أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ (١) صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) هذا النوع من السلوك الشائن الغبي كان بعضهم يثني صدره أي يطأطىء رأسه ويميله على صدره حتى لا يراه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعضهم يفعل ذلك ظنا منه أنه يخفي نفسه عن الله تعالى وهذا نهاية الجهل ، وبعضهم يفعل ذلك بغضا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يراه فرد تعالى هذا بقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي يتغطون بها (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا معنى لاستغشاء الثياب استتارا بها عن الله تعالى فإن الله يعلم سرهم وجهرهم ويعلم ما تخفي صدورهم وإن كانوا يفعلون ذلك بغضا (٢) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبئس ما صنعوا وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مظهر من مظاهر إعجاز القرآن وهو أنه مؤلف من الحروف المقطعة ولم تستطع العرب الإتيان بسورة مثله.

٢ ـ بيان العلة في إنزال الكتاب وأحكام آيه وتفصيلها وهي أن يعبد الله تعالى وحده وأن يستغفره المشركون ثم يتوبون إليه ليكملوا ويسعدوا في الدنيا والآخرة.

٣ ـ وجوب التخلي عن الشرك أولا ، ثم العبادة الخالصة ثانيا.

٤ ـ المعروف لا يضيع عند الله تعالى إذا كان صاحبه من أهل التوحيد (وَيُؤْتِ (٣) كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ).

٥ ـ بيان جهل المشركين الذين كانوا يستترون عن الله برؤوسهم وثيابهم. (٤)

٦ ـ مرجع الناس إلى ربهم شاءوا أم أبوا والجزاء عادل ولا يهلك على الله إلا هالك.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة ويظهرون خلافه ، ونزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنطق يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء ، وقيل نزلت في بعض المنافقين كان أحدهم إذا مرّ به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطّى وجهه كي لا يراه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيدعوه إلى الإيمان.

(٢) لا مانع من توجيه الآية إلى هذا إذ ما زال الناس إلى اليوم ، إذا كرهوا الداعية إلى الله تعالى لا يحبون أن يروه أو يسمعوا صوته وقد يثنون صدورهم ويغطون وجوههم حتى لا يروه بغضا له وكرها. والله عليم خبير.

(٣) الثني : الطيّ. طوى الثوب إذا ثناه ، وهو مأخوذ من جعل الواحد اثنين.

(٤) أي : يطأطئون رؤوسهم على صدورهم ويتغطون بثيابهم إذ روي أن المشرك كان يدخل بيته ويرخي الستر عليه ، ويستغشي ثوبه ويحنى ظهره ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي؟ وذلك لجهلهم بعظمة الله تعالى وقدرته وعلمه.

٥٢١

الجزء الثاني عشر

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨))

شرح الكلمات :

(مِنْ دَابَّةٍ) : أي حيّ يدبّ على الأرض أي يمشي من إنسان وحيوان

(مُسْتَقَرَّها) : أي مكان استقرارها من الأرض.

(وَمُسْتَوْدَعَها) : أي مكان استيداعها قبل استقرارها كأصلاب الرجار وأرحام النساء.

(فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : أي اللوح المحفوظ.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : أي الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) : إذ لم يكن قد خلق شيئا من المخلوقات سواه ، والماء على الهواء.

(لِيَبْلُوَكُمْ) : أي ليختبركم ليرى أيكم أحسن عملا.

(إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) : أي إلى طائفة من الزمن معدودة.

(وَحاقَ بِهِمْ) : أي نزل وأحاط بهم.

٥٢٢

معنى الآيات :

لما أخبر تعالى في الآية السابقة انه عليم بذات الصدور ذكر في هذه مظاهر علمه وقدرته تقريرا لما تضمنته الآية السابقة فقال عزوجل (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) (١) من إنسان يمشي على الأرض أو حيوان يمشي عليها زاحفا أو يمشي على رجلين أو أكثر أو يطير في السماء إلا وقد تكفّل الله برزقها أي بخلقه وإيجاده لها وبتعليمها كيف تطلبه وتحصل عليه ، وهو تعالى يعلم كذلك مستقرها أي مكان استقرار تلك الدابة في الأرض ، كما يعلم أيضا مستودعها بعد موتها إلى أن تبعث ليوم القيامة.

وقوله تعالى (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي من الدابة ورزقها ومستقرها ومستودعها قد دوّن قبل خلقه في كتاب المقادير اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى في الآية (٧) (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي أوجد السموات السبع والأرض وما فيها في ظرف ستة أيام وجائز أن تكون كأيام الدنيا ، وجائز أن تكون كالأيام التي عنده وهي ألف سنة لقوله في سورة الحج (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) وقوله (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٢) أي خلق العرش قبل خلق السموات والأرض ، والعرش : سرير الملك ومنه يتم تدبير كل شيء في هذه الحياة ، وقوله (عَلَى الْماءِ) إذ لم يكن أرض ولا سماء فلم يكن إلا الماء كالهواء. وقوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ (٣) عَمَلاً) أي خلقكم وخلق كل شيء لأجلكم ، ليختبركم أيكم أطوع له وأحسن عملا أي بإخلاصه لله تعالى وحده وبفعله على نحو ما شرعه الله وبيّنه رسوله.

