أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أراه كيف انتصر موسى بالمعجزات ومع ذلك لم يتابعه إلا القليل من قومه.

٢ ـ التنديد بالعلو في الأرض والإسراف في الشر والفساد وبأهلهما.

٣ ـ وجوب التوكل على الله تعالى لتحمل عبء الدعوة إلى الله تعالى والقيام بطاعته.

٤ ـ مشروعية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته.

٥ ـ اتخاذ المساجد في المنازل للصلاة فيها عند الخوف.

٦ ـ وجوب إقام الصلاة

٧ ـ بشرى الله تعالى للمؤمنين والمقيمين للصلاة بحسن العاقبة في الدارين.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩))

شرح الكلمات :

(زِينَةً) : أي حليا وحللا ورياشا ومتاعا.

(أَمْوالاً) : أي كثيرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث.

(اطْمِسْ) : أي أزل أثرها من بينهم بإذهابها.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) : اربط عليها حتى لا يدخلها إيمان ليهلكوا وهم كافرون.

٥٠١

(أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) : أي استجابها الله تعالى.

(فَاسْتَقِيما) : على طاعة الله بأداء رسالته والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.

(سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : أي طريق الجهلة الذي لا يعرفون محاب الله ومساخطه ولا يعلمون شرائع الله التى أنزل لعباده.

معنى الآيتين :

ما زال السياق في قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل فبعد أن لج فرعون في العناد والمكابرة بعد هزيمته سأل موسى ربه قائلا (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي أعطيتهم (زِينَةً) أي ما يتزين به من الملابس والفرش والأثاث وأنواع الحلي والحلل وقوله (وَأَمْوالاً) (١) أي الذهب والفضة والأنعام والحرث (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي في هذه الحياة الدنيا وقوله : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) (٢) أي فيسبب ذلك لهم الضلال إذا (رَبَّنَا اطْمِسْ) (٣) (عَلى أَمْوالِهِمْ) أي أذهب أثرها بمسحها وجعلها غير صالحة للانتفاع بها ، (وَاشْدُدْ عَلى (٤) قُلُوبِهِمْ) أي اطبع على قلوبهم واستوثق منها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم الموجع أشد الإيجاع ، قال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ، فَاسْتَقِيما) (٥) على طاعتنا بالدعوة إلينا وأداء عبادتنا والنصح لعبادنا والعمل على إنقاذ عبادنا من ظلم الظالمين ، (وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي فتستعجلا وقوع العذاب فإن الذين لا يعلمون ما لله من حكم وتدابير وقضاء وقدر يستعجلون الله تعالى في وعده لهم فلا تكونوا مثلهم بل انتظروا وعدنا واصبروا حتى يأتي وعد الله. وما الله بمخلف وعده.

__________________

(١) قيل : إنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والزمرد ، والياقوت.

(٢) في هذه اللّام أقوال : أصحها : أنها لام العاقبة ، والصيرورة. أي : يا رب إنك آتيت فرعون وقومه أموالا ليؤول أمرهم بسبب تلك الأموال إلى ضلالهم.

(٣) أي : عاقبهم على كفرهم بإهلاك أموالهم. وفعلا أصبحت حجارة لا ينتفع بها وكان ذلك عقوبة منه تعالى لهم على كفرهم وعنادهم.

(٤) قد استشكل العلماء وجه دعاء موسى على فرعون وقومه بالهلاك إذ المفروض أن يدعو لهم بالهداية. وأجيب بأنه قد علم بإعلام الله تعالى له أنهم لا يؤمنون فلذا دعا عليهم ، كما أعلم الله تعالى نوحا بعدم إيمان قومه فلذا دعا عليهم ، إذ قال له ربّه : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) وهنا دعا عليهم قائلا : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).

(٥) كان موسى يدعو ، وهارون يؤمن أي : يقول : آمين فاعتبر داعيا مع أخيه. لأنّ قول آمين معناه : اللهم استجب دعاءنا.

٥٠٢

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ مشروعية الدعاء بالهلاك على أهل الظلم.

٢ ـ كثرة المال وأنواع الزينة ، والانغماس في ذلك والتلهي به يسبب الضلال لصاحبه.

٣ ـ الذين بلغوا حدا من الشر والفساد فطبع على قلوبهم لا يموتون إلا على الكفر فيخسرون.

٤ ـ المؤمّن داع فهو شريك في الدعاء (١) فلذا أهل المسجد يؤمّنون على دعاء الإمام في الخطبة فتحصل الإجابة للجميع ، ومن هنا يخطيء الذين يطوفون أو يزورون إذ يدعون بدعاء المطوف ولا يؤمّنون.

٥ ـ حرمة اتباع طرق أهل الضلال ، وتقليد الجهال والسير وراءهم.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢))

شرح الكلمات :

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ) : أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه.

(الْبَحْرَ) : بحر القلزم.

__________________

(١) روى الترمذي الحكيم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (إن الله قد أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم : السّلام ، وهي تحية أهل الجنة ، وصفوف الملائكة وآمين إلّا ما كان من موسى وهارون) وعلى هذا فموسى كان يدعو وهارون يؤمن فاعتبر داعيا.

٥٠٣

(بَغْياً وَعَدْواً) (١) : أي بغيا على موسى وهرون واعتداء عليهما.

