أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧))

شرح الكلمات :

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) : مدين أبو القبيلة وهو مدين بن إبراهيم الخليل وشعيب من أبناء القبيلة فهو أخوهم في النسب حقيقة إذ هو شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) : أي لا تنقصوا الناس قيم سلعهم وبضائعهم ، إذ كانوا يفعلون ذلك.

(صِراطٍ تُوعِدُونَ) : طريق وتوعدون تخيفون المارة وتأخذون عليهم المكوس أو تسلبونهم أمتعتهم.

(وَتَبْغُونَها عِوَجاً) : أي تريدون سبيل الله ـ وهي شريعته ـ معوجة حتى توافق ميولكم.

(الْمُفْسِدِينَ) : هم الذين يعملون بالمعاصي في البلاد.

يحكم بيننا : يفصل بيننا فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين.

معنى الآيات :

هذا هو القصص الخامس في سورة الأعراف وهو قصص نبي الله شعيب مع قومه أهل مدين ، فقوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) (١) أي وأرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا. فما ذا قال لهم لما أرسل إليهم؟ (قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي قولوا لا إله إلا الله ، ولازم ذلك أن يصدقوا برسول الله شعيب حتى يمكنهم أن يعبدوا الله بما

__________________

(١) شعيب : تصغير شعب أو شعب ويقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه.

٢٠١

يحب أن يعبد به وبما من شأنه أن يكملهم ويسعدهم في الدارين وقوله (قَدْ جاءَتْكُمْ (١) بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي آية واضحة تشهد لي بالرسالة وبما أن ما آمركم به وأنهاكم عنه هو من عند الله تعالى إذا (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) أي بالقسط الذي هو العدل ، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) بل أعطوهم ما تستحقه بضائعهم من الثمن بحسب جودتها ورداءتها (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي في البلاد بعد إصلاحها ، وذلك بترك الشرك والذنوب ومن ذلك ترك التلصص وقطع الطرق ، وترك التطفيف في الكيل والوزن وعدم بخس سلع الناس وبضائعهم ذلكم الذي دعوتكم إليه من الطاعة وترك المعصية خير لكم حالا ومآلا إن كنتم مؤمنين وقوله : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِ (٢) صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً) (٣) ينهاهم عليه‌السلام عن أبشع الإجرام وهو أنهم يجلسون في مداخل البلاد ، وعلى أفواه السكك ، ويتوعدون (٤) المارة بالعذاب إن هم اتصلوا بالنبي شعيب وجلسوا إليه صرفا للناس عن الإيمان والاستقامة ، كما أنهم يقطعون الطرق ويسلبون الناس ثيابهم وأمتعتهم أو يدفعون إليهم ضريبة خاصة.

وقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) يذكرهم عليه‌السلام بنعمة الله تعالى عليهم وهي أنهم أصبحوا شعبا كبيرا بعد ما كانوا شعبا صغيرا لا قيمة له ولا وزن بين الشعوب وقوله : (وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) يعظهم ببيان مصير الظلمة المفسدين من الأمم المجاورة والشعوب حيث حلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فهلكوا يعظهم لعلهم يذكرون فيتركوا الشرك والمعاصي ، ويعملوا بالتوحيد والطاعة.

وأخيرا يخوفهم بالله تعالى ويهددهم بأن حكما عدلا هو الله سيحكم بينهم وعندها يعلمون من هو المحق ومن هو المبطل فقال : (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ) أي جماعة (آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) من التوحيد والطاعة وترك الشرك والمعاصي ، (وَطائِفَةٌ) أخرى (لَمْ يُؤْمِنُوا) وبهذا كنا متخاصمين نحتاج إلى من يحكم بيننا إذا (فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ

__________________

(١) من الجائز أن يكون الله تعالى قد أعطى نبيّه شعيبا آية ولم تذكر في القرآن ، والراجح أنّها حجة قوية قهرهم بها ولم يتمكنوا من ردّها.

(٢) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعّدون من أراد المجيىء إليه ويصدّونه عنه ويقولون : إنّه كذّاب فلا تذهب إليه ، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) قال أبو عبيدة والزجاج : كسر العين عوجا في المعاني ، والفتح عوجا في الاجرام والذوات.

(٤) قال أبو هريرة رضي الله عنه هذا نهي عن قطع الطريق وأخذ السلب وكان ذلك من فعلهم.

٢٠٢

الجزء التاسع

الْحاكِمِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ دعوة الرسل واحدة في باب العقيدة إذ كلها تقوم على أساس التوحيد والطاعة.

٢ ـ حرمة التطفيف في الكيل والميزان ، وبخس الناس أشياءهم ، ويدخل في ذلك الصناعات وحرف المهن وما إلى ذلك.

٣ ـ حرمة الفساد في الأرض بالمعاصي لا سيما البلاد التي طهرها الله بالإسلام وأصلحها بشرائعه.

٤ ـ حرمة التلصص وقطع (١) الطرق وتخويف المارة.

٥ ـ حرمة الصد عن سبيل الله بمنع الناس من التدين والإلتزام بالشريعة ظاهرا وباطنا.

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(الْمَلَأُ) : أشراف القوم الذين يملؤون المجلس إذا جلسوا ، والعين إذا نظر اليهم.