هذه مظاهر علمه تعالى وقدرته وبها استوجب العبادة وحده دون سواه وبها علم أنه لا يخفى عليه من أمر عباده شيء فكيف يحاول الجهلة إخفاء ما في صدورهم وما تقوم به جوارحهم بثني صدورهم واستغشاء ثيابهم. ألا ساء ما يعملون.

وقوله تعالى (وَلَئِنْ قُلْتَ) ـ أي أيها الرسول للمشركين ـ إنكم مبعوثون من بعد الموت ،

__________________

(١) (وَما مِنْ دَابَّةٍ) : ما : نافية ، ومن : مزيدة لتقوية النفي ليكون أكثر شمولا ، والتقدير : وما دابة في الأرض إلّا على الله رزقها أي : تكفّل الله برزقها فضلا منه ومنّة.

(٢) روى البخاري في حديث منه : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء».

(٣) قال مقاتل : أيكم اتقى لله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه أيكم أعمل بطاعة الله عزوجل ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قال : أيّكم أحسن عقلا وأروع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله) ولو صحّ هذا الخبر لكان أتمّ وأجمع ، وقال الفضيل : أحسن العمل : أخلصه وأصوبه. وهو كما قال.

٥٢٣

أي مخلوقون خلقا جديدا ومبعوثون من قبوركم لمحاسبتكم ومجازاتكم بحسب أعمالكم في هذه الحياة الدنيا (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي عند سماع أخبار الحياة الثانية وما فيها من نعيم مقيم ، وعذاب مهين (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الكلام ما هو إلا سحر مبين يريد به صرف الناس عن ملذاتهم ، وجمعهم حوله ليترأس عليهم ويخدموه ، وهو كلام باطل وظن كاذب وهذا شأن الكافر ، وقوله تعالى في الآية (٨) (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) (١) أي ولئن أخرنا أي أرجأنا ما توعدناهم به من عذاب ألى أوقات زمانية معدودة الساعات والأيام والشهور والأعوام (لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ) أي شيء حبس العذاب يقولون هذا إنكارا منهم واستخفافا قال تعالى (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي ليس هناك من يصرفه ويدفعه عنهم بحال من الأحوال ، (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون بقولهم : ما يحبسه!!؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ سعة علم الله تعالى وتكفله بأرزاق (٢) مخلوقاته من إنسان وحيوان.

٢ ـ بيان خلق الأكوان ، وعلة الخلق.

٣ ـ تقرير مبدأ البعث الآخر بعد تقرير الألوهية لله تعالى.

٤ ـ لا ينبغي الاغترار بإمهال الله تعالى لأهل معصيته ، فإنه قد يأخذهم فجأة وهم لا يشعرون.

(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ

__________________

(١) (إلى أمّة) : أي : إلى أجل معدود وحين معلوم ، فالأمّة هنا : المدّة ، ولفظ الأمة يطلق على معان منها : الجماعة ، وسميت مجموعة السنين أمّة لاجتماعها. والأمّة : أتباع أحد الأنبياء والأمّة ، الملّة والدين ، والأمّة : الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به.

(٢) قيل لحاتم الأصمّ : من أين تأكل؟ فقال من عند الله ، فقيل له : الله ينزل لك دنانير ودراهم من السماء؟ فقال : كأنّ ما له إلّا السماء! يا هذا : الأرض له والسماء له ، فإن لم يؤتني رزقي من السماء ساقه لي من الأرض ، وأنشد يقول :

وكيف أخاف الفقر والله رازقي

ورازق هذا الخلق في العسر واليسر

تكفّل بالأرزاق للخلق كلهم

وللضب في البيداء وللحوت في البحر

٥٢٤

مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١))

شرح الكلمات :

(أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) : أي أنلناه رحمة أي غنى وصحة.

(ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) : أي سلبناها منه.

(لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) : أي كثير اليأس أي القنوط شديد الكفر.

(نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) : أي خيرا بعد شر.

(السَّيِّئاتُ) : جمع سيئة وهي ما يسوء من المصائب.

(لَفَرِحٌ فَخُورٌ) : كثير الفرح والسرور والبطر.

(صَبَرُوا) : أي على الضراء والمكاره.

(مَغْفِرَةٌ) : أي لذنوبهم.

(وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : أي الجنة دار الأبرار.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أن الإنسان (١) الذي لم يستنر بنور الإيمان ولم يتحل بصالح الأعمال إن أذاقه الله تعالى رحمة منه برخاء وسعة عيش وصحة بدن ، ثم نزعها منه لأمر أراده الله تعالى (إِنَّهُ) أي ذلك الإنسان (لَيَؤُسٌ) (٢) أي كثير اليأس والقنوط (كَفُورٌ) لربه الذي أنعم عليه جحود لما كان قد أنعم به عليه.

وقوله (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ) أي أذقناه طعم نعمة ولذاذة رخاء وسعة عيش وصحة بدن بعد ضراء كانت قد أصابته من فقر ومرض (لَيَقُولَنَ) بدل أن يحمد الله ويشكره على إسعاده بعد شقاء وإغنائه بعد فقر وصحة بعد مرض يقول متبجحا (ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي

__________________

(١) الإنسان هنا : اسم جنس يشمل كل انسان كافر ، وإن قيل : إن الآية في كافر معيّن ، وهو الوليد بن المغيرة ، أو عبد الله بن أبي أميّة ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

(٢) هو من باب : فعل يفعل يئس ييأس يأسا فهو آيس ، وللمبالغة : يؤوس أي : كثير اليأس الذي هو : القنوط بانقطاع الرجاء ، وجملة : (إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) : جواب القسم في قوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ) الخ.

