أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

شرح الكلمات :

(بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) : البصائر جمع بصيرة : والمراد بها هنا الآيات المعرفة بالحق المثبتة له بطريق الحجج العقلية فهي في قوة العين المبصرة لصاحبها.

(بِحَفِيظٍ) : وكيل مسئول.

(نُصَرِّفُ الْآياتِ) : نجريها في مجاري مختلفة تبيانا للحق وتوضيحا للهدى المطلوب.

(وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) : أي تعلمت وقرأت لا وحيا أوحي إليك.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) : أي لا تلتفت إليهم وامض في طريق دعوتك.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) : أي لو شاء أن يحول بينهم وبين الشرك حتى لا يشركوا لفعل وما أشركوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية المشركين وبيان الطريق لهم ففي هذه الآية يقول (قَدْ جاءَكُمْ) أي أيها الناس (بَصائِرُ مِنْ (١) رَبِّكُمْ) وهي آيات القرآن الموضحة لطريق النجاة (فَمَنْ أَبْصَرَ) بها وهي كالعين المبصرة (فَلِنَفْسِهِ) إبصاره إذ هو الذي ينجو ويسعد (وَمَنْ عَمِيَ) فلم يبصر فعلى نفسه عماه إذ هي التي تهلك وتشقى وقل لهم يا رسولنا (ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) أي بوكيل مسئول عن هدايتكم ، وفي الآية الثانية (١٠٥) يقول تعالى : (وَكَذلِكَ (٢) نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي بنحو ما صرفناها من قبل في هذا القرآن نصرفها كذلك لهداية مريدي الهداية والراغبين (٣) فيها أما غيرهم فسيقولون درست (٤) وتعلمت من غيرك حتى يحرموا الإيمان

__________________

(١) (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ) أي حجج وبينات ووصفها بالمجيء لتضخيم شأنها واكباره.

(٢) (كَذلِكَ) الكاف في محل نصب أي مثل أي نصرف الآيات : مثل ذلك التصريف.

(٣) وهم المذكورون في الآية ولنبيننه لقوم يعلمون.

(٤) قرىء دارست أي ذاكرت أهل الكتاب وتعلمت عنهم ولم يوح إليك شيء واللام في قوله وليقولوا درست هي لام العاقبة كما يقال كتب فلان هذا الكتاب لحتفه ، وفي القرآن (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً).

١٠١

بك وبرسالتك والعياذ بالله تعالى ، وفي الآية الثالثة (١٠٦) يأمر الله تعالى رسوله باتباع ما يوحى إليه من الحق والهدى ، والإعراض عن المشركين المعاندين الذين يقولون درست حتى لا يأخذوا بما آتيتهم به ودعوتهم إليه من آيات القرآن الكريم إذ قال تعالى له : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١) وفي الآية الرابعة (١٠٧) يسلي الرب تعالى رسوله ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته ومحاربته فيها فيقول له : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) (٢) أي لو يشاء الله عدم إشراكهم لما قدروا على أن يشركوا إذا فلا تحزن عليهم ، هذا أولا ، وثانيا (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) تراقبهم وتحصي عليهم أعمالهم وتجازيهم بها ، وما أرسلناك عليهم وكيلا تتولى هدايتهم بما فوق طاقتك (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) وقد بلغت إذا فلا أسى ولا أسف!!

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ آيات القرآن بصائر من يأخذ بها يبصر طريق الرشاد وينجو ويسعد.

٢ ـ ينتفع بتصريف الآيات وما تحمله من هدايات العالمون لا الجاهلون وذلك لقوله تعالى في الآية الثانية (١٠٥) (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).

٣ ـ بيان الحكمة في تصريف الآيات وهي هداية من شاء الله هدايته.

٤ ـ وجوب اتباع الوحي المتمثل في الكتاب والسنة النبوية.

٥ ـ بيان بطلان مذهب القدرية «نفاة القدر».

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ

__________________

(١) هذا منسوخ بآية الجهاد.

(٢) في الآية دليل على إبطال مذهب القدرية وهم نفاة القدر والزاعمون أن أفعال العباد لم تقدر عليهم وإنما هم الخالقون لها بدون إذن الله وإرادته.

١٠٢

لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠))

شرح الكلمات :

(وَلا تَسُبُّوا) : ولا تشتموا آلهة المشركين حتى لا يسبوا الله تعالى.

(عَدْواً) : ظلما.

(زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) : حسناه لهم خيرا كان أو شرا حتى فعلوه.

(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي غاية اجتهادهم في حلفهم بالله.

(آيَةٌ) : معجزة كإحياء الموتى ونحوها.

(وَما يُشْعِرُكُمْ) : وما يدريكم

(وَنَذَرُهُمْ) : نتركهم.

(يَعْمَهُونَ) : حيارى يترددون.

معنى الآيات :

عند ما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصبح يصدع بالدعوة جهرا بعد ما كانت سرا أخذ بعض أصحابه يسبون أوثان المشركين ، فغضب لذلك المشركون وأخذوا يسبون الله تعالى إله المؤمنين وربهم فنهاهم تعالى عن ذلك أي عن سب آلهة المشركين بقوله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي لا تسبوا آلهتهم (فَيَسُبُّوا (١) اللهَ عَدْواً) (٢) أي ظلما واعتداء بغير علم ، إذ لو علموا جلال الله وكماله لما سبوه ، وقوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) بيان منه تعالى لسنته في خلقه وهي أن المرء إذا أحب شيئا ورغب فيه وواصل ذلك الحب وتلك الرغبة يصبح زينا له ولو كان في الواقع شينا. ويراه حسنا وإن كان في حقيقة الأمر

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغضّ منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه. فنزلت الآية وهذا الحكم باق إلى نهاية الحياة فإن كان سب المؤمن الكافر يؤدي إلى سب الله تعالى أو رسوله فلا يحل للمؤمن أن يسب الكافر أو دينه.

(٢) وقرىء عدوا بضم العين والدال ومعنى القراءتين واحد وهو الجهل والإعتداء الذي هو الظلم.

١٠٣

قبيحا ، ومن هنا كان دفاع المشركين عن آلهتهم الباطلة من هذا الباب فلذا لم يرضوا أن تسب لهم وهددوا الرسول والمؤمنين بأنهم لو سبوا آلهتهم لسبوا لهم إلههم وهو الله تعالى ، وقوله تعالى (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يخبر تعالى أن مرجع الناس المزين لهم أعمالهم خيرها وشرها ورجوعهم بعد نهاية حياتهم إلى الله ربهم فيخبرهم بأعمالهم ويطلعهم عليها ويجزيهم بها الخير بالخير والشر بالشر. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٨) وأما الآيتان الثانية (١٠٩) والثالثة (١١٠) فقد أخبر تعالى أن المشركين أقسموا (١) بالله أبلغ أيمانهم وأقصاها أنهم إذا جاءتهم آية كتحويل جبل الصفا إلى ذهب آمنوا عن آخرهم بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته واتبعوه على دينه الذي جاء به ، قال هذا رؤساء المشركين ، والله يعلم أنهم إذا جاءتهم الآية لا يؤمنون ، فأمر رسوله أن يرد عليهم قائلا : (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) هو الذي يأتي بها إن شاء أما أنا فلا أملك ذلك. إلا أن المؤمنين من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغبوا في مجيء الآية حتى يؤمن المشركون وينتهي الصراع الدائر بين الفريقين فقال تعالى لهم : (وَما يُشْعِرُكُمْ) (٢) أيها المؤمنون (أَنَّها إِذا (٣) جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وما يدريكم أن الآية لو جاءت لا يؤمن بها المشركون؟ وبين علة عدم إيمانهم فقال : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) فلا تعي ولا تفهم (وَأَبْصارَهُمْ) فلا ترى ولا تبصر. فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة لما دعوا إلى الإيمان به (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي ونتركهم في شركهم وظلمهم حيارى يترددون لا يعرفون الحق من الباطل ولا الهداية من الضلال.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة قول أو فعل ما يتسبب (٤) عنه سب الله ورسوله.

٢ ـ بيان سنة الله في تزيين الأعمال لأصحابها خيرا كانت أو شرا.

٣ ـ بيان أن الهداية بيد الله تعالى وأن المعجزات قد لا يؤمن عليها من شاهدها.

__________________

(١) في هذا دليل الموادعة والأخذ بمبدأ سد الذرائع.

(٢) كان المشركون يحلفون بآلهتهم ، وإذا حلفوا بالله كان ذلك أقصى أيمانهم وأشدها. وهنا مسألة لو قال المرء الأيمان تلزمه ثم حنث فإن عليه إطعام ثلاثين مسكينا لأن أقل الجمع ثلاثة ، وإن لم يكن له مال صام تسعة أيام.

(٣) الإشعار مصدر أشعره إذا أعلمه بأمر من شأنه أن يخفى ويدق.

(٤) قرئت إنها بكسر الهمزة على الاستئناف فيكون الكلام قد انتهى عند قوله وما يشعركم ويكون المعنى وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت ثم قال إنها إذا جاءت لا يؤمنون. فذكر علة عدم إيمانهم بقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم.

١٠٤

الجزء الثامن

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

شرح الكلمات :

(الْمَلائِكَةَ) : أجسام نورانية يعمرون السموات عباد مكرمون لا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.

(الْمَوْتى) : جمع ميت : من فارقته الحياة أي خرجت منه روحه.

(حَشَرْنا) : جمعنا.

(قُبُلاً) : معاينة.

(يَجْهَلُونَ) : عظمة الله وقدرته وتدبيره وحكمته.

(شَياطِينَ) : جمع شيطان : وهو من خبث وتمرد من الجن والإنس.

(يُوحِي بَعْضُهُمْ) : يعلم بطريق سريع خفي بعضهم بعضا.

(زُخْرُفَ الْقَوْلِ) : الكذب المحسن والمزين.

(غُرُوراً) : للتغرير بالإنسان.

(يَفْتَرُونَ) : يكذبون.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) : تميل إليه.

(وَلِيَقْتَرِفُوا) : وليرتكبوا الذنوب والمعاصي.

١٠٥

معنى الآيات :

ما زال السياق في أولئك العادلين بربهم المطالبين بالآيات الكونية ليؤمنوا إذا شاهدوها فأخبر تعالى في هذه الآيات أنه لو نزل إليهم الملائكة من (١) السماء ، وأحيى لهم الموتى فكلموهم وقالوا لهم لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وحشر عليهم كل شىء (٢) أمامهم يعاينونه معاينة أو تأتيهم المخلوقات قبيلا بعد قبيل وهم يشاهدونهم ويقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ما كانوا ليؤمنوا بك ويصدقوك ويؤمنوا بما جئت به إلا أن يشاء (٣) الله ذلك منهم. ولكن أكثر أولئك العادلين بربهم الأصنام والأوثان يجهلون أن الهداية بيد الله تعالى وليست بأيديهم كما يزعمون وأنهم لو رأوا الآيات آمنوا.

هذا ما دلت عليه الآية (١١١) أما الآية الثانية (١١٢) فإن الله تعالى يقول وكما كان لك يا رسولنا من هؤلاء العادلين أعداء يجادلونك ويحاربونك جعلنا لكل نبي أرسلناه أعداء يجادلونه ويحاربونه (شَياطِينَ (٤) الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي (٥) بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي القول المزين بالباطل المحسن بالكذب (غُرُوراً) أي للتغرير والتضليل ، (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) أيها الرسول عدم فعل ذلك الإيحاء والوسواس (ما فَعَلُوهُ) إذا (فَذَرْهُمْ) أي اتركهم (وَما يَفْتَرُونَ) من الكفر والكذب والباطل.

هذا ما دلت عليه الآية الثانية أما الآية الثالثة (١١٣) وهي قوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) هذه الآية بجملها الأربع معطوفة على قوله (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) إذ إيحاء شياطين الجن والإنس (٦) كان

__________________

(١) فرأوهم عيانا.

(٢) أي شيئا سألوه وطلبوه.

(٣) الاستثناء منفصل فهو بمعنى لكن إن شاء الله إيمانهم آمنوا والآية تحمل التسلية والعزاء له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) شياطين الإنس والجن بدل من قوله عدوّا ويصح أن يكون نعتا أيضا.

(٥) يوحي بمعنى يلقى إليه الباطل المزين بطريق الوسواس فيفهم عنه إذ الإيحاء الإعلام السريع الخفي وشاهده من السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما منكم من احد إلّا قد وكل به قرينه من الجن ، قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلّا أن الله أعانني عليه فأسلم».

(٦) روي عن مالك بن دينار أنه قال : شياطين الإنس أشد من شياطين الجن ، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. ويشهد لهذا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع امرأة تنشد :

إن النساء رياحين خلقن لكم

وكلكم يشتهي شم الرياحين

فأجابها عمر رضي الله عنه قائلا :

إن النساء شياطين خلقن لنا

نعوذ بالله من شر الشياطين

١٠٦

للغرور أي ليغتر به المشركون ، (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ) أي تميل (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وهم المشركون العادلون بربهم (وَلِيَرْضَوْهُ) ويقتنعوا به لأنه مموه لهم مزين ، ونتيجة لذلك التغرير والميل إليه وهو باطل والرضا به والاقناع بفائدته فهم يقترفون من أنواع الكفر وضروب الشرك والمعاصي والإجرام ما يقترفون!.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أبدا ، وبهذا تقررت ربوبيته وألوهيته للأولين والآخرين.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل داع إلى الله تعالى بإعلامه أنه ما من نبي ولا داع إلا وله أعداء من الجن والإنس يحاربونه حتى ينصره الله عليهم.

٣ ـ التحذير من التمويه والتغرير فإن أمضى سلاح للشياطين هو التزيين والتغرير.

٤ ـ القلوب الفارغة من الإيمان بالله ووعده وعيده في الدار الآخرة أكثر القلوب ميلا إلى الباطل والشر والفساد.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧))

١٠٧

شرح الكلمات :

(أَبْتَغِي) : أطلب.

(حَكَماً) : الحكم الحاكم ومن يتحاكم إليه الناس.

(أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) : أي أنزله لأجلكم لتهتدوا به فتكملوا عليه وتسعدوا.

(مُفَصَّلاً) : مبينا لا خفاء فيه ولا غموض.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أي علماء اليهود والنصارى.

(الْمُمْتَرِينَ) : الشاكين ، إذ الامتراء الشك.

(صِدْقاً وَعَدْلاً) : صدقا في الأخبار فكل ما أخبر به القرآن هو صدق ، وعدلا في الأحكام فليس في القرآن حكم جور وظلم أبدا بل كل أحكامه عادلة.

(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : أي لا مغير لها لا بالزيادة والنقصان ، ولا بالتقديم والتأخير.

(السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : السميع لأقوال العباد العليم بأعمالهم ونياتهم وسيجزيهم بذلك.

(سَبِيلِ اللهِ) : الإسلام إذ هو المفضي بالمسلم إلى رضوان الله تعالى والكرامة في جواره.

(يَخْرُصُونَ) : يكذبون الكذب الناتج عن الحزر والتخمين

(مَنْ يَضِلُ) : بمن يضل.

(بِالْمُهْتَدِينَ) : في سيرهم إلى رضوان الله باتباع الإسلام الذي هو سبيل الله.

معنى الآيات :

ما زال السياق مع العادلين بربهم الأصنام والأوثان لقد كان المراد في طلبهم الآية الحكم بها على صحة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي الله وأن القرآن كلام الله وأنه لا إله إلا الله ، ولم يكن هذا منهم إلا من قبيل ما توسوس به الشياطين لهم وتزينه لهم تغريرا بهم وليواصلوا ذنوبهم فلا يؤمنون ولا يتوبون ، ومن هنا أنزل تعالى قوله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي (١) حَكَماً). وهو تعليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله للمشركين أأميل إلى باطلكم وأقتنع به فغير الله أطلب حكما بيني

__________________

(١) أفغير منصوب بأبتغي أي آبتغى غير الله؟ وكلما منصوب على الحال أو التمييز المبين لمبهم الابتغاء.

١٠٨

وبينكم في دعواكم أني غير رسول وأن ما جئت به ليس وحيا من الله؟ ينكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحكيم غير ربه تعالى وعلى ما ذا يكون الحكم والله هو الذي أنزل إليهم الكتاب مفصلا فأي آية تغلب القرآن وهو آلاف الآيات هذا أولا وثانيا أهل الكتاب من قبلهم وهم علماء اليهود والنصارى مقرون ومعترفون بأن ما ينفيه المشركون هو حق لا مرية فيه إذا فامض أيها الرسول في طريق دعوتك ولا تكونن من الممترين فإنك عما قريب تظهر على المشركين ، لقد تمت كلمة (١) ربك أي في هذا القرآن الذي أوحي إليك صدقا في كل ما تحمله من أخبار ومن ذلك نصرك وهزيمة أعدائك ، وعدلا في أحكامها التي تحملها ، ولا يستطيع أحد تبديلها بتغيير (٢) لها بإخلاف وعد ولا بإبطال حكم ، وربك هو السميع لأقوال عباده العليم بمقاصدهم وأفعالهم فما أقدره وأضعفهم فلذا لن يكون إلا مراده ويبطل جميع إراداتهم. واعلم يا رسولنا أنك (إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي لو أنك تسمع لهم وتأخذ بآرائهم وتستجيب لاقتراحاتهم لأضلوك قطعا عن سبيل الله ، والعلة أن أكثرهم لا بصيرة له ولا علم حق لديه وكل ما يقولونه هو هوى نفس ، ووسواس شيطان. إنهم ما يتبعون إلا أقوال الظن وما هم فيما يقولون إلا خارصون (٣) كاذبون. وحسبك علم ربك بهم فإنه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة وبطلان التحاكم إلى غير الوحي الإلهي.

٢ ـ تقرير صحة الدعوة الإسلامية بأمرين الأول : القرآن الكريم ، الثاني : شهادة أهل الكتاب ممن أسلموا كعبد الله بن سلام القرظي وأصحمة النجاشي وغيرهم.

٣ ـ ميزة القرآن الكريم : أن أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل.

٤ ـ وعود الله تعالى لا تتخلف أبدا ، ولا تتبدل بتقديم ولا تأخير.

٥ ـ اتباع أكثر الناس يؤدي إلى الضلال فلذا لا يتبع إلا أهل العلم الراسخون فيه لقوله

__________________

(١) قرأ أهل الكوفة كلمة بالإفراد وقرأها الباقون بالجمع كلمات قال ابن عباس رضي الله عنه في كلمات ربك هي مواعيده تعالى.

(٢) كما لا يستطيع أحد تبديل كلماتها وحروفها في القرآن الكريم كما بدلت التوراه والإنجيل بتحريف الكلمات وتغييرها.

(٣) من هذا قيل لمن يقدر كمية التمر في النخل خراص لأنه يقول بدون علم يقيني ـ وإنما بالحدس والتخمين واجازه الشارع للضرورة إليه.

١٠٩

تعالى : (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

شرح الكلمات :

(مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : أي قيل عند ذبحه أو نحره بسم الله والله أكبر.

(فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) : أي بين لكم ما حرم عليكم مما أحل لكم وذلك في سورة النحل.

(إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) : أي ألجأتكم الضرورة وهي خوف الضرر من الجوع.

(بِالْمُعْتَدِينَ) : المتجاوزين الحلال إلى الحرام ، والحق إلى الباطل.

(ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ) : اتركوا : الإثم الظاهر والباطن وهو كل ضار فاسد قبيح.

(يَقْتَرِفُونَ) : يكسبون الآثام والذنوب.

(وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) : أي الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. فسق عن طاعة الله تعالى.

(إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) : أي من الإنس ليخاصموكم في ترك الأكل من الميتة.

(لَمُشْرِكُونَ) : حيث أحلوا لكم ما حرم عليكم فاعتقدتم حله فكنتم

١١٠

بذلك عابديهم وعبادة غير الله تعالى شرك.

معنى الآيات :

مما أوحى به شياطين الجن إلى إخوانهم من شياطين الإنس أن قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين : كيف تأكلون ما تقتلونه أنتم وتمتنعون عن أكل ما يقتله الله؟ فأنزل الله تعالى قوله (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ). (١) فأمر المؤمنين بعدم الاستجابة لما يقوله المشركون ، وقال (وَما لَكُمْ (٢) أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي : أي شيء يمنعكم من الأكل مما ذكر اسم الله عليه؟ (وَقَدْ فَصَّلَ (٣) لَكُمْ) أي بين لكم غاية التبيين (ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) من المطاعم (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي ألجأتكم الضرورة إليه كمن خاف على نفسه الهلاك من شدة الجوع فإنه يأكل مما حرم في حال الإختيار. ثم أعلمهم أن كثيرا من الناس يضلون غيرهم بأهوائهم (٤) بغير علم فيحلون ويحرمون بدون علم وهم في ذلك ظلمة معتدون لأن التحريم والتحليل من حق الرب تعالى لا من حق أي أحد من الناس وتوعدهم بما دل عليه قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) ولازمه أنه سيجازيهم باعتدائهم وظلمهم بما يستحقون من العذاب على اعتدائهم على حق الله تعالى في التشريع بالتحليل والتحريم.

وقوله تعالى في الآية الثالثة : (١٢٠) (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) يأمر تعالى عباده بترك ظاهر الإثم كالزنى العلني وسائر المعاصي ، وباطن الإثم كالزنى السري وسائر الذنوب الخفية وهو شامل لأعمال القلوب وهي باطنة وأعمال الجوارح وهي ظاهرة ، لأن الإثم كل ضار فاسد قبيح كالشرك ، والزنى وغيرهما من سائر المحرمات.

ثم توعد الذين لا يمتثلون أمره تعالى بترك ظاهر الإثم وباطنه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) أي سيجزيهم يوم القيامة بما اكتسبوه من الذنوب والآثام ولا ينجو إلا من تاب منهم وصحت توبته وفي الآية الأخيرة في هذا السياق (١٢١) يقول تعالى ناهيا عباده عن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من ذبائح المشركين

__________________

(١) هذه الآية نص في مشروعية التسمية عند الذبح وعند الأكل والشرب.

(٢) أي ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم؟

(٣) بين تعالى ذلك في آخر سورة النحل المكية وأما البيان التام فهو في سورة المائدة المتأخرة في النزول عن النحل والأنعام معا.

(٤) إذ قال المشركون للرسول والمؤمنين ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم أنتم بسكاكينكم.

١١١

والمجوس فقال : (وَلا تَأْكُلُوا (١) مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) (٢) وأخبر أن الأكل مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه وهو ذبائح المشركين والمجوس فسق خروج عن طاعة الرب تعالى وهو مقتض للكفر لما فيه من الرضا بذكر اسم الآلهة التي تعبد من دون الله تعالى ، ثم أخبرهم تعالى بأن الشياطين وهم المردة من الجن يوحون إلى الأخباث من الإنس من أوليائهم الذين استجابوا لهم في عبادة الأوثان يوحون إليهم بمثل قولهم : كيف تحرمون ما قتل الله وتحلون ما قتلتم أنتم؟ ليجادلوكم بذلك ، ويحذر تعالى المؤمنين من طاعتهم وقبول وسواسهم فيقول (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ) فأكلتم ذبائحهم أو تركتم أكل ما ذبحتم أنتم وقد ذكرتم عليه اسم الله ، (إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٣) لأنكم استجبتم لما تأمر به الشياطين تاركين ما يأمر به رب العالمين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حلّ الأكل من ذبائح المسلمين.

٢ ـ وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام عند تذكيتها.

٣ ـ حرمة اتباع الأهواء ووجوب اتباع العلماء.

٤ ـ وجوب ترك الإثم ظاهرا كان أو باطنا وسواء كان من أعمال القلوب أو أعمال الجوارح.

٥ ـ حرمة الأكل من ذبائح المشركين والمجوس والملاحدة البلاشفة الشيوعيين.

٦ ـ اعتقاد حل طاعة الشياطين شرك والعياذ بالله تعالى.

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ

__________________

(١) روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) قال : خاصمهم المشركون فقالوا : ما ذبح الله فلا تأكلوه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه فقال الله سبحانه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

(٢) إن هذا اللفظ الوارد على سبب معين لا يمنع العموم إذ القاعدة الأصولية أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومن هنا تعين معرفة ما يلي : أولا : وجوب التسمية عند الذبح والنحر. ثانيا : إن ترك المسلم التسمية سهوا أكلت ذبيحته ، ثالثا : إن تركها عمدا لم تؤكل ذبيحته ، رابعا : قال بعض الفقهاء ترك المسلم التسمية عمدا لا يحرم ذبيحته إلّا أن يكون تركها مستخفا بها.

(٣) الآية دليل على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا وقد حرّم الله سبحانه الميتة نصا فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك. وقال ابن العربي إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا ـ إذا أطاعه في الاعتقاد. أما إن أطاعه في الفعل وعقيدته سليمة مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص غير كافر.

١١٢

زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤))

شرح الكلمات :

(مَيْتاً) : الميت فاقد الروح ، والمراد روح الإيمان.

(فَأَحْيَيْناهُ) : جعلناه حيا بروح الإيمان.

(مَثَلُهُ) : صفته ونعته امرؤ في الظلمات ليس بخارج منها.

(قَرْيَةٍ) : مدينة كبيرة.

(لِيَمْكُرُوا فِيها) : بفعل المنكرات والدعوة إلى ارتكابها بأسلوب الخديعة والاحتيال.

(وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ) : لأن عاقبة المكر تعود على الماكز نفسه لآية (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ) : أي من القرآن الكريم تدعوهم إلى الحق.

(صَغارٌ) : الصغار : الذل والهوان.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في حرب العادلين بربهم الأصنام الذين يزين لهم الشيطان تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم فقال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أي أطاعة هذا العبد الذي كان ميتا بالشرك والكفر فأحييناه بالإيمان والتوحيد وهو عمر بن الخطاب أو عمار بن ياسر كطاعة من مثله رجل في الظلمات ظلمات الشرك

١١٣

والكفر والمعاصي ليس بخارج من تلك الظلمات وهو أبو جهل (١) والجواب لا ، إذا كيف أطاع المشركون أبا جهل وعصوا عمر رضى الله عنه والجواب : أن الكافرين لظلمة نفوسهم واتباع أهوائهم لا عقول لهم زين لهم عملهم الباطل حسب سنة الله تعالى في أن من أحب شيئا وغالى في حبه على غير هدى ولا بصيرة يصبح في نظره زينا وهو شين وحسنا وهو قبيح ، فلذا قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها (٢) لِيَمْكُرُوا فِيها) فيهلكوا أيضا. وقوله : (وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) هو كما قال : قوله الحق وله الملك ، فالماكر من أكابر المجرمين حيث أفسدوا عقائد الناس وأخلاقهم وصرفوهم عن الهدى بزخرف القول والاحتيال والخداع ، هم في الواقع يمكرون بأنفسهم إذ سوف تحل بهم العقوبة في الدنيا وفي الآخرة ، إذ لا يحيق المكر الشيء إلا بأهله ولكنهم لا يشعرون أي لا يدرون (٣) ولا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم ، وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٢٤) (وَإِذا (٤) جاءَتْهُمْ آيَةٌ ..) (٣) أي حجة عقلية مما تحمله آيات القرآن تدعوهم إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به ويدعو إليه من التوحيد بدل أن يؤمنوا (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى (٥) مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) أي من المعجزات كعصا موسى وطير عيسى الذي نفخ فيه فكان طائرا بإذن الله فرد الله تعالى عليهم هذا العلو والتكبر قائلا : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) فإنه يجعلها في القلوب المشرقة والنفوس الزكية ، لا في القلوب المظلمة والنفوس الخبيثة ، وقوله تعالى (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) على أنفسهم بالشرك والمعاصي وعلى غيرهم حيث أفسدوا قلوبهم وعقولهم ، (صَغارٌ) (٦) : أي ذل وهوان (عِنْدَ اللهِ) يوم يلقونه (وَعَذابٌ شَدِيدٌ) قاس لا يطاق (بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) : أي بالناس بتضليلهم وإفساد قلوبهم وعقولهم بالشرك والمعاصي التي كانوا

__________________

(١) الآية عامة في كل كافر ومؤمن والموت قد يطلق أيضا على الجهل. فالجاهل ميت وحياته بالعلم كما قال الشاعر :

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله

فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرؤا لم يحيى بالعلم ميت

فليس له حتى النشور نشور

(٢) في الآية تقديم وتأخير. الأصل جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها والأكابر جمع أكبر وهم الرؤساء والعظماء وخصوا بالذكر لأنهم أقدر على الفساد والإفساد من عامة الناس.

(٣) وذلك لفرط جهلهم لا يعلمون أن وبال مكرهم عائد عليهم.

(٤) في الآية شيء من بيان جهلهم وعملهم.

(٥) هذه مقالة بعضهم قال الوليد بن المغيرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر سنا وأكثر منك مالا. وقال أبو جهل : والله لا نرضى به أبدا ولا نتبعه إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه.

(٦) الصغار من الصغر ضد الكبر كأن الذل يصغر إلى المرء نفسه والفعل صغر يصغر من باب نصر ، وصغر يصغر من باب علم يعلم. والمصدر الصغر بفتح الصاد والغين معا والصغار الاسم واسم الفاعل صاغر وهو الراضي بالضيم.

١١٤

يجرئونهم عليها ويغرونهم بها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الإيمان حياة ، والكفر موت ، المؤمن يعيش في نور والكافر في ظلمات.

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في تزيين الأعمال القبيحة.

٣ ـ قل ما تخلو مدينة من مجرمين يمكرون فيها.

٤ ـ عاقبة المكر عائدة على الماكر نفسه.

٥ ـ بيان تعنت المشركين في مكة على عهد نزول القرآن.

٦ ـ الرسالة توهب لا تكتسب.

٧ ـ بيان عقوبة أهل الإجرام في الأرض.

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨))

١١٥

شرح الكلمات :

(يَشْرَحْ صَدْرَهُ) : شرح الصدر توسعته لقبول الحق وتحمل الوارد عليه من أنوار الإيمان وعلامة ذلك : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله.

(حَرَجاً) : ضيقا لا يتسع لقبول الحق ، ولا لنور الإيمان.

(كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) : يصعب عليه قبول الإيمان حتى كأنه يتكلف الصعود إلى السماء.

(الرِّجْسَ) : النّجس وما لا خير فيه كالشيطان.

(فَصَّلْنَا الْآياتِ) : بيناها وأوضحناها غاية البيان والتوضيح

(يَذَّكَّرُونَ) : يذكرون فيتعظون.

(دارُ السَّلامِ) : الجنة ، والسّلام اسم من أسماء الله تعالى فهي مضافة إلى الله تعالى.

(اسْتَكْثَرْتُمْ) : أي من إضلال الإنس وإغوائهم.

(اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) : انتفع كل منّا بصاحبه أي تبادلنا المنافع بيننا حتى الموت.

(أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) : أي الوقت الذي وقت لنا وهو أجل موتنا فمتنا.

(مَثْواكُمْ) : مأواكم ومقر بقائكم وإقامتكم.

(حَكِيمٌ عَلِيمٌ) : حكيم في وضع كل شىء في موضعه فلا يخلد أهل الإيمان في النار ، ولا يخرج أهل الكفر منها ، عليم بأهل الإيمان وأهل الكفران.

معنى الآيات :

بعد ذلك البيان والتفصيل لطريق الهداية في الآيات من أول السورة إلى قوله تعالى حكاية عن المدعوين إلى الحق العادلين به الأصنام إذ قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ).

أعلم تعالى عباده أن الهداية بيده وأن الإضلال كذلك يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بعدله ، وأن لكل من الهداية والإضلال سننا تتبع في ذلك فمن طلب الهداية ورغب

١١٦

فيها صادقا علم تعالى ذلك منه وسهل له طرقها وهيأ له أسبابها ، ومن ذلك أنه يشرح (١) صدره لقبول الإيمان وأنواره فيؤمن ويسلم ويحسن فيكمل ويسعد ، ومن طلب الغواية ورغب فيها صادقا علم الله تعالى ذلك منه فهيأ له أسبابها وفتح له بابها فجعل صدره ضيقا (٢) حرجا لا يتسع لقبول الإيمان وحلول أنواره فيه حتى لكأنه يتكلف الصعود إلى السماء وما هو بقادر هذه سنته في الهداية والإضلال ، وقوله تعالى (كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أي كذلك الفعل في الهداية والإضلال يجعل الله الرجس (٣) أي يلقي بكل ما لا خير فيه على قلوبهم من الكبر والحسد والشرك والكفر والشيطان لقبول المحل لكل ذلك نتيجة خلوه من الإيمان بالله ولقائه.

وقوله تعالى (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) يقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشيرا إلى ما بيّنه من الهدى وهذا طريق ربك مستقيما فاسلكه والزمه فإنه يفضي بك إلى كرامة ربك وجواره في جنات النعيم. وقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) يمتن تعالى وله الحمد والمنة بما أنعم به على هذه الأمة من تفصيل الآيات حججا وبراهين وشرائع ليهتدي طالبوا الهدى المشار إليهم بقوله (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فيذكرون فيؤمنون ويعملون فيكملون ويسعدون في دار السّلام إذ قال تعالى (لَهُمْ (٤) دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) أي متوليهم بالنصر والتأييد في الدنيا والإنعام والتكريم في الآخرة (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الصالحات.

هذا ما دلت عليه الآيات الأولى والثانية والثالثة أما الآية الرابعة (١٢٨) فقد تضمنت عرضا سريعا ليوم القيامة الذي هو ظرف للجزاء على العمل في دار الدنيا فقال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) (٥) إنسهم وجنهم ويقول سبحانه وتعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ (٦) مِنَ الْإِنْسِ) أي في إغوائهم وإضلالهم ، (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) أي الذين كانوا

__________________

(١) الشرح أصله التوسعة وشرح الأمر بيّنه وأوضحه ومنه تشريح اللحم والشريحة منه القطعة. وشرح الصدر لقبول الحق توسعته لتقبل ما يلقى إليه من الهدى وفي الحديث الصحيح «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».

(٢) الحرج والحرج بالفتح والكسر قراءتان وهو الضيق وكل ضيق حرج والحرجة الغيضة والجمع حروج وحرجات وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الحرج موضع الشجر الملتف فقلب الكافر لضيقه لا تصل إليه المعرفة كما لا تصل الشاة إلى الشجر الملتف أو تدخل رأسها بين الشجر فيصعب عليها إخراجه فتقع في حرج ، والحرج الإثم.

(٣) أصل الرجس في اللغة النتن وقال مجاهد : الرجس ما لا خير فيه فكما يجعل صدر الكافر ضيقا لا يقبل الهدى يجعل عليه الرجس فيقبل كل خبيث نتن من الأقوال والاعتقادات.

(٤) دار السّلام الجنة والسّلام هو الله فدار السّلام كبيت الله وهناك معنى اخر وهو أنها دار السلامة من كل أذى ومكروه وآفة.

(٥) نصب الظرف بفعل محذوف تقديره يقول يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن الخ.

(٦) حذف لفظ الاستمتاع إيجازا لدلالة السياق وحرف الجر عليه أي قد استكثرتم من الاستمتاع من الإنس.

١١٧

يوالونهم على الفساد والشر والشرك والكفر (رَبَّنَا) أي يا ربنا (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) أي كل منا تمتع بخدمة الآخر له وانتفع بها ، يريدون أن الشياطين زينت لهم الشهوات وحسنت لهم القبائح وأغرتهم بالمفاسد فهذا انتفاعهم منهم وأما الجن فقد انتفعوا من الإنس بطاعتهم والاستجابة لهم حيث خبثوا خبثهم وضلوا ضلالهم. وقولهم (وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا) أي واستمر ذلك منا إلى أن انتهينا إلى أجلنا الذي أجلته لنا وهو نهاية الحياة الدنيا وها نحن بين يديك ، كأنهم يعتذرون بقولهم هذا فرد الله تبارك وتعالى عليهم بإصدار حكمه فيهم قائلا : (النَّارُ مَثْواكُمْ (١) خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ومعنى مثواكم : مقامكم الذي تقيمون فيه أبدا.

ومعنى قوله (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) هو استثناء (٢) لبيان إرادة الله المطلقة التي لا يقيدها شىء ، إذ لو شاء أن يخرجهم من النار لأخرجهم أي ليس هو بعاجز عن ذلك ، ومن الجائز أن يكون هذا الاستثناء المراد به من كان منهم من أهل التوحيد ودخل النار بالفسق والفجور وكبير الذنوب بإغواء الشياطين له فإنه يخرج من النار بإيمانه ، ويكون معنى (ما) (من) أي إلا من شاء الله. والله أعلم بمراده ، وقوله في ختام الآية ، (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) ، ومن مظاهر حكمته وعلمه إدخال أهل الكفر والمعاصي النار أجمعين الإنس والجن سواء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في الهداية والإضلال.

٢ ـ بيان صعوبة وشدة ما يعاني الكافر إذا عرض عليه الإيمان.

٣ ـ القلوب الكافرة يلقى فيها كل ما لا خير فيه من الشهوات والشبهات وتكون مقرا للشيطان.

٤ ـ فضيلة الذكر المنتج للتذكر الذي هو الإتعاظ فالعمل.

٥ ـ ثبوت التعاون بين أخباث الإنس والجن على الشر والفساد.

٦ ـ إرادة الله مطلقة يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فلا يؤثر فيها شيء.

__________________

(١) المثوى المقام أي النار موضع مقامكم.

(٢) ذكر المفسرون أقوالا كثيرة في هذا الاستثناء وما ذكرته في التفسير أحسن ما يؤول به هذا الاستثناء الإلهي في هذه الآية وفي آية هود.

١١٨

(وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

شرح الكلمات :

(نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً) : أي نجعل بعضهم أولياء بعض بجامع كسبهم الشر والفساد.

(بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي من الظلم والشر والفساد.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) : الإستفهام للتوبيخ والرسل جمع رسول من أوحى الله تعالى إليه شرعه وأمره بإبلاغه للناس ، هذا من الإنس أما من الجن فهم. من يتلقون عن الرسل من الإنس ويبلغون ذلك إخوانهم من الجن ، ويقال لهم النّذر.

(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) : يخبرونكم بما فيها من الحجج متتبعين ذلك حتى لا يتركوا شيئا إلا بلغوكم إياه وعرفوكم به.

(وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ) : أي يخوفونكم بما في يومكم هذا وهو يوم القيامة من العذاب والشقاء.

(وَأَهْلُها غافِلُونَ) : لم تبلغهم دعوة تعرفهم بربهم وطاعته ، وما لهم عليها من جزاء.

١١٩

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) إخبار منه تعالى بسنته في أهل الظلم وهي أن يجعل بعضهم أولياء بعض بمعنى يتولاه بالنصرة والمودة بسبب الكسب الشيء الذي يكسبونه على نحو موالاة شياطين الإنس للجن فالجامع بينهم الخبث والشر وهؤلاء الجامع بينهم الظلم والعدوان ، ولا مانع من حمل هذا اللفظ على تسليط الظالمين بعضهم على بعض على حد : ولا ظالم إلا سيبتلى بأظلم. (١) كما أنه تعالى سيوالي يوم القيامة إدخالهم النار فريقا بعد فريق وكل هذا حق وصالح لدلالة اللفظ عليه.

وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إخبار منه تعالى بأنه يوم القيامة ينادي الجن والإنس موبخا لهم فيقول : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ (٢) يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون عنهم ويفهمون عنكم (يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي) أي يتلونها عليكم ويخبرونكم بما تحمله آياتي من حجج وبراهين لتؤمنوا بي وتعبدوني وحدي دون سائر مخلوقاتي ، وينذرونكم أي يخوفونكم ، لقاء يومكم هذا الذي أنتم الآن فيه وهو يوم القيامة والعرض على الله تعالى. وما يتم فيه من جزاء على الأعمال خيرها وشرها ، وأن الكافرين هم أصحاب النار. فأجابوا قائلين : شهدنا على أنفسنا ـ وقد سبق أن غرتهم (٣) الحياة الدنيا فواصلوا الكفر والفسق والظلم ـ (وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ (٤) أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ).

هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى والثانية أما الثالثة (١٣١) فقد تضمنت الإشارة إلى علة إرسال الرسل إلى الإنس والجن إذ قال تعالى (ذلِكَ (٥) أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ (٦)

__________________

(١) في هذا المعنى قول الشاعر :

وما من يد إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلّا سيبلى بظالم

(٢) قوله منكم فيه تغليب الإنس على الجن في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث إذ الرسل من الإنس لا غير ومن الجن نذر ينذرونهم بما يتلقونه عن الرسل من الإنس كما قال تعالى (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) وشاهد آخر في قوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) والمراد البحر الملح فقط وفي وصف الرسل بلفظ منكم زيادة في إقامة الحجة عليهم.

(٣) غرتهم إذ عجلت لهم طيباتهم فيها فانفردوا بزخارفها وزينتها وطول العمر فيها.

(٤) قال مقاتل هذا معنى شهدت عليهم الجوارح بالشرك.

(٥) ذلك في موضع رفع أي الأمر ذلك وإن مخففة من الثقيلة أي المشددة واسمها ضمير الشأن محذوف وذلك لأن هذا الخبر له شأن يجدران يعرف والتقدير الأمر ذلك لأنه ـ أي الشأن ـ لم يكن ربك مهلك القرى بظلم الخ.

(٦) الباء في بظلم سببية أي بسبب ظلمهم وجملة وأهلها غافلون حالية.

١٢٠