(اسْتَكْبَرُوا) : تكلفوا الكبروهم حقيرون ، حتى لا يقبلوا الحق.

__________________

(١) ومثله الضرائب الفادحة التي تضرب على المسلمين في بلادهم والمكوس التي في الأسواق وغيرها مما اقتدى فيه المسلمون بالكافرين.

٢٠٣

(مِنْ قَرْيَتِنا) : مدينتنا

(فِي مِلَّتِكُمْ) : في دينكم.

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) : أي فوضنا أمرنا واعتمدنا في حمايتنا عليه.

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا) : أي يا ربنا احكم بيننا.

(وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) : أي وأنت خير الحاكمين.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في قصص شعيب مع قومه أهل مدين فبعد أن أمرهم ونهاهم وذكرهم ووعظهم (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) مهددين موعدين مقسمين (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا). هكذا سنة الطغاة الظلمة إذا غلبوا بالحجج والبراهين يفزعون إلى القوة فلما أفحمهم شعيب خطيب الأنبياء عليهم‌السلام ، وقطع الطريق عليهم شهروا السلاح في وجهه ، وهو النفي والإخراج من البلاد أو العودة إلى دينهم الباطل : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَ (١) فِي مِلَّتِنا) ورد شعيب على هذا التهديد بقوله : (أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٢) أي أنعود في ملتكم ولو كنا كارهين لها (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) (٣) ووجه الكذب على الله إن عادوا إلى ملة الباطل هو أن شعيبا أخبرهم أن الله تعالى أمرهم بعبادته وحده وترك عبادة غيره ، وأنه تعالى أرسله إليهم رسولا وأمرهم بطاعته إنقاذا لهم من الباطل الذي هم فيه فإذا أرتد وعاد هو ومن معه من المؤمنين إلى ملة الشرك كان موقفهم موقف من كذب على الله تعالى بأنه قال كذا وكذا والله عزوجل لم يقل. هذا ثم قال شعيب (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها) ليس من الممكن ولا من المتهيء لنا العودة في ملتكم أبدا ، اللهم إلا أن يشاء (٤) ربنا شيئا فإن مشيئته نافذة في خلقه ، وقوله : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فإذا كان قد علم أنا نرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، فسوف يكون ما علمه كما علمه وهو الغالب على أمره.

__________________

(١) (أَوْ لَتَعُودُنَ) : إمّا أن يراد به أتباع شعيب المؤمنون إذ كانوا قبل إيمانهم على دين قومهم وإمّا أن يراد بكلمة (لَتَعُودُنَ) : لتصيرنّ إذ تكون عاد بمعنى : صار.

(٢) الاستفهام للتعجب والاستبعاد.

(٣) هذا أسلوب الإياس لهم من العودة إلى دينهم الباطل.

(٤) هذا الاستثناء كان من شعيب تأدبا مع الله تعالى بتفويض الأمر إلى مشيئته وعودة غيره من أمته ممكنة ولكن عودته هو مستحيلة.

٢٠٤

ثم قال عليه‌السلام بعد أن أعلمهم أن العودة إلى دينهم غير واردة ولا ممكنة بحال من الأحوال إلّا في حال مشيئة الله ذلك ، وهذا مما لا يشاءه الله تعالى قال : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في الثبات على دينه الحق ، والبراءة من الباطل ثم سأل ربه قائلا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) أي احكم بيننا وبينهم بالحق (وَأَنْتَ خَيْرُ) (١) (الْفاتِحِينَ) أي الحاكمين ، وذلك بإحقاق الحق وإبطال الباطل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة بشرية وهي أن الظلمة والمتكبرين يجادلون بالباطل حتى إذا أعياهم الجدال وأفحموا بالحجج بدل أن يسلموا بالحق ويعترفوا به ويقبلوه ، فيستريحوا ويريحوا يفزعون إلى القوة بطرد أهل الحق ونفيهم أو إكراههم على قبول الباطل بالعذاب والنكال.

٢ ـ لا يصح من أهل الحق بعد أن عرفوه ودعوا إليه أن يتنكروا ويقبلوا الباطل بدله.

٣ ـ يستحب الاستثناء في كل ما عزم عليه المؤمن مستقبلا وإن لم يرده أو حتى يفكر فيه.

٤ ـ وجوب التوكل على الله عند تهديد العدو وتخويفه ، والمضي في سبيل الحق.

٥ ـ مشروعية الدعاء وسؤال الله تعالى الحكم بين أهل الحق وأهل الباطل ، لأن الله تعالى يحكم بالحق وهو خير الحاكمين.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ

__________________

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) هذا الاستثناء منقطع بمعني لكن أي : ما يقع منّا العودة إلى الكفر لكن إن شاء الله ذلك كان ، والله لا يشاء ذلك فهو إذا كقولك : لا أكلمك حتى يبيض الغراب أو (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

(١) الفتح بمعنى القضاء والحكم وهو لغة : أزد عمان من اليمن أي : أحكم بيننا وبينهم وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر إذ كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ويرون أن النصر حكم الله للغالب على المغلوب.

٢٠٥

رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) : أي على ما جاء به من الدين والهدى.

(الرَّجْفَةُ) : الحركة العنيفة كالزلزلة.

(جاثِمِينَ) : باركين على ركبهم ميتين.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) : أي كأن لم يعمروها ويقيموا فيها زمنا طويلا.

(الْخاسِرِينَ) : إذ هلكوا في الدنيا وادخلوا النار في الآخرة.

(آسى) (١) : أي أحزن أو آسف شديد الأسف.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصص شعيب مع أهل مدين فإنه بعد أن هدد الظالمون شعيبا بالإبعاد من مدينتهم هو والمؤمنون معه أو أن يعودوا إلى ملتهم فرد شعيب على التهديد بما أيأسهم من العودة إلى دينهم ، وفزع إلى الله يعلن توكله عليه ويطلب حكمه العادل بينه وبين قومه المشركين الظالمين كأن الناس اضطربوا وأن بعضا قال اتركوا الرجل وما هو عليه ، ولا تتعرضوا لما لا تطيقونه من البلاء. هنا قال الملأ الذين استكبروا من قومه مقسمين بآلهة الباطل : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) أي على دينه وما جاء به وما يدعو إليه من التوحيد والعدل ورفع الظلم (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) قال تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) استجابة لدعوة شعيب فأصبحوا (٢) هلكى جاثمين على الركب. قال تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (٣)

__________________

(١) أسي كرضي يأسى كيرضي يقال : أسيت على كذا أسى فأنا آس وآسى في الآية مضارع أسى دخلت عليه همزة المتكلم فصارت آسى بهمزتين.

(٢) في سورة هود : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) وفي سورة الشعراء : (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) وطريقة الجمع. أنهم لمّا اجتمعوا تحت الظلة وهي سحابة أظلتهم ، فزعوا إليها من شدّة الحرّ الذي أصابهم يومئذ فلمّا استقروا تحتها زلزلوا من تحتهم وهي الرجفة ونزلت عليهم من الظلة صاعقة وهي الصيحة فأحرقتهم هذا إن قلنا إنّ مدين وأصحاب الأيكة هما أمة واحدة ، وإلّا فأصحاب الأيكة أخذوا بعذاب الظلة وأصحاب مدين أخذوا بالرجفة من تحتهم ، والصيحة من فوقهم.

(٣) وفسّر القرطبي الغنى : بالمقام يقال : غنى القوم في دارهم أي : طال مقامهم ، والمغني : المنزل والجمع المغاني ، قال لبيد :

وغنيت ستا قبل مجرى داحس

لو كان للنفس اللجوج خلود

ومعنى غنيت : أقمت وهو الشاهد.

٢٠٦

أي كأن لم يعمروا تلك الديار ويقيموا بها زمنا طويلا ، وأكد هذا الخبر وهو حكم في المكذبين الظالمين فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) أما الذين صدقوا شعيبا فهم المفلحون الفائزون وودعهم شعيب كما ودع صالح قومه قال تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) وهم جاثمون هلكى فقال (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) فأبيتم إلا تكذيبي ورد قولي والإصرار على الشرك والفساد حتى هلكتم (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (١) أي لا معنى للحزن والأسف على مثلكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ثمرة الصبر والثبات النصر العاجل أو الآجل.

٢ ـ نهاية الظلم والطغيان والدمار والخسران.

٣ ـ لا أسى ولا حزنا على من أهلكه الله تعالى بظلمه وفساده في الأرض.

٤ ـ مشروعية توبيخ الظالمين بعد هلاكهم كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل القليب وكما فعل صالح وشعيب عليهما‌السلام.

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

شرح الكلمات :

(فِي قَرْيَةٍ) : القرية : المدينة الجامعة لأعيان البلاد ورؤسائها وهي المدينة.

(بِالْبَأْساءِ) : بالشدة كالقحط والجوع والحروب.

__________________

(١) الاستفهام إنكاري وهو موجه في الظاهر إلى نفس شعيب ، والمقصود نهي من معه من المؤمنين الناجين من العذاب برحمة الله تعالى نهيهم عن الحزن عن قومهم وأقاربهم كأنه لاحظ ذلك فيهم.

٢٠٧

(وَالضَّرَّاءِ) : الحالة المضرة كالأمراض والغلاء وشدة المؤونة.

(يَضَّرَّعُونَ) : يدعون الله تعالى ويتضرعون إليه ليكشف عنهم السوء.

(مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) : أي بدل الغلاء الرخاء ، وبدل الخوف الأمن ، وبدل المرض الصحة.

(حَتَّى عَفَوْا) : كثرت خيراتهم ونمت أموالهم ، وأصبحت حالهم كلها حسنة.

(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) : أنزلنا بهم العقوبة فجأة.

معنى الآيتين :

على إثر بيان قصص خمسة أنبياء ذكر تعالى سنته في الأمم السابقة ليكون ذلك عظة لكفار قريش ، وذكرى للمؤمنين فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ) (١) أي في أهل قرية والمراد بالقرية الحاضرة والعاصمة من كبريات المدن حيث الكبراء والرؤساء من نبي من الأنبياء والمرسلين فكذبوه قومه وردوا دعوته مصرين على الشرك والضلال إلا أخذ الله تعالى أهل تلك المدينة بألوان من العذاب التأديبى كالقحط والجوع وشظف العيش ، والأمراض والحروب المعبر عنه بالبأساء والضراء. رجاء أن يرجعوا إلى الحق بعد النفور منه ، وقبوله بعد الإعراض عنه ثم يغير تعالى ما بهم من بأساء وضراء إلى يسر ورخاء ، وعافية وهناء فتكثر أموالهم وأولادهم ويعظم سلطانهم ، ويقولون عند ما يوعظون ويذكرون ليتوبوا فيؤمنوا ويتقوا : (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) (٢) أي الخير والشر وما هناك ما تخوفوننا به إنما هي الأيام هكذا دول يوم عسر وآخر يسر وبذلك يحق عليهم العذاب فيأخذهم الجبار عزوجل فجأة (٣) (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فيتم هلاكهم ويمسون حديث عبرة لمن بعدهم عذاب في الدنيا ، وعذاب في الآخرة وعذاب الآخرة أشد وأبقى.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان سنة الله تعالى في الأمم السابقة.

