزئين.

٥ ـ مشروعية زيارة القبور للوقوف (٤) على مصير الإنسان ومآل أمره فإن في ذلك ما يخفف شهوة

__________________

(١) لأنّ سنة الله تعالى في التفاهم أن تكون بين متجانسين كإنسان مع إنسان أو حيوان مع حيوان أمّا ملك مع انسان أو إنسان مع حيوان فلا لا.

(٢) في هذه الآية تعزية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ليصبر على ما يلاقيه من قومه من سخرية واستهزاء وعناد ومكابرة.

(٣) قال القرطبي : هذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار ، وأقول على شرط أن يدخلوا تلك الديار باكين أو متباكين لا ضاحكين غافلين لاهين بأنواع الطعام والشراب.

(٤) أخذا من قوله تعالى في الآية : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وشاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة الصحيحة : «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة».

٤٠