٥٢٥

إِنَّهُ لَفَرِحٌ) أي كثير السرور (فَخُورٌ) كثير الفخر والمباهاة ، وهذا علته ظلمة النفس بسبب الكفر والمعاصي ، أما الإنسان المؤمن المطيع لله ورسوله فعلى العكس من ذلك إن أصابته سراء شكر ، وإن أصابته ضراء صبر ، وذلك لما في قلبه من نور الإيمان وفي نفسه من زكاة الأعمال.

هذا ما تضمنه قوله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ (١) صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) (٢) أي لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) عند ربهم وهو الجنة دار السّلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ أن الإنسان قبل أن يطهر بالإيمان والعمل الصالح يكون في غاية الضعف والانحطاط النفسي.

٢ ـ ذم اليأس والقنوط (٣) وحرمتهما.

٣ ـ ذم الفرح بالدنيا والفخر بها.

٤ ـ بيان كمال المؤمن الروحي المتمثل في الصبر والشكر وبيان جزائه بالمغفرة والجنة.

(فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤))

__________________

(١) يعني المؤمنين مدحهم بالصبر على الشدائد وهو استثناء من لفظ الإنسان الذي هو بمعنى الناس ، فالاستثناء متصل وليس بمنقطع.

(٢) (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) مبتدأ وخبر ، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أجر : معطوف وكبير : نعت.

(٣) لقول الله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

٥٢٦

شرح الكلمات :

(فَلَعَلَّكَ) : للاستفهام الإنكاري أي لا يقع منك ترك ولا يضق صدرك.

(ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) : أي بتلاوته عليهم كراهية أن يقولوا كذا وكذا ..

(كَنْزٌ) : مال كثير تنفق منه على نفسك وعلى أتباعك.

(وَكِيلٌ) : أي رقيب حفيظ.

(افْتَراهُ) : اختلقه وكذبه.

(مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) : من قدرتم على دعائهم لإعانتكم.

(فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) : أي أسلموا لله بمعنى انقادوا لأمره وأذعنوا له.

معنى الآيات :

بعد أن كثرت مطالبة المشركين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحول لهم جبال مكة ذهبا في اقتراحات منها لو لا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها قال تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) (١) أي لا تتلوه على المشركين ولا تبلغهم إياه لتهاونهم به وإعراضهم عنه (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) أي بالقرآن ، كراهة أن تواجههم به فيقولوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) (٢) أي مال كثير يعيش عليه فيدل ذلك على إرسال الله له (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) يدعو بدعوته ويصدقه فيها ويشهد له بها فلا ينبغي أن يكون ذلك منك أي فبلغ ولا يضق صدرك (إِنَّما أَنْتَ (٣) نَذِيرٌ) أي محذر عواقب الشرك والكفر والمعاصي ، والله الوكيل على كل شيء أي الرقيب الحفيظ أما أنت فليس عليك من ذلك شيء.

وقوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي بل يقولون افتراه أي افترى القرآن وقاله من نفسه بدون ما أوحي إليه ، قل في الرد عليهم (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ) (٤) دعوتهم لإعانتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أني افتريته ، فإن لم تستطيعوا ولن

__________________

(١) (فَلَعَلَّكَ ..) الخ كلام معناه : الاستفهام أي : هل أنت تارك ما فيه سبّ آلهتهم كما سألوك؟ إذ ورد أنهم قالوا له : لو أتيتنا بكتاب ليس فيه سبّ آلهتنا لاتبعناك.

(٢) أي : هلا فهي للتحضيض وليست للامتناع.

(٣) القصر هنا إضافي إذ معناه أنه مقصور على الإنذار وليس عليه هداية القلوب.

(٤) أي : كالكهنة والأعوان والأصنام إذ يعتقدون أنها تنصرهم وتدفع عنهم وإلّا لما عبدوها مع الله تعالى.

٥٢٧

تستطيعوا فتوبوا إلى ربكم وأسلموا له.

وقوله (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) (١) أي قل لهم يا رسولنا فإن لم يستجب لنصرتكم من دعوتموه وعجزتم (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (٢) أي أنزل القرآن متلبسا بعلم الله وذلك أقوى برهان على أنه وحيه وتنزيله (وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٣) أي وأنه لا إله إلا الله ولا معبود بحق سواه ، وأخيرا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي أسلموا بعد قيام الحجة عليكم بعجزكم ، وذلك خير لكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ولاية الله لرسوله وتسديده له وتأييده.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون من عناد في الحق ومكابرة.

٣ ـ بيان أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكلّف هداية الناس وإنما كلف إنذارهم عاقبة كفرهم وعصيانهم ، وعلى الله تعالى بعد ذلك مجازاتهم.

٤ ـ تحدي الله تعالى منكري النبوة والتوحيد بالإتيان بعشر سور من مثل القرآن فعجزوا وقامت عليهم الحجة وثبت أن القرآن كلام الله ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله وأن الله لا إله إلا هو.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ (٤)

__________________

(١) الاستجابة هنا : بمعنى الإجابة والسين والتاء فيه للتأكيد.

(٢) العلم : الاعتقاد اليقيني ، أي : فأيقنوا أنّ القرآن ما أنزل إلّا بعلم الله أي : ملابسا له.