__________________

(١) في الجملة إضمار تقديره : وما أرسلنا في قرية من نبي فكذّب أهلها إلّا أخذناهم وهو مبسوط في التفسير مبيّن غاية البيان والجملة معطوفة على جملة : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً).

(٢) أي : فنحن مثلهم.

(٣) أي : بغتة ليكون أكثر حسرة.

٢٠٨

٢ ـ تخويف كفار قريش بما دلت عليه هذه السنة من أخذ الله تعالى المصرين على الكفر المتمردين على الحق ،

٣ ـ التذكير والوعظ بتاريخ الأمم السابقة المنبىء عن أسباب هلاكهم وخسرانهم ليتجنبها العقلاء ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ).

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

شرح الكلمات :

(آمَنُوا وَاتَّقَوْا) : أي آمنوا بالله ورسوله ووعد الله ووعيده واتقوه تعالى بطاعته وعدم معصيته.

(بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : جمع بركة وهي دوام الخير وبقاؤه والعلم والإلهام والمطر من بركات السماء والنبات والخصب والرخاء والأمن والعافية من بركات الأرض.

(يَكْسِبُونَ) : من الشرك والمعاصي.

(بَياتاً) : أي ليلا وهم نائمون.

(مَكْرَ اللهِ) : استدراجه تعالى لهم بإغداق النعم عليهم من صحة

٢٠٩

الأبدان ورخاء العيش حتى إذا آمنوا مكره تعالى بهم أخذهم بغتة.

أولم يهد لهم : أي أو لم يبين لهم بمعنى يتبين لهم.

(بِذُنُوبِهِمْ) : أي بسبب ذنوبهم.

معنى الآيات :

بعد ما بين تعالى سنته في الأمم السابقة ، وهي أخذ الأمة بعد تكذيبها وعصيانها بالبأساء والضراء ، ثم إذا هي لم تتب واستمرت على كفرها وعصيانها أغدق عليها الخيرات حتى عفت بكثرة مالها وصلاح حالها أخذها بغتة فأهلكها ، وتم خسرانها في الدارين ، فتح تعالى باب التوبة والرجاء لعباده فقال : (وَلَوْ (١) أَنَّ أَهْلَ الْقُرى) (٢) المكذبين ككفار مكة والطائف وغيرهما من المدن (آمَنُوا) أي بالله ورسوله وبلقاء الله ووعده ووعيده ، (وَاتَّقَوْا) الله تعالى في الشرك وفي معصيته ومعصية رسوله لفتح عليهم أبواب السماء بالرحمات والبركات ، وفتح عليهم كنوز الأرض ورزقهم من الطيبات ولكن أهل القرى الأولين كذبوا فأخذهم بالعذاب بما كانوا يكسبون ، وأهل القرى اليوم وهم مكذبون فإما أن يعتبروا بما أصاب أهل القرى الأولين فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا ، وإما أن يصروا على الشرك والتكذيب فينزل بهم ما نزل بمن قبلهم من عذاب الإبادة والاستئصال ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٩٦) وهي قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ) (٣) (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أما الآيات الثلاث بعدها فإن الله تعالى ينكر على أهل القرى غفلتهم موبخا لهم على تماديهم وإصرارهم على الباطل معجبا من حالهم فيقول : (أَفَأَمِنَ (٤) أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟) أي أجهلوا ما نزل بمن قبلهم فأمنوا أن

__________________

(١) لو : حرف امتناع لا متناع ، امتنع شرطها فامتنع جوابها ، وشرطها هنا : الإيمان والتقوى وجوابها فتح البركات على أهل القرى.

(٢) يقال للمدينة : قرية لاجتماع الناس فيها مأخوذ من التقرّى الذي هو التجمع يقال : قريت الماء في الحوض : إذا جمعته ، وسمي القرآن قرآنا لاجتماع الحروف والكلمات والجمل والآيات فيه.

(٣) البركات : جمع بركة ، وهي الخير الدائم الصالح الذي لا تبعة فيه في الدنيا ولا في الآخرة. وتكون في العمر والمال وفي كل ما هو خير ونافع غير ضار للإنسان.

(٤) الاستفهام للانكار والتعجب معا ، ومكر الله تعالى : إمهالهم وإغداق الخير عليهم مع شركهم وكفرهم ، إذ المكر : أن يظهر المرء الإحسان لمن يمكر به ليأخذه فجأة. والأمن من مكر الله تعالى زيادة على أنه كبيرة من كبائر الذنوب فإنه يؤدي بالآمن إلى هلاكه دنيا وأخرى.

