أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

وهنا قالت امرأة العزيز زليخا ما اخبر تعالى به عنها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) (١) أي وضح وبان وظهر (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وليس هو الذي راودني ، (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وقوله تعالى (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) هذا إخبار عن يوسف عليه‌السلام فإنه قال ذلك أي امتناعي من الخروج من السجن وعدم إجابتي الملك وطلبي إليه أن يسأل عن حال النسوة حتى تم الذي تم من براءتي على لسان النسوة عامة ، وامرأة العزيز خاصة حيث اعترفت قطعيا ببراءتي وقررت أنها هي التي راودتني عن نفسي فأبيت ورفضت فعلت هذا ليعلم زوجها العزيز أني لم أخنه في أهله في غيبته وأن عرضه مصان وشرفه لم يدنس لأنه ربي أحسن مثواي. وإن الله لا يهدي كيد الخائنين فلو كنت خائنا ما هداني لمثل هذا الموقف المشرف والذي أصبحت به مبرأ الساحة سليم العرض طاهر الثوب والساحة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل العلم وشرفه إذ به رفع الملك يوسف إلى حضرته وهو رفيع.

٢ ـ فضيلة الحلم والأناة وعدم التسرع في الأمور.

٣ ـ فضيلة الصدق وقول الحق ولو كان على النفس.

٤ ـ شرف زليخا (٢) بإقرارها بذنبها رفعها مقاما ساميا وأنزلها درجة عالية فقد تصبح بعد قليل زوجة لصفي الله يوسف الصديق بن الصديق زوجة له في الدنيا وزوجة له في الآخرة وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

__________________

(١) (حَصْحَصَ) أي : تبيّن وظهر ، وأصله : حصص فقيل : حصحص ، نحو : كفكف في كفف ، وأصل الحصّ :

استئصال الشيء من حص الشعر : إذا استأصله جزا ، قال الشعر :

قد حصّت البيضة رأسي فما

أطعم نوما غير تهجاع

أي : النوم الخفيف ، ومنه الحصّة : القطعة من الشيء ، فالمعنى إذا بانت حصة الحق من حصة الباطل.

(٢) ذهبت في التفسير مذهب إمام المفسرين ابن جرير رحمه‌الله تعالى وكثير من علماء السلف إلى أنّ القائل : (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب إلى قوله غفور رحيم) هو يوسف عليه‌السلام : أي : إنه لما جاء الرسول يدعوه إلى حضرة الملك أبى أن يجيب الدعوة حتى يحقق الملك في قضيته التي سجن فيها ثمّ بعد ذلك يخرج. ودعا الملك النسوة وحقق معهن وبرأن يوسف بقولهن : ما علمنا عليه من سوء ، وقول امرأة العزيز أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين كأن سائلا قال ليوسف : لم لم تجب الداعي؟ فأجاب : ذلك أي : فعلت ذلك ليعلم أي : العزيز : أنّي لم أخنه بالغيب ، ثم قال تواضعا : وما أبرّئ نفسي إذ همّ بضرب زليخا لما ألحت عليه وأرادت ضربه.

وذهبت إلى هذا مرجحا له لأمرين الأول : ترجيح إمام المفسرين له والثاني : أنّى لتلك المرأة المشركة أن ترقى إلى هذا المستوى فتقول : وما أبرئ نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي إنّ ربّي غفور رحيم. إنّ هذا الكلام لا يجري إلا على لسان الأنبياء والصالحين.

ومع هذا فمن رجّح أن يكون القول قول زليخا كابن القيم رحمه‌الله تعالى فلا بأس ، ويجب على الجميع أن يقول الله أعلم ، إذ قولنا مجرد ارتئاء رأيناه والعلم الحق لله وحده لا شريك له.

٦٢١

الجزء الثالث عشر

(وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

شرح الكلمات :

(لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) : أي كثيرة الأمر والسوء هو ما يسيء إلى النفس البشرية مثل الذنوب.

(إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) : أي إلا من رحمه‌الله فإن نفسه لا تأمر بالسوء لطيبها وطهارتها.

(أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) : أجعله من خلصائي من أهل مشورتي وأسراري.

(مَكِينٌ أَمِينٌ) : أي ذو مكانة تتمكن بها من فعل ما تشاء ، أمين مؤتمن على كل شيء عندنا.

(خَزائِنِ الْأَرْضِ) : أي خزائن الدولة في أرض مصر.

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) : أي أحافظ على ما تسنده إليّ واحفظه ، عليم بتدبيره.

(يَتَبَوَّأُ) : أي ينزل ويحل حيث يشاء بعد ما كان في غيابة الجب وضيق السجن.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث على يوسف عليه‌السلام فقوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا من قول يوسف عليه (١)

__________________

(١) على ما رجحته في التفسير. وعلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن القيم فهو من قول امرأة العزيز.

