أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي شك ونفاق وشرك.

(فَزادَتْهُمْ رِجْساً) : أي نجسا إلى نجس قلوبهم ونفوسهم.

(يُفْتَنُونَ) : أي يمتحنون.

(وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) : أي لا يتعظون لموات قلوبهم.

(صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : دعاء عليهم بأن لا يرجعوا إلى الحق بعد انصرافهم عنه.

(لا يَفْقَهُونَ) : أي لا يفهمون أسرار الخطاب لظلمة قلوبهم وخبث نفوسهم.

معنى الآيات :

هذا آخر حديث عن المنافقين فى سورة براءة الفاضحة للمنافقين يقول تعالى (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) (١) أي من سور القرآن التي بلغت ١١٤ سورة نزلت وتليت وهم غائبون عن المجلس الذي تليت فيه ، فمنهم أي من المنافقين من يقول : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً) (٢) وقولهم هذا تهكم منهم وازدراء قال تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بحق وصدق (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) لأنها نزلت بأحكام أو أخبار لم تكن عندهم فآمنوا بها لما نزلت فزاد بذلك إيمانهم وكثر كما كان أن إيمانهم يقوى حتى يكون يقينا بما يتنزل من الآيات وقوله (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) أي فرحون مسرورون بالخبر الذي نزل والقرآن كله خير كما هم أيضا فرحون بإيمانهم وزيادة يقينهم (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي شك ونفاق (فَزادَتْهُمْ رِجْساً) (٣) أي شكا ونفاقا (إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ). وقوله تعالى (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (٤) أي أيستمر هؤلاء المرضى بالنفاق على نفاقهم ولا يرون أنهم يفتنون أي من أجل نفاقهم مرة أو مرتين أي يختبرون بالتكاليف والفضائح وغيرها (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) من نفاقهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) فيتعظون فيتوبون هذا ما دلت عليه الآيات الأولى (١٢٤) والثانية (١٢٥) والثالثة (١٢٦) أما الآية الرابعة (١٢٧) فقد تضمنت سوء حال هؤلاء المنافقين وقبح سلوكهم فسجّلت عليهم وصمة عار وخزي إلى يوم القيامة إذ قال

__________________

(١) (ما) صلة لتقوية الكلام حسب الأسلوب العربي البليغ.

(٢) الإيمان لغة : التصديق. وشرعا : تصديق الله ورسوله في كل ما أخبرا به وأركانه ستة ويزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.

(٣) شكّا إلى شكّهم ، وكفرا إلى كفرهم ، وإثما إلى إثمهم إذ الشك والكفر من أعظم الآثام.

(٤) قال قتادة والحسن ومجاهد : بالغزو والجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويرون ما وعد الله من النصر يريد يتحقق أمامهم وكأنهم لا يعقلون.

٤٤١

تعالى (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) (١) أي وهم في المجلس وقرئت على الجالسين وهم من بينهم. (نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) وقال في سرية ومخافته هيا نقوم من هذا المجلس الذي نعير فيه ونشتم (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان الجواب : لا يرانا أحد انصرفوا متسللين لواذا قال تعالى في دعاء عليهم : (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٢) أي عن الهدى (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفقهون أسرار الآيات وما تهدي إليه ، فعلتهم سوء فهمهم وعلة سوء فهمهم ظلمة قلوبهم وعلة تلك الظلمة الشك والشرك والنفاق والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ زيادة الإيمان ونقصانه زيادته بالطاعة ونقصانه بالعصيان.

٢ ـ جواز الفرح بالإيمان وصالح الأعمال.

٣ ـ مريض القلب يزداد مرضا وصحيحه يزداد صحة سنة من سنن الله في العباد.

٤ ـ كشف أغوار المنافقين وفضيحتهم في آخر آية من سورة التوبة تتحدث عنهم.

٥ ـ يستحب أن لا يقال انصرفنا (٣) من الصلاة أو الدرس ولكن يقال انقضت الصلاة أو انقضى الدرس ونحو ذلك.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

__________________

(١) (ما) صلة لتقوية الكلام.

(٢) هذه الجملة خبرية أخبر تعالى أنه جزاهم على انصرافهم من مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصرف قلوبهم عن الهدى فهم لا يهتدون إذا أبدا وضمّن الخبر الدعاء عليهم ، وقد تحقق معناه وهو صرف قلوبهم.

(٣) لأنّ الله ذمّ المنافقين لانصرافهم ودعا عليهم بصرف قلوبهم وصرفها ولو قيل انقلبنا من الصلاة أو من الجنازة لكان خيرا لقوله تعالى : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) الآية من سورة آل عمران.

٤٤٢

شرح الكلمات :

(رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) : أي محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جنسكم عربي.

(عَزِيزٌ عَلَيْهِ) : أي شاق صعب.

(ما عَنِتُّمْ) : أي ما يشق عليكم ويصعب تحمله.

(حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) : أي حريص على هدايتكم وما فيه خيركم وسعادتكم.

(رَؤُفٌ) : شفيق.