٢١٠

يأتيهم عذابنا ليلا وهم نائمون؟ (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا) أي عذابنا (ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟) أي أو غفل أهل القرى وأمنوا أن يأتيهم عذابنا ضحى وهم في أعمالهم التي لا تعود عليهم بخير كأنها لعب أطفال يلعبون بها (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ)؟ أي أغرهم إمهالنا لهم واستدراجنا إياهم فأمنوا مكر الله؟ إنهم في ذلك خاسرون إذ لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وقوله تعالى في الآية الخامسة (١٠٠) (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي عمى الذين يرثون الأرض من بعد أهلها ولم يتبين لهم بعد ولم يعلموا أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم كما أصبنا الذين ورثوا ديارهم بذنوبهم (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي ونجعل على قلوبهم غشاوة حتى لا يعوا ما يقال لهم ولا يفهموا ما يراد بهم حتى يهلكوا كما هلك الذين من قبلهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عرض الرحمن تبارك وتعالى رحمته على عباده ولم يطلب منهم أكثر من الإيمان والتقوى.

٢ ـ حرمة الغفلة ووجوب الذكر واليقظة.

٣ ـ حرمة الأمن من مكر الله تعالى.

٤ ـ إذا أمنت الأمة مكر الله تهيأت للخسران وحل بها لا محالة.

٥ ـ وجوب الاعتبار بما أصاب الأولين ، وذلك بترك ما كان سببا لهلاكهم.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

٢١١

شرح الكلمات :

(تِلْكَ الْقُرى) : الإشارة إلى قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

(مِنْ أَنْبائِها) : أي من أخبارها.

(بِالْبَيِّناتِ) : بالحجج والبراهين الدالة على توحيد الله وصدق رسله.

(مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل خلقهم ووجودهم ، إذ علم الله تعالى تكذيبهم فكتبه عليهم في كتاب المقادير.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) : أي لم نجد لأكثرهم وفاء بعهودهم التي أخذت عليهم يوم أخذ الميثاق.

معنى الآيتين :

يخاطب الرب تعالى (١) رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أي من أخبارها مع أنبيائها كيف دعتهم رسلهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة ، وكيف ردت تلك الأمم دعوة الله واستكبرت على عبادته ، وكيف كان حكمنا فيهم لعل قومك يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا. وقوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الواضحات على صدق دعوتهم ، وما جاءتهم به رسلهم من أمر ونهي من ربهم. وقوله (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ (٢) قَبْلُ) أي لم يكن أولئك الهالكون من أهل القرى ليؤمنوا بما كذبوا به في علم الله وقدره إذ علم الله أنهم لا يؤمنون فكتب ذلك عليهم فلذا هم لا يؤمنون. وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي كما كتب على الهالكين من أهل القرى أنهم لا يؤمنون ولم يؤمنوا فعلا فأهلكهم ، يطبع كذلك على قلوب الكافرين فلا يؤمنون حتى يأخذهم العذاب وهم ظالمون بكفرهم. وهذا الحكم الإلهي قائم على مبدأ أن الله علم من كل إنسان قبل خلقه ما يرغب فيه وما يؤثره على غيره ويعمله باختياره وارادته فكتب ذلك عليه فهو عند خروجه

__________________

(١) سرّ هذا الخطاب زيادة على التعليم لكمال الهداية فإنه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلاقى من صلف المشركين وعنادهم وجحودهم ، وهو تسلية لكل مؤمن ومؤمنة يعاني من صلف المشركين وأذاهم.

(٢) اختلف في المضاف إليه المحذوف في قوله : (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) هل المراد : من قبل خروجهم للحياة الدنيا وهم في عالم الأرواح حيث أمروا بالإيمان فكذّبوا فكتب الله عليهم ذلك فلن يكون إلا هو أو لو أحييناهم بعد إهلاكهم بذنوبهم لمّا آمنوا بما كذّبوا به فكان سبب هلاكهم ، أو سألوا المعجزات ليؤمنوا فلمّا رأوها لم يؤمنوا بما كذّبوا من قبل رؤيتهم المعجزات ، والراجح من هذه المقولات ما هو في التفسير إذ هو قول ابن جرير إمام المفسرين.

٢١٢

إلى الدنيا لا يعمل إلا به. ليصل الى ما كتب عليه ، وقدر له أزلا قبل خلق السموات والأرض ، وقوله تعالى (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (١) أي لم نجد لتلك الأمم التي أهلكنا وهم قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. لم نجد لأكثرهم وفاء بعهدهم الذي أخذناه عليهم قبل خلقهم من الإيمان بنا وعبادتنا وطاعتنا وطاعة رسلنا ، وما وجدنا (٢) أكثرهم إلا فاسقين عن أمرنا خارجين عن طاعتنا وطاعة رسلنا ، وكذلك أحللنا بهم نقمتنا وأنزلنا بهم عذابنا فأهلكناهم أجمعين.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير الوحي الإلهي وإثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه ما قصّ من أنباء الأولين لا يتلقّى إلا بوحي إلهي ولا يتلقى عن الله تعالى إلا رسول أعدّ لذلك.

٢ ـ وجود البينات مهما كانت قوية واضحة غير كاف في إيمان من لم يشأ الله هدايته.