٦٢٢

السّلام ، إذ قال لما طلب إلى الملك أن يحقق في قضية النسوة اللاتي قطعن أيديهن وامرأة العزيز وتم التحقيق بالإعلان عن براءة يوسف مما اتهم به قال ذلك ، أي فعلت ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب ، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. وهضما لنفسه من جهة ومن جهة أخرى فقد همّ بضرب زليخا كما تقدم ، قال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) وعلل لذلك فقال (إِنَّ النَّفْسَ) أي البشرية (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) (١) إلا نفسا رحمها ربي بتوفيقها إلى تزكيتها وتطهيرها بالإيمان وصالح الأعمال فإنها تصبح نفسا مطمئنة تأمر بالخير وتنهى عن الشر ، (٢) وقوله : (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ذكر هذه الجملة تعليلا لقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) فذكر وإن حصل منيّ هم بضرب وهو سوء فإني تبت إلى الله ، والله غفور أي يعفو ويصفح فلا يؤاخذ من تاب إليه ويرحمه فإنه رحيم بالمؤمنين من عباده. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٣) أما الآية الثانية (٥٤) والثالثة (٥٥) فقد تضمنت استدعاء الملك ليوسف وما دار من حديث بينهما إذ قال تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ) الريان بن الوليد (ائْتُونِي بِهِ) أي بيوسف بعد أن ظهر له علمه وكماله الروحي (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي أجعله خالصا لي استشيره في أمري واستعين به على مهام ملكي وجاء يوسف من السجن وجلس إلى الملك وتحدث معه وسأله عن موضوع سني الخصب والجدب فأجابه بما أثلج صدره من التدابير الحكيمة السديدة وهنا قال له ما أخبر تعالى به قال له : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي ذو مكانة عندنا تمكنك من التصرف في البلاد كيف تشاء أمين على كل شيء عندنا فأجابه يوسف بما أخبر به تعالى بقوله : (قالَ اجْعَلْنِي (٣) عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) أي أرض مصر ومعنى هذا أنه حل محل العزيز الذي قد مات في تلك الأيام. وعلل لطلبه وزارة المال والاقتصاد بقوله : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) أي حفيظ على ما أتولى تدبيره عليم بكيفية الإدارة وتدبير الشؤون. وقوله تعالى في الآية الرابعة (٥٦) : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي بمثل هذه الأسباب

__________________

(١) (ما رَحِمَ) ما : بمعنى : من ، وهي شائعة الاستعمال ، من ذلك : فانكحوا ما طاب لكم. أي : من طبن لكم من النساء.

(٢) وبذلك يتمّ عصمتها بإذن الله تعالى.

(٣) قال بعض أهل العلم : في الآية دليل على جواز عمل الرجل الصالح للرجل الكافر أو الفاجر إذا كان ذلك لا يضرّ بدينه. وهو كذلك ، وفيها دليل على جواز ذكر طالب العمل كفاءته العلمية حتى يسند إليه العمل على أن يكون صادقا في ذلك. وليس هذا من باب : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ولا هو من باب طلب الإمارة حيث قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن نستعمل على عملنا هذا من أراده» رواه مسلم.

٦٢٣

والتدابير مكنا ليوسف في أرض مصر يتبوأ منها أي ينزل حيث يشاء يتقلب فيها أخذا وعطاء وإنشاء وتعميرا لأنه أصبح وزيرا مطلق التصرف. وقوله تعالى : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي رحمته من عبادنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ، وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإحسان بتوفيتهم أجورهم ، ويوسف عليه‌السلام من شاء الله رحمتهم كما هو من أهل الإحسان الذين يوفيهم الله تعالى أجورهم في الدنيا والآخرة ، وأخبر تعالى أن أجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ، ترغيبا في الإيمان والتقوى إذ بهما تنال ولاية الله تعالى عزوجل إذ أولياؤه هم المؤمنون المتقون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة هضم النفس باتهامها بالنقص والتقصير.

٢ ـ تحقيق الحكمة القائلة : المرء مخبوء تحت لسانه.

٣ ـ جواز ذكر المرشّح للعمل كحذق الصنعة ونحوه ولا يعد تزكية للنفس.

٤ ـ فضيلة الإحسان في المعتقد والقول والعمل.

٥ ـ فضل الإيمان والتقوى.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

شرح الكلمات :

٦٢٤

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) : من أرض كنعان لما بلغهم أن ملك مصر يبيع الطعام.

(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) : أي غير عارفين أنه أخوهم.

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) : أي أكرمهم وزودهم بما يحتاجون إليه في سفرهم بعد ما كال لهم ما ابتاعوه منه.

(بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) : هو بنيامين لأنه لم يجىء معهم لأن والده لم يقدر على فراقه.

(سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) : أي سنجتهد في طلبه منه.

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ) : أي غلمانه وخدمه.