(رَحِيمٌ) : يرق ويعطف ويرحم.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي أعرضوا عن دين الله وما جئت به من الهدى

(حَسْبِيَ اللهُ) : أي كافيّ الله.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق إلا هو.

(تَوَكَّلْتُ) : أي فوضت أمري إليه واعتمدت عليه.

(رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) : عرش الله تعالى لا أعظم منه إلا خالقه عزوجل إذ كرسية تعالى وسع السموات والأرض ونسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة.

معنى الآيتين الكريمتين :

في ختام سورة التوبة يقول الله تعالى لكافة العرب : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ) (١) أي كريم عظيم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (٢) عدناني قرشي هاشمي مطّلبي تعرفون نسبه وصدقه وأمانته. (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) (٣) أي يشق عليه ما يشق عليكم ويؤلمه ما يؤلمكم لأنه منكم ينصح لكم نصح القوميّ لقومه. (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على هدايتكم واكمالكم واسعادكم

__________________

(١) روي عن أبي أنه قال : هاتان الآيتان أقرب القرآن بالسماء عهدا وهذا لا ينافي أنّ آخر ما نزل من القرآن : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ).

(٢) قرىء : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي : أشرفكم وأفضلكم إذ هو من النفاسة وهي تعلّق نفوس البشر بما هو أجمل وأكمل. وقراءة الجمهور أولى وهي الضم أي : من أنفسكم إذ ما من قبيلة من قبائل العرب إلا وولدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وشاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية مسلم : (إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم) وفي لفظ : (فأنا خيار من خيار) وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك.

(٣) (ما) مصدرية تسبك مع الفعل بمصدر فيكون الكلام عزيز عليه عنتكم والعنت : التعب ، وهو مصدر عنت يعنت عنتا.

كأنّه يشير إلى أنّ ما لاقاه أصحابه من عنت أيام كانوا يحاربون أهليهم ، وذويهم وما نالهم من الغربة والفاقة ، والحرب كل ذلك كان يعزّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويألم له فصلّى الله وسلم عليه ما أرحمه وأوفاه!!

٤٤٣

(بِالْمُؤْمِنِينَ) منكم ومن غيركم من سائر الناس (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي شفوق عطوف يحب رحمتهم وإيصال الخير لهم. إذا فآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به تهتدوا وتسعدوا ولا تكفروا فتضلوا وتشقوا. وقوله تعالى (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن دعوتك فلا تأس وقل حسبي الله أي يكفيني ربي كل ما يهمني (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق سواه لذا فإني أعبده وأدعو إلى عبادته ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) (١) أي في شأني كله (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان منّة الله تعالى على العرب خاصة وعلى البشرية عامة ببعثه خاتم أنبيائه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان كمال أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ وجوب التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه في كل شيء يقوم به العبد.

٤ ـ عظمة عرش الرحمن عزوجل.

سورة يونس

مكية (٢)

وآياتها مائة وتسع آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

__________________

(١) عن أبي الدرداء أنّ من قال : إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم : سبع مرات كفاه الله ما أهمّه صادقا كان أو كاذبا).

(٢) ذكر بعضهم أن منها آيات قليلة مدنية ، والظاهر أنها كلها مكية ومن تدبر آياتها من أوله إلى آخره لم ير ما يدعو إلى خلافه.

٤٤٤

شرح الكلمات :

(الر) : هذه السورة الرابعة من السور المفتتحة بالحروف المقطعة تكتب الر وتقرأ ألف لام. را.

(الْكِتابِ) : أي القرآن العظيم.

(الْحَكِيمِ) : القائل بالحكمة والقرآن مشتمل على الحكم فهو حكيم ومحكم أيضا.

(عَجَباً) : العجب ما يتعجب منه.

(رَجُلٍ مِنْهُمْ) : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قَدَمَ صِدْقٍ) : أي أجرا حسنا بما قدموا في حياتهم من الإيمان وصالح الأعمال.

(إِنَّ هذا) : أي القرآن.

لسحر (١) مبين : أي بين ظاهر لا خفاء فيه في كذبهم وادعائهم الباطل.

معنى الآيتين :

مما تعالجه السور المكية قضايا التوحيد والوحي والبعث الآخر وسورة يونس افتتحت بقضية الوحي أي إثباته وتقريره من الله لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى (الر تِلْكَ آياتُ) (٢) (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٣) أي هذه آيات القرآن الكريم المحكم آياته المشتمل على الحكم الكثيرة حتى لكأنه الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه وقوله تعالى (أَكانَ لِلنَّاسِ) (٤) (عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي أكان ايحاؤنا إلى محمد عبدنا ورسولنا وهو رجل من قريش عجبا لأهل مكة يتعجبون منه؟ والموحى به هو : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ، أي خوفهم عاقبة الشرك والكفر والعصيان (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي بأن لهم قدم (٥) صدق عند ربهم وهو

__________________

(١) هذه قراءة نافع.