٣ ـ المؤمن من آمن في الأزل ، والكافر من كفر فيه.

٤ ـ الطبع على قلوب الكافرين سببه اختيارهم للكفر والشر والفساد وإصرارهم على ذلك كيفما كانت الحال.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ (٣) عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ

__________________

(١) (مِنْ عَهْدٍ) من زائدة لتقوية النفي والدلالة على الجنس أي : جنس العهد ، والعهد من الجائز أن يكون ما أخذ عليهم في عالم الذرّ وهو صحيح قاله ابن عباس وأن يكون ما أخذ عليهم من قبل الأنبياء أن يعبدوا الله وحده ويطيعوه ولا يعصوه.

(٢) الآية : (وَإِنْ وَجَدْنا) وإن : بمعنى ما النافية فلذا اكتفينا في التفسير بما ولم نذكر إن اختصارا وتقريبا للفهم.

(٣) قرأ نافع : (حقيق عليّ) بياء الضمير المشدّدة وهي بمعنى : واجب عليّ خبر ثان لأنّ في قوله : (إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقرأ غيره (على) حرف جرّ أي : محقوق بأن لا أقول على الله إلّا الحق ، فحقيق : فعيل بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول.

٢١٣

جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨))

شرح الكلمات :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.

(مُوسى) : هو موسى بن عمران من ذرية يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام.

(بِآياتِنا) : هي تسع آيات : العصا ، واليد ، والسنون المجدبة ، والدم ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والطمس على أموال فرعون.

(إِلى فِرْعَوْنَ) : أي بعث موسى الرسول إلى فرعون وهو الوليد بن مصعب بن الريان ، ملك مصر.

(وَمَلَائِهِ) : أي أشراف قومه وأعيانهم من رؤساء وكبراء.

(فَظَلَمُوا بِها) : أي ظلموا أنفسهم بالآيات وما تحمله من هدى حيث كفروا بها.

(بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) : حجة قاطعة وبرهان ساطع على أني رسول الله إليكم.

(وَنَزَعَ يَدَهُ) : أخرجها بسرعة من جيبه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى) هذا شروع في ذكر القصص السادس مما اشتملت عليه سورة الأعراف ، وهي قصص موسى عليه‌السلام مع فرعون وملئه. قال تعالى وهو يقص على نبيه ليثبت به فؤاده ، ويقرر به نبوته ، ويعظ أمته ، ويذكر به قومه (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب موسى بن عمران إلى فرعون وملئه من رجالات ملكه ودولته ، وقوله بآياتنا. هي تسع آيات لتكون حجة على صدق

٢١٤

رسالته وأحقية دعوته. وقوله تعالى (فَظَلَمُوا بِها) (١) أي جحدوها ولم يعترفوا بها فكفروا بها وبذلك ظلموا أنفسهم بسبب كفرهم بها ، واستمروا على كفرهم وفسادهم حتى أهلكهم الله تعالى بإغراقهم ، ثم قال لرسوله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) أي دمارا وهلاكا وهي عاقبة كل مفسد في الأرض بالشرك والكفر والمعاصي. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٣) وأما الآيات بعدها فإنها في تفصيل أحداث هذا القصص العجيب. وأتى موسى فرعون وقال (يا فِرْعَوْنُ (٢) إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ، حَقِيقٌ) أي جدير وخليق بي (أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ، قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) دالة على صدقي شاهدة بصحة ما أقول (فَأَرْسِلْ (٣) مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) لأذهب بهم إلى أرض الشام التى كتب الله لهم وقد كانت دار آبائهم. وهنا تكلم فرعون وطالب موسى بالآية التي ذكر أنه جاء بها فقال (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي فيما تدعيه وتقول به وتدعوا إليه. وهنا ألقى موسى عصاه أي أمام فرعون المطالب بالآية (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) أي حية عظيمة تهتز أمام فرعون وملئه كأنها جان ، (٤) هذه آية وزاده أخرى فأدخل يده في جيبه كما علمه ربه ونزعها (فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) بيضاء بياضا غير معهود مثله في أيدي الناس. هذا ما تضمنته هذه الآيات الخمس في هذا السياق.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سوء عاقبة المفسدين بالشرك والمعاصي.

٢ ـ تذكير موسى فرعون بأسلوب لطيف بأنه ليس ربا بل هناك رب العالمين وهو الله رب موسى وهرون والناس أجمعين.

__________________

(١) (فَظَلَمُوا بِها) أي : ظلموا أنفسهم بالتكذيب بالآيات ، وجائز أن يكون ظلموا بسببها غيرهم ممن منعوهم من الإيمان بها إذ هدّدوهم بالقتل وجائز أن يضمّن الظلم هنا معنى الكفر أي كفروا بها وهو صحيح المعنى.

(٢) فرعون : علم جنس لمن يملك مصر في القديم ككسرى : لكل من يملك فارسا وقيصر : لكل من يملك الروم ونمرود : لمن ملك الكنعانيين ، والنجاشي : للأحباش ، وتبع ، لحمير ونداء موسى له بقوله يا فرعون : فيه نوع احترام ، إذ ناداه بعنوان الملك والسلطان.

(٣) الفاء تفريعية أي : ما بعدها متفرّع عمّا قبلها.