(بِضاعَتَهُمْ) : أي دراهمهم التي جاءوا يمتارون بها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن قصة يوسف عليه‌السلام وتتبع أحداثها ، إنه بعد أن ولي يوسف أمر الوزارة ومرت سنوات الخصب وجاءت سنوات الجدب فاحتاج أهل أرض كنعان الى الطعام كغيرهم فبعث يعقوب عليه‌السلام بنيه يمتارون وكانوا عشرة رجال بعد أن علم أن ملك مصر يبيع الطعام ، قال تعالى مخبرا عن حالهم : (وَجاءَ إِخْوَةُ (١) يُوسُفَ) أي من أرض كنعان (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على يوسف (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه لتغيره بكبر السن وتغير أحواله (٢) وقوله تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) (٣) أي كال لهم وحمّل لكل واحد بعيره بعد أن أكرمهم غاية الإكرام (قالَ ائْتُونِي) (٤) (بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ولا شك أنه قد سألهم عن أحوالهم فأخبروه عن أبيهم وأولاده بالتفصيل فلذا قال لهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) وهو بنيامين ورغبهم في ذلك يقوله : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي خير المضيفين لمن نزل عليهم (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ). بعد هذا الإلحاح عليهم أجابوه بما أخبر تعالى به عنهم بقوله : (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) أي سنبذل جهدنا في طلبه

__________________

(١) جاءوا إلى مصر لما أصابهم القحط ليميروا.

(٢) ولطول المدة إذ مضى عليهم يوم فارقوه أربعون سنة.

(٣) الجهاز بالفتح والكسر : ما يحتاج إليه المسافر والمراد به : الطعام الذي امتاروه من عنده.

(٤) سبب طلب يوسف أخاهم أنه كان معهم أحد عشر بعيرا وهم عشرة وقالوا ليوسف : إنّ لنا أخا تخلف عنا ، وبعيره معنا ، فسألهم لم تخلّف؟ فقالوا : لحب أبيه إيّاه وذكروا له القصة وما جرى فيها ، وهنا قال لهم : إن رجعتم للميرة مرّة أخرى فأتوني بأخ لكم من أبيكم ، ورغّبهم في ذلك وحذّرهم من أن يأتوا بدونه فإنه لا يبيعهم الطعام الذي هو حاجتهم.

٦٢٥

حتى نأتي به ، (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) كما أخبرناك.

وقوله تعالى : (وَقالَ لِفِتْيانِهِ (١) اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) يخبر تعالى عن قيل يوسف لغلمانه اجعلوا دراهمهم التي اشتروا بها الطعام في رحالهم من حيث لا يشعرون (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها (٢) إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣) كل هذا كان رغبة من يوسف في إحضار أخيه الشقيق فجعل رد الدراهم وسيلة لذلك لأنهم إذا وجدوها تحرجوا من أخذها فرجعوا بها. وجاءوا بأخيهم معهم ، وهو مطلب يوسف عليه‌السلام حققه الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عجيب تدبير الله تعالى إذ رؤيا الملك وتعبير يوسف لها وظهورها كما عبرها كان تدبيرا لولاية يوسف ثم لمجيء إخوته يطلبون الطعام لأهليهم ولتتم سلسلة الأحداث الآتية ، فلا إله إلا الله ، ولا رب سواه.

٢ ـ حسن تدبير يوسف عليه‌السلام للإتيان بأخيه بنيامين تمهيدا للإتيان بالأسرة كلها.

٣ ـ أثر الإيمان في السلوك ، إذ عرف يوسف أن أخوته لا يستحلون أكل مال بغير حقه فجعل الدراهم في رحالهم ليرجعوا بها ومعهم أخوهم الذي يريد إحضاره.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا

__________________

(١) قرىء : (لِفِتْيانِهِ) ولفتيته قراءتان سبعيتان نحو : صبية وصبيان.

(٢) قال لعلهم يعرفونها : إذ من الجائز أن لا تسلم لهم بضاعتهم بأن تؤخذ منهم في الطريق مثلا.

(٣) من الجائز أن يكون ردّ البضاعة إلى إخوته لأنه كره أن يأخذها من أبيه وإخوته ، ومن الجائز أن يكون ردّها إليهم لعلمه أنهم لا يأكلون الطعام بغير حقّه فسيرجعون بها ، وهو المراد.

٦٢٦

ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧))

شرح الكلمات :

(مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) : أي منع الملك منا الكيل حتى نأتيه بأخينا.

(نَكْتَلْ) : أي نحصل على الكيل المطلوب.

(عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) : أي كما أمنتكم على يوسف من قبل وقد فرطتم فيه.

(ما نَبْغِي) : أي أي شيء نبغي.

(وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) : أي بدل ما كنا عشرة نصبح أحد عشر لكل واحد حمل بعير.

(ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) : أي على الملك لغناه وطوله فلا يضره أن يزيدنا حمل بعير.

(مَوْثِقاً) : أي عهدا مؤكدا باليمين.

(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) : أي تهلكوا عن آخركم.