(٢) يذكر المفسرون عن السلف توجيهات عدة لهذه الحروف منها : ما رووه عن ابن عباس أن الر : معناها : أنا الله .. وكل ما ذكروه قول بالظن وإنّ الظن أكذب الحديث ، ومن الخير تفويض أمر معناها إلى من أنزلها وقد ذكرنا في التفسير ، فائدتين عظيمتين فلنكتف بهما.

(٣) قال مقاتل : الحكيم بمعنى : المحكم من الباطل لا يدخله ففعيل بمعنى مفعل واستشهد بقول الأعشى بذكر قصيدته التي قالها

وغريبة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

(٤) (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) : الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وعجبا : خبر كان والاسم : أن أوحينا ، والتقدير : أكان عجبا للناس إيحاؤونا.

(٥) ذكر القرطبي في تفسير (قَدَمَ صِدْقٍ) أقوالا متعددة منها : سبق السعادة في الأزل ، ومنها : أجر حسن ، ومنها : منزل صدق ، ومنها : ولد صالح قدّموه ومنها : يؤثر ذلك عن السلف ، وما في التفسير هو الراجح إذ رجّحه إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه‌الله تعالى.

٤٤٥

الجزاء الحسن لما قدموا من الإيمان وصالح الأعمال يتلقونه يوم يلقون ربهم في الدار الآخرة فلما أنذر وبشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الكافرون هذا سحر مبين ومرة قالوا : ساحر مبين وقولهم هذا لمجرد دفع الحق وعدم قبوله لا أن ما أنذر به وبشر هو سحر ، ولا المنذر المبشر هو ساحر وإنما هو المجاحدة والعناد والمكابرة من أهل الشرك والكفر والباطل والشر والفساد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة الوحي بشهادة الكتاب الموحى به.

٢ ـ إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقريرها بالوحي إليه.

٣ ـ بيان مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي النذارة والبشارة.

٤ ـ بشرى أهل الإيمان والعمل الصالح بما أعد لهم عند ربهم.

٥ ـ عدم تورع أهل الكفر عن الكذب والتضليل.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ

٤٤٦

اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) : أي معبودكم الحق الذي يجب أن تعبدوه وحده هو الله.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أي أوجدها من العدم حيث كانت عدما فأصبحت عوالم.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : هي الأحد والأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) : أي استوى استواء يليق به عزوجل فلا يقال كيف؟

(ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) : أي لا يشفع أحد يوم القيامة إلا من بعد أن يأذن له.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي أتستمرون في جحودكم وعنادكم فلا تذكرون.

(ثُمَّ يُعِيدُهُ) : أي بعد الفناء والبلى وذلك يوم القيامة.

(شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) : أي من ماء أحمي عليه وغلى (١) حتى أصبح حميما يشوي الوجوه.

(جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) (٢) : أي جعلها تضيء على الأرض.

(وَالْقَمَرَ نُوراً) : أي جعل القمر بنور الأرض وهو الذي خلق ضوء الشمس ونور القمر.

(وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) : أي قدر القمر منازل والشمس كذلك.

(لِتَعْلَمُوا) : أي قدرهما منازل ليعلم الناس عدد السنين والحساب.

(يَتَّقُونَ) : أي مساخط الله وعذابه وذلك بطاعته وطاعة رسوله.

معنى الآيات :

هذه الآيات في تقرير الألوهية بعد تقرير الوحي واثباته في الآيتين السابقتين فقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) إخبار منه تعالى أنه عزوجل هو رب أي معبود أولئك المشركين به آلهة أصناما

__________________

(١) غلى الماء يغلي غليانا إذا اشتدت حرارته ففار دخانا.

(٢) الضياء : نور ساطع يضيء للرائي الأشياء وهو اسم مشتق من الضوء فالضياء أقوى من الضوء.

٤٤٧

يعبدونها معه وهي لم تخلق شيئا أما الله فإنه الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام بمقدار أيامنا هذه إذ لم تكن يومئذ أياما كأيام الدنيا هذه ، ثم استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله يدبر (١) أمر السماء والأرض. هذا هو الإله الحق الذي يجب أن يعبد ويتقرب إليه. وقوله : (ما مِنْ) (٢) (شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي وأنه لعظمته وعزة سلطانه لا يقدر أحد أن يشفع لآخر إلا بعد إذنه له فكيف إذا تعبد هذه الأصنام رجاء شفاعتها لعابديها ، والله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه؟ وقوله تعالى (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي هذا الموصوف بهذه الصفات المعرّف بهذه النعوت من الجلال والكمال هو ربكم الحق فاعبدوه بما شرع لكم من أنواع العبادات تكملوا وتسعدوا وقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هو توبيخ للمشركين لهم لم لا تتعظون بعد سماع الحق. وقوله تعالى (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بعد موتكم (جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا) (٣) تقرير لمبدأ البعث الآخر أي إلى الله تعالى ربكم الحق مرجعكم بعد موتكم جميعا إذ وعدكم وعد الحق بالرجوع إليه والوقوف بين يديه وقوله (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ) (٤) أي بالعدل : بيان لعلة الحياة بعد الموت إذ هذه الدار دار عمل والآخرة دار جزاء على هذا العمل فلذا كان البعث واجبا حتما لا بد منه ولا معنى لإنكاره لأن القادر على البدء قادر على الإعادة من باب أولى وأحرى وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ماء حار قد بلغ المنتهى في حرارته وعذاب أليم أي موجع اخبار منه تعالى بجزاء أهل الكفر يوم القيامة وهو علة أيضا للحياة بعد الموت والبعث بعد الفناء وبهذا تقرر مبدأ البعث كما تقرر قبله مبدأ التوحيد ومن قبل مبدأ الوحى إذ على هذه القضايا تدور السور المكية وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) أي ذات ضياء والقمر نورا ذا نور وقدر القمر منازل (٥) وهي ثمانية وعشرون منزلة يتنقل فيها القمر ، فعل ذلك (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (٦) فتعرفون