(٤) الجانّ : هنا حية أكحل العينين تسكن البيوت لا تؤذى كثيرة التقلّب والاهتزاز.

٢١٥

٣ ـ تقرير مبدأ الصدق لدى الرسل عليهم‌السلام

٤ ـ ظهور آيتين لموسى العصا واليد.

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢))

شرح الكلمات :

(لَساحِرٌ عَلِيمٌ) : أي ذو علم بالسحر خبير به ليس مجرد مدّع.

(مِنْ أَرْضِكُمْ) : أي من بلادكم ليستولى عليها ويحكمكم.

(فَما ذا تَأْمُرُونَ) : أي أشيروا بما ترون الصواب في حل هذا المشكل.

(أَرْجِهْ) : أي أمهله وأخاه لا تعجل عليهما قبل اتخاذ ما يلزم من الاحتياطات.

(فِي الْمَدائِنِ) : مدن المملكة الفرعونية.

(حاشِرِينَ) : رجالا يجمعون السحرة الخبراء في فن السحر للمناظرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تفصيل قصص موسى مع فرعون فبعد أن تقدم موسى بما طلب فرعون منه من الآية فأراه آية العصا ، واليد ، وشاهد الملأ من قوم فرعون الآيتين العظيمتين قالوا (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) وذلك لما بهرتهم الآيتان تحول العصا إلى حية عظيمة واليد بيضاء من غير سوء كالبرص بل بياضها عجب (١) حتى لكأنها فلقة قمر أي قطعة منه ، واتهموا موسى فورا بالسياسة وأنه يريد بهذا إخراجكم من بلادكم ليستولي عليها هو وقومه من بني إسرائيل ، وهنا تكلم فرعون وقال : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٢) أي بم تشيرون علّي أيها الملأ والحال كما ذكرتم؟ فأجابوه قائلين (أَرْجِهْ (٣) وَأَخاهُ) أي أوقفهما عندك (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) (٤)

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان ليد موسى نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض.

(٢) يرى بعضهم أن المستفهم غير فرعون ، الصحيح أنه فرعون لانهزامه معنويا.

(٣) قرأ ورش : أرجه بإشباع كسرة الهاء ، وقرأ الجمهور (أَرْجِهْ) بإسكان الهاء ، وقرأ بعض بكسر الهاء بدون مدّ.

(٤) قيل هي صعيد مصر إذ هو مقرّ العلماء بالسحر ، والمدائن جمع مدينة وتجمع على مدن واصل اشتقاقها من مدن بالمكان إذا أقام به.

٢١٦

أي رجالا من الشرط يحشرون أي يجمعون أهل الفن من السحرة من كافة أنحاء الإيالة أي الإقليم المصري ، وأجر معه مناظرة فإذا انهزم انتهى أمره وأمنا من خطره على بلادنا وأوضاعنا. هذا ما دلت عليه الآيات الأربع في هذا السياق.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جهل الملأ بالآيات أدى بهم إلى أن قالوا إن موسى ساحر عليم.

٢ ـ مكر الملأ وخبثهم إذ اتهموا موسى سياسيا بأنه يريد الملك وهو كذب بحت وإنما يريد إخراج بني إسرائيل من مصر حيث طال استعبادهم وامتهانهم من قبل الأقباط وهم أبناء الأنبياء وأحفاد إسرائيل واسحق وابراهيم عليهم‌السلام.

٣ ـ فضيحة فرعون حيث نسي دعواه الربوبية ، فاستشار الملأ في شأنه ، إذ الربّ الحق لا يستشير عباده فيما يريد فعله لأنه لا يجهل ما يحدث مستقبلا.

٤ ـ السحر صناعة من الصناعات يتعلم ويبرع فيها المرء ، ويتقدم حتى يتفوق على غيره.

٥ ـ حرمة السحر وحرمة تعلمه ، ووجوب إقامة الحد على من ظهر عليه وعرف به.

(وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦))

شرح الكلمات :

(السَّحَرَةُ) : جمع ساحر وهو من يتقن فن السحر ويؤثر في أعين الناس بسحره.

(إِنَّ لَنا لَأَجْراً) : أي ثوابا من عندك أي أجرا تعطيناه إن نحن غلبنا.

٢١٧

(نَحْنُ الْمُلْقِينَ) : لعصيّنا.

(سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) : حيث صار النظارة في الميدان يشاهدون عصي السحر وحبالهم يشاهدونها حيات وثعابين تملأ الساحة.

(وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) : أي أدخلوا الرهب والرعب في قلوب الناس من قوة أثر السحر في عيونهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه‌السلام من جهة وبين فرعون وملئه من جهة أخرى ، فقد جاء في الآيات السابقة أن الملأ أشاروا على فرعون بأن يحبس موسى وأخاه هارون ويرسل شرطة في المدن يأتون بالخبراء في فن السحر لمناظرة موسى عسى أن يغلبوه ، وفعلا أرسل فرعون في مدنه حاشرين يجمعون خبراء السحر ، وها هم أولاء قد وصلوا قال تعالى (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) (١) وعرفوا أن الموقف جد صعب على فرعون فطالبوه بالأجر العظيم إن هم غلبوا موسى وأخاه فوافق فرعون على طلبهم ، وهو معنى قوله تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَ (٢) لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ قالَ نَعَمْ) وزادهم أيضا أن يجعلهم من خواصه ورجال قصره فقال (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي لدينا. وهنا تقدموا لموسى وكأنهم على ثقة في قوتهم السحرية وأن الجولة ستكون لهم ، تقدموا بإلقاء آلاتهم السحرية أو تقدم موسى عليهم فقالوا (يا مُوسى (٣) إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) أي الق عصاك أو نلقى نحن عصينا فقال لهم موسى (أَلْقُوا) (٤) فألقوا فعلا فسحروا أعين (٥) الناس وجاءوا بسحر عظيم كما أخبر تعالى الأمر الذي استرهب النظارة حتى إن موسى عليه‌السلام أوجس في نفسه خيفة فنهاه ربه تعالى عن ذلك وأعلمه أنه الغالب بإذن الله تعالى جاء هذا الخبر في سورة طه.