(مِنْ شَيْءٍ) : أي أراد الله خلافه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته قال تعالى مخبرا عن رجوع إخوة يوسف من مصر إلى أرض كنعان بفلسطين : (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ) أي يعقوب عليه

٦٢٧

السّلام (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أي منع (١) منا ملك مصر الكيل إلا أن نأتي بأخينا بنيامين (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ (٢) وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أن يناله مكروه بحال من الأحوال. فأجابهم يعقوب عليه‌السلام بما أخبر تعالى عنه بقوله : (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ) أي ما آمنكم عليه (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) يعني يوسف لما ذهبوا به إلى البادية. (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٣) جرى هذا الحديث بينهم عند وصولهم وقبل فتح أمتعتهم ، وأما بعد فتحها فقد قالوا ما أخبر تعالى به في قوله : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ) أي دراهمهم (رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) أي فأرسل معنا أخانا نذهب به الى مصر (وَنَمِيرُ) (٤) (أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) لأن الملك المصري لا يبيع للنفر الواحد الا حمل بعير نظرا لحاجة الناس إلى الطعام في هذه السنوات الصعبة للجدب العام في البلاد. فأجابهم يعقوب بما قال تعالى عنه (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) أي حتى تعطوني عهدا مؤكدا باليمين على أن تأتوني به (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) (٥) بعدو ونحوه فتهلكوا جميعا فأعطوه ما طلب منهم من عهد وميثاق ، قال تعالى : (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) أي شهيد عليّ وعليكم ، أي فأشهد الله تعالى على عهدهم. ولما أرادوا السفر إلى مصر حملته العاطفة الأبوية والرحمة الإيمانية على أن قال لهم ما أخبر تعالى عنه : (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) أي لا تدخلوا وأنتم أحد عشر رجلا من باب واحد فتسرع إليكم العين ، (٦) وإنما ادخلوا من عدة أبواب فلا

__________________

(١) إذ قال لهم : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ).

(٢) أصل (نَكْتَلْ) : نكتال فحذفت الألف لسكون اللام بالجازم وقرىء بالياء يكتل : أي أخوهم بنيامين.

(٣) وقرىء : خير حفظا قراءة سبعية.

(٤) (نَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب لهم الطعام قال الشاعر :

بعثتك مائرا فمكثت حولا

متى يأتي غياثك من تغيث

(٥) أي : تهلكوا أو تموتوا وإلّا أن تغلبوا عليه.

(٦) في الآية دليل على ما يلي :

أ ـ على التحرّز من العين ، والعين حق لحديث : (إنّ العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر) ولتعوذ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها في غير حديث.

ب ـ على المسلم إن أعجبه شيء أن يبرّك ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألا برّكت)!! والتبريك أن يقول : تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه.

ج ـ إذا أصاب العبد بعينه لأنّه لم يبرّك فإنه يؤمر بالاغتسال ويجبر عليه.

د ـ إذا عرف المرء بأذاه للناس بعينه يبعد عنهم وجوبا.

٦٢٨

ترون جماعة واحدة أبناء رجل واحد فلا تصيبكم عين الحاسدين ثم قال : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ، وهو كذلك (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فما شاءه كان. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوضت أمري إليه (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي فليفوض إليه المتوكلون أمورهم لأنه الكافي ولا كافي على الحقيقة إلا هو عز جاره وعظم سلطانه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مدى توكل يعقوب عليه‌السلام على الله وثقته في ربّه عزوجل ، ومعرفته بأسمائه وصفاته ، وكيف لا وهو أحد أنبياء الله ورسله عليهم‌السلام.

٢ ـ جواز أخذ العهد المؤكد في الأمور الهامة ولو على أقرب الناس كالأبناء مثلا.

٣ ـ لا بأس بتخوف المؤمن من إصابة العين وأخذ الحيطة للوقاية منها مع اعتقاد أن ذلك لا يغني من الله شيئا وأن الحكم لله وحده في خلقه لا شريك له في ذلك.

٤ ـ وجوب التوكل على الله تعالى وإمضاء العمل الذي تعيّن وتفويض أمر ما يحدث لله تعالى.

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ

__________________

ـ ه ـ الاغتسال من العين : هو أن يغسل المعيان وجهه ويديه ، ومرفقيه وركبتيه ، وأطراف رجليه وداخل إزاره في إناء ثمّ يصب على المصاب بالعين فيشفى بإذن الله تعالى.

٦٢٩

أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢))

شرح الكلمات :

(إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) : هي إرادة دفع العين عن أولاده شفقة عليهم.

(آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) : أي ضمه إليه أثناء الأكل وأثناء المبيت.

(فَلا تَبْتَئِسْ) : أي لا تحزن

(جَعَلَ السِّقايَةَ) : أي صاع الملك وهو من ذهب كان يشرب فيه ثم جعله مكيالا يكيل به.

(أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) : نادى مناد.

(أَيَّتُهَا الْعِيرُ) : أي القافلة.

(صُواعَ الْمَلِكِ) : أي صاع الملك. فالصاع والصواع بمعنى واحد.

(وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) : أي بالحمل كفيل.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن إخوة يوسف فقد عهد إليهم إذا هم وصلوا إلى ديار مصر أن لا يدخلوا من باب واحد بل من أبواب متعددة خشية العين عليهم ، وقد وصلوا وعملوا بوصية أبيهم فقد قال تعالى مخبرا عنهم (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ) أي دخولهم من أبواب متفرقة (مِنَ اللهِ) أي من قضائه (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً) أي لكن حاجة (فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ) وهي خوف العين عليهم (قَضاها) (١) أي لا غير.