__________________

(١) قال مجاهد : يقضيه ويقدره وحده ، وقيل : يأمر به ويمضيه. قال القرطبي : والمعنى متقارب

(٢) (ما مِنْ شَفِيعٍ) أي : لا شفيع يشفع إلا بعد إذنه له بالشفاعة.

(٣) (وعدا) و (حَقًّا) : مصدران بمعنى وعدكم وعدا وأحقه حقا. أي : صدقا لا خلف فيه.

(٤) الجملة : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) : واقعة موقع الدليل على إنجاز وعده تعالى لأنّ الذي خلق من تراب وماء قادر على البعث والجزاء.

(٥) المنازل : جمع منزل ، وهو مكان النزول والمراد بها سموت بلوغ القمر فيها للناس كل ليلة في سمت منها كأنه ينزل بها ، وللشمس منازل تسمى بروجا وهي اثنا عشر برجا تحل فيها الشمس في فصول السنة لكل برج منزلتان وثلث.

(٦) (الْحِسابَ) مصدر حسب يحسب بضم السين حسابا بمعنى عدّ أما حسب بكسر السين فهو بمعنى ظن ومضارعه يحسب بفتح السين وكسرها لغتان فصيحتان. وبهما قرىء : أيحسب الإنسان وكل يحسب بمعنى يظن.

٤٤٨

عدد السنوات والشهور والأيام والساعات إذ حياتكم تحتاج إلى ذلك فهذا الرب القادر على هذا الخلق والتدبير هو المعبود الحق الذي يجب أن تعبدوه ولا تعبدوا سواه فهذا تقرير للتوحيد وتأكيد له. وقوله (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي لم يخلق هذه الحياة الدنيا وهذه العوالم فيها عبثا فتفنى وتبلى بعد حين ولا شيء وراء ذلك بل ما خلق ذلك إلا بالحق أي من أجل أن يأمر وينهى ثم يجزي المطيع بطاعته والعاصي بعصيانه وفي هذا تأكيد لقضية البعث والجزاء أيضا وقوله (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي هذا التفصيل المشاهد في هذا السياق (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) إذ هم الذين ينتفعون به أما الجهلة فلا ينتفعون بهذا التفصيل والبيان وقوله تعالى في الآية الأخيرة (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بالطول والقصر والضياء والظلام (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) من أفلاك وكواكب ورياح وأمطار وما خلق في الأرض من إنسان وحيوان وبر وبحر وأنهار وأشجار وجبال ووهاد (لَآياتٍ) أي علامات واضحة دالة على الخالق المعبود بحق وعلى جلاله وجماله وكماله وعظيم قدرته وقوة سلطانه فيعبد لذلك بحبه غاية الحب وبتعظيمه غاية التعظيم وبرهبته والخشية منه غاية الرهبة والخشية ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر ويطاع فلا يعصى وقوله تعالى (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٢) خص أهل التقوى بالآيات فيما ذكر من مظاهر خلقه وقدرته لأنهم هم الذين حقا يبصرون ذلك ويشاهدونه لصفاء أرواحهم وطهارة قلوبهم ونفوسهم أما أهل الشرك والمعاصي فهم في ظلمة لا يشاهدون معها شيئا والعياذ بالله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ألوهية الله تعالى وأنه الإله الحق.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء في الدار الآخرة.

٣ ـ بيان الحكمة في خلق الشمس والقمر وتقدير منازلهما.

٤ ـ مشروعية تعلم الحساب وعلم الفلك لما هو نافع للمسلمين.

__________________

(١) قوله : (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) شمل الأجسام والأحوال معا أي : الذوات والصفات ، والأقوال والأعمال أيضا إذ قال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ).

(٢) خصهم بالآيات لأنهم هم الذين ينتفعون بها أما أهل الشرك والفجور والمعاصي فلا ينتفعون بها فهي إذا ليست لهم بل هي لغيرهم ممن ينتفعون بها.

٤٤٩

٥ ـ فضل العلم والتقوى وأهلهما من المؤمنين.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))

شرح الكلمات :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : أي لا ينتظرون ولا يؤملون في لقاء الله تعالى يوم القيامة.

(وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : أي بدلا عن الآخرة فلم يفكروا في الدار الآخرة.

(وَاطْمَأَنُّوا بِها) : أي سكنوا إليها وركنوا فلم يروا غيرها حياة يعمل لها.

