أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

(زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) : أي صوت شديد وهو الزفير وصوت ضعيف وهو الشهيق.

(عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) : أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) : أي في شك من بطلان عبادة هؤلاء المشركين.

(نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) : ما قدر لهم من خير أو شر رحمة أو عذاب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي إن في أخذ الله تعالى للأمم الظالمة وتعذيبها بأشد أنواع العذاب آية أي علامة واضحة على أن من عذّب في الدنيا قادر على أن يعذب في الآخرة فالمؤمنون بلقاء الله تعالى يجدون فيما أخبر تعالى به من إهلاك الأمم الظالمة آية هي عبرة لهم فيواصلون تقواهم لله تعالى حتى يلاقوه وهم به مؤمنون ولأوامره ونواهيه مطيعون. وقوله تعالى (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ (١) لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي ذلك الذي فيه عذاب الآخرة هو يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس لفصل القضاء (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) إذ تشهده الخلائق كلها وقوله تعالى (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي وما يؤخر يوم القيامة إلا لإكمال عمر الدنيا المعدود السنين والأيام بل والساعات. وقوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ) أي (٢) يوم القيامة (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ (٣) إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي (٤) بإذن الله تعالى وقوله (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي والناس فيه ما بين شقي وسعيد ، وذلك عائد إلى ما كتب لكل إنسان من شقاوة أو سعادة في كتاب المقادير ، أولا ، ولما كسبوا من خير وشر ثانيا. وقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي في حكم الله وقضائه ففي النار لهم فيها زفير وهو صوت شديد وشهيق (٥) وهو صوت ضعيف والصوتان متلازمان إذ هما كأول النهيق وآخره عند الحمار. وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها) أي في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوامهما ، وقوله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) أن لا يخلد فيها وهم أهل التوحيد ممن ماتوا على كبائر الذنوب. وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي إن ربك أيها الإنسان فعال لما يريد إذا أراد شيئا فعله

__________________

(١) الجمع أصله لمّ الشتات والمتفرق منه يكون واحدا والجمع حشر الناس يوم القيامة في صعيد فصل القضاء.

(٢) قرىء يوم يأت بدون ياء لأن الياء تحذف إذا كان قبلها كسرة.

(٣) لا تكلم الأصل لا تتكلم بتائين وحذفت إحداهما للتخفيف وقرىء (يَأْتِ) بالياء وهو الأصل والحذف للتخفيف لا غير كقول الرجل لا أدر فيما لا يدري.

(٤) وردت آيات فيها نفي الكلام عن أهل الموقف إلا بإذن الله تعالى وأخرى تثبت ذلك والجمع أن للمحشر مواقف وأحوالا فيؤذن لهم فيها أحيانا ولا يؤذن لهم أحيانا أخرى ولا خلاف في أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى له بالكلام.

(٥) اختلف في تحديد معنى كل من الزفير والشهيق وما في التفسير خلاصته وهما أصوات المحزونين والزفير مأخوذ من الزّفر وهو الحمل على الظهر لشدته ، والشهيق النفس الطويل مأخوذ من قولهم جبل شاهق طويل.

٥٨١

لا يحال بينه وبين فعله. (١) وقوله (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) أي حكم الله تعالى بسعادتهم لما وفقهم الله من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي (فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ (٢) وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) إذ إرادة الله مطلقة لا تحد إلا بمشيئته العليا وقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي عطاء من ربك لأهل طاعته غير مقطوع أبدا وهذا دليل خلودهم فيها أبدا. وقوله تعالى (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) هو خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهاه ربه تعالى أن يشك في بطلان عبادة المشركين أصنامهم فإنهم لا دليل لهم على صحة عبادتها وإنما هم مقلدون لآبائهم يعبدون ما كانوا يعبدون من الأصنام والأوثان وقوله تعالى (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) يخبر تعالى انه موفي المشركين ما كتب لهم من خير وشر أو رحمة وعذاب توفية كاملة لا نقص فيها بحال.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل وفضيلة الإيمان بالآخرة.

٢ ـ حتمية البعث الآخر وأنه لا شك فيه.

٣ ـ الشقاوة والسعادة مضى بهما القضاء والقدر قبل وجود الأشقياء والسعداء.

٤ ـ عجز كل نفس عن الكلام يوم القيامة حتى يؤذن لها به.

٥ ـ إرادة الله مطلقة ، لو شاء أن يخرج أهل النار لأخرجهم منها ولو شاء أن يخرج أهل الجنة لأخرجهم إلا أنه حكم بما أخبر به وهو العزيز الحكيم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) أي لا يرد قضاؤه ولا يوقف فعله ولا يحال بينه وبين مراده.

(٢) قيل إن هذا تعبير عربي معتاد المقصود منه التأييد كقولهم لا أكلمك ما طلع نجم أو ما نبح كلب وما إلى ذلك وما في التفسير أوجه وهو الذي عليه المحققون.

٥٨٢

فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : أي التوراة.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ) : أي لو لا ما جرى به قلم القدر من تأخير الحساب والجزاء إلى يوم القيامة.

(لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) : أي موقع في الريب الذي هو اضطراب النفس وقلقها.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) : أي على الأمر والنهي كما أمرك ربك بدون تقصير.

(وَلا تَطْغَوْا) : أي لا تجاوزوا حدود الله.

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي لا تميلوا إليهم بموادة أو رضا بأعمالهم.

(فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) : أي تصيبكم ولازم ذلك دخولها.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر والثبات وهو يبلغ دعوة الله تعالى ويدعو إلى توحيده مواجها صلف المشركين وعنادهم فيقول له. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (١) أي التوراة كما أنزلنا عليك القرآن. فاختلفت اليهود في التوراة فمنهم من آمن بها ومنهم من كفر كما اختلف قومك في القرآن فمنهم من آمن به ومنهم من كفر إذا فلا تحزن. وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي تأخير الجزاء على الأعمال في الدنيا إلى يوم القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) فنجى المؤمنين وأهلك الكافرين. وقوله تعالى (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) وإن قومك من مشركي العرب لفي شك من القرآن هل هو وحي الله وكلامه أو هو غير ذلك مريب أي موقع في الريب الذي هو شك مع اضطراب النفس وقلقها وحيرتها وقوله تعالى (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ (٢) رَبُّكَ

__________________

(١) ظاهر البيان أن الله تعالى يبتلي رسوله ويخفف عنه ما يجده من ألم من جراء كفر قريش بما جاءها به من الهدى ودين الحق فقال تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة فاختلف الناس في ذلك فآمن بعض وكفر بعض واليهود ما زالوا مختلفين في التوراة أي فيما تحمله من أحكام فهذا يحلل وهذا يحرّم.

(٢) قرىء وإن كلا بتخفيف إن وأعمالها على أنها المخففة من الثقيلة وقالوا سمع من يقول إن زيدا لمنطلق وشددها آخرون ونصبوا بها كلا ، وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر لما بالتشديد وقرأ نافع وغيره بالتخفيف بناء على أن ما صلة واللام هي لام الابتداء التي تدخل على الخبر واللام الثانية لام القسم وفصل بين اللامين بما كراهية توالي لامين وعلى قراءة تشديد لما فقد خرجوها على أن الأصل لمن ما فأدغمت النون في الميم فصارت لما فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا فصارت لمّا وتوجيه الكلام وإن جميعهم للاقون جزاء أعمالهم.

٥٨٣

أَعْمالَهُمْ) أي وإن كل واحد من العباد مؤمنا كان أو كافرا بارا أو فاجرا ليوفينّه جزاء عمله يوم القيامة ولا ينقصه من عمله شيئا وقوله (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) تقرير لما أخبر به من الجزاء العادل إذ العلم بالعمل والخبرة التامة به لا بد منهما للتوفية العادلة. وقوله تعالى (فَاسْتَقِمْ (١) كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) أي بناء على ذلك فاستقم كما أمرك ربك في كتابه فاعتقد الحق واعمل الصالح واترك الباطل ولا تعمل الطالح أنت ومن معك من المؤمنين ليكون جزاؤكم خير جزاء يوم الحساب والجزاء. وقوله (وَلا تَطْغَوْا) أي لا تتجاوزوا ما حد لكم في الاعتقاد والقول والعمل وقوله (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير لهم من الطغيان الذي نهوا عنه ، وتهديد لمن طغى فتجاوز منهج الاعتدال المأمور بالتزامه. وقوله تعالى (وَلا تَرْكَنُوا (٢) إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) أي لا تميلوا إلى المشركين بمداهنتهم أو الرضا بشركهم فتكونوا مثلهم فتدخلوا النار مثلهم فتمسكم النار كما مستهم ، وقوله تعالى (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ (٣) أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي إن أنتم ركنتم إلى الذين ظلموا بالشرك بربهم فكنتم في النار مثلهم فإنكم لا تجدون من دون الله وليّا يتولى أمر الدفاع عنكم ليخرجكم من النار ثم لا تنصرون بحال من الأحوال ، وهذا التحذير وإن وجه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتداء فإن المقصود به أمته إذ هي التي يمكنها فعل ذلك أما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو معصوم من أقل من الشرك فكيف بالشرك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف عنه مما يجده من جحود الكافرين.

٢ ـ بيان سبب تأخر العذاب في الدنيا ، وهو أن الجزاء في الآخرة لا في الدنيا.

٣ ـ الجزاء الأخروي حتمي لا يتخلف أبدا إذ به حكم الحق عزوجل.

٤ ـ وجوب الاستقامة على دين الله تعالى عقيدة وعبادة وحكما وأدبا.

__________________

(١) قال ابن عباس ما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية ولذا قال وقد سأله أبو بكر عن إسراع الشيب اليه شيبتني هود وأخواتها ، وليس الرسول وحده مأمورا بالاستقامة بل كل مؤمن ومؤمنة لقوله (ومن تاب معك) فاللهم أعنا على ذلك.

(٢) حقيقة الركون هي الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به قال قتادة معناه لا تودوهم ولا تطيعوهم ولا ترضوا أعمالهم.

(٣) في الآية دليل على وجوب هجران أهل الكفر والمعاصي وأهل البدع والأهواء فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة وقد قال حكيم :

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

٥٨٤

٥ ـ حرمة الغلو وتجاوز ما حد الله تعالى في شرعه.

٦ ـ حرمة مداهنة المشركين (١) أو الرضا بهم أو بعملهم ، لأن الرضا بالكفر كفر.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥))

شرح الكلمات :

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) : أي صل الصلاة المفروضة.

(طَرَفَيِ النَّهارِ) : أي الصبح ، وهي في الطرف الأول ، والظهر والعصر وهما في الطرف الثاني.

(وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : أي ساعات الليل والمراد صلاة المغرب وصلاة العشاء.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) : أي حسنات الصلوات الخمس يذهبن صغائر الذنوب التي تقع بينهن.

(ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) : أي ذلك المذكور من قوله وأقم الصلاة عظة للمتعظين.

(الْمُحْسِنِينَ) : أي الذين يحسنون نياتهم وأقوالهم وأعمالهم بالإخلاص فيها لله وأدائها على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين وهدايتهم إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم فقال تعالى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ (٢) النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) (٣) أقمها في

__________________

(١) المداهنة هي أن يتنازل العبد عن دينه لأجل دنياه وهي محرمة والمداراة جائزة وهي أن يتنازل العبد عن دنياه ليحفظ دينه.

(٢) طرف النهار ـ أوله ـ وهو من طلوع الفجر وآخره من العصر إلى غروب الشمس.

(٣) الزلف جمع زلفة كغرفة وغرف وهي الساعة القريبة من أختها والمراد بها صلاة المغرب والعشاء ، وهذه الآية إحدى ثلاث آيات ذكرت أوقات الصلوات الخمس. الثانية آية الإسراء (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) والثانية آية الروم (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ).

٥٨٥

هذه الأوقات الخمس وهي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ومعنى أقمها أدها على الوجه الأكمل لأدائها ، فيكون ذلك الاداء حسنات يمحو (١) الله تعالى بها السيئات ، (٢) وقوله تعالى (ذلِكَ) أي المأمور به وما يترتب عليه (ذِكْرى) أي عظة (لِلذَّاكِرِينَ) أي المتعظين وقوله (وَاصْبِرْ) أي على الطاعات فعلا وتركا وعلى أذي المشركين ولا تجزع (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي جزاءهم يوم القيامة ، والمحسنون هم الذين يخلصون أعمالهم لله تعالى ويؤدونها على الوجه الأكمل في أدائها فتنتج لهم الحسنات التي يذهب الله بها السيئات.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان أوقات الصلوات الخمس إذ طرفي النهار هما الصبح وفيها صلاة الصبح والعشيّ وفيها صلاة الظهر والعصر كما أن زلفا من الليل هي ساعاته فيها صلاة المغرب والعشاء.

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في أن الحسنة تمحو السيئة وفي الحديث «الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر».

٣ ـ وجوب الصبر والإحسان وأنهما من أفضل الأعمال.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ

__________________

(١) قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) جملة تعليلية للأمر بإقام الصلاة وكون الحسنات يذهبن السيئات يتناول أمرين : الأول وهو الظاهر أن الحسنات يمحو الله تعالى بها السيئات وهي الصغائر والثاني أن فعل الحسنات يمنع من فعل السيئات وهو إذهابها.

(٢) روى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك فنزلت عليه (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) الآية فقال الرجل ألي هذا؟ قال لمن عمل بها من أمتى.

٥٨٦

(١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩))

شرح الكلمات :

(فَلَوْ لا) : لو لا كلمة تفيد الحض على الفعل والحث عليه.

(مِنَ الْقُرُونِ) : أي أهل القرون والقرن مائة سنة.

(أُولُوا بَقِيَّةٍ) : أي أصحاب بقيّة أي دين وفضل.

(ما أُتْرِفُوا فِيهِ) : أي ما نعموا فيه من طعام وشراب ولباس ومتع.

(وَكانُوا مُجْرِمِينَ) : أي لأنفسهم بارتكاب المعاصي ولغيرهم بحملهم على ذلك.

(بِظُلْمٍ) : أي منه لها بدون ما ذنب اقترفته.

(أُمَّةً واحِدَةً) : أي على دين واحد وهو الإسلام.

(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) : أي خلق أهل الاختلاف للاختلاف وأهل الرحمة للرحمة.

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ) من قبلكم أيها الرسول والمؤمنون (أُولُوا (١) بَقِيَّةٍ) من فهم وعقل وفضل ودين ينهون عن الشرك والتكذيب والمعاصي أي فهلّا كان ذلك إنه لم يكن اللهم إلا قليلا ممن أنجى الله تعالى من اتباع الرسل عند إهلاك أممهم وقوله تعالى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (٢) أي لم يكن بينهم أولو بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجى الله وما عداهم كانوا ظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي متبعين ما اترفوا فيه من ملاذ الحياة الدنيا وبذلك كانوا مجرمين فأهلكهم الله تعالى ونجى رسله والمؤمنين كما تقدم ذكره في قصة نوح وهود وصالح وشعيب

__________________

(١) أصحاب بقية والبقية أهل فضل ودين وصلاح يوجدون كبقية باقية في وسط أمة ضالة فاسدة غلب عليها الضلال والفساد فتوجد بقية صالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

(٢) أترفوا أي أترفهم الله بما وسع عليهم من الأرزاق ولم يشكروه هؤلاء المترفون اتبعوا ما أترفوا فيه وانقطعوا إليه فلا هم لهم إلا متاع الحياة الدنيا ، وبذلك أجرموا على أنفسهم وعقولهم فأصبحوا بذلك مجرمين ، في الآية ذم الترف إن اتبعه صاحبه وانقطع به عن طاعة الله ورسوله.

٥٨٧

عليهم‌السلام. وقوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١) أي لم يكن من شأن ربّك أيها الرسول أن يهلك القرى بظلم منه وأهلها مصلحون ، ولكن يهلكهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالشرك والتكذيب والمعاصي. وما تضمنته هذه الآية هو بيان لسنة الله تعالى في إهلاك الأمم السابقة ممن قص تعالى أنباءهم في هذه السورة. وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (٢) أي على الإسلام بأن خلق الهداية في قلوبهم وصرف عنهم الموانع. ولما لم يشأ ذلك لا يزالون مختلفين على أديان شتى من يهودية ونصرانية ومجوسية وأهل الدين الواحد يختلفون إلى طوائف ومذاهب مختلفة وقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (٣) أيها الرسول فإنهم لا يختلفون بل يؤمنون بالله ورسوله ويعملون بطاعتهما فلا فرقة ولا خلاف بينهم دينهم واحد وأمرهم واحد. وقوله (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي وعلى ذلك خلقهم فمنهم كافر ومنهم مؤمن ، والكافر شقي والمؤمن سعيد ، وقوله (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ) أي حقت ووجبت وهي (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (٤) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٥) أَجْمَعِينَ) ولذا كان اختلاقهم مهيّئا لهم لدخول جهنم حيث قضى الله تعالى بامتلاء جهنم من الجن والإنس أجمعين فهو أمر لا بد كائن.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ما يزال الناس بخير ما وجد بينهم أولو الفضل والخير بأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن الفساد والشر.

٢ ـ الترف كثيرا ما يقود إلى الاجرام على النفس باتباع الشهوات وترك الصالحات.

٣ ـ متى كان أهل القرى صالحين فهم آمنون من كل المخاوف.

٤ ـ الاتفاق رحمة والخلاف عذاب.

__________________

(١) في الآية إشارة إلى مصداق مثل سائر بين الناس وهو قولهم يدوم الكفر ولا يدوم الظلم. فالأمة إذا كان افرادها مصلحين لا يفسدون ولا يرضون الفساد ولا يقرونه فتطول حياتها ويعظم شأنها ولو كانت كافرة.

(٢) في الآية تقرير مشيئة الله تعالى التي لا يقع في الكون شيء إلا بها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم على ملة الإسلام أو ملة الكفر أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت اختلاف الناس لتتجلى في ذلك قدرته ورحمته وعدله وعفوه ومغفرته.

(٣) اجتماع الأمة وعدم اختلافها مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى واختلافها مظهر من مظاهر عذابها وشقائها وحرمانها.

(٤) جملة لأملأن جهنم تفسير للكلمة التي أتمها الله تعالى وهي قوله (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ..).

(٥) أي من الفريقين فمن تبعيضية فيدخل بعض الجن والإنس الجنة ويدخل بعض الجن والإنس النار.

٥٨٨

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

شرح الكلمات :

(وَكُلًّا نَقُصُ) : أي وكل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل نقصه عليك تثبيتا لفؤادك.

(ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) : أي نقص عليك من القصص ما نثبت به قلبك لتصبر على دعوتنا وتبليغها.

(وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) : أي في هذه السورة الحق الثابت من الله تعالى كما جاءك في غيرها.

(وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى) : أي وجاءك فيها موعظة وذكرى للمؤمنين إذ هم المنتفعون بها.

(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ما غاب علمه فيهما فالله يعلمه وحده وليس لغيره فيه علم.

(فَاعْبُدْهُ) : أي وحّده في العباده ولا تشرك به شيئا.

(وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) : أي فوض أمرك إليه وثق تمام الثقة فيه فإنه يكفيك.

معنى الآيات :

لما قص تعالى على رسوله في هذه السورة الشريفة ما قصه من أنباء الرسل مع أممهم مبيّنا ما لاقت الرسل من أفراد أممهم من تكذيب وعناد ومجاحدة وكيف صبرت الرسل

٥٨٩

حتى جاءها النصر أخبر تعالى رسوله بقوله (وَكُلًّا) (١) (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي ونقص عليك كل ما تحتاج إليه في تدعيم موقفك وقوة عزيمتك من أنباء الرسل أي من اخبارها مع أممها الشيء الذي نثبت به قلبك حتى تواصل دعوتك وتبلغ رسالتك. وقوله (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي السورة الحق (٢) من الأخبار كما جاءك في غيرها (وَمَوْعِظَةٌ) لك (٣) تعظ بها غيرك ، (وَذِكْرى) يتذكر بها المؤمنون فيثبتون على الحق ويصبرون على الطاعة والبلاء فلا يجزعوا ولا يملوا ، وقوله (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أي وقل يا رسولنا للذين لا يؤمنون من قومك ممن هم مصرون على التكذيب والشرك والعصيان اعملوا على حالكم وما أنتم متمكنون منه إنا عاملون على حالنا كذلك ،

وانتظروا أيّنا ينتصر في النهاية أو ينكسر. وقوله ولله غيب (٤) السموات والأرض فهو وحده يعلم متى يجيء النصر ومتى تحق الهزيمة. وإليه يرجع الأمر كله أمر الانتصار والانكسار كأمر الهداية والاضلال والإسعاد والاشقاء ، وعليه فاعبده يا رسولنا وحده وتوكل عليه (٥) وحده ، فإنه كافيك كل ما يهمك من الدنيا والآخرة ، وما ربك بغافل عما تعملون أيها الناس وسيجزي كلّا بما عمل من خير أو غير وهو على كل شيء قدير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فائدة القصص القرآني وهي أمور منها :

أ) تثبيت قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ب) إيجاد مواعظ وعبر للمؤمنين.

ج) تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ علم الغيب لله وحده لا يعلمه غيره.

٣ ـ مرد الأمور كلها لله بدءا وعودا ونهاية.

__________________

(١) نصب (كُلًّا) بفعل نقص أي نقص عليك كلا والتنوين عوض عن كلمة محذوفة تقديرها كل ما تحتاج إليه من أنباء الرسل.

(٢) لاشتمالها على خمس قصص. قصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب ، مع الإشارة إلى قصتي ابراهيم وموسى عليهما‌السلام.

(٣) الموعظة اسم مصدر الوعط وهي التذكير بما يصرف العبد عما يضره ويسيء إليه في سائر المحرمات فعلا وتركا.

(٤) أي له علمه وحده دون سواه أي غيره لا في السماء ولا في الأرض.

(٥) أي ثق فيه وفوض أمر نصرك إليه ولا تلتفت إلى غيره فإنه كافيك دون سواه.

٥٩٠

٤ ـ وجوب (١) عبادة الله تعالى والتوكل عليه.

سورة يوسف

مكية

وآياتها مائة واحدى عشرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

شرح الكلمات :

(الر) : تكتب ألر وتقرأ : ألف ، لام ، را ، والله أعلم بمراده بذلك.

(الْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي القرآن المظهر للحق في الاعتقادات والعبادات والشرائع.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) : أي بلغه العرب العدنانيّون والقحطانيون سواء.

(نَحْنُ نَقُصُ) : نحدثك متتبعين آثار الحديث على وجهه الذي كان عليه وتم به.

(بِما أَوْحَيْنا) : أي بإيحائنا إليك فالوحي هو أداة القصص.

(مِنْ قَبْلِهِ) : أي من قبل نزوله عليك.

(لَمِنَ الْغافِلِينَ) : أي من قبل إيحائنا إليك غافلا عنه لا تذكره ولا تعلم منه شيئا.

__________________

(١) إذ لا جلها خلق الخلق كله ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية وفي الحديث القدسي : يا ابن آدم لقد خلقت كل شيء من أجلك وخلقتك من أجلي. إذا فعله الحياة كلها ليعبد الله تعالى.

٥٩١

معنى الآيات :

إن المناسبة بين سورتي هود ويوسف عليهما‌السلام أن الثانية تتميم للقصص الذي اشتملت عليه الأولى إذ سورة يوسف اشتملت على أطول قصص في القرآن الكريم أوله (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ) رابع آية وآخره (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) الآية الثانية بعد المائة وأما سبب نزول هذه السورة فقد قيل للرسول (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو قصصت علينا فأنزل الله تعالى (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) إلى قوله (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) فقص أحداث أربعين سنة تقريبا ، فقوله تعالى (الر) من هذه الحروف المقطعة تألفّت آيات القرآن الكريم ، فأشار إليها بقوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي المبيّن للحق المظهر له ولكل ما الناس في حاجة إليه مما يصلح دينهم ودنياهم. وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي القرآن (قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٢) أي بلسان العرب ليفهموه ويعقلوا معانيه فيهتدوا عليه فيكملوا ويسعدوا. وقوله (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) أي ليمكنكم فهمه ومعرفة ما جاء فيه من الهدى والنور. وقوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ) يا رسول الله (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) (٤) أي أصحه وأصدقه وأنفعه وأجمله (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) أي بواسطة إيحائنا إليك هذا القرآن ، (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل إيحائه إليك (لَمِنَ الْغافِلِينَ) عنه لا تذكره ولا تعلمه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير اعجاز القرآن إذ هو مؤلف من مثل ألر ، وطس ، وق ، ومع هذا لم يستطع العرب أن يأتوا بسورة مثله.

٢ ـ بيان الحكمة في نزول القرآن باللغة العربية وهي أن يعقله العرب ليبلغوه إلى غيرهم.

__________________

(١) روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما : قالوا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو قصصت علينا فنزلت : نحن نقص عليك أحسن القصص الآية.

(٢) (قُرْآناً عَرَبِيًّا) حال من الضمير في أنزلناه وعربيا صفة له فلم يكن على نهج الاشعار ـ والقصص التي تقص وإنما هو كتاب منظم يقرأ ويحفظ ويعلم ما فيه ويعمل به لسعادة الدارين.

(٣) أي جعلناه قرآنا عربيا بلغتكم التي تتخاطبون بها وتفهمون أساليبها الكلامية ومعانيها الإفرادية والتركيبية رجاء أن تتمكنوا من فهمه ومعرفة ما يدعو إليه من الحق والصراط المستقيم.

(٤) القصص منقول من قص الأثر إذا تتبع آثار الأقدم ليعرف منتهى سير صاحبها فالقصص تتبع الأخبار للمعرفة والعظة والاعتبار.

٥٩٢

٣ ـ القرآن الكريم اشتمل على أحسن القصص فلا معنى لسماع (١) قصص غيره.

٤ ـ تقرير نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثباتها بأقوى برهان عقليّ واعظم دليل نقليّ.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

شرح الكلمات :

(لِأَبِيهِ) : أي يعقوب بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليه‌السلام.

(إِنِّي رَأَيْتُ) : أي في منامي.

(أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) : أي من كواكب السماء.

(ساجِدِينَ) : أي نزل الكل من السماء وسجدوا ليوسف وهو طفل.

(فَيَكِيدُوا لَكَ) : أي يحتالوا عليك بما يضرك.

(عَدُوٌّ مُبِينٌ) : أي بين العداوة ظاهرها.

(يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) : أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.

(مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : أي تعبير الرؤيا.

(وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) : أي بأن ينبّئك ويرسلك رسولا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذْ قالَ يُوسُفُ) (٢) هذا بداية القصص أي اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف بن

__________________

(١) روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فغضب وقال أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيأ ما وسعه إلا أن يتبعني.

(٢) إذ ظرف في محل نصب والعامل فيه أذكر أي اذكر لهم حين قال يوسف الخ.

٥٩٣

يعقوب لأبيه يعقوب (يا أَبَتِ) (١) أي يا أبي (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) أي من كواكب السماء (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٢) أي نزلوا من السماء وسجدوا له تحيّة وتعظيما. وسيظهر تأويل هذه الرؤيا بعد أربعين سنة حيث يجمع الله شمله بأبويه وإخوته الأحد عشر ويسجد الكل له تحيّة وتعظيما. وقوله تعالى (قالَ يا بُنَيَ) أي قال يعقوب لولده يوسف (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) (٣) وهم إخوة له من أبيه دون أمه (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) أي يحملهم الحسد على أن يكيدوك بما يضرك بطاعتهم للشيطان حين يغريهم بك (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) إذ أخرج آدم وحواء من الجنة بتزيينه لهما الأكل من الشجرة التي نهاهما الله تعالى عن الأكل منها. وقوله (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) وكما أراك ربك الكواكب والشمس والقمر ساجدين لك يجتبيك أي يصطفيك له لتكون من عباده المخلصين.

وقوله (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ويعلمك معرفة ما يؤول إليه أحاديث الناس ورؤياهم (٤) المنامية ، ويتم نعمته عليك بالنبوة وعلى آل يعقوب أي أولاده. (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) اسحق جد يوسف الأدنى وابراهيم جده الأعلى حيث أنعم عليهما بانعامات كبيرة أعظمها النبوة والرسالة ، وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) أي بخلقه (حَكِيمٌ) أي في تدبيره فيضع كل شيء في موضعه فيكرم من هو أهل للاكرام ، ويحرم من هو أهل للحرمان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ ثبوت الرؤيا شرعا ومشروعية تعبيرها. (٥)

__________________

(١) في يا أبت لغات كسر التاء وفتحها وضمها ، والأصل يا أبي فزيدت التاء عوضا عن الياء فلذا لا يجمع بينهما فلا يقال يا أبتي.

(٢) ساجدين جمع ساجد وهو للعاقل ، والشمس والقمر والنجوم من غير العقلاء. فلم ما قال ساجدة؟ والجواب لما كان السجود وهو طاعة لا يصدر إلا من عاقل ذكر الفعل فقال ساجدين

(٣) الرؤيا ما يراه المرء في منامه من أمور وأحوال ، وهي ثلاثة أنواع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا من الله والحلم من الشيطان.

(٤) قيل لمالك أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال : بالنبوة تلعب؟ لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها فإن رأى خيرا أخبر به وان رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت.

(٥) روى البخاري عن ابي قتادة أنه قال كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره) وروى : (أن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبّر فإذا عبرت وقعت).

٥٩٤

٢ ـ قد تتأخر الرؤيا فلا يظهر مصداقها إلا بعد السنين العديدة.

٣ ـ مشروعية الحذر والأخذ بالحيطة في الأمور الهامة.

٤ ـ بيان إفضال الله على آل ابراهيم بما أنعم عليهم فجعلهم أنبياء آباء وأبناء وأحفادا

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

شرح الكلمات :

(آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (١) : عبر للسائلين عن أخبارهم وما كان لهم من أحوال غريبة.

(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أي جماعة إذ هم أحد عشر رجلا.

(أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) : أي ألقوه في أرض بعيدة لا يعثر عليه.

(يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) : أي من النظر إلى يوسف فيقبل عليكم ولا يلتفت إلى غيركم.

(فِي غَيابَتِ الْجُبِ) : أي ظلمة البئر.

(بَعْضُ السَّيَّارَةِ) : أي المسافرين السائرين في الأرض.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة يوسف عليه‌السلام قال تعالى (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ) أي

__________________

(١) الآيات : الدلائل على ما تطلب معرفته من الأمور الخفية ذات الشأن وهي مأخوذة من آيات الطريق وهي علامات توضع على جنبات الطريق ترشد السائرين.

٥٩٥

في شأن يوسف وإخوته وما جرى لهم وما تم من أحداث جسام عبر وعظات للسائلين (١) عن ذلك المتطلعين إلى معرفته. (إِذْ قالُوا) أي إخوة يوسف (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) بنيامين وهو شقيقه (٢) دونهم (أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي جماعة فكيف يفضل (٣) الاثنين على الجماعة (إِنَّ أَبانا) أي يعقوب عليه‌السلام (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في خطإ بيّن بإيثاره يوسف وأخاه بالمحبة دوننا. وقوله (اقْتُلُوا يُوسُفَ (٤) أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يخبر تعالى عما قاله إخوة يوسف وهم في خلوتهم يتآمرون على أخيهم للتخلص منه فقالوا (اقْتُلُوا يُوسُفَ) بإزهاق روحه ، (أَوِ اطْرَحُوهُ) في أرض بعيدة ألقوه فيها فيهلك وتتخلصوا منه بدون قتل منكم ، وبذلك (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) حيث كان مشغولا بالنظر إلى يوسف ، ويحبكم وتحبونه وتتوبوا إلى الله من ذنب إبعاد يوسف عن أبيه ، وتكونوا بعد ذلك قوما صالحين حيث لم يبق ما يورثكم ذنبا أو يكسبكم إثما. وقوله تعالى (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) يخبر تعالى عن قيل إخوة يوسف لبعضهم البعض وهم يتشاورون في شأن يوسف وكيف يبعدونه عن أبيهم ورضاه عنهم قال قائل منهم هو يهودا أو روبيل وكان أخاه وابن خالته وكان أكبرهم سنا وأرجحهم عقلا قال : لا تقتلوا يوسف ، لأن القتل جريمة لا تطاق ولا ينبغي ارتكابها بحال ، والقوه في غيابة الجب (٥) أي في ظلمة البئر ، وهي بئر معروفة في ديارهم بأرض فلسطين يلتقطه (٦) بعض السيارة من المسافