أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

وصحة ما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد وترك الشرك والمعاصي ، فهلا آمنتم واتبعتم أم الآية الواحدة تؤمنون عليها والآيات الكثيرة لا تؤمنون عليها أين يذهب بعقولكم؟ وعلى ذكر بيان حجج القرآن وأنواره أمر الله تعالى عباده المؤمنين إذا قرىء عليهم القرآن أن يستمعوا وينصتوا وسواء كان يوم الجمعة على المنبر أو كان في غير ذلك (١) فقال تعالى (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي تكلفوا السماع وتعمدوه (وَأَنْصِتُوا) بترك الكلام (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن ينالكم من هدى القرآن رحمته فتهتدوا وترحموا لأن القرآن هدى ورحمة للمؤمنين.

ثم أمر تعالى رسوله وأمته تابعة له في هذا الكمال فقال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أي سرا (تَضَرُّعاً) أي تذللا وخشوعا ، (وَخِيفَةً) (٢) أي وخوفا وخشية (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) وهو السر بأن يسمع نفسه فقط أو من يليه لا غير وقوله (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) أي أوائل النهار وأواخره ، ونهاه عن ترك الذكر وهو الغفلة فقال (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) وذكر له تسبيح (٣) الملائكة وعبادتهم ليتأسى بهم ، فيواصل العبادة والذكر ليل نهار فقال (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وهم الملائكة في الملكوت الأعلى (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي طاعته بما كلفهم به ووظفهم فيه (وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٤) فتأس بهم ولا تكن من الغافلين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن أكبر آية بل هو أعظم من كل الآيات التي أعطيها الرسل عليهم‌السلام.

٢ ـ وجوب الإنصات عند تلاوة القرآن وخاصة في خطبة الجمعة على المنبر وعند قراءة الامام في الصلاة الجهرية.

__________________

(١) أي : كيومي العيدين مثلا ، وهذا الأمر بالاستماع والانصات للقرآن عام يشمل المشركين إذ كانوا يأمرون بعدم الاستماع إليه كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ...) كما يشمل المؤمنين ، إذ سماع القرآن سبيل الهداية ، والإنصات : سماع مع عدم التكلم حال الاستماع.

(٢) الخيفة : أصلها خوفة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، وهي مصدر خاف المرء يخاف خوفا وخيفة ومخافة فهو خائف.

(٣) تسبيح الملائكة معناه : تعظيمهم لله تعالى وتنزيههم له عزوجل عن الشريك والولد.

(٤) صيغة المضارع في (يُسَبِّحُونَهُ) و (يَسْجُدُونَ) لحصر السجود في الله تعالى وعدم جوازه لغيره عزوجل.

٢٨١

٣ ـ وجوب ذكر الله بالغدو والآصال.

٤ ـ بيان آداب الذكر وهي :

١ ـ السرية.

٢ ـ التضرع والتذلل.

٣ ـ الخوف والخشية.

٤ ـ الإسرار به وعدم رفع الصوت به ، لا كما يفعل المتصوفة.

٥ ـ مشروعية الأئتساء بالصالحين والاقتداء بهم في فعل الخيرات وترك المنكرات.

٦ ـ عريمة السجود عند قوله (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (١) وهذه أول سجدات القرآن ويسجد القارىء والمستمع له ، أما السامع فليس عليه سجود ، ويستقبل بها القبلة ويكبر عند السجود وعند الرفع منه ولا يسلم وكونه متوضأ أفضل.

سورة الأنفال

مدنية

وآياتها خمس وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ

__________________

(١) ولو سلم منها في غير الصلاة جاز فقد روي عن بعض السلف ، ويستحب لمن سجد أن يقول : (اللهم احطط عني بها وزرا واكتب لي بها اجرا واجعلها لي عندك ذخرا) رواه ابن ماجه. عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٨٢

يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

شرح الكلمات :

(الْأَنْفالِ) : جمع نفل (١) بتحريك الفاء : ما يعطيه الإمام لأفراد الجيش تشجيعا لهم.

(ذاتَ بَيْنِكُمْ) : أي حقيقة بينكم ، والبين الوصلة والرابطة التي تربط بعضكم ببعض من المودة والإخاء.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) : أي الكاملون في إيمانهم.

(وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي خافت إذ الوجل : (٢) هو الخوف لا سيما عند ذكر وعيده ووعده.

(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : على الله وحده يعتمدون وله أمرهم يفوضون.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) : أي أعطيناهم.

(أُولئِكَ) : أي الموصوفون بالصفات الخمس السابقة.

(لَهُمْ دَرَجاتٌ) : منازل عالية في الجنة.

(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : أي عطاء عظيم من سائر وجوه النعيم في الجنة.

معنى الآيات :

هذه الآيات نزلت في غزوة بدر وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نفل (٣) بعض المجاهدين لبلائهم

__________________

(١) النفل : بسكون الفاء : اليمين وفي الحديث : (فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم) وهو أيضا الانتفاء من الشيء وفي الحديث : (فانتفل من ولدها) والنفل : نبت معروف ، والنفل : الزيادة على الفرائض في الصلاة.

(٢) قيل لبعضهم : متى تعرف أنه استجيب دعاؤك؟ قال : إذا اقشعرّ جلدي ووجل قلبي ، وفاضت عيناي بالدموع ، وقالت عائشة رضي الله عنها : ما الوجل في القلب إلا كضرمة السعفة ، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك.

(٣) هذا ما ذهب إليه ابن جرير ورجحه محتجا عليه بشواهد اللغة والتاريخ والجمهور على أن المراد بالأنفال هنا غنائم بدر ، والكل محتمل إذ حصل النفل ، وحصلت الغنيمة ، ولما اختلفوا ردت إلى الله ورسوله ثم حكم الله تعالى فيها بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ..) الآية.

٢٨٣

وتخلف آخرون فحصلت تساؤلات بين المجاهدين لم يعطي هذا ولم لا يعطي ذاك فسألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (يَسْئَلُونَكَ (١) عَنِ الْأَنْفالِ؟) (٢) فأخبرهم أنها (لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) فالله يحكم فيها بما يشاء والرسول يقسمها بينكم كما يأمره ربه (٣) وعليه فاتقوا الله تعالى بترك النزاع والشقاق ، (وَأَصْلِحُوا) ذات بينكم بتوثيق عرى المحبة بينكم وتصفية قلوبكم من كل ضغن أو حقد نشأ من جراء هذه الأنفال واختلافكم في قسمتها ، (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في كل ما يأمرانكم به وينهيانكم عنه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا فامتثلوا الأمر واجتنبوا النهي. وقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي الكاملون في إيمانهم الذين يستحقون هذا الوصف وصف المؤمنين هم (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) أي اسمه أو وعده أو وعيده (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (٤) أي خافت فأقلعت عن المعصية ، وأسرعت إلى الطاعة ، (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي قوي إيمانهم وعظم يقينهم ، (وَعَلى رَبِّهِمْ) لا على غيره (يَتَوَكَّلُونَ) وفيه تعالى يثقون. وإليه تعالى أمورهم يفوضون ، (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بأدائها بكامل شروطها وكافة أركانها وسائر سننها وآدابها ، (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي اعطيناهم (يُنْفِقُونَ) من مال وعلم ، وجاه وصحة بدن من كل هذا ينفقون في سبيل الله (أُولئِكَ) الموصوفون بهذه الصفات الخمس (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) وصدقا ، (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي منازل عالية متفاوتة العلو والارتفاع في الجنة ، ولهم قبل ذلك (مَغْفِرَةٌ) كاملة لذنوبهم ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٥) طيب واسع لا تنقيص فيه ولا تكدير ، وذلك في الجنة دار المتقين.

__________________

(١) السؤال معناه : الطلب فإن عدي بعن : كان لطلب معرفة شيء نحو : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وإن عدي بنفسه نحو :

(سأله ما لا فهو : لطلب إعطاء الشيء المطلوب).

(٢) الأنفال : جمع نفل بفتح النون والفاء معا كعمل وهو مشتق من النافلة التي هي الزيادة في العطاء ، وقد أطلق العرب لفظ النفل على الغنائم في الحرب اعتبارا منهم لها على أنها زيادة عن المقصود الأهم الذي هو إبادة العدو ، ولذا كان بعض صناديدهم لا يأخذونها وهذا عنترة يقول :

يخبرك من شهد الوقيعة أنني

أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم

(٣) اختلف في النفل هل يكون من الخمس أو هو خمس الخمس من الغنيمة؟ والصحيح أنه ما يعطيه الإمام من شاء من المقاتلين لبلائه من الخمس.

(٤) وجل : كضرب ، يوجل كيضرب ويجل كيلد باسقاط فاء الكلمة والمصدر : الوجل كالعسل ، وموجل كموعد.

(٥) لفظ (الكريم) يصف به العرب كل شيء حسن في بابه لا قبح فيه ولا شكوى منه.

٢٨٤

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الأمر بتقوى الله عزوجل وإصلاح ذات البين.

٢ ـ الإيمان يزيد (١) بالطاعة وينقص بالعصيان.

٣ ـ من المؤمنين من هو كامل الإيمان ، ومنهم من هو ناقصه.

٤ ـ من صفات أهل الإيمان الكامل ما ورد في الآية الثانية من هذه السورة (٢) وما بعدها

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ (٣) وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

شرح الكلمات :

(مِنْ بَيْتِكَ) : أي المدينة المنورة.

(لَكارِهُونَ) : أي الخروج للقتال.

(إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) : العير «القافلة» أو النفير : نفير قريش وجيشها.

__________________

(١) سئل الحسن البصري فقيل له : يا أبا سعيد أمؤمن أنت؟ فقال : الإيمان إيمانان ، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر فأنا به مؤمن ، وإن كنت تسألني عن قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فو الله ما أدري أنا منهم أم لا؟

(٢) وهما الآية الثالثة والرابعة.

(٣) الباء للمصاحبة أي : أخرجه إخراجا مصاحبا للحق ليس فيه من الباطل شيء قط.

٢٨٥

(الشَّوْكَةِ) (١) : السلاح في الحرب.

(يُبْطِلَ الْباطِلَ) : أي يظهر بطلانه بقمع أهله وكسر شوكتهم وهزيمتهم.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) : كفار قريش المشركون.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) أيها الرسول (مِنْ بَيْتِكَ) بالمدينة (بِالْحَقِ) متلبسا به حيث خرجت بإذن الله (وَإِنَ (٢) فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) لما علموا بخروج قريش لقتالهم ، وكانت العاقبة خيرا عظيما ، هذه الحال مثل حالهم لما كرهوا نزع الغنائم من أيديهم وتوليك قسمتها بإذننا ، على أعدل قسمة وأصحها وأنفعها فهذا الكلام في هذه الآية (٥) تضمنت تشبيه حال حاضرة بحال ماضيه حصلت في كل واحدة كراهة بعض المؤمنين ، وكانت العاقبة في كل منهما خيرا والحمد لله ، وقوله تعالى (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يجادلونك في القتال بعد ما اتضح لهم أن العير (٣) نجت وأنه لم يبق إلا النفير (٤) ولا بد من قتالها. وقوله تعالى (كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي إلى الموت عيانا يشاهدونه أمامهم وذلك من شدة كراهيتهم لقتال لم يستعدوا له ولم يوطنوا أنفسهم لخوض معاركه. وقوله تعالى (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) أي اذكر يا رسولنا لهم الوقت الذي يعدكم الله تعالى فيه إحدى الطائفتين العير والنفير ، وهذا في المدينة وعند السير أيضا (أَنَّها لَكُمْ) أي تظفرون بها ، (وَتَوَدُّونَ) أي تحبون أن تكون (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) وهي غير أبي سفيان (تَكُونُ لَكُمْ) ، وذلك لأنها مغنم بلا مغرم لقلة عددها وعددها ، والله يريد (أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي يظهره بنصر أوليائه وهزيمة أعدائه ، وقوله (بِكَلِماتِهِ) أي التي تتضمن أمره تعالى إياكم بقتال الكافرين ، وأمره الملائكة بالقتال معكم ، وقوله (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي بتسليطكم عليهم فتقتلوهم حتى لا

__________________

(١) وكلّ نبت له حدّ يقال له : شوك واحده : شوكة.

(٢) هذه الجملة حالية : والعامل فيها : أخرجك ربّك.

(٣) هي قافلة أبي سفيان التجارية التي يصحبها زهاء ثلاثين رجلا من قريش.

(٤) النفير : جيش قريش الذي استنفرت فيه قرابة ألف مقاتل.

٢٨٦

تبقوا منهم غير من فر وهرب ، وقوله (لِيُحِقَّ الْحَقَ) أي لينصره ويقرره وهو الإسلام (وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) وهو الشرك (وَلَوْ كَرِهَ) ذلك (الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك ، وعلى غيرهم أيضا حيث منعوهم من قبول الإسلام وصرفوهم عنه بشتى الوسائل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة (عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وذكر نبذة عن غزوة بدر الكبرى وبيان ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلغه أن عيرا لقريش تحمل تجارة قادمة من الشام في طريقها إلى مكة وعلى رأسها أبو سفيان بن حرب فانتدب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أصحابه للخروج إليها عسى الله تعالى أن يغنمهم إياها ، لأن قريشا صادرت أموال بعضهم وبعضهم ترك ماله بمكة وهاجر. فلما خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثناء مسيره أخبرهم أن الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين ، لا على التعيين جائز أن تكون العير ، وجائز أن تكون النفير الذي خرج من مكة للذب عن العير ودفع الرسول وأصحابه عنها حتى لا يستولوا عليها ، فلما بلغ الرسول نبأ نجاة العير (١) وقدوم النفير استشار أصحابه فوافقوا على قتال المشركين ببدر وكره بعضهم ذلك ، وقالوا : انا لم نستعد للقتال فأنزل الله تعالى هذه الآيات (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) إلى قوله (... وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

٢ ـ بيان ضعف الإنسان في رغبته في كل مالا كلفة فيه ولا مشقة.

٣ ـ إنجاز الله تعالى وعده للمؤمنين إذ أغنمهم طائفة النفير وأعزهم بنصر لم يكونوا مستعدين له.

__________________

(١) لأنّ أبا سفيان لما بلغه بواسطة بعض الركبان أنّ محمدا قد خرج برجاله يطلب عيره استأجر ضمضم الغفاري فبعثه إلى أهل مكة يخبرهم بخروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمرهم أن ينفروا لإنقاذ قافلتهم ، وأما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فإنهم لما بلغوا في مسيرهم وادي ذفران وخرجوا منه أتاهم نبأ خروج قريش ليمنعوا قافلتهم فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فقام أبو بكر وقال فأحسن ثم قال عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله : امض لما أمرك الله به فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو اسرائيل لموسى : (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس ، وهو يريد الأنصار فقال له سعد بن معاذ : كأنك تعنينا يا رسول الله قال : أجل ، فقال سعد كلمة سرّت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندها قال : سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين.

٢٨٧

٤ ـ ذكر نبذة عن وقعة بدر وهي من أشهر الوقائع وأفضلها وأهلها من أفضل الصحابة وخيارهم إذ كانت في حال ضعف المسلمين حيث وقعت في السنة الثانية من الهجرة وهم أقلية والعرب كلهم أعداء لهم وخصوم.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

شرح الكلمات :

(تَسْتَغِيثُونَ) (١) : أي تطلبون الغوث من الله تعالى وهو النصر على

__________________

(١) روى مسلم عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يوم بدر نظر إلى المشركين وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر ، فاستقبل القبلة ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم ائتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربّه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجزلك ما وعدك فأنزل الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ...) الآية.

٢٨٨

أعدائكم.

(مُرْدِفِينَ) : أي متتابعين بعضهم ردف بعض أي متلاحقين.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) : أي الإمداد بالملائكة إلا بشرى لكم بالنصر.

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ) : أي يغطيكم به والنعاس : نوم خفيف جدا.

(أَمَنَةً) : أي أمنا من الخوف الذي أصابكم لقلتكم وكثرة عدوكم.

(أَمَنَةً) : أي من الله تعالى.

(رِجْزَ الشَّيْطانِ) : وسواسه لكم بما يؤلمكم ويحزنكم.

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) : أي يشد عليها بالصبر واليقين.

(وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) : أي بالمطر أقدامكم حتى لا تسوخ في الرمال.

(الرُّعْبَ) : الخوف والفزع.

فاضربوا كل بنان : أي أطراف اليدين والرجلين حتى يعوقهم عن الضرب والمشي.

(شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي خالفوه في مراده منهم فلم يطيعوه وخالفوا رسوله.

(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) : أي العذاب فذوقوه.

(عَذابَ النَّارِ) : أي في الآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث غزوة بدر ، وبيان منن الله تعالى على رسوله والمؤمنين إذ يقول تعالى لرسوله (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي اذكر يا رسولنا حالكم لما كنتم خائفين لقلتكم وكثرة عدوكم فاستغثتم ربكم قائلين : اللهم نصرك ، اللهم أنجز لي ما وعدتني (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي متتالين يتبع بعضهم بعضا (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى) أي لم يجعل ذلك الإمداد إلا مجرد بشرى لكم بالنصر على عدوكم (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) أي تسكن ويذهب منها القلق والاضطراب ، أما النصر فمن عند الله ، (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عزيز غالب لا يحال بينه وبين ما يريده ، حكيم بنصر من هو أهل للنصر ، هذه نعمة ، وثانية : اذكروا (إِذْ يُغَشِّيكُمُ) ربكم

٢٨٩

(النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) (١) أي أمانا منه تعالى لكم فإن العبد إذا خامره النعاس هدأ وسكن وذهب الخوف منه ، وثبت في ميدان المعركة لا يفر ولا يرهب ولا يهرب ، (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) وهذه نعمة أخرى ، فقد كانت الأرض رملية تسوح فيها أقدامهم لا يستطيعون عليها كرا ولا فرا ، وقل ماؤهم فصاروا ظماء عطاشا ، محدثين ، لا يجدون ما يشربون ولا ما يتطهرون به من احداثهم ووسوس الشيطان لبعضهم بمثل قوله : تقاتلون محدثين كيف تنصرون ، تقاتلون وأنتم عطاش وعدوكم ريان إلى أمثال هذه الوسوسة ، فأنزل الله تعالى على معسكرهم خاصة مطرا غزيرا شربوا وتطهروا وتلبدت به التربة فأصبحت صالحة للقتال عليها ، هذا معنى قوله تعالى (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ) أي وسواسه (وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ) أي يشد عليها بما أفرغ عليها من الصبر وما جعل فيها من اليقين لها (وَيُثَبِّتَ بِهِ (٢) الْأَقْدامَ) ونعمة أخرى واذكر (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) بتأييدي ونصري (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي قولوا لهم من الكلام تشجيعا لهم ما يجعلهم يثبتون في المعركة (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أي الخوف أيها المؤمنون (فَاضْرِبُوا فَوْقَ (٣) الْأَعْناقِ) أي اضربوا المذابح (وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) (٤) أي اطراف اليدين والرجلين حتى لا يستطيعوا ضربا بالسيف ، ولا فرارا بالأرجل وقوله تعالى (ذلِكَ (٥) بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي عادوهما وحاربوهما (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ينتقم منه ويبطش به (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ، وقوله تعالى (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) أي ذلكم العذاب القتل والهزيمة فذوقوه في الدنيا وأما الآخرة فلكم فيها عذاب النار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

__________________

(١) أمنة : مصدر أمن أمنة وأمنا وأمانا وهو منصوب على الحال ، أو المصدرية.

(٢) هذا عائد على الماء الذي شدّ دهس أرض الوادي ، ويصح أن يكون عائدا إلى ربط القلوب ، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في الحرب.

(٣) هذا الأمر ارشادي للملائكة وللمؤمنين معا.

(٤) واحد البنان : بنانة ، والمراد بها هنا الأصابع الممسكة بالسيف والرمح حتى تعجز عن قتال المسلمين وضربهم.

(٥) ذلك : مبتدأ والخبر محذوف تقدير الكلام : الأمر ذلك ، والجملة تعليلية لأنّ الباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ) سببية.

٢٩٠

١ ـ مشروعية الاستغاثة بالله تعالى وهي عبادة فلا يصح أن يستغاث بغير الله تعالى.

٢ ـ تقرير عقيدة أن الملائكة عباد لله يسخرهم في فعل ما يشاء ، وقد سخرهم للقتال مع المؤمنين فقاتلوا ، ونصروا وثبتوا وذلك بأمر الله تعالى لهم بذلك.

٣ ـ تعداد نعم الله تعالى على المؤمنين في غزوة بدر وهي كثيرة.

٤ ـ مشاقة (١) الله ورسوله كفر يستوجب صاحبها عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.

٥ ـ تعليم الله تعالى عباده كيف يقاتلون ويضربون أعداءهم ، وهذا شرف كبير للمؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩))

شرح الكلمات :

(زَحْفاً) (٢) : أي زاحفين لكثرتهم ولبطىء سيرهم كأنهم يزحفون على

__________________

(١) أصل المشاقة : العداوة بعصيان وعناد ، مشتقة من الشق بكسر السين الذي هو الجانب ، فالمشاق يقف عن مشاقه موقف العداء والعصيان ، والتمرّد في جانب لا يلتقي معه.

(٢) الزّحف : الدنوّ قليلا قليلا ، وأصله ، الاندفاع على الإلية ، ثم سمي كل ماش إلى حرب آخر زاحفا ، وازدحف القوم : إذا مشى بعضهم إلى بعض والزحاف : من علل الشعر وهو : أن يسقط من الحرفين حرف فيزحف أحدهما إلى الآخر.

٢٩١

الأرض.

(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) : أي لا تنهزموا فتفروا أمامهم فتولونهم أدباركم.

(مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) : أي مائلا من جهة إلى أخرى ليتمكن من ضرب العدو وقتاله.

(أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) : أي يريد الانحياز إلى جماعة من المؤمنين تقاتل.

(فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ) : أي رجع من المعركة مصحوبا بغضب من الله تعالى لمعصيته إياه.

(وَلِيُبْلِيَ) : أي لينعم عليهم بنعمة النصر والظفر على قلة عددهم فيشكروا.

(فِئَتُكُمْ) : مقاتلتكم من رجالكم الكثيرين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن غزوة بدر وما فيها من جلائل النعم وخفى الحكم ففي أولى هذه الآيات ينادي الرب تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا (١) لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي وأنتم وإياهم زاحفون إلى بعضكم البعض (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) (٢) أي لا تنهزموا أمامهم فتعطوهم أدباركم فتمكنوهم من قتلكم ، إنكم أحق بالنصر منهم ، وأولى بالظفر والغلب إنكم مؤمنون وهم كافرون فلا يصح منكم انهزام أبدا (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) اللهم (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) أي مائلا من جهة إلى أخرى ليكون ذلك أمكن له في القتال (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) أي منحازا إلى جماعة من المؤمنين تقاتل فيقاتل معها ليقويها أو يقوى بها ، من ولى الكافرين دبره في غير هاتين الحالتين (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أي رجع من جهاده مصحوبا بغضب من الله (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٣)

__________________

(١) هذه الجملة اعتراضية بين قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ) وبين قوله : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) ومن فوائدها تدريب المؤمنين على الشجاعة ، والإقدام والثبات عند اللقاء ، وهي خطة محمودة عند العرب فزادها الإسلام تقوية ، قال شاعرهم وهو الحصين بن الحمام :

تأخرت أستبقي الحياة فلم

أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما

(٢) (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) فيه استبشاع الهزيمة بذكر لفظ الدبر ، وهو كذلك.

(٣) الحمد لله أنه لم يقل خالدا فيها بل قال : (مَأْواهُ جَهَنَّمُ) ولذا ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من قال : استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فرّ من الزحف).

٢٩٢

وذلك بعد موته وانتقاله إلى الآخرة ، وقوله تعالى (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) يخبر تعالى عباده المؤمنين الذين حرم عليهم التولي ساعة الزحف وتوعدهم بالغضب وعذاب النار يوم القيامة أنهم لم يقتلوا المشركين على الحقيقة وإنما الذي قتلهم هو الله فهو الذي أمرهم وأقدرهم وأعانهم ، ولولاه ما قتل أحد ولا مات فليعرفوا هذا حتى لا يخطر ببالهم أنهم هم المقاتلون وحدهم. وحتى رمي رسوله المشركين بتلك التي وصلت إلى جل أعين المشركين في المعركة فأذهلتهم وحيرتهم بل وعوقتهم عن القتال وسببت هزيمتهم كان الله تعالى هو الرامى الذي أوصل التراب الى أعين المشركين ، إذ لو ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوته لما وصلت حثية التراب إلى أعين الصف الأول من المقاتلين المشركين ، ولذا قال تعالى (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١) وقوله تعالى (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي فعل تعالى ذلك القتل بالمشركين والرمي بإيصال التراب إلى أعينهم ليذل الكافرين ويكسر شوكتهم (وَلِيُبْلِيَ (٢) الْمُؤْمِنِينَ) أي ولينعم عليهم الأنعام الحسن بنصرهم وتأييدهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في الآخرة. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بمقتضى هاتين الصفتين كان الإبلاء الحسن ، فقد سمع تعالى أقوال المؤمنين واستغاثتهم به ، وعلم ضعفهم وحاجتهم فأيدهم ونصرهم فكان ذلك منه إبلاء حسنا ، وقوله تعالى (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي ذلكم القتل والرمي والإبلاء كله حق واقع بقدرة الله تعالى (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ) أي مضعف (كَيْدِ الْكافِرِينَ) فكلما كادوا كيدا بأوليائه وأهل طاعته أضعفه وأبطل مفعوله ، وله الحمد والمنة. وقوله تعالى (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ، وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) هذا خطاب للمشركين حيث قال أبو جهل وغيره من رؤساء المشركين (٣) «اللهم أينا كان أفجر لك واقطع للرحم فأحنه اليوم ، اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة» أي أهلكه الغداة يوم بدر فأنزل الله تعالى (إِنْ

__________________

(١) حصل الرمي من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدّة مرات منها يوم حنين ومنها يوم أحد ومنها يوم خيبر إذ رمى سهما في حصن فسقط السهم على ابن أبي الحقيق فقتله وهو نائم في فراشه ، ومنها يوم بدر ، وهو المراد هنا إذ السورة مدنية ولم يسبق هذا الرمي إلّا الذي رمى به الواقفين على بابه في مكة يريدون انفاذ القتل الذي حكمت به قريش عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد روي أنه رماهم بحثية من تراب ، فاشتغلوا بمسح أعينهم من التراب حتى نجا منهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) (وَلِيُبْلِيَ) الجملة متعلقة بمحذوف تقديره : فعل ذلك أي النصر ، والهزيمة للكفار ليبلي المؤمنين ... الخ.

(٣) قالوا هذا وهم يتجهّزون للقتال في مكة ، وقالوه في ساحة بدر قبل القتال.

٢٩٣

تَسْتَفْتِحُوا) أي تطلبوا الفتح وهو القضاء بينكم وبين نبينا محمد (فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) وهي هزيمتهم في بدر (وَإِنْ تَنْتَهُوا) تكفوا عن الحرب والقتال وتنقادوا لحكم الله تعالى فتسلموا (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا) للحرب والكفر (نَعُدْ) فنسلط عليكم رسولنا والمؤمنين لنذيقكم على أيديهم الذل والهزيمة (وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) وبلغ تعداد المقاتلين منكم عشرات الآلاف ، هذا وأن الله دوما مع المؤمنين فلن يتخلى عن تأييدهم ونصرتهم ما استقاموا على طاعة ربهم ظاهرا وباطنا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة الفرار من العدو الكافر عند (١) اللقاء لما توعد الله تعالى عليه من الغضب والعذاب ولعد الرسول له من الموبقات السبع في حديث مسلم «والتولي يوم الزحف».

٢ ـ تقرير مبدأ أن الله تعالى خالق كل شيء وأنه خلق العبد وخلق فعله ، إذ لما كان العبد مخلوقا وقدرته مخلوقة ، ومأمورا ومنهيا ولا يصدر منه فعل ولا قول إلا بإقدار الله تعالى له كان الفاعل الحقيقي هو الله ، وما للعبد إلا الكسب بجوارحه (٢) وبذلك يجزى الخير بالخير والشر بمثله. عدل الله ورحمته.

٣ ـ آية وصول حثية التراب من كف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أغلب عيون المشركين في المعركة.

٤ ـ إكرام الله تعالى وإبلاؤه لأولياءه البلاء الحسن فله الحمد وله المنة.

٥ ـ ولاية الله للمؤمنين الصادقين هى أسباب نصرهم وكمالهم وإسعادهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ

__________________

(١) هذا التحريم مقيّد بما في آخر السورة من أنّ ما زاد على المثلين يجوز الفرار معه كالواحد مع أكثر من اثنين ، والمائة مع أكثر من مائتين ، وألفين مع أكثر من أربعة آلاف.

(٢) مع ما وهبه الله من حرية الإرادة والقدرة على الاختيار ومع هذا فإنه لا يريد إلا ما أراده الله ولا يقع اختياره إلا على ما كتبه الله له أو عليه وقضى به أزلا وهنا تتجلى عظمة الرب تبارك وتعالى.

٢٩٤

وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) : أي لا تعرضوا عن طاعته إذا أمركم أو نهاكم كأنكم لا تسمعون.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) : أى شر ما يدب على الأرض الكافرون

(لَأَسْمَعَهُمْ) : لجعلهم يسمعون أو لرفع المانع عنهم فسمعوا واستجابوا.

معنى الآيات :

ينادي الله تعالى عباده المؤمنين (١) الذين آمنوا به وبرسوله وصدقوا بوعده ووعيده يوم لقائه فيأمرهم بطاعته وطاعة رسوله ، وينهاهم عن الإعراض عنه وهم يسمعون الآيات تتلى والعظات تتوالى في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن نصركم وتأييدكم كان ثمرة لإيمانكم وطاعتكم فإن أنتم أعرضتم وعصيتم فتركتم كل ولاية لله تعالى لكم أصبحتم كغيركم من أهل الكفر والعصيان هذا معنى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) وقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) ينهاهم عزوجل أن يسلكوا مسلك الكافرين المشركين (٢) في التصامم عن سماع الآيات الحاملة للحق والداعية إليه ، والتعامي عن رؤية آيات الله الدالة على توحيده الذين قالوا إنا عما يقوله محمد في صمم ، وفيما يذكر ويشير إليه في عمى ، فهم يقولون سمعنا بآذاننا وهم لا يسمعون بقلوبهم لأنهم لا يتدبرون ولا يفكرون فلذا هم في سماعهم كمن لم يسمع إذ العبرة بالسماع الانتفاع به (٣) لا مجرد سماع صوت وقوله تعالى (إِنَّ شَرَّ (٤) الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) يعني بهم المشركين وكانوا شر الدواب لأنهم كفروا بربهم وأشركوا به فعبدوا غيره ، وضلوا عن سبيله ففسقوا وظلموا وأجرموا الأمر الذي جعلهم حقا شر الدواب في الأرض فهذا تنديد بالمشركين ، وفي نفس الوقت هو تحذير للمؤمنين من

__________________

(١) لا يجب الالتفات لمن قال : هذا الخطاب هو للمنافقين كأنما قال : يا من آمنتم بألسنتكم ولم تؤمن قلوبكم ، إذ الآية في المؤمنين الصادقين بلا شك ولا ريب.

(٢) واليهود والمنافقين أيضا ، إذ الكل كان هذا موقفهم مما يدعوهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) في الآية دليل على أن المؤمن إذ أمر أو نهي فقال سمعا وطاعة أي : سمعت وأطعت ولم يفعل ولم يترك لا وزن ولا عبرة بقوله بل لا بد من الفعل والترك.

(٤) شرّ أصلها : أشر اسم تفضيل ، ولكثرة الاستعمال اكتفوا بلفظ شرّ لأنه أخف على اللسان بنقص حرف الهمزة.

٢٩٥

معصية الله ورسوله والإعراض عن كتابه وهدي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي لجعلهم يسمعون آيات الله وما تحمله من بشارة ونذارة وهذا من باب الفرض لقوله تعالى (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) هؤلاء طائفة من المشركين (١) توغلوا في الشر والفساد والظلم والكبر والعناد فحرموا لذلك هداية الله تعالى فقد هلك بعضهم في بدر وبعض في أحد ولم يؤمنوا لعلم الله تعالى أنه لا خير فيهم وكيف لا وهو خالقهم وخالق طباعهم ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب طاعة الله ورسوله في أمرهما ونهيهما ، وحرمة معصيتهما.

٢ ـ حرمة التشبه بالمشركين والكافرين وسائر أهل الضلال وفي كل شيء من سلوكهم.

٣ ـ بيان أن من الناس من هو شر من الكلاب والخنازير فضلا عن الإبل والبقر والغنم أولئك البعض كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦))

__________________

(١) في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قال : هم نفر من بني عبد الدار ، والآية عامة في كل من تلك حالهم.

٢٩٦

شرح الكلمات :

(اسْتَجِيبُوا) (١) : اسمعوا وأطيعوا.

(لِما يُحْيِيكُمْ) (٢) : أي لما فيه حياتكم ولما هو سبب في حياتكم كالإيمان والعمل الصالح والجهاد.

(فِتْنَةً) : أي عذابا تفتنون به كالقحط أو المرض أو تسلط عدو.

(مُسْتَضْعَفُونَ) : أي ضعفاء أمام أعدائكم يرونكم ضعفاء فينالون منكم.

(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : جمع طيب من سائر المحللات من المطاعم والمشراب وغيرها.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : رجاء أن تشكروه تعالى بصرف النعمة في مرضاته.

معنى الآيات :

هذا هو النداء الثالث بالكرامة للمؤمنين الرب تعالى يشرفهم بندائه ليكرمهم بما يأمرهم به أو ينهاهم عنه تربية لهم وإعدادا لهم لسعادة الدارين وكرامتهما فيقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) وهو بمعنى النداء الأول أطيعوا الله ورسوله. وقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) إشعار بأن أوامر الله تعالى ورسوله كنواهيهما لا تخلوا أبدا مما يحيي المؤمنين (٣) أو يزيد في حياتهم أو يحفظها عليهم ، ولذا وجب أن يطاع الله ورسوله ما أمكنت طاعتهما. وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) تنبيه عظيم للمؤمنين إذا سنحت لهم فرصة للخير ينبغي أن يفترصوها قبل الفوات لا سيما إذا كانت دعوة من الله أو رسوله ، لأن الله تعالى قادر على أن يحول بين المرء وما يشتهي وبين المرء وقلبه (٤) فيقلب القلب ويوجهه إلى وجهة أخرى فيكره فيها الخير ويرغب في الشر وقوله (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ

__________________

(١) هذا بمعنى أجيبوا : الإجابة معناها : إعطاء المطلوب ، وإن كان أمرا ونهيا فهو الطاعة بفعل الأمر وترك النهي ، ويعبر عنهما بالسمع والطاعة ، وفعل استجاب : يعدّى باللّام يقال : استجاب له ، وفعل أجاب : يتعدى بنفسه ، يقال : أجابه ، إلّا أنّ استجاب قد يتعدى بنفسه ولكن بقلة ومنه قول الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

(٢) (يُحْيِيكُمْ) أصلها يحييكم بضم الياء الثانية إلّا أن حركتها حذفت فسكنت تخفيفا.

(٣) في الآية دليل على أن الكفر والجهل موت معنوي للإنسان ، إذ بالإيمان والعلم تكون الحياة وبضدهما تكون الممات.

(٤) روى غير واحد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك) وروى مسلم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (اللهم مصرف القلوب صرّف قلوبنا إلى طاعتك).

٢٩٧

تُحْشَرُونَ) فالذي يعلم أنه سيحشر رغم أنفه إلى الله تعالى كيف يسوغ له عقله أن يسمع نداءه بأمره فيه أو ينهاه فيعرض عنه ، وقوله (وَاتَّقُوا (١) فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ (٢) الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) تحذير آخر عظيم للمؤمنين من أن يتركوا طاعة الله ورسوله ، ويتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فينتشر الشر ويعم الفساد ، وينزل البلاء فيعم الصالح والطالح ، والبار والفاجر ، (٣) والظالم والعادل ، وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ). وهو تأكيد للتحذير بكونه تعالى إذا عاقب بالذنب والمعصية فعقابه قاس شديد لا يطاق فليحذر المؤمنون ذلك بلزوم طاعة الله ورسوله. وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذه موعظة ربانية لأولئك المؤمنين الذين عايشوا الدعوة الإسلامية من أيامها الأولى يذكرهم ربهم بما كانوا عليه من قلة وضعف يخافون أن يتخطفهم الناس لقلتهم وضعفهم ، فآواهم عزوجل إلى مدينة نبيه المنورة ونصرهم بجنده فعزوا بعد ذلة واستغنوا بعد عيلة وفاقة ، ورزقهم من الطيبات من مطعم ومشرب وملبس ومركب ، ورزقهم من الطيبات إكراما لهم ، ليعدهم بذلك للشكر إذ يشكر النعمة من عاشها ولابسها ، والشكر حمد المنعم والثناء عليه وطاعته ومحبته وصرف النعمة في سبيل مرضاته ، والله يعلم أنهم قد شكروا فرضي الله عنهم وأرضاهم والحقنا بهم صابرين شاكرين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

__________________

(١) قال ابن عباس في هذه الآية أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمّهم العذاب ، وفي صحيح مسلم عن زينبت بنت جحش أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث).

(٢) اعراب هذه الجملة مشكل نكتفي بعرض صورتين : الأولى أنها كقوله : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي : إن تدخلوا لا يحطمنّكم فيكون معنى الآية : إن تتقوا ... لا تصيبنّ فدخلت نون التوكيد لما في التركيب من معنى الجزاء ، والثانية : تكون على حذف القول أي : اتقوا فتنة مقول فيها : لا تصيبنّ الذين ظلموا ... كقول الشاعر :

حتى إذا جنّ الظلام واختلط

جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

أي مقول فيه : هل رأيت .. الخ فقوله فتنة موصوف بجملة مقول فيها : لا تصيبنّ.

(٣) روى أحمد عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده قالت. قلت : يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال بلى. قالت : كيف يصنع أولئك؟ قال : يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان).

٢٩٨

١ ـ وجب الاستجابة لنداء الله ورسوله (١) بفعل الأمر وترك النهي لما في ذلك من حياة الفرد المسلم.

٢ ـ نعين اغتنام فرصة الخير قبل فواتها فمتى سنحت للمؤمن تعين عليه اغتنامها.

٣ ـ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء للفتن العامة التي يهلك فيها العادل والظالم.

٤ ـ وجوب ذكر النعم لشكرها بطاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه والاعتراف بالنعمة له والتصرف فيها حسب مرضاته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

شرح الكلمات :

(لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) : أي بإظهار الإيمان والطاعة ومخالفتهما في الباطن.

(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) : أي ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن عليها بعضكم بعضا.

(أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) : أي الاشتغال بذلك يفتنكم عن طاعة الله ورسوله.

(إِنْ تَتَّقُوا اللهَ) : أي بامتثال أمره واجتناب نهيه في المعتقد والقول والعمل.

__________________

(١) روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله عزوجل (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ)؟ وذكر الحديث.

قال العلماء : في هذا دليل على أن الفعل الفرض أو القول الفرض إذا أتى به في الصلاة لا تبطل.

٢٩٩

(يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) : نورا في بصائركم تفرقون به بين النافع والضار والصالح والفاسد.

(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) : أي يمحوا عنكم ما سلف من ذنوبكم التي بينكم وبينه.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم : أي يغطيها فيسترها عليكم فلا يفضحكم بها ولا يؤاخذكم عليها.

معنى الآيات :

هذا نداء رباني آخر يوجه إلى المؤمنين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا. (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) بأن يظهر أحدكم الطاعة لله ورسوله ، ويستسر المعصية ، ولا تخونوا أماناتكم التي يأتمن بعضكم بعضا عليها (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) عظيم جريمة الخيانة وآثارها السيئة على النفس والمجتمع ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا (١) اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما (٢) أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فيه إشارة إلى السبب الحامل على الخيانة غالبا وهو المال والأولاد فأخبرهم تعالى أن أموالهم وأولادهم فتنة تصرفهم عن الأمانة والطاعة ، وأن ما يرجوه من مال أو ولد ليس بشيء بالنسبة الى ما عند الله تعالى إن الله تعالى عنده أجر عظيم لمن أطاعه واتقاه وحافظ على أمانته مع الله ورسوله ومع عباد الله وقوله تعالى في الآية الثالثة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ (٣) يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) هذا حض على التقوى وترغيب فيها بذكر أعظم النتائج لها وهي أولا اعطاء الفرقان وهو النصر والفصل بين كل مشتبه ، والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع ، والصحيح والفاسد ، وثانيا تكفير السيئآت ، وثالثا مغفرة الذنوب ورابعا الأجر العظيم الذي هو الجنة ونعيمها إذ قال تعالى

__________________

(١) لفظ الآية عام في كل ذنب صغير وكبير ، وما روي أنها نزلت في أبي لبابة حيث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ، لا ينافيه.

(٢) وهذه الآية عامّة أيضا وإن قيل إنها نزلت في أبي لبابة إذ كان له مال وولد في بني قريظة فلا يتهم لأجل ذلك.

(٣) قال بعضهم واصفا للتقوى المورثة للفرقان فقال : هي امتثال الأوامر واجتناب المناهي ، وترك الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات وشحن القلب بالنية الخالصة ، والجوارح بالأعمال الصالحة ، والتحفظ من شوائب الشرك الخفي والظاهر.

٣٠٠