(٣) معطوف على جملة : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) أي : واعلموا أيضا موقنين أنه لا إله إلا الله. حيث قامت الحجة عليهم بعجز آلهتهم عن الاتيان بعشر سور من مثل القرآن.

(٤) روى مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار).

٥٢٨

مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١٧))

شرح الكلمات :

زينة الحياة الدنيا : المال والولد وأنواع اللباس والطعام والشراب.

(نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) : نعطهم نتاج أعمالهم وافيا.

(لا يُبْخَسُونَ) : أي لا ينقصون ثمرة أعمالهم.

(وَحَبِطَ) : أي بطل وفسد.

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي على علم يقيني.

(وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) : أي يتبعه.

(كِتابُ مُوسى) : أي التوراة.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) : أي بالقرآن.

(فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) : أي مكان وعد به فهو لا محالة نازل به.

(فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : أي في شك منه.

معنى الآيات :

لما أقام الله تعالى الحجة على المكذبين بعجزهم عن الإتيان بعشر سور من مثل القرآن مفتريات حيث ادعوا أن القرآن مفترى وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد افتراه ولم يبق إلا أن يختار المرء أحد الطريقين طريق الدنيا أو الآخرة الجنة أو النار فقال تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ) (١) (الدُّنْيا وَزِينَتَها) من مال وولد وجاه وسلطان وفاخر اللباس والرياش.

(نُوَفِ (٢) إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) (٣) نعطهم نتاج عملهم فيها وافيا غير منقوص فعلى قدر جهدهم وكسبهم فيها يعطون ولا يبخسهم عملهم لكفرهم وتركهم ، ثم هم بعد ذلك إن لم يتوبوا

__________________

(١) أي : ممن رفضوا الإسلام وأبوه بعد قيام الحجة على بطلان ما هم عليه من الكفر ورضوا بالكفر بإرادة الحياة الدنيا.

(٢) التوفية : إعطاء الشيء وافيا ، وعدي نوف : بإلى لأنه مضمن معنى : نوصل.

(٣) لفظ (أَعْمالَهُمْ) يشمل الأعمال الخيرية والأعمال الدنيوية فالأعمال الخيرية كصلة الرحم ، وقرى الضيف ، والإحسان إلى الفقراء والمساكين ، فهذه لا يحرمها الكافر بل يجد جزاءها في الدنيا : بركة في ماله وولده وحياته ، وأمّا الأعمال الدنيوية كالصناعة والزراعة والتجارة فهذه يوفى قدر جهده فيها ، فبقدر ما يبذل من طاقة يحصل له من الكسب والربح والانتاج فكفره لا يمنعه نتاج عمله بقدر ما يبذل فيه.

٥٢٩

إلى ربهم. هلكوا كافرين ليس لهم إلا النار (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا) (١) في هذه الدار من أعمال وبطل ما كانوا يعملون.

هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٥ والثانية ١٦) وهو قوله تعالى (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٧) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) (٢) بما أوحى إليه من القرآن وما حواه من الأدلة والبراهين على توحيد الله ونبوة رسوله ، وعلى المعاد الآخر ، وقوله (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي ويتبع ذلك الدليل دليل آخر وهو لسان الصدق الذي ينطق به وكمالاته الخلقيّة والروحية حيث نظر إليه اعرابي فقال والله ما هو بوجه كذّاب ، ودليل ثالث في قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) أي التوراة (إِماماً وَرَحْمَةً) شاهد له حيث حمل نعوت الرسول وصفاته ونعوت أمته وصفاتها في غير موضع منه أفمن هو على هذه البينات والدلائل والبراهين من صحة دينه ، كمن لا دليل له ولا برهان إلا التقليد للضلال والمشركين ، وقوله (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي أولئك الذين ثبتت لديهم تلك البيّنات والحجج والبراهين (يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالقرآن الحق والنبي الحق والدين الحق. وقوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ) أي بالقرآن ونبيه ودينه من الأحزاب (٣) أي من سائر الطوائف والأمم والشعوب فالنار موعده ، وحسبه جهنم وبئس المصير. (٤)

وقوله تعالى (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) (٥) أي فلا تك في شك منه أي في أن موعد من يكفر به من الأحزاب النار. وقوله (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي (٦) القرآن الذي كذّب به المكذبون وما تضمنه من الوعد والوعيد ، والدين الحق كل ذلك هو الحق الثابت من ربك ، إلا أن (أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) وإن ظهرت الأدلة ولاحت الأعلام وقويت البراهين.

__________________

(١) أعمال الكفار في الدنيا خيرية كانت أو دنيوية تذهب في الدار الآخرة هباء كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

(٢) اختلف في عود الضمائر في هذه الآية اختلافا كثيرا ، وقد اخترنا في التفسير عودها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا مانع من عودها على كل مؤمن صادق الإيمان ، بقرينة الخبر وهو قوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وهم الفريق الذين أسلموا لمّا شاهدوا الحجج والبراهين.

(٣) أظهرهم : المشركون واليهود ، والنصارى والصابئة والمجوس.

(٤) لأنهم لم يزكّوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح فلذا فلا مأوى لهم إلّا النّار.

(٥) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكل مؤمن أي : لا يشكنّ مؤمن في أن القرآن حق وأنّ ما أخبر به عن الكافرين من أنّ مأواهم النار حق.

(٦) جملة : (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مستأنفة مؤكدة لجملة : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ).