(غافِلُونَ) : لا ينظرون إليها ولا يفكرون فيها.

(مَأْواهُمُ النَّارُ) : أي النار هي المأوى الذي يأوون إليه وليس لهم سواها.

(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) (١) : أي بأن يجعل لهم بإيمانهم نورا يهتدون به إلى الجنة.

(دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) (٢) : أي يطلبون ما شاءوا بكلمة سبحانك اللهم.

(وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أي آخر دعائهم : الحمد لله رب العالمين.

معنى الآيات :

بعد تقرير الوحي والألوهية في الآيات السابقة ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث

__________________

(١) قال مجاهد : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) بالنور على الصراط إلى الجنة بأن يجعل لهم نورا يمشون به ، وشاهده قوله تعالى : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) الخ.

(٢) الدعوى هنا : بمعنى الدعاء يقال : دعوة بالهاء ودعوى بألف التأنيث وسبحان : مصدر بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه.

٤٥٠

الكريمة بيان جزاء كل ممن كذب بلقاء الله فلم يرج ثوابا ولم يخش عقابا ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ، وممن آمن بالله ولقائه ووعده ووعيده فآمن بذلك وعمل صالحا فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ (١) لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) (٢) أي سكنت نفوسهم إليها وركنوا فعلا إليها (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ) أي آياته الكونية في الآفاق والقرآنية وهي حجج الله تعالى وأدلته الدالة على وجوده وتوحيده ووحيه وشرعه غافلون عنها لا ينظرون فيها ولا يفكرون فيما تدل لإنهماكهم في الدنيا حيث أقبلوا عليها وأعطوها قلوبهم ووجوههم وكل جوارحهم. هؤلاء يقول تعالى في جزائهم (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي من الظلم والشر والفساد. ويقول تعالى في جزاء من آمن بلقائه ورجا ما عنده (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) أي إلى طريق الجنة (بِإِيمانِهِمْ) أي بنور إيمانهم فيدخلونها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ (٣) الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ). ونعيم الجنة روحاني وجسماني فالجسماني يحصلون عليه بقولهم : سبحانك اللهم ، فإذا قال أحدهم هذه الجملة «سبحانك اللهم» (٤) حضر لديه كل مشتهى له. والروحاني يحصلون عليه بسلام الله تعالى عليهم وملائكته (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ). وإذا فرغوا من المآكل والمشارب قالوا : الحمد لله رب العالمين. وهذا معنى قوله (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي دعاؤهم أي صيغة طلبهم (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي دعائهم (أَنِ) أي أنه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). (٥)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من نسيان الآخرة والإقبال على الدنيا والجري وراء زخارفها.

__________________

(١) (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) معناه أنهم لا يطلبونه ولا يتوقعونه ، ولازم ذلك أنهم لا يخافون عقابا أخرويا ولا ثوابا.

(٢) أي : سكنت نفوسهم إليها وصرفوا كل همهم لها طلبا لتحصيل منافعها فلم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الآخرة لأنهم سكنوا إلى الدنيا ، والساكن لا يتحرّك ووصف بأنه لها يرضى ولها يغضب ولها يفرح ولها يهتم ويحزن.

(٣) (مِنْ تَحْتِهِمُ) من تحت بساتنهم ومن تحت أسرّتهم كذلك وهو أحسن في النزهة والفرجة.

(٤) إنه ثناء مسوق للتعرض إلى إفاضة النعيم من طعام وشراب وهو كما قال ابن أبي الصلت :

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه من تعرّضه الثناء

(٥) في الآية دليل على اطلاق لفظ التسبيح على الدعاء وشاهده : دعوة ذي النون : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وفيها دليل على مشروعية بل سنية بدء الطعام والشراب ببسم الله. وإنهائه بحمد الله تعالى كما هي السنة في ذلك.

٤٥١

٢ ـ التحذير من الغفلة بعدم التفكر بالآيات الكونية والقرآنية إذ هذا التفكير هو سبيل الهداية والنجاة من الغواية.

٣ ـ الإيمان والعمل الصالح مفتاح الجنة والطريق الهادي إليها.

٤ ـ نعيم الجنة روحاني وجسماني وهو حاصل ثلاث كلمات هي :

سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام. وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(الشَّرَّ) : كل ما فيه ضرر في العقل أو الجسم أو المال والولد ، والخير عكسه : ما فيه نفع يعود على الجسم أو المال أو الولد.

(لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) : لهلكوا وماتوا.

(فَنَذَرُ) : أي نترك.

(فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : أي في ظلمهم وكفرهم يترددون لا يخرجون منه كالعميان.

(الضُّرُّ) : المرض وكل ما يضر في جسمه ، أو ماله أو ولده.

٤٥٢

(مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا) : مضى في كفره وباطله كأن لم يكن ذاك الذي دعا بكشف ضره.

(كَذلِكَ زُيِّنَ) (١) : مثل ذلك النسيان بسرعة لما كان يدعو لكشفه ، زين للمسرفين إسرافهم في الظلم والشر.

(الْقُرُونَ) : أي أهل القرون.

(بِالْبَيِّناتِ) : بالحجج والآيات على صدقهم في دعوتهم.

(خَلائِفَ) : أي لهم ، تخلفونهم بعد هلاكهم.

معنى الآيات :

هذه الفترة التي كانت تنزل فيها هذه السورة المكية كان المشركون في مكة في هيجان واضطراب كبيرين حتى إنهم كانوا يطالبون بنزول العذاب عليهم إذ ذكر تعالى ذلك عنهم في غير آية من كتابه منها (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) ومنها (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) (٢) أي عند سؤالهم إياه ، (٣) أو فعلهم ما يقتضيه كاستعجاله الخير لهم (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لهلكوا الهلاك العام وانتهى أجلهم في هذه الحياة ، وقوله تعالى (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي لم نعجل لهم العذاب فنذر الذين لا يرجون لقاءنا أي لا يؤمنون بلقائنا وما عندنا من نعيم وجحيم نتركهم في طغيانهم في الكفر والظلم والشر والفساد يعمهون حيارى يترددون لا يعرفون متجها ولا مخرجا لما هم فيه من الضلال والعمى.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١) أما الآية الثانية (١٢) فقد تضمنت بيان حقيقة وهي أن الإنسان الذي يعيش في ظلمة الكفر ولم يستنر بنور الإيمان إذا مسه الضر وهو

__________________

(١) قال القرطبي وهو صادق ، كما زيّن لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء زيّن للمسرفين في الشرك والمعاصي أعمالهم في ذلك.

(٢) فسّر الشرّ بالعقوبة إذ الشر كل ما يلحق الضرر بالإنسان عاجلا أو آجلا ، والعقوبة كلها شر إذ هي عذاب انتقام ينزل بصاحبه.

(٣) قال مجاهد : هذه الآية نزلت في الرجل يدعو على نفسه أو ماله أو ولده إذا غضب. اللهم أهلكه اللهم لا تبارك فيه اللهم العنه فلو استجيب ذلك منه كما يستجاب الخير لقضى إليهم أجلهم. ولا أحسب أنّ الآية نزلت في هذا وإنما هي شاهد لما قال فقط ، وشاهد آخر رواه البزار وأبو داود وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم).

٤٥٣

المرض والفقر وكل ما يضر دعا ربه على الفور لجنبه أو قاعدا أو قائما يا رباه يا رباه فإذا استجاب الله له وكشف ما به من ضر مرّ كأن لم يكن مرض ولا دعا واستجيب له واستمر في كفره وظلمه وغيّه. وقوله تعالى (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كما أن الإنسان الكافر سرعان ما ينسى ربه الذي دعاه ففرج ما به كذلك حال المسرفين في الظلم والشر فإنهم يرون ما هم عليه هو العدل والخير ولذا يستمرون في ظلمهم وشرهم وفسادهم. هذا ما دل عليه قوله تعالى (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

وقوله تعالى في الآية الثالثة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) هذا خطاب لأهل مكة يخبرهم تعالى مهددا إياهم بإمضاء سنته فيهم بأنه أهلك أهل القرون من قبلهم لمّا ظلموا أي أشركوا وجاءتهم رسلهم بالبينات (١) أي بالآيات والحجج ، وأبوا أن يؤمنوا لما ألفوا من الشرك والمعاصي فأهلكهم كعاد وثمود وأصحاب مدين وقوله تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي مثل ذلك الجزاء بالإهلاك العام نجزي القوم المجرمين في كل زمان ومكان إن لم يؤمنوا ويستقيموا. وقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يقول لمشركي العرب من أهل مكة وغيرها ، ثم جعلناكم خلائف (٢) في الأرض بعد إهلاك من قبلكم لننظر (٣) كيف تعملون فإن كان عملكم خيرا جزيناكم به وإن كان سوءا جزيناكم به وتلك سنتنا في عبادنا وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر رحمة الله بعباده إذ لو عجل لهم ما يطلبون من العذاب كما يعجل لهم الخير عند ما يطلبونه لأهلكهم وقضى إليهم أجلهم فماتوا.

٢ ـ يعصي الله العصاة ويكفر به الكافرون ويتركهم في باطلهم وشرهم فلا يعجل لهم العذاب لعلهم يرجعون.

__________________

(١) أي : بالمعجزات الواضحات كالتي آتى بها موسى وعيسى عليهما‌السلام.

(٢) الخلائف : جمع خليفة وحرف ثم مؤذن ببعد ما بين الزمانين ، والأرض : هي أرض العرب إذ هم الذين خلفوا عادا وثمودا وقبلهما طسما وجديسا.

(٣) هذا التعليل كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) إذ علّة الوجود هي أن يذكر الله ويشكر ، فمن ذكره وشكره أكرمه وأسعده ومن كفره ونساه عذّبه وأشقاه.

٤٥٤

٣ ـ بيان أن الإنسان الكافر يعرف الله عند الشدة ويدعوه ويضرع إليه فإذا نجاه عاد إلى الكفر به كأن لم يكن يعرفه.

٤ ـ استمرار المشركين على إسرافهم في الكفر والشر والفساد مزين لهم (١) حسب سنة الله تعالى. فمثلهم مثل الكافر يدعو عند الشدة وينسى عند الفرج.

٥ ـ وعيد الله لأهل الإجرام بالعذاب العاجل أو الآجل إن لم يتوبوا.

٦ ـ كل الناس أفرادا وأمما ممهلون مراقبون في أعمالهم وسلوكهم ومجزيون بأعمالهم خيرها وشرها لا محالة.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) من سورة الأنعام.

٤٥٥

شرح الكلمات :

(لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) : أي لا يؤمنون بالبعث والدار الآخرة.

(مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) : أي من جهة نفسي.

(وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) : أي لا أعلمكم به.

(عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) : أي أربعين سنة قبل أن يوحى إليّ.

(الْمُجْرِمُونَ) : المفسدون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.

(ما لا يَضُرُّهُمْ) : أي إن لم يعبدوه.

وما لا ينفعهم : أي إن عبدوه.

(أَتُنَبِّئُونَ) : أي أتعلّمون وتخبرون الله.

(سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له.

(عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي به معه من الأصنام.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير قضايا أصول الدين الثلاث : التوحيد والوحي والبعث فقوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي إذا قرئت عليهم آيات الله عزوجل (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) (١) وهم المنكرون للبعث إذ به يتم اللقاء مع الله تعالى للحساب والجزاء. (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) أي بأن يكون خاليا من عيب آلهتنا وانتقاصها. أو أبقه ولكن بدل كلماته بما لا يسوءنا فاجعل مكان آية فيها ما يسوءنا آية أخرى لا إساءة فيها لنا وقولهم هذا إما أن يكون من باب التحدي أو الاستهزاء والسخرية (٢) ولكن الله تعالى علّم رسوله طريقة الرد عليهم بناء على ظاهر قولهم فقال له (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أي إنه لا يتأتّى لي بحال أن أبدله من جهة نفسي لأني عبد الله ورسوله ما اتبع إلا ما يوحى

__________________

(١) عن مجاهد : أن المطالبين بهذا هم خمسة أنفار : عبد الله بن أميّة والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس والعاصي بن عامر قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إئت بقرآن ليس فيه ترك عبادة الأصنام واللّات والعزّى ومناة وهبل وليس فيه عيبها.

(٢) وإمّا أن يكون من باب توهمهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي به من تلقاء نفسه إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف.

٤٥٦

إلي (إِنِّي (١) أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بتبديل كلامه (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة وقوله (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي قل لهم ردا على طلبهم : لو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ما تلوته عليكم ، ولا أدراكم هو به أي ولا أعلمكم فالأمر أمره وأنا لا أعصيه ويدل لكم على صحة ما أقول : إني لبثت فيكم عمرا (٢) أي أربعين سنة قبل أن آتيكم به (أَفَلا تَعْقِلُونَ) : معنى ما أقول لكم من الكلام وما أذكر لكم من الحجج؟.

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية (١٥ ـ ١٦) أما الآية الثالثة فقد تضمنت التنديد بالمجرمين الذين يكذبون على الله تعالى بنسبة الشريك إليه ويكذّبون بآياته ويجحدونها فقال تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (٣) أي لا أحد أظلم منه (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) بعد ما جاءته أي لا أحد أظلم من الأثنين ، وقوله تعالى (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) دل أولا على أن المذكورين مجرمون وأنهم لا يفلحون شأنهم شأن كل المجرمين. وإذا لم يفلحوا فقد خابوا وخسروا. وقوله تعالى في الآية الرابعة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي من الأصنام (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٤) وهم في ذلك كاذبون مفترون فلذا أمر الله أن يرد عليهم بقوله (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) إذ لو كان هناك من يشفع عنده لعلمهم وأخبر عنهم فلم الكذب على الله والافتراء عليه ثم نزه الله تعالى نفسه عن الشرك به والشركاء له فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من الدعوة إلى الله تعالى تلاوة آياته القرآنية على الناس تذكيرا وتعليما.

__________________

(١) جملة : (إِنِّي أَخافُ) جملة تعليلية لجملة : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ).

(٢) العمر : الحياة مشتق من العمران ، لأنّ مدة الحياة يعمر بها الحي العالم الأرضي ، ويطلق العمر على المدة الطويلة التي لو عاش الإنسان مقدارها لكان أخذ حظه من البقاء. والمراد من قوله (عُمُراً) أي : لبثت بينكم مدة عمر كامل. إذ هي أربعون سنة.

(٣) في هذه الآية زيادة ردّ على المطالبين بتبديل القرآن إذ تبديله ظلم والزيادة فيه كذب على الله تعالى ولا أحد أظلم ممن يفترى على الله الكذب ، فكيف يسوغ لي أن افتري على الله الكذب أو أبدل كلامه.

(٤) إن قولهم : هؤلاء (شُفَعاؤُنا) لأصنام لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر هو غاية الجهل ، ومرادهم من شفاعتها أنها تشفع لهم عند الله في إصلاح معاشهم في الدنيا.

٤٥٧

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من تعنت وجحود ومكابرة.

٣ ـ كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاش أربعين سنة لم يعرف فيها علما ولا معرفة ثم برز في شيء من العلوم والمعارف فتفوق وفاق كل أحد دليل على أنه نبي يوحى إليه قطعا.

٤ ـ لا أحد أظلم من أحد رجلين رجل يكذب على الله تعالى وآخر يكذّب الله تعالى.

٥ ـ إبطال دعوى المشركين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله يوم القيامة.

٦ ـ بيان سبب عبادة المشركين لآلهتهم وهو رجاؤهم شفاعتها لهم.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(أُمَّةً واحِدَةً) : أي على دين واحد هو الإسلام.

(فَاخْتَلَفُوا) : أي تفرقوا بأن بقى بعض على التوحيد وبعض على الشرك.

(كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) : بإبقائهم إلى آجالهم ومجازاتهم يوم القيامة.

(آيَةٌ) : خارقة كناقة صالح عليه‌السلام.

(إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) : أي إن علم الآية متى تأتي من الغيب والغيب لله وحده فلا أنا ولا أنتم تعلمون إذا فانتظروا إنا معكم من المنتظرين.

معنى الآيتين :

يخبر تعالى رسوله بحقيقة علمية تاريخية من شأن العلم بها المساعدة على الصبر والتحمل فيقول (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) أي في زمن سابق أمة واحدة على دين التوحيد دين الفطرة ثم حدث أن أحدثت لهم شياطين الجن والإنس البدع والأهواء

٤٥٨

والشرك فاختلفوا فمنهم من ثبت على الإيمان والتوحيد ومنهم من كفر بالشرك والضلال. وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) (١) وهي أنه لا يعجل العذاب للأمم والأفراد بكفرهم وإنما يؤخرهم إلى آجالهم ليجزيهم في دار الجزاء بعذاب النار يوم القيامة لو لا كلمته والتي هي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) لعجل لهم العذاب فحكم بينهم بأن أهلك الكافر وأنجى المؤمن.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٩) أما الآية الثانية (٢٠) فيخبر تعالى عن المشركين أنهم قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (٢) أي هلّا أنزل على محمد آية خارقة من ربه لنعلم ونستدل بها على أنه رسول الله وقد يريدون بالآية عذابا فلذا أمر الله رسوله أن يرد عليهم بقوله (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) فهو وحده يعلم متى يأتيكم العذاب وعليه (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ (٣) مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ولم تطل مدة الانتظار ونزل بهم العذاب ببدر فهلك رؤساؤهم وأكابر المستهزئين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الأصل هو التوحيد والشرك طارىء.

٢ ـ الشر والشرك هما اللذان يحدثان الخلاف في الأمة والتفرق فيها أما التوحيد والخير فلا يترتب عليهما خلاف ولا حرب ولا فرقة.

٣ ـ بيان علة بقاء أهل الظلم والشرك يظلمون ويفسدون إلى آجالهم.

٤ ـ الغيب كله لله فلا أحد يعلم الغيب إلا الله ومن علّمه الله شيئا منه وهذا خاص بالرسل لإقامة الحجة على أممهم.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ

__________________

(١) في الآية إشارة إلى القضاء والقدر أي : لو لا ما سبق في حكمه أنه لا يقضي بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب قبل يوم القيامة.

(٢) يريدون معجزة كمعجزات صالح وموسى وعيسى عليهم‌السلام أو اية غير القرآن كأن يحيي لهم الموتى أو يجعل الجبل ذهبا أو يكون له بيت من زخرف.

(٣) في الجملة تعريض بتهديدهم على جراءتهم على الله ومطالبتهم بالآيات ، والآيات القرآنية معرضون عنها وهي أعظم مما يطلبون.

٤٥٩

(٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(رَحْمَةً) : أي مطر بعد قحط أو صحة بعد مرض أو غنى بعد فاقة.

(ضَرَّاءَ) : حالة من الضر بالمرض والجدب والفقر.

(مَكْرٌ فِي آياتِنا) : أي استهزاء بها وتكذيب.

(إِنَّ رُسُلَنا) : أي الحفظة من الملائكة.

(يُسَيِّرُكُمْ) (١) : أي يجعلكم تسيرون بما حولكم من مراكب وما يسر لكم من أسباب.

(بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) : أي مناسبة لسير السفن موافقة لغرضهم.

(رِيحٌ عاصِفٌ) : أي شديدة تعصف بالشجر فتقتلعه والبناء فتهدمه.

(أُحِيطَ بِهِمْ) : أي أحدق بهم الهلاك من كل جهة.

يبغون بغير الحق (٢) : أي يظلمون مجانبين للحق والاعتدال.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة أهل مكة إلى توحيد الله والإيمان برسوله والدار الآخرة فيقول

__________________

(١) قرأ ابن عامر ينشركم بالنون والشين أي يبثكم ويفرقكم والفلك : يطلق على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث.

(٢) البغي : الاعتداء والظلم مأخوذ من بغا الجرح إذا فسد فهو من الفساد.

٤٦٠