__________________

(١) لقد ذكر القرطبي في عدد السحرة أخبارا مثلها لا يصح ، إذ جاء في بعضهم أنّ عددهم كان سبعين ألف ساحر ، والأقرب إلى أن يكونوا سبعين رجلا.

(٢) قرىء في السبع بهمزة الاستفهام أئن لنا لأجرا وقرىء بدونها (إِنَّ لَنا لَأَجْراً).

(٣) قال القرطبي : تأدّبوا مع موسى إذ استشاروه فيمن يبدأ بالإلقاء فنفعهم الله بأدبهم مع نبيّه فأسلموا وسعدوا برضوان الله تعالى.

(٤) في إذنه لهم بالإلقاء توفيق ربّاني عظيم إذ معناه أنه احتفظ بالضربة الأخيرة وصاحبها يغلب بإذن الله دائما.

(٥) أي : خيّلوا لهم وقلبوها عن صحة إدراكها بما يتخيل من التمويه الذي جرى مجرى الشعوذة وخفة اليد.

٢١٨

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية طلب الأجرة على العمل الذي يقوم به الإنسان خارجا عن نطاق العبادة.

٢ ـ مشروعية الترقيات الحكومية لذي الخدمة الجلى للدولة.

٣ ـ تأثير السحر على أعين الناس حقيقة بحيث يرون الشيء على خلاف ما هو عليه إذ العصي والحبال استحالت في أعين الناس إلى حيات وثعابين.

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢))

شرح الكلمات :

(تَلْقَفُ) : تأخذ بسرعة فائقة وحذق عجيب.

(ما يَأْفِكُونَ) : ما يقلبون بسحرهم وتمويههم.

(فَوَقَعَ الْحَقُ) : ثبت وظهر.

(صاغِرِينَ) : ذليلين.

(ساجِدِينَ) : ساقطين على وجوههم سجدا لربهم رب العالمين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في المناظرة أو المباراة بين موسى عليه‌السلام وسحرة فرعون ، فبعد أن ألقى السحرة حبالهم وعصيهم في الساحة وانقلبت بالتمويه السحري حيات وثعابين ورهب الناس من الموقف وظن فرعون وملأه أنهم غالبون أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه فألقاها (فَإِذا هِيَ (١) تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) أي تأخذه وتبتلعه وبذلك وقع الحق أي ظهر وثبت

__________________

(١) قرىء (تَلْقَفُ) و (تلقّف) بتضعيف القاف ، والأصل : تتلقف فحذف احدى التاءين تخفيفا ، وقرىء في الشاذ : تلقّم بالميم بدل الفاء ، ومعنى الكلّ تبتلع بسرعة وتزدرده ، وصيغة المضارع في الفعلين لاستحضار الماضي كأنّه حاضر ليكون أوقع في النفس.

٢١٩

واستقر (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي السحر والتمويه وقوله تعالى (فَغُلِبُوا) أي فرعون وملأه وقومه (هُنالِكَ) أي في ساحة المباراة والمناظرة (وَانْقَلَبُوا) إلى ديارهم (صاغِرِينَ) أي ذليلين مهزومين. وقوله تعالى (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي إنهم بعد أن شاهدوا الآية الكبرى بهرتهم فخروا ساجدين كأنما ألقاهم (١) أحد على وجه الأرض لا حراك لهم وهم يقولون (٢) (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) وضمن ذلك فقد كفروا بربوبية فرعون الباطلة ، لأن الإيمان بالله سيلزم الكفر بما عداه ، ولذا قالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) تلويحا بكفرهم بفرعون الطاغية وبكل إله غير الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنته تعالى في أن الحق والباطل إذا التقيا في أي ميدان فالغلبة للحق دائما.

٢ ـ بطلان السحر وعدم فلاح أهله ولقوله تعالى من سورة طه (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى).

٣ ـ فضل العلم وأنه سبب الهداية فإيمان السحرة كان ثمرة العلم ، إذ عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو آية له من الله فآمنوا.

٤ ـ مظهر من مظاهر القضاء والقدر فالسحرة أصبحوا كافرين وأمسوا مسلمين.

(قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦))

__________________

(١) أي : ألقوا أنفسهم على الأرض ، وبني الفعل للمجهول لظهور الفاعل وهو أنفسهم.

(٢) (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) حال هو يهم للسجود إعلاما منهم أنهم ما سجدوا لفرعون كما يفعل الأقباط ، وإنّما سجدوا لله رب العالمين (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).

٢٢٠