(آلْآنَ) : أي أفي هذا الوقت تقر بالوحدانية وتعترف له بالذلة؟!.

(بِبَدَنِكَ) : أي بجسدك لا روح فيه.

(آيَةً) : علامة على أنك عبد وليس برب فيعتبروا بذلك.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة موسى وهرون مع فرعون وبني إسرائيل قال تعالى : (وَجاوَزْنا (٢) بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) وذلك بداية استجابة الله تعالى دعوة موسى وهرون ومعنى (جاوَزْنا) أي قطعنا بهم البحر حتى تجاوزوه ، وذلك بأن أمر موسى أن يضرب بعصاه البحر فضرب فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ويبست الأرض ودخل موسى مع بني إسرائيل يتقدمهم جبريل عليه‌السلام على فرس حتى تجاوزوا البحر إلى الشاطىء ، وجاء فرعون على فرسه ومعه ألوف (٣) الجنود فتبعوا (٤) موسى وبني إسرائيل فدخلوا البحر فلما توسطوه أطبق (٥) الله تعالى عليهم البحر فغرقوا أجمعين إلا ما كان من فرعون فإنه لما أدركه الغرق أي لحقه ووصل الماء إلى عنقه أعلن عن توبته فقال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) ولكبريائه لم يقل لا إله إلا الله ولو قالها لتاب الله عليه فأنجاه بل قال : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) وهو يعرف أنه الله. وقوله : (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) مبالغة في طلب النجاة من الغرق بالتوبة حيث أعلن أنه من المسلمين أي المستسلمين المنقادين لأمره. فرد الله تعالى بقوله : (آلْآنَ) أي وقت التوبة (٦) والإسلام بعد الإيمان ،

__________________

(١) (بَغْياً) منصوب على الحال. و (عَدْواً) معطوف عليه ، وكان اتباع فرعون بني اسرائيل بغيا وعدوا لأنه ليس له شائبة حق في منعهم من الخروج من بلاده إلى بلادهم.

(٢) جاوزنا وجوّزنا : بمعنى واحد.

(٣) قال القرطبي : كان بنو اسرائيل ستمائة وعشرين ألفا ، وكان جيش فرعون ألفي ألف وستمائة ألف. أي مليونين ونصفا وزيادة.

(٤) تبع واتبع بمعنى واحد إذا لحقه وأدركه ، وأمّا اتبع بالتشديد فإن معناه : سار خلفه.

(٥) روى الترمذي وحسّنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (لما أغرق الله فرعون قال : آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو اسرائيل ، قال جبريل يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من وحل البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمه) وحل البحر : الطين الأسود الذي يكون في أسفله ، ومعنى تدركه الرحمة : أي يقول لا إله إلا الله.

(٦) لأنّ التوبة تقبل من العبد ما لم ير علامات الموت بمشاهدة الملائكة ، وفي الحديث الصحيح : (إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر).

٥٠٤

(وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) وتمردت على الله وشرعه وكفرت به وبرسوله (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) للبلاد والعباد بالظلم والشر والفساد ، (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) أي نجعلك على نجوة من الأرض أي مرتفع منها (بِبَدَنِكَ) أي بجسمك دون روحك ، وبذلك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) أو بعدك من الناس (آيَةً) أي علامة على أنك عبد مربوب وليس كما زعمت أنك رب وإله معبود ، وتكون عبرة لغيرك فلا يطغى طغيانك ولا يكفر كفرانك فيهلك كما هلكت ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) إخبار منه بواقع الناس ومن أولئك الغافلين عن آيات الله وهي تتلى عليهم أهل مكة من كفار قريش وما سيق هذا القصص إلا لأجل هدايتهم. لو كانوا يهتدون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا تقبل التوبة عند معاينة العذاب وفي الحديث (تقبل توبة العبد ما لم يغرغر).

٢ ـ أكمل الأديان وأفضلها الإسلام ولهذا أهل اليقين يسألون الله تعالى أن يتوفاهم مسلمين ولما أيقن فرعون بالهلاك زعم أنه من المسلمين.

٣ ـ فضل لا إله إلا الله فقد ورد أن جبريل كان يحول بين فرعون وبين أن يقول : لا إله إلا الله فينجو فلم يقلها فغرق وكان من الهالكين.

٤ ـ تقرير حقيقة وهي أن أكثر الناس في هذه الحياة غافلون عما يراد بهم ولهم ولم ينتبهوا حتى يهلكوا.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣))

شرح الكلمات :

(مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : أي أنزلناهم منزلا صالحا طيبا مرضيا.

(مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي من أنواع الأرزاق الطيبة الحلال.

٥٠٥

(حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) : وهو معرفتهم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو النبي المنتظر وأنه المنجي.

(يَقْضِي بَيْنَهُمْ) : يحكم بينهم.

(فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) : أي في الذي اختلفوا من الحق فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار.