(٧) لما سبق في علم الله وما قضى به قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

٥٣٠

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة وهي أن الكفر غير مانع من أن ينتج الكافر بحسب جهده من كسب يده فيحصد إذ زرع ، ويربح إذا اتجر ، وينتج إذا صنع.

٢ ـ بيان أن الكافر لا ينتفع من عمله في الدنيا ولو كان صالحا وأن الخسران لازم له.

٣ ـ المسلمون على بينة من دينهم ، وسائر أهل الأديان الأخرى لا بينة لهم وهم في ظلام التقليد وضلال الكفر والجهل.

٥ ـ بيان سنة الله في الناس وهي أن أكثرهم لا يؤمنون.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (١٩) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي لا أحد فالاستفهام للنفي.

(يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) : أي يوم القيامة.

(الْأَشْهادُ) : جمع شاهد وهم هنا الملائكة.

(لَعْنَةُ اللهِ) : أي طرده وإبعاده.

(عَلَى الظَّالِمِينَ) : أي المشركين.

٥٣١

(سَبِيلِ اللهِ) : أي الإسلام.

(عِوَجاً) : أي معوجة.

(مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) : أي الله عزوجل أي فائتين بل هو قادر على أخذهم في أيّة لحظة.

(مِنْ أَوْلِياءَ) : أي أنصار يمنعونهم من عذاب الله.

(وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) : ذلك لفرط كراهيتهم للحق فلا يستطيعون سماعه ، ولا رؤيته.

معنى الآيات :

بعد أن قرر تعالى مصير المكذبين بالقرآن ومن نزل عليه وما نزل به من الشرائع ذكر نوعا من إجرام المجرمين الذين استوجبوا به النار فقال عزوجل (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا أحد في الناس أعظم ظلما من أحد افترى على الله كذبا ما من أنواع (١) الكذب وإن قل وقوله (أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ) أي أولئك الكذبة يعرضون يوم القيامة على ربهم جل جلاله في عرصات القيامة ، ويقول الأشهاد من الملائكة شاهدين (٢) عليهم (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ) ثم يعلن معلن قائلا (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى) (٣) (الظَّالِمِينَ) أي ألا بعدا لهم من الجنة وطردا لهم منها إلى نار جهنم.

ثم وضح تعالى نوع جناياتهم التي استوجبوا بها النار فقال (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٤) أي يصرفون أنفسهم وغيرهم عن الدين الإسلامي ، (وَيَبْغُونَها) أي سبيل الله (عِوَجاً) أي معوجة كما يهوون ويشتهون فهم يريدون الإسلام أن يبيح لهم المحرمات من الربا والزنى والسفور ، ويريدون من الإسلام أن يأذن لهم في عبادة القبور والأشجار والأحجار إلى غير ذلك ، ويضاف إلى هذا ذنب أعظم وهو كفرهم بالدار الآخرة. قال تعالى (أُولئِكَ) أي المذكورون (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي لم يكن من شأنهم

__________________

(١) من أنواع كذبهم على الله تعالى : زعمهم أنّ له شريكا وولدا ، وقولهم في الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وتحريمهم ما أحلّ الله ونسبة ذلك إليه تعالى.

(٢) ومن الأشهاد : الأنبياء والعلماء والمبلغون لدعوة الله تعالى لعباده وفي صحيح مسلم : (وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم).

(٣) (لَعْنَةُ اللهِ) : أي : بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها.

(٤) يجوز أن يكون : (الَّذِينَ) مجرورا لمحل نعتا للظالمين ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر ، والمبتدأ محذوف. أي : هم الذين يصدّون.

٥٣٢

ومهما رأوا أنفسهم أقوياء أن يعجزوا الله تعالى في الأرض فإنه مدركهم مهما حاولوا الهرب (١) ومنزل بهم عذابه متى أراد ذلك لهم ، وليس لهم من دون الله من أولياء أي أنصار يمنعونهم من العذاب متى أنزله بهم ، وقوله تعالى (يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ) إخبار منه بأن هؤلاء الظالمين يضاعف لهم العذاب يوم القايمة لأنهم صدوا غيرهم عن سبيل الله فيعذبون بصدهم أنفسهم عن الإسلام ، وبصد غيرهم عنه ، وهذا هو العدل وقوله تعالى فيهم (ما كانُوا (٢) يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) إخبار بحالهم في الدنيا انهم كانوا لشدة كراهيتهم للحق ولأهله من الداعين إليه لا يستطيعون سماعه ولا رؤيته ولا رؤية أهله القائمين عليه والداعين إليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عظم ذنب من يكذب على الله تعالى بنسبة الولد أو الشريك إليه أو بالقول عليه بدون علم منه.

٢ ـ عظم جرم من يصد عن الإسلام بلسانه أو بحاله ، أو سلطانه.

٣ ـ عظم ذنب من يريد إخضاع الشريعة الإسلامية لهواه وشهواته بالتأويلات الباطلة والفتاوى غير المسؤولة ممن باعوا آخرتهم بدنياهم.

٤ ـ بيان أن من كره قولا أو شخصا لا يستطيع رؤيته ولا سماعه. (٣)

(أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يعجزوني أن آمر الأرض فتنخسف بهم ، وفي سورة سبأ (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ).

(٢) (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ ..) قال القرطبي ما : في موضع نصب على أن يكون المعنى بما كانوا يستطيعون السمع.

يريد أن الباء المحذوفة سببية أي : يضاعف لهم العذاب بسبب أنهم كانوا لا يستطيعون السمع لما ران على قلوبهم من الآثام فحجب الإثم أسماعهم وأبصارهم ، وفي المثل : حبّك الشيء يعمي ويصم ، فحبّهم للكفر والشرك والآثام عطّل حواسهم.

(٣) أقول : ما كنت أدرك المعنى الحقيقي لقوله تعالى : (ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ) حتى كان صوت العرب على عهد بطل الاشتراكية «عبد الناصر» وأخذ يسبّ ويشتم ويعيّر ويقبّح سلوك كل من لم يوال الاشتراكيين فكنت ـ والله ـ لا أستطيع سماع ما يذيعه ، وثمّ فهمت معنى الآية على حقيقته.

٥٣٣

الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٣) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي غاب عنهم ما كانوا يدعونه من شركاء لله تعالى.

(لا جَرَمَ) : أي حقا وصدقا أنهم في الآخرة هم الأخسرون.

(وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) : أي تطامنوا أو خشعوا لربهم بطاعته وخشيته.

(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) : أي فريق المؤمنين وفريق الكافرين.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون ، فتستغفروا ربكم ثم تتوبوا إليه.؟

معنى الآيات :

ما زال السياق في تحديد المجرمين وبيان حالهم في الآخرة فقال تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث استقروا في دار الشقاء فخسروا كل شيء حتى أنفسهم ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وغاب عنهم ما كانوا يزعمون أن لهم شركاء ، وأنهم يشفعون لهم وينصرونهم قال تعالى : (لا جَرَمَ) (١) أي حقا (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي في دار الآخرة (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أي الأكثر خسرانا من غيرهم لأنهم أضافوا إلى جريمة كفرهم جريمة تكفير غيرهم ممن كانوا يدعونهم إلى الضلال ، ويصدونهم عن الإسلام سبيل الهدى والنجاة من النار. ولما ذكر تعالى حال الكافرين وما انتهوا إليه من خسران. ذكر تعالى حال المؤمنين فقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) أي آمنوا بالله وبوعده ووعيده. وآمنوا برسول الله وبما جاء به ، وعملوا الصالحات التي شرعها الله

__________________

(١) (لا جَرَمَ) كلمة : جزم ويقين ، واختلف في تركيبها وأظهر أقوالهم فيها : أن تكون لا : حرف نفي ، وجزم : بمعنى محالة. ويصح معنى الكملة. لا محالة أو : لا بدّ أن يكون كذا وكذا ، أو لتفسّر بحقا ، ولا محالة ولا بد ، إذ جرم مأخوذ من الجرم الذي هو القطع.

(٢) الموصول : اسم إنّ ، وآمنوا : صلة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) معطوفان على الاسم ، والخبر : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وجملة (هُمْ فِيها خالِدُونَ) جملة بيانية أي مبيّنة لحال أهل الجنة.

٥٣٤

تعالى لهم من صلاة وزكاة (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) أي أسلموا له وجوههم وقلوبهم وانقادوا له بجوارحهم فتطامنوا وخشعوا أؤلئك أي السامون أصحاب الجنة أي أهلها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لا يبرحون منها ولا يتحولون عنها ، هذا ما دلت عليه الآيات الثلاث أما الآية الرابعة (٢٤) وهي قوله تعالى (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى (١) وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً)؟ فقد ذكر تعالى مقارنة بين أهل الشرك وأهل التوحيد توضيحا للمعنى وتقريرا للحكم فقال (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ) أي صفة الفريقين الموضحة لهما هي كالأعمى والأصم وهذا فريق الكفر والظلم والسميع والبصير. وهذا فريق أهل الإيمان والتوحيد فهل يستويان مثلا أي صفة الجواب لا ، لأن بين الأعمى والبصير تباينا كما بين الأصم والسميع تباينا فأي عاقل يرضى أن يكون العمى والصمم وصفا له ولا يكون البصر والسمع وصفا له؟ والجواب لا أحد إذا (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أفلا تتعظون بهذا المثل (٢) وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وتوحدوا وتؤمنوا برسوله وتتبعوه ، وبكتابه وتعملوا بما فيه؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استحسان المقارنات بين الأشياء المتضادة للعبرة والاتعاظ.

٢ ـ الكافر ميت موتا معنويا فلذا هو لا يسمع ولا يبصر ، والمسلم حيّ فلذا هو سميع بصير.

٣ ـ بيان ورثة دار النعيم وهم أهل الإيمان والطاعة ، وورثة دار الخسران وهم أهل الكفر والظلم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ

__________________

(١) فريق الإيمان ، وفريق الكفر والشرك.

(٢) المثل الذي كشف الحقيقة وبيّن أنّ الكفار عمي صم ، وأنّ المؤمنين يبصرون ويسمعون ، فأي عاقل يرضى أسوأ الوصفين؟!

٥٣٥

الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (٢٧))

شرح الكلمات :

(نُوحاً) : هو العبد الشكور أبو البشرية الثاني نوح عليه‌السلام.

(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي مخوف لكم من عذاب الله بيّن النذارة.

(عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) : هو عذابه يوم القيامة.

(الْمَلَأُ) : الأشراف وأهل الحل والعقد في البلاد.

(أَراذِلُنا) (١) : جمع أرذل وهو الأكبر خسة ودناءة.

(بادِيَ الرَّأْيِ) : أي ظاهر الرأي ، لا عمق عندك في التفكير والتصور للأشياء.

معنى الآيات :

هذه بداية قصة نوح عليه‌السلام وهي بداية لخمس قصص (٢) جاءت في هذه السورة سورة هود عليه‌السلام قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً (٣) إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ (٤) مُبِينٌ) أي قال لهم إني لكم نذير مبين أي بين النذارة أي أخوفكم عاقبة كفركم بالله وبرسوله وشرككم في عبادة ربكم الأوثان والأصنام. وقوله (أَنْ لا تَعْبُدُوا (٥) إِلَّا اللهَ) أي نذير لكم بأن لا تعبدوا إلا الله ، وتتركوا عبادة غيره من الأصنام والأوثان وقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) علل لهم أمرهم بالتوحيد ونهيهم عن الشرك بأنه يخاف عليهم إن أصروا على كفرهم وتركهم عذاب يوم أليم (٦) وهو عذاب يوم القيامة (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي فرد على نوح ملأ قومه اشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم ممن كفروا بالله ورسوله فقالوا (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) (٧) أي لا فضل لك علينا فكيف تكون رسولا لنا ونحن مثلك هذا

__________________

(١) الأرذل : اسم تفضيل والمفضّل عنه يقال له : رذل ككلب ويجمع على أرذل كأكلب.

(٢) هذا العطف من باب عطف قصّة على قصّة : الواو : تسمى الواو الابتدائية.

(٣) كسرت : إنّ لأنّ الإرسال فيه معنى القول وإن تكسر بعد القول.

(٤) القصّة : بكسر القاف والجمع : قصص كحجّة وحجج : الخبر يروى وتتتّبع أجزاؤه بعناية ، والقصص بفتح القاف : مصدر قصّ الحديث يقصّه قصا.

(٥) هذه الجملة مفسّرة لجملة (أَرْسَلْنا نُوحاً) أو لقوله : (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

(٦) وجائز أن يكون (عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) في الدنيا وهو عذاب الطوفان وقد كان.

(٧) (مِثْلَنا) : منصوب على الحال.

٥٣٦

أولا وثانيا (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا) أي سفلتنا من (١) أهل المهن المحتقرة كالحياكة والحجامة والجزارة ونحوها وقولهم (٢) بادي الرأي أي ظاهر الرأي لا عمق في التفكير ولا سلامة في التصور عندك وقولهم (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) أي وما نرى لكم علينا من أي فضل تستحقون به أن نصبح أتباعا لكم فنترك ديننا ونتبعكم على دينكم بل نظنكم كاذبين فيما تقولون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إن نوحا واسمه عبد الغفار أول رسول إلى أهل الأرض بعد أن أشركوا بربهم وعبدوا غيره من الأوثان والآلهة الباطلة.

٢ ـ قوله أن لا تعبدوا إلا الله هو معنى لا إله إلّا الله

٣ ـ التذكير بعذاب يوم القيامة.

٤ ـ اتباع الرسل هم الفقراء والضعفاء وخصومهم الأغنياء والأشراف والكبراء.

٥ ـ احتقار أهل الكبر لمن دونهم. وفي الحديث «الكبر (٣) بطر الحق وغمط الناس».

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (٢٨) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣٠) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا

__________________

(١) قال القرطبي : اختلف في السفلة فقيل : هم الذين يتقلسون ويأتون أبواب القضاة والسلاطين يطلبون الشهادات ، وقال مالك : السفلة : الذين يسبون الصحابة. وقال آخر : الذين يأكلون على حساب دينهم.

(٢) ومنه البادية وهي الأراضي الظاهرة لا تحوطها مبان ولا بساتين ولا مصانع.

(٣) الحديث في الصحيح فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنّ الله لا يدخل الجنة منّ كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر) فسئل عن الكبر فقال : الكبر : بطر الحق وغمط الناس) وبطر الحق : عدم قبوله ، وغمط الناس : احتقارهم.

٥٣٧

أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٣١))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) : أي على علم علمنيه الله فعلمت أنه لا إله إلا الله.

(فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) : أي خفيت عليكم فلم تروها.

(أَنُلْزِمُكُمُوها) : أي أجبركم على قبولها.

(بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي بمبعدهم عني ومن حولي.

(خَزائِنُ اللهِ) : التي فيها الفضل والمال.

(تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) : تحتقر أعينكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة نوح مع قومه فأخبر تعالى أن نوحا قال لقومه أرأيتم أي أخبروني إن كنت على بيّنة من ربي أي على علم يقيني تعالى وبصفاته وبما أمرنى به من عبادته وتوحيده والدعوة إلى ذلك. وقوله (وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) وهي الوحي والنبوة والتوفيق لعبادته. (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أنتم (١) فلم تروها. فما ذا أصنع معكم (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي (٢) أنجبركم أنا ومن آمن بي على رؤيتها والإيمان بها والعمل بهداها ، (وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٣) أي والحال أنكم كارهون لها والكاره للشيء لا يكاد يراه ولا يسمعه ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٨) أما الآية الثانية فإن الله تعالى يخبر أيضا عن قيل نوح لقومه : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) أي لا أطلب منكم أجرا على ابلاغكم هذه الرحمة التي عميت عليكم فلم تروها. (إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أي ما أجري إلا على الله إذ هو الذي كلفني

__________________

(١) قرىء : (عمّيت) بتشديد الميم ، وقرأ ورش بتخفيفها ، ومعناه : إنّ الرسالة عميت عليكم فلم تفهموها. يقال : عميت عن كذا ، وعمي عليّ كذا : أي : لم أفهمه.

(٢) (أَنُلْزِمُكُمُوها) أي : الرحمة التي هي عبادة الله وحده وترك عبادة سواه والاستفهام انكاري. أي : ما كان لي ذلك والحال أنكم كارهون لها.

(٣) قال قتادة : والله لو استطاع نبي الله نوح عليه‌السلام لألزمها قومه. ولكنّه لم يملك ذلك.

٥٣٨

بالعمل بها والدعوة إليها وواعدني بالأجر عليها. وقوله (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وما أنا بمطيعكم في طرد المؤمنين من حولي كما اقترحتم عليّ ، إنهم ملاقو ربهم ، ومحاسبهم ومجازيهم على أعمالهم فكيف يصح مني ابعادهم عن سماع الحق وتعلمه والأخذ به ليكملوا ويسعدوا إذ العبرة بزكاة النفوس وطهارة الأرواح بواسطة الإيمان والعمل الصالح لا بالشرف والمال والجاه كما تتصورون ولذا فأني أراكم قوما تجهلون هذا ما دلت عليه الآية الثانية (٢٩) ثم قال لهم في الآية الثالثة (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي (١) مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) أي من هو الذي يرد عني عذاب الله ويمنعني منه إن أنا عصيته فطردت أي أقصيت وأبعدت عباده المؤمنين عن سماع الهدى وتعلم الخير ولا علة لذلك إلا لأنهم فقراء ضعفاء تزدريهم أعينكم المريضة التي لا تقدر على رؤية الحق وأهله والداعين إليه. ثم قال لهم (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢) أي تتفكرون فتعلمون خطأكم وجهلكم فتثوبوا إلى رشدكم. وتتوبوا إلى ربكم فتؤمنوا به وبرسوله وتعبدوه وحده لا شريك له ثم قال لهم في الآية الأخيرة (٣١) (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) (٣) ردا على قولهم : (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) ولا أعلم الغيب فأعرف ما تخفيه صدور الناس فأطرد هذا وأبقي هذا ، ولا أقول إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) (٤) لفقرهم وضعفهم (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ) أي من صدق أو نفاق ومن حب لي أو بغض كأنهم طعنوا في المؤمنين واتهموهم بأنهم ينافقون أولهم أغراض فاسدة أو أطماع مادية من أجلها التفوا حول نوح ، وقوله (إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إني إذا قلت للمؤمنين من الضعفاء لن يؤتيكم الله خيرا كنت بعد ذلك من الظالمين (٥) الذين يعتدون على الناس بهضمهم حقوقهم وامتهان كرامتهم.

هداية الآيات :

__________________

(١) أي : من يرد عنّي عذابه إن استوجبته بطرد عباده المؤمنين؟ والجواب : لا أحد فكيف إذا يسوغ لي أن أطردهم كما ترغبون.

(٢) (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) قرىء : تذكّرون بحذف إحدى التائين وقرىء تذّكرون : بتشديد الذال ، بادغام إحدى التائين في الأخرى. والاستفهام للإنكار أي : ينكر عليهم غفلتهم وجهلهم وعدم تذكرهم ليتّعظوا.

(٣) أخبر عليه‌السلام بتذلله وتواضعه لربّه عزوجل فنفى عن نفسه القدرة على امتلاك خزائن الفضل والمال كما نفى عن نفسه علم الغيب وأن يكون ملكا من الملائكة.

(٤) أي : تحتقر أعينكم. والأصل : تزدريهم ، حذفت الهاء والميم لطول الاسم ، والازدراء : افتعال من الزري الذي هو الاحتقار ، وإلصاق العيب فالازدراء أصله الازتراء فقلبت فيه التاء دالا فصار : الازدراء كما قلبت في : الازدياد.

(٥) في قوله : (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) : تعريض بقومه ، فوصفهم بالظلم من حيث لا يشعرون.

٥٣٩

من هداية الآيات :

١) كره الشيء يجعل صاحبه لا يراه ولا يسمعه ولا يفهم ما يقال له فيه.

٢) كراهية أخذ الأجرة على الدعوة والتربية والتعليم الديني.

٣) وجوب احترام الضعفاء وإكرامهم وحرمة احتقارهم وازدرائهم.

٤) علم الغيب استأثر الله تعالى به دون سائر خلقه إلا من علمه الله شيئا منه فإنه يعلمه.

٥) حرمة غمط الناس وازدرائهم والسخرية منهم.

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤))

شرح الكلمات :

(جادَلْتَنا) : أي خاصمتنا تريد إسقاطنا وعدم اعتبارنا في ديننا وما نحن عليه.

(بِما تَعِدُنا) : أي من العذاب إن لم نؤمن بما تدعونا إليه.

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : أي في دعواك النبوة والإخبار عن الله عزوجل.

(بِمُعْجِزِينَ) : أي بغالبين ولا فائتين الله تعالى متى أراد الله عذابكم.

(نُصْحِي) : أي بتخويفي إياكم عذاب ربكم إن بقيتم على الكفر به وبلقائه ورسوله.

(أَنْ يُغْوِيَكُمْ) : أي يوقعكم في الضلال ويبقيكم فيه فلا يهديكم أبدا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة نوح عليه‌السلام مع قومه فأخبر تعالى عن قول قوم نوح له عليه

٥٤٠