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) ثناء على يعقوب أي إنه لصاحب علم وعمل لتعليمنا إياه وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) هو كما أخبر عزوجل أكثر

__________________

(١) (قَضاها) أي : أنفذها إذ القضاء : إنفاذ المحكوم به.

٦٣٠

الناس لا يعلمون عن الله تعالى صفات جلاله وكماله ومحابه ومساخطه وأبواب الوصول إلى مرضاته والحصول على رضاه ومحبته ، وما يتقي مما يحرم على العبد من ذلك. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٨).

أما الآية الثانية فقد أخبر تعالى أن إخوة يوسف لما دخلوا عليه في منزله آواى إليه أخاه أي شقيقه وهو بنيامين ، وذلك لما جاء وقت النوم جعل كل اثنين فى غرفة وهم أحد عشر رجلا بقي بنيامين فقال هذا ينام معي ، وأنه لما آواه إليه في فراشه أعلمه أنه أخوه يوسف ، وأعلمه أن لا يحزن بسبب ما كان إخوته قد عملوه مع أبيهم ومع أخيهم يوسف وأعلمه أنه سيحتال على بقائه معه فلا يكترث بذلك ولا يخبر إخوته بشيء من هذا. هذا ما دلت عليه الآية الثانية وهي قوله تعالى : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ (١) بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أما الآية الثالثة (٧٠) فقد تضمنت الإخبار عن تدبير (٢) يوسف لبقاء أخيه معه دونهم وذلك أنه لما جهزهم بجهازهم أي كال لهم الطعام وزودهم بما يحتاجون إليه بعد إكرامه لهم جعل بطريق خفيّ لم يشعروا به سقاية الملك وهي الصاع أو الصواع وهي عبارة عن إناء من ذهب كان يشرب فيه ثم جعل آلة كيل خاصة بالملك عرفت بصواع الملك أو صاعه. جعلها فى رحل أخيه بنيامين ، ثم لما تحركت القافلة وسارت خطوات نادى مناد قائلا أيتها العير (٣) أي يا أهل القافلة إنكم لسارقون. هذا ما تضمنته الآية الكريمة إذ قال تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). قال تعالى إخبارا عنهم : (قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ) فأجابوا بقولهم : (نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ، وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي مكافأة له (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) (٤) أي وأنا بإعطائه حمل البعير كفيل.

هداية الآيات

__________________

(١) الابتئاس من البؤس الذي هو الحزن والكدر ، فالابتئاس مطاوع الابئاس أي : جعل المرء بائسا : صاحب بؤس.

(٢) قيل : إنّ بنيامين قال ليوسف : لا تردني إليهم فأجابه يوسف ودبّر كيفية إبقاء أخيه معه وكلّ ذلك بتدبير الله تعالى لهم.

(٣) العير : لفظ يطلق على ما امتير عليه من الإبل والخيل والبغال ، والحمير ، والمراد بها هنا : الإبل.

(٤) الزعيم : الكفيل ، والحميل ، والضمين ، والقبيل ، وهي بمعنى واحد سواء ، ويطلق الزعيم على الرئيس.

٦٣١

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل العلم وأهله.

٢ ـ تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس لا يعلمون.

٣ ـ حسن تدبير يوسف للإبقاء على أخيه معه بعد ذهاب إخوته.

٤ ـ مشروعية إعطاء المكافآت لمن يقوم بعمل معين وهي الجعالة في الفقه.

٥ ـ مشروعية الكفالة والكفيل غارم.

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

شرح الكلمات :

(تَاللهِ) : أي والله.

(لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) : أي بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.

(وَما كُنَّا سارِقِينَ) : أي لم نسرق الصواع كما أنا لم نسرق من قبل متاع أحد.

(مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) : أي يأخذ بالسرقة رقيقا.

(كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) : أي في شريعتنا.

٦٣٢

فى وعاأ أخيه : أي فى وعاء أخيه الموجود في رحله.

(كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) : أي يسرنا له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود.

(فِي دِينِ الْمَلِكِ) : أي في شرعه إذ كان يضرب السارق ويغرم بمثل ما سرق.

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) : أي كما رفع يوسف عليه‌السلام.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن يوسف وإخوته ، إنه لما أعلن عن سرقة صواع الملك وأوقفت القافلة للتفتيش ، وأعلن عن الجائزة لمن يأتي بالصواع وأنها مضمونة هنا قال إخوة يوسف ما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) أي بالسرقة وغشيان الذنوب وإنما جئنا للميرة (١) (وَما كُنَّا سارِقِينَ) (٢) أي في يوم من الأيام. وهنا قال رجال الملك ردا على مقالتهم بما أخبر تعالى به : (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) فأجاب الإخوة بما أخبر تعالى عنهم بقوله : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) يريدون أن السارق يسترق أي يملك بالسرقة وقوله (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي في شريعتنا. وهنا أخذ يوسف بنفسه يفتش أوعية إخوته بحثا عن الصواع ، وبدأ بأوعيتهم واحدا بعد واحد وآخر وعاء وعاء أخيه بنيامين دفعا للتهمة والتواطؤ في القضية ، حتى استخرجها من وعاء أخيه الذي كان في رحله ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ (٣) وِعاءِ أَخِيهِ) وقوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي هكذا يسرنا (٤) له هذا الكيد الذي توصل به إلى أمر محمود غير مذموم. وقوله تعالى : (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي لم يكن في شرع مصر أن يأخذ أخاه عبدا بالسرقة بل السارق يضرب ويغرم فقط ، (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أمرا فإنه يكون. وقوله

__________________

(١) الميرة : الطعام الذي يدّخره الإنسان.

(٢) إذ لو كانوا سارقين ما ردّوا البضاعة التي وضعت لهم في رحالهم من أجل أن يرجعوا إلى مصر ، فمن ردّ بضاعة بعد ما تمكن منها لا يكون سارقا.

(٣) الوعاء : ما يحفظ فيه الشيء ، وتضمّ واوه وتكسر ، والكسر أشهر قيل لمّا استخرج السقاية من وعاء بنيامين طأطأوا رؤوسهم حياء ، وقالوا لأخيهم بنيامين : ويلك يا بنيامين ما رأينا كاليوم قط.

(٤) قالت العلماء : يجوز للرجل أن يتصرف في ماله بالبيع والشراء والهبة والعطاء قبل حلول حول الزكاة ما لم ينو الفرار من الزكاة ، فإن حال الحول فلا يصح شيء إلا بعد إخراج الزكاة.

٦٣٣

تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (١) أي في العلم كما رفعنا يوسف (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ) (٢) من الناس (عَلِيمٌ) إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى فهو العليم الذى لا أعلم منه بل العلم كله له ومنه ولولاه لما علم أحد شيئا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الحلف بالله تعالى للحاجة.

٢ ـ مشروعية دفع التهمة عن النفس البريئة.

٣ ـ معرفة حكم السرقة في شرعة يعقوب عليه‌السلام.

٤ ـ بيان حسن تدبير الله تعالى لأوليائه.

٥ ـ بيان حكم السرقة في القانون المصري على عهد يوسف عليه‌السلام.

٦ ـ علوّ مقام يوسف عليه‌السلام في العلم.

٧ ـ تقرير قاعدة (وفوق كل ذي علم عليم) إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى.

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

__________________

(١) أي : بالإيمان والعلم شاهده : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ).

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما يكون ذا أعلم من ذا ، وذا أعلم من ذا ، والله فوق كل عليم وقرأ الجمهور : درجات من نشاء بإضافة درجات إلى من وقرأ حفص (دَرَجاتٍ) بالتنوين تمييز لتعلق فعل نرفع بمعفوله وهو : (مَنْ نَشاءُ).

٦٣٤

شرح الكلمات :

(إِنْ يَسْرِقْ) : أي يأخذ الصواع خفية من حرزه.

(فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ) : أي يوسف في صباه.

(فَأَسَرَّها يُوسُفُ) : أي أخفى هذه التهمة في نفسه.

(وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) : أي لم يظهرها لهم.

(أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) : أي منزلة ممن رميتموه بالسرقة.

(بِما تَصِفُونَ) : أي بحقيقة ما تصفون أي تذكرون

(أَباً شَيْخاً كَبِيراً) : أي يعقوب عليه‌السلام.

(مَعاذَ اللهِ) : أي نعوذ بالله من أن نأخذ من لم نجد متاعنا عنده.

(مَتاعَنا) : أي الصواع.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع يوسف عليه‌السلام وإخوته ، إنه بعد أن استخرج يوسف الصواع من متاع أخيه وتقرر ظاهرا أن بنيامين قد سرق ، قال إخوته ما أخبر به تعالى عنهم في قوله : (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (١) أي إن يكن بنيامين قد سرق كما قررتم فلا عجب فقد سرق أخ له من قبل يعنون يوسف أيام صباه ، كان يسرق الطعام ويعطيه للمساكين وسرق صنما لأبي أمه فكسره حتى لا يعبده ، وليس هذا من السرقة المحرمة ولا المذمومة بل هي محمودة. وقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ (٢) فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي أسر يوسف قولتهم (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) ولم يظهرها لهم وقال ردا لقولتهم الخاطئة : (أَنْتُمْ شَرٌّ (٣) مَكاناً) أي شر منزلة ممن رميتموه بالسرقة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي بحقيقة ما تذكرون. ولما سمعوا قول يوسف وكان فيه نوع من الصرامة والشدة قالوا مستعطفين يوسف مسترحمينه بما حكى الله تعالى عنهم في قوله : (قالُوا يا

__________________

(١) وجائز أن يكون قولهم : (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) : مجرد رد تهمة وجهت إليهم وألزموا بها فدفعوها بقولهم : فقد سرق أخ له من قبل. وهو مجرد بهتان وقول باطل.

(٢) وجائز أن يكون : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) : أي أسرّ كلمة : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي : أخفاها فلم يتلفظ بها إحسانا إليهم ثم جهر بقوله والله أعلم بما تصنعون.

(٣) (شَرٌّ) : اسم تفضيل بمعنى : أشرّ ، والمكان بمعنى : حالة أي : الحال التي أنتم عليها من أشر الأحوال.

٦٣٥

أَيُّهَا الْعَزِيزُ (١) إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) (٢) أي لأخينا والدا كبير السن يعز عليه فراقه ولا يطيقه. (فَخُذْ أَحَدَنا (٣) مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي واحدا منا بدلا عنه ومثلك يفعل ذلك لأنه إحسان وأنت من المحسنين. فأجابهم بما أخبر تعالى به في قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ) (٤) أي نعوذ بالله (أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) أي إذا أخذنا من لم يجن ونترك من جنى أي سرق فقد كنا بذلك ظالمين وهذا ما لا نرضاه ولا نوافق عليه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الاعتذار عن الخطأ.

٢ ـ قد يضطر الحليم إلى أن يقول ما لم يكن يقوله لو لا ما ووجه به من السوء.

٣ ـ مشروعية الاسترحام والاستعطاف لمن احتاج الى ذلك رجاء أن يرحم ويعطف عليه.

٤ ـ حرمة ترك الجاني وأخذ غيره بدلا منه إذ هذا من الظلم المحرم.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ

__________________

(١) يبدو أن لفظ العزيز لقب لكل من يلي ولاية في تلك البلاد.

(٢) هذا اسلوب الاستعطاف والاسترحام ، اقتضاه موقف يوسف الحازم الصارم فنادوه بعنوان الحكم وذكروا له ضعف أبيهم وحالته النفسية إزاء ولده.

(٣) أي : خذه عبدا لتسترقه لأنّه سبق أن قيل : إن شريعة يعقوب عليه‌السلام أنّ السارق يسترق بالسرقة.

(٤) (مَعاذَ) : مصدر ميمي من العوذ الذي هو مصدر عاذ يعوذ عوذا إذا تحصّن واستجار فهو مصدر قام مقام الفعل.

٦٣٦

(٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤))

شرح الكلمات :

(خَلَصُوا نَجِيًّا) : أي اعتزلوا يناجي بعضهم بعضا.

(أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) : أي عهدا وميثاقا لتأتن به إلا أن يحاط بكم.

(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ) : أي ومن قبل إضاعتكم لبنيامين فرطتم في يوسف كذلك.

(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) : أي لن أفارق الأرض ، أي أرض مصر.

(وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) : أي لما غاب عنا ولم نعرفه حافظين.

(الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) : أي أصحاب القافلة التي جئنا معها وهم قوم كنعانيون.

(سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) : أي زينت وحسنت لكم أمرا ففعلتموه.

(أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) : أي بيوسف وأخويه بنيامين وروبيل.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) : أي معرضا عن حديثهم.

(وَقالَ يا أَسَفى) : أي يا حزني أحضر هذا أوان حضورك.

(فَهُوَ كَظِيمٌ) : أي مغموم مكروب لا يظهر كربه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث على قصة يوسف وإخوته ، إنه بعد أن أخذ يوسف أخاه بالسرقة ولم يقبل استرحامهم له بأخذ غيره بدلا عنه انحازوا ناحية يفكرون في أمرهم وهو

٦٣٧

ما أخبر به تعالى عنه في قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا) أي يئسوا (خَلَصُوا نَجِيًّا) (١) أي اعتزلوا يتناجون في قضيتهم (قالَ كَبِيرُهُمْ) وهو روبيل مخاطبا إياهم (٢) (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً) يذكرهم بالميثاق الذي أخذه يعقوب عليهم لما طلبوا منه أن يرسل معهم بنيامين لأن عزيز مصر طلبه. (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي (٣) يُوسُفَ) أي وذكرهم بتفريطهم في يوسف يوم ألقوه في غيابة الجب وباعوه بعد خروجه من الجب. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع إليه (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) بما هو خير (٤) (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ).

ولما أقنعهم بتخلفه عنهم أخذ يرشدهم إلى ما يقولونه لوالدهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله عنه : (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ (٥) وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) (٦) أي حيث رأينا الصواع يستخرج من رحل أخينا (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي ولو كنا نعلم أن أخانا يحدث له هذا الذي حدث ما أخذناه معنا. كما أننا ما شهدنا بأن السارق يؤخذ بالسرقة إلا بما علمنا منك (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) (٧) وهي عاصمة مصر (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) إذ فيها كنعانيون من جيرانك (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في كل ما أخبرناك به. هذا ما أرشد به روبيل إخوته ، ولما ذهبوا به واجتمعوا بأبيهم وحدثوه بما علمهم روبيل أن يقولوه فقالوه لأبيهم. رد عليهم يعقوب عليه‌السلام بما أخبر تعالى به عنه في قوله : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زينت لكم أنفسكم أمرا ففعلتموه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي فصبري على ما أصابني صبر جميل لا جزع فيه ولا شكاية لأحد غير الله (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي يوسف

__________________

(١) لفظ نجي : يطلق على الواحد والجماعة كلفظ عدو ، ويجمع على أنجية قال الشاعر :

إني إذا ما القوم كانوا أنجية

واضطرب القوم اضطراب الأدشية.

هناك أوصيني ولا توصي بيه

(٢) قيل : هو شمعون إذ كان أكبرهم في الرأي ، وقيل : يهوذا وكان أعقلهم. وقيل : هو لاوى وهو أبو الأنبياء.

(٣) (فَلَمَّا) : مصدرية أي : تفريطكم في يوسف ، والجملة معترضة.

(٤) بأن يطلق سراح أخي فأمضي معه إلى أبينا ، أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب حتى أخلّص أخي ، أو أغلب فأعذر إذ قال والدي : إلّا أن يحاط بكم.

(٥) قرأ ابن عباس والضحّاك وأبو رزين سرّق بتشديد الراء والبناء للمجهول أي : نسب إلى السرقة ورمى بها ، السرق : بفتح السين والراء : مصدر سرق والسّرق والسرقة : اسم الشيء المسروق.

(٦) في الآية دليل على مشروعية الشهادة بأي وجه حصل العلم بالبصر ، بالسمع باللمس إذ الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا ، وفي الحديث : (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها).

(٧) المراد : أهل القرية إذ العادة أن القرية لا تنطق ، ولو قال : أحد كلّم هندا وهو يريد غلامها لما جاز.

٦٣٨

وبنيامين وروبيل (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ) بفقري إليه وحاجتي عنده (الْحَكِيمُ) في تدبيره لأوليائه وصالحي عباده (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عن مخاطبتهم (وَقالَ يا أَسَفى) أي يا أسفي وشدة حزني أحضر فهذا أوان حضورك (عَلى يُوسُفَ) قال تعالى مخبرا عن حاله بعد ذلك (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) فغلب بياضهما على سوادهما ومعنى هذا أنه فقد الإبصار بما أصاب عينيه من البياض. (فَهُوَ كَظِيمٌ) (١) أي ممتلىء من الهم والكرب والحزن مكظوم لا يبثه لأحد ولا يشكوه لغير ربه تعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية المناجاة للتشاور في الأمر الهام.

٢ ـ مشروعية التذكير بالالتزامات والعهود والمحافظة على ذلك.

٣ ـ قد يغلب الحياء على المؤمن فيمنعه من أمور هي خير له.

٤ ـ مشروعية النصح وتزويد المنصوح له بما يقوله ويعمله.

٥ ـ جواز اتهام البرىء لملابسات أو تهمة سابقة.

٦ ـ جواز إظهار التأسف والحزن والشكوى لله تعالى.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ

__________________

(١) الكظيم : مبالغة للكظم والكظم : الإمساك النفساني ، أي : كاظم للحزن لا يظهره للناس ، وكظيم : بمعنى مكظوم كمحزون.

٦٣٩

وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨))

شرح الكلمات :

(تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ) : أي والله لا تزال تذكر يوسف.

(حَرَضاً) : أي مشرفا على الهلاك لطول مرضك.

(أَشْكُوا بَثِّي) : أي عظيم حزني إذ البث الذي لا يصبر عليه حتى يبث الى الغير.

(فَتَحَسَّسُوا) : أي اطلبوا خبرهما بلطف حتى تصلوا إلى النتيجة.

(مِنْ رَوْحِ اللهِ) : أي من رحمة الله

(بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) : أي بدراهم مدفوعة لا يقبلها الناس لرداءتها.

(يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) : أي يثيب المتصدقين بثواب الدنيا والآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق فيما جرى من حديث بين يعقوب عليه‌السلام وبنيه أنه بعد ما ذكروا له ما جرى لهم في مصر اعرض عنهم وقال يا أسفى على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن وهو كظيم. قالوا له ما أخبر به تعالى في قوله : (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) (١) أي والله لا تزال تذكر يوسف حتى تصبح حرضا مشرفا (٢) على الموت أو تكون من الهالكين أي الميتين. أجابهم بما أخبر تعالى به عنه : (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي) (٣) أي همي (وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يريد أن رجاءه فى الله كبير وأن الله لا يخيب رجاءه وأن رؤيا يوسف صادقة وأن الله تعالى سيجمع شمله به ويسجد له كما رأى. ومن هنا قال لهم ما أخبر تعالى به : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) (٤) أي التمسوا أخبارهما

__________________

(١) حرف النفي مقدّر أي : تا الله لا تفتأ ، ومعنى : تفتأ : لا تفتر إذ فتىء بمعنى فتر ، وهذا القول إشفاق على يعقوب.

(٢) الحرض : شدة المرض المشفي بصاحبه على الهلاك ، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل ، من الحزن أو العشق أو الهرم.

(٣) البث : الهم الشديد.

(٤) هذا اللفظ دال على أنه تيقن حياة يوسف وذلك إمّا بوحي إلهي أو إلهام أو هداية عقل ، وإلا كيف يطلب منهم التحسس على يوسف ، والتحسس : شدة التّطلب ، والتعّرف وهو أعم من التجسس.

٦٤٠