معنى الآية الكريمة

هذه خاتمة الحديث عن موسى وبني إسرائيل بعد أن نجاهم الله من عدوهم بإهلاكه في اليم قال تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي أنزلناهم مبوأ صالحا طيبا وهو بلاد فلسطين من أرض الشام المباركة ، (١) وذلك بعد نجاتهم من التيه ودخولهم فلسطين بصحبة نبي الله يوشع بن نون عليه‌السلام ، وقوله (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) إذ أرض الشام أرض العسل والسمن والحبوب والثمار واللحم والفحم وذكر هذا إظهار لنعم الله تعالى ليشكروها. وقوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) يريد أن بني إسرائيل الذين أكرمهم ذلك الإكرام العظيم كانوا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم متفقين على دين واحد منتظرين النبي المنتظر المبشر به في التوراة الذي سينقذ بني إسرائيل مما حل بهم من العذاب والاضطهاد على أيدي أعدائهم الروم ، فلما جاءهم وهو العلم وهو القرآن والمنزل عليه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا فمنهم من آمن به ، (٢) ومنهم من كفر. وقوله تعالى في خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي (٣) بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر الإيمان لك واتباعك واتباع ما جئت به من الهدى ودين الحق ، فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل الكفار النار.

هداية الآية الكريمة

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لبني إسرائيل.

__________________

(١) وروي ان ابن عباس رضي الله عنهما قال : في المبوأ الصدق : هو بنو قريظة وبنو النضير ، وأهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرينة : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) الذي هو القرآن يحمله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرينة ما في التفسير هي أنّ الحديث كان في إنجاء بني اسرائيل وإهلاك فرعون وهو يناسبه أن يكون المبوأ : أرض فلسطين والشام.

(٢) كعبد الله بن سلام وأمثاله.

(٣) يقضي : معناه يحكم ، فيحكم لأهل الإيمان والاستقامة بدخول الجنة ويحكم لأهل الكفر والضلال بالنار.

٥٠٦

٢ ـ الرزق الطيب هو ما كان حلالا لا ما كان حراما.

٣ ـ إذا أراد الله هلاك أمة اختلفت بسبب العلم الذي هو في الأصل سبب الوحدة والوئام.

٤ ـ حرمة الاختلاف في الدين إذ كان يؤدي إلى (١) الانقسام والتعادي والتحارب

٥ ـ يوم القيامة هو يوم الفصل الذي يقضي الله تعالى فيه بين المختلفين بحكمه العادل.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧))

شرح الكلمات :

(شَكٍ) : ما قابل التصديق فالشاك غير المصدق.

(مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) : أي في أن بني إسرائيل لم يختلفوا إلا من (٢) بعد ما جاءهم العلم.

(الْكِتابَ) : أي التوراة والإنجيل.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) : أي لا تكونن من الشاكين.

(حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) : أي وجبت لهم النار بحكم الله بذلك في اللوح المحفوظ.

(حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ) : أي يستمرون على تكذيبهم حتى يروا العذاب فيؤمنوا حيث لا ينفع الإيمان. (٣)

__________________

(١) مثال الاختلاف الذي لا يؤدي إلى الانقسام والتعادي والتحارب. : الخلاف الفهقي بين الأئمة الأربعة ، ومثال الخلاف المفضي إلى التعادي والتحارب الخلاف بين أهل السنة والفرق الضالة كالخوارج والروافض وأمثالهما

(٢) هذا وجه من جملة أوجه فسّرت بها الآية.

(٣) لا خلاف في أن الإيمان كالتوبة لا يقبلان عند معاينة الموت ففي سورة النساء قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

٥٠٧

معنى الآيات :

يقرر تعالى نبوة رسوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ (١) الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) أحبار اليهود ورهبان النصارى فإنهم يعرفون نعوتك وصفاتك في التوراة والإنجيل وإنك النبي الخاتم والمنقذ وأن من آمن بك نجا ومن كفر هلك وهذا من باب الفرض وليكون تهييجا للغير ليؤمن وإلا فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : (لا أشك ولا أسأل) وقوله (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) ، يقسم تعالى لرسوله بأنه قد جاءه الحق من ربه وهو الحديث الثابت بالوحي الحق وينهاه أن يكون من الممترين أي الشاكين في صحة الإسلام ، وأنه الدين الحق الذي يأبى الله إلا أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وقوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي وينهاه أيضا أن يكون من الذين كذبوا بوحي الله وشرعه ورسوله المعبر عنها بالآيات لأنها حاملة لها داعية إليها ، فتكون من الخاسرين يوم القيامة. وهذا كله من باب «إياك أعني واسمعي يا جاره» وإلا فمن غير الجائز أن يشك الرسول أو يكذب بما أنزل عليه من الآيات الحاملة من الشرائع والأحكام. وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) هو كما أخبر عزوجل فالذين قضى (٢) الله بعذابهم يوم القيامة فكتب ذلك في كتاب المقادير عنده هؤلاء لا يؤمنون أبدا مهما بذل في سبيل إيمانهم من جهد في تبيين الحق وإقامة الأدلة وإظهار الحجج عليهم وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جراء ما يألم له ويحزن من إعراض كفار قريش وعدم استجابتهم وقوله (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) تأكيد للحكم السابق وهو أن الذي حكم الله بدخولهم النار لا يؤمنون ولا يموتون إلا كافرين لينجز الله ما وعد ويمضي ما قضى وحكم. وقوله : (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي يستمرون على كفرهم بك وبما جئت به حتى يشاهدوا العذاب الأليم وحينئذ يؤمنون كما آمن فرعون عند ما أدركه الغرق ولكن لم ينفعه إيمانه فكذلك هؤلاء المشركون من

__________________

(١) لا حاجة إلى طلب حلول بعيدة لحلّ ما في ظاهر الآية من إشكال ، إذ لهذه الآية نظير وهو قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) معنى الآية : أنّ الله تعالى يوجه الخطاب إلى رسوله ، وأحبّ الخلق إليه ليكون غيره من باب أولى ألف مرة ومرّة وإلّا فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشك ولا يسأل وكيف يشك ويسأل وهو يتلقى الوحي من ربّه؟ وقد قال وقت ما نزلت الآية : (لا أشك ولا أسأل) ، وتوجيهنا للآية في التفسير في غاية الوضوح ، والحمد لله.

(٢) إن قيل : كيف يعذبهم لمجرد أن كتب ذلك عليهم؟ قلنا في الجواب إنه ما كتب شقوة نفس أو سعادة أخرى حتى علم ما ستفعله النفس باختيارها من كفر أو إيمان أو خير أو شر.

٥٠٨

قومك الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم وعندئذ لا ينفعهم إيمانهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ سؤال من لا يعلم من يعلم.

٣ ـ التكذيب بآيات الله كفر وصاحبه من الخاسرين.

٤ ـ الشك والافتراء في أصول الدين وفروعه كفر.

٥ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر ، وإن الشقي من شقي في كتاب المقادير (١) والسعيد من سعد فيه.

٦ ـ عدم قبول توبة من عاين العذاب في الدنيا بأن رأى ملك الموت وفي الآخرة بعد أن يبعث ويشاهد أهوال القيامة.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠))

شرح الكلمات :

(فَلَوْ لا) : أداة تحضيض هنا بمعنى هلّا وفيها معنى التوبيخ والنفي.

__________________

(١) طالع النهر ، فقد أوردنا سؤالا عن هذه المسألة وأجبنا عنه تحت رقم (٣) بما يكفي ويغني بإذن الله تعالى.

٥٠٩

(قَرْيَةٌ آمَنَتْ) : أي أهل قرية آمنوا.

(يُونُسَ) : هو يونس بن متّى نبي الله ورسوله. (١)

(إِلى حِينٍ) : أي إلى وقت انقضاء آجالهم.

(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) : أي إنك لا تستطيع ذلك.

(إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي بإرادته وقضائه.

(الرِّجْسَ) : أي العذاب

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى في الآيات السابقة أن الخسران لازم لمن كذب بآيات الله ، وأن الذين وجب لهم العذاب لإحاطة ذنوبهم بهم لا يؤمنون لفقدهم الاستعداد للإيمان ذكر هنا ما يحض به أهل مكة على الإيمان وعدم الإصرار على الكفر والتكذيب فقال : (فَلَوْ لا (٢) كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي فهلا أهل قرية آمنوا فانتفعوا بإيمانهم فنجوا من العذاب اللازم لمن لم يؤمن أي لم لا يؤمنون وما المانع من إيمانهم وهذا توبيخ لهم. وقوله (إِلَّا قَوْمَ (٣) يُونُسَ (٤) لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فلم نهلكهم بعذاب استئصال وإبادة شاملة لأنهم لما رأوا أمارات العذاب بادروا إلى التوبة قبل نزوله بهم فكشف الله تعالى عنهم العذاب ، ومتعهم بالحياة إلى حين انقضاء آجالهم فما لأهل أم القرى لا يتوبون كما تاب أهل نينوى من أرض الموصل وهم قوم يونس عليه‌السلام.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يحمل دلالتين الأولى أن عرض الله تعالى الإيمان على أهل مكة وحضهم عليه وتوبيخهم على تركه لا ينبغي

__________________

(١) أحد أنبياء بني اسرائيل.

(٢) لو لا. حرف الأصل فيها أنها للتحضيض ، وهو طلب الفعل بحثّ ، ولكن إذا دخلت على ماض لم تصبح للتحضيض قطعا بل للتغليط والتنديم والتوبيخ ، وهي هنا لتغليط أهل مكة وتوبيخهم وتنديمهم على إصرارهم على الكفر وعدم توبتهم كما تاب قوم يونس حتى ينجوا من العذاب كما نجوا.

(٣) كان هؤلاء القوم خليطا من الأشوريين واليهود الذين كانوا في أسر ملوك بابل بعد بختنصر ، وكانت بعثة يونس عليه‌السلام إليهم في بداية القرن الثامن قبل المسيح عليه‌السلام.

(٤) إن قوم يونس كانوا بقرية تسمّى نينوي من أرض الموصل وكانوا يعبدون الأصنام ، أقام في قومه يدعوهم إلى التوحيد وترك الشرك تسع سنين فيئس من إيمانهم فتوعدهم بالعذاب وخرج من بين أظهرهم وتركهم فلمّا رأوا ذلك خافوا نزول العذاب بهم فجأروا الى الله تعالى بالاستغفار والدعاء والضراعة يا حي حين لا حي يا حى محيي الموتى يا حي لا إله إلا أنت ارفع عنا العذاب وقد ظهرت أماراته ، فكشف الله عنهم العذاب كما قال تعالى : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ).

٥١٠

أن يفهم منه أن الله تعالى عاجز عن جعلهم يؤمنون بل لو شاء إيمانهم لآمنوا كما لو شاء إيمان أهل الأرض جميعا لآمنوا والثانية تسلية الرسول والتخفيف عنه من ألم وحزن عدم إيمان قومه وهو يدعوهم بجد وحرص ليل نهار فأعلمه ربه أنه لو شاء إيمان كل من في الأرض لآمنوا ، ولكنه التكليف المترتب عليه الجزاء فيعرض الإيمان على الناس عرضا لا إجبار معه فمن آمن نجا ، ومن لم يؤمن هلك ويدل على هذا قوله له (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ (١) النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي إن هذا ليس لك ، ولا كلفت به ، وقوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) تقرير وتأكيد لما تضمنه الكلام السابق من أن الإيمان لا يتم لأحد إلا بإرادة الله وقضائه ، وقوله تعالى : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ (٢) عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي إلا أنه تعالى يدعو الناس إلى الإيمان مبينا لهم ثمراته الطيبة ويحذرهم من التكذيب مبينا لهم آثاره السيئة فمن آمن نجاه وأسعده ومن لم يؤمن جعل الرجس الذي هو العذاب عليه محيطا به جزاء له لأنه لا يعقل إذ لو عقل لما كذب ربه وكفر به وعصاه وتمرد عليه وهو خالقه ومالك أمره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده دعوته إياهم إلى الإيمان به وحضهم عليه.

٢ ـ قبول التوبة قبل معاينة العذاب ، ورؤية العلامات لا تمنع من التوبة.

٣ ـ إرادة الله الكونية التي يكون بها الأشياء لا تتخلف أبدا ، وإرادته الشرعية التكليفية جائزة التخلف.

٤ ـ لا إيمان إلا بإذن الله وقضائه فلذا لا ينبغي للداعي أن يحزن على عدم إيمان الناس إذا دعاهم ولم يؤمنوا لأن الله تعالى كتب عذابهم أزلا وقضى به.

__________________

(١) الاستفهام : انكاري ينكر تعالى على رسوله شدّة حرصه على إيمان قومه ، حتى لكأنه يريد إكراههم على الإيمان به وبما جاء به من التوحيد.

(٢) (الرِّجْسَ) : بضم الراء وكسرها : العذاب.

٥١١

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣))

شرح الكلمات :

(ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي من عجائب المخلوقات ، وباهر الآيات.

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) : أي ما تغني أيّ إغناء إذا كان القوم لا يؤمنون.

(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ) : أي ما ينتظرون.

(خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي مضوا من قبلهم من الأمم السابقة.

(قُلْ فَانْتَظِرُوا) : أي العذاب.

(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي من العذاب المنتظر.

(كَذلِكَ) : أي كذلك الإنجاء ننج المؤمنين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أمر تعالى رسوله أن يقول لهم : (قُلِ انْظُرُوا (١) ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من سائر المخلوقات وما فيها من عجائب الصنعة ، ومظاهر الحكمة والرحمة والقدرة فإنها تدعو إلى الإيمان بالله ربا وإلها لا إله غيره ولا رب سواه ، وتفند دعوى ألوهية الأصنام والأحجار. ثم قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) أي الرسل في هداية قوم قضى الله تعالى أزلا

__________________

(١) الفاء للتفريع فالكلام متفرّع على جملة ما تغني الآيات والنذر. والاستفهام إنكاري تهكمي ، وفيه معنى النفي أيضا ، والنكات لا تتزاحم.

٥١٢

أنهم لا يؤمنون حتى ينتهوا إلى ما قدر لهم وما حكم به عليهم من عذاب الدنيا والآخرة ولكن لما كان علم ذلك إلى الله تعالى فعلى النذر أن تدعو وتبلغ جهدها والأمر لله من قبل ومن بعد. وقوله : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ (١) خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إنهم ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلفوا من قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم دعتهم رسلهم وبلغتهم دعوة ربهم إليهم إلى الإيمان والتوحيد والطاعة فأعرضوا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.

ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم (فَانْتَظِرُوا) (٢) أي ما كتب عليكم من العذاب إن لم تتوبوا إليه وتسلموا (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) فإن كان العذاب فإن سنة الله فيه أن يهلك الظالمين المشركين المكذبين وينجي رسله والمؤمنين وهو معنى قوله تعالى (٣) في الآية الأخيرة (١٠٣) (ثُمَّ نُنَجِّي (٤) رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا ، كَذلِكَ) أي الإنجاء (حَقًّا عَلَيْنا (٥) نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا تنفع الموعظة مهما بولغ فيها عبدا كتب أزلا أنه من أهل النار.

٢ ـ ما ينتظر الظلمة في كل زمان ومكان إلا ما حل بمن ظلم من قبلهم من الخزي والعذاب.

٣ ـ وعد الله تعالى ثابت لأوليائه بإنجائهم من الهلاك عند إهلاكه الظلمة المشركين.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ

__________________

(١) المراد من الأيام : العذاب الذي يقع فيها ، ويقال فيها الوقائع وهو نحو قولهم : أيام العرب ، فلان عالم بأيام العرب أي : ما جرى فيها من أحداث ومنه قوله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي : بالعذاب الذي وقع فيها

(٢) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها واقعة موقع جواب سؤال تقديره : نحن أولاء منتظرون وأنت ما ذا تفعل؟

(٣) (حَقًّا عَلَيْنا) جملة معترضة لأن المصدر يدل على الفعل ، والتقدير أي : حق ذلك علينا حقا أي : أحققناه حقا علينا ،

(٤) (نُنَجِّي) قرىء بالتخفيف ، والتشديد ، والمعنى واحد ، وفي المصحف ننج بدون ياء لالتقاء الساكنين.

(٥) إن انتظار العذاب منذر بنزوله قريبا بديارهم والرسول معهم فمن هنا عطف جملة (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا) فأعلمهم بنجاة الرسل فكانت بشرى للرسول والمؤمنين.

٥١٣

أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧))

شرح الكلمات :

(مِنْ دِينِي) : أي الإسلام في أنه حق.

(يَتَوَفَّاكُمْ) : أي يقبض أرواحكم فيميتكم.

(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) : أي أمرني ربي أن أقم وجهي للدين الإسلامي حنيفا أي مائلا

(حَنِيفاً) عن كل الأديان إليه دون غيره.

(ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) : أي آلهة لا تنفع ولا تضر وهي أصنام المشركين وأوثانهم.

(فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) : أي إنك إذا دعوتها من المشركين الظالمين لأنفسهم.

(فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) : أي لا مزيل للضّر ومبعده عمن أصابه إلا هو عزوجل.

(يُصِيبُ بِهِ) : أي بالفضل والرحمة.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : أي لذنوب عباده التائبين الرحيم بعباده المؤمنين.

معنى الآيات :

بعد أن بين تعالى طريق الهدى وطريق الضلال وأنذر وحذر وواعد وأوعد في الآيات السابقة بما لا مزيد عليه أمر رسوله هنا أن يواجه المشركين من أهل مكة وغيرهم بالتقرير التالي فقال : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي مشركي مكة والعرب من حولهم (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍ) وريب (١) في صحة ديني الإسلام الذي أنا عليه وأدعو إليه ، (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ

__________________

(١) أي : إن كنتم في شك من صحة ديني فأنا غير شاك في صحته وبطلان دينكم فلذا لا أعبد الذين تعبدون. من دون الله.

٥١٤

دُونِ اللهِ) فمجرد شككم في صحة ديني لا يجعلني أعبد أوثانا وأصناما لا تنفع ولا تضر ، (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ) الذي ينفع ويضر ، يحيى ويميت ، الله الذي يتوفاكم أي يميتكم بقبض أرواحكم فهو الذي يجب أن يعبد ويخاف ويرهب (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي أمرني ربي أن أومن به فأكون من المؤمنين فآمنت وأنا من المؤمنين. وقوله تعالى : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي وأوحى إليّ ربي آمرا إياي بأن أقيم وجهي لدينه (١) الحق فلا ألتفت إلى غيره من الأديان الباطلة ، ونهاني مشددا علي أن أكون من المشركين الذين يعبدون معه آلهة أخرى بعد هذا الإعلان العظيم والمفاصلة الكاملة والتعريض الواضح بما عليه أهل مكة من الضلال والخطأ الفاحش ، واجه الله تعالى رسوله بالخطاب وهو من باب «إياك أعني واسمعي يا جاره» فنهاه بصريح القول أن يدعو من دون الله ما لا ينفعه ولا يضره وهو كل المعبودات ما سوى الله عزوجل فقال : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) أي لا يجلب لك نفعا ولا يدفع عنك ضرا ، ولا يضرك بمنع خير عنك ، ولا بإنزال شر بك فإن فعلت بأن دعوت غير الله فإنك إذا من الظالمين ، ولما كان دعاء النبي غير الله ممتنعا فالكلام إذا تعريض بالمشركين وتحذير للمؤمنين ، وقوله تعالى : في خطاب رسوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ) (٢) عنك (إِلَّا هُوَ) عزوجل ، (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) من الخيور عافية وصحة رخاء ونصر (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أي ليس هناك من يرده عنك بحال من الأحوال ، وقوله : (يُصِيبُ) (٣) أي بالفضل والخير والنعمة (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) إذ هو الفاعل المختار ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بيان لصفات الجلال والكمال فيه فإنه تعالى يغفر ذنوب التائبين إليه مهما بلغت في العظم ، ويرحم عباده المؤمنين مهما كثروا في العدد ، وبهذا استوجب العبادة بالمحبة والتعظيم والطاعة والتسليم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ على المؤمن أن لا يترك الحق مهما شك وشكك فيه الناس.

__________________

(١) الأمر بإقامة الوجه لله كناية عن توجه النفس والإقبال بها على الله تعالى فلا تلتفت راغبة ولا راهبة إلى غير الله تعالى ، وهذا كإسلام الوجه لله تعالى في آية : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ولازمه ترك كل دين إلى دين الله عزوجل.

(٢) تنكير ضرّ ، كتنكير خير يراد به النوعية الصالحة للقلة والكثرة.

(٣) يقال : أصابه بكذا : إذا أورده عليه ومسّه به.

٥١٥

٢ ـ تحريم الشرك ووجوب تركه وترك أهله.

٣ ـ دعاء غير الله مهما كان المدعو شرك محرم فلا يحل أبدا ، وإن سموه توسلا.

٤ ـ لا يؤمن عبد حتى يوقن أن ما أراده الله له من خير أو شر لا يستطيع أحد دفعه ولا تحويله بحال من الأحوال ، وهو معنى حديث : (١) (ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك).

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) : أي يا أهل مكة.

قد جاء الحق : أي الرسول يتلو القرآن ويبين الدين الحق.

(فَمَنِ اهْتَدى) : أي آمن بالله ورسوله وعبد الله تعالى موحدا له.

(وَمَنْ ضَلَ) : أي أبى إلا الإصرار على الشرك والتكذيب والعصيان.

فعليها : أي وبال الضلال على نفس الضال كما أن ثواب الهداية لنفس المهتدي.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) : أي بمجبر لكم على الهداية وإنما أنا مبلغ ونذير.

(وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) : أي في المشركين بأمره.

(خَيْرُ الْحاكِمِينَ) : أي رحمة وعدلا وإنفاذا لما يحكم به لعظيم قدرته.

معنى الآيتين :

هذا الإعلان الأخير في هذه السورة يأمر الله تعالى رسوله أن ينادى المشركين بقوله :

__________________

(١) هذا الكلام مستأنف يحمل إعلانا عظيما لأهل مكة أوّلا ، وللناس كافّة ثانيا مفاده : مجيئهم الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق من ربهم وهو الدين الإسلامي فمن دخل فيه اهتدى إلى طريق سعادته ومن أعرض عنه ضل طريق نجاته وسعادته.

٥١٦

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) وهو نداء عام يشمل البشرية كلها وإن أريد به ابتداء أهل مكة (قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن يتلوه رسول الله وفيه بيان الدين الحق الذي لا كمال للإنسان له إلا بالإيمان به والأخذ الصادق بما تضمنه من هدى. وبعد فمن اهتدى بالإيمان والاتباع فإنما ثواب هدايته لنفسه إذ هي التي تزكو وتطهر وتتأهل لسعادة الدارين ، ومن ضل بالإصرار على الشرك والكفر والتكذيب فإنما ضلاله أي جزاء ضلاله عائد على نفسه إذ هي التي تتدسّى وتخبث وتتأهل لمقت الله وغضبه وأليم عقابه. وما على الرسول المبلغ من ذلك شيء ، إذ لم يوكل إليه ربه هداية الناس بل أمره أن يصرح لهم بأنه ليس عليهم بوكيل (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١) وقوله تعالى : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) (٢) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتزام الحق باتباع ما يوحى إليه من الأوامر والنواهي وعدم التفريط في شيء من ذلك ، ولازم هذا وهو عدم اتباع ما لا يوحى إليه به ربه وقوله : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ (٣) وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على اتباع الوحي والثبات على الدعوة وتحمل الأذى من المشركين إلى غاية أن يحكم الله فيهم وقد حكم فأمره بقتالهم فقتلهم في بدر وواصل قتالهم حتى دانوا لله بالإسلام ولله الحمد والمنّة ، وقوله (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (٤) ثناء على الله تعالى بأنه خير من يحكم وأعدل من يقضي لكمال علمه وحكمته ، وعظيم قدرته ، وواسع رحمته.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن القرآن والرسول حق والإسلام حق.

__________________

(١) هذه الجملة داخلة ضمن الإعلان ، وهي أن يعلم أهل مكة والناس من حولهم أن الرسول المبلّغ الإسلام لهم غير موكل بهدايتهم وأنّ أمر ذلك متروك لهم ، فمن شاء اهتدى ، ومن شاء ضلّ ، وما عليه إلا البلاغ. وقد بلّغ.

(٢) هذا ارشاد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يلزم المنهج الذي وضعه له بطريق الوحي ولا يخرج عنه بحال فإنه سبيل نجاته ونجاة المؤمنين معه.

(٣) هذا إرشاد آخر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على إبلاغ أهل مكة ومن حولهم دعوة الله حتى يحكم الله بينه وبينهم بنصر رسوله والمؤمنين ، وخذلان الكفر والكافرين.

(٤) خير هنا بمعنى أخير اسم تفضيل ، وإنما عدل عن أخير إلى خير لكثرة الاستعمال كاسم شرّ أيضا ، وقد يأتي لفظ شر وخير لغير تفضيل.

٥١٧

٢ ـ تقرير مبدأ أن المرء يشقى ويسعد بكسبه لا بكسب غيره. (١)

٣ ـ وجوب اتباع الوحي الإلهي الذي تضمنه القرآن والسنة الصحيحة.

٤ ـ فضيلة الصبر وانتظار الفرج من الله تعالى.

سورة هود

مكية (٢)

وآياتها مائة وثلاث وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

شرح الكلمات :

(الر) : هذا أحد الحروف المقطعة : يكتب آلر ويقرأ ألف ، لام ، را.

__________________

(١) شواهد هذه الحقيقة في القرآن كثيرة منها : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) ومنها : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومنها : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

(٢) واستثنى منها بعضهم آية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ..) الآية فإنها مدنية وروي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (شيبتني هود وأخواتها) ويذكر القرطبي فيقول : قال أبو عبد الله : فالفزع يورث الشيب ، وذلك أنّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسد ، وتحت كل شعرة منبع ومنه يعرق فإذا نشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر فابيضّ ، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه فإذا ذهب سقاؤه يبس فابيضّ ، وإنما يبيضّ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده.

٥١٨

(أُحْكِمَتْ) : أي نظمت نظما متقنا ورصفت ترصيفا لا خلل فيه.

(فُصِّلَتْ) : أي ببيان الأحكام ، والقصص والمواعظ ، وأنواع الهدايات.

(مِنْ لَدُنْ) : أي من عند حكيم خبير وهو الله جل جلاله.

(مَتاعاً حَسَناً) : أي بطيب العيش وسعة الرزق.

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي موت الإنسان بأجله الذي كتب له.

(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) : أي ويعط كل ذي عمل صالح فاضل جزاءه الفاضل.

(عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) : هو عذاب يوم القيامة.

(يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) : أي يطأطئون رؤوسهم فوق صدورهم ليستتروا عن الله في زعمهم.

(يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) : يغطون رؤوسهم ووجوههم حتى لا يراهم الله في نظرهم الباطل.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الر) هذا الحرف مما هو متشابه ويحسن تفويض معناه إلى الله فيقال :

الله أعلم بمراده بذلك. وإن أفاد فائدتين الأولى : أن القرآن الكريم الذي تحداهم الله بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله قد تألف من مثل هذه الحروف : آلم ، آلر ، طه ، طس حم ، ق ، ن ، فألفوا مثله فإن عجزتم فاعلموا أنه كتاب الله ووحيه وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا به ، والثانية أنهم لما كانوا لا يريدون سماع القرآن بل أمروا باللغو عند قراءته ، (١) ومنعوا الاستعلان به جاءت هذه الحروف على خلاف ما ألفوه في لغتهم واعتادوه في لهجاتهم العربية فاضطرتهم إلى سماعه فإذا سمعوا تأثروا به وآمنوا ولنعم الفائدة أفادتها هذه الحروف المقطعة.

وقوله تعالى (كِتابٌ (٢) أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أي المؤلف من هذه الحروف كتاب عظيم أحكمت آياته أي رصفت ترصيفا ونظمت تنظيما متقنا لا خلل فيها ولا في تركيبها ولا معانيها ، وقوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) أي بين ما تحمله من أحكام وشرائع ، ومواعظ وعقائد

__________________

(١) شاهده في قوله تعالى من سورة (فصلت) : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).

(٢) التنكير في (كِتابٌ) للتفخيم والتعظيم ، والإحكام أصله : اتقان الصنعة مشتق من الحكمة التي هي وضع الشيء في موضعه فإحكام الآيات : سلامتها من الأخلال : التي تعرض لنوعها كمخالفة الواقع ، والخلل في اللّفظ أو في المعنى.

٥١٩

وآداب وأخلاق بما لا نظير له في أي كتاب سبق ، وقوله : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي تولى تفصيلها حكيم خبير ، حكيم في تدبيره وتصرفه ، حكيم في شرعه وتربيته وحكمه وقضائه ، خبير بأحوال عباده وشؤون خلقه ، فلا يكون كتابه ولا أحكامه ولا تفصيله إلا المثل الأعلى فى كل ذلك.

وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي أنزل الكتاب وأحكم آيه وفصّل أحكامه وأنواع هدايته بأن (١) لا تعبدوا إلا الله إذ لا معبود حق إلا هو ولا عبادة تنفع إلا عبادته. وقوله (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) هذا قول رسوله المبلغ عنه يقول أيها الناس إنى لكم منه أي من ربكم الحكيم العليم نذير بين يدي عذاب شديد إن لم تتوبوا فتؤمنوا وتوحدوا. وبشير أي أبشر من آمن ووحد وعمل صالحا بالجنة في الآخرة (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا (٢) رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وبأن تستغفروا ربكم باعترافكم بخطأكم بعبادة غيره ، ثم تتوبوا إليه أي ترجعوا إليه بالإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده وطاعته في أمره ونهيه ، ولكم جزاء على ذلك وهو أن يمتعكم في هذه الحياة متاعا حسنا بالنعم الوفيرة والخيرات الكثيرة إلى نهاية آجالكم المسماة لكل واحد منكم. وقوله (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (٣) أي ويعط سبحانه وتعالى كل صاحب فضل في الدنيا من بر وصدقة وإحسان فضله تعالى يوم القيامة في دار الكرامة الجنة دار الأبرار. وقوله : (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن هذه الدعوة فتبقوا على شرككم وكفركم (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) وهو عذاب يوم القيامة. وقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) يخبرهم تعالى بعد أن أنذرهم عذاب يوم القيامة بأن مرجعهم إليه تعالى لا محالة فسوف يحييهم بعد موتهم ويجمعهم عنده ويجزيهم بعدله ورحمته (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك احياؤهم بعد موتهم ومجازاتهم السيئة بمثلها والحسنة بعشر أمثالها وهذا هو العدل والرحمة اللذان لا نظير لهما.

__________________

(١) فالباء سببية ، وأن : تفسيرية ، إذ لو سأل سائل فقال : لم أحكمت الآيات ثم فصلت؟ لكان الجواب : بأن لا يعبد إلا الله وأن يستغفر وان يتاب إليه تعالى.

(٢) إن قيل : لم قدّم الاستغفار عن التوبة؟ فالجواب : بأن العبد لا يستغفر إلّا إذا علم أنه أذنب ، ولا يتوب العبد حتى يعلم أنه مذنب وعندها يتوب فهذا سرّ تقديم الاستغفار عن التوبة.

(٣) هذا كقوله تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ) فالفضل الأوّل من العبد ، وهو العمل الصالح ، والفضل الثاني من الرّب وهو دخول الجنة.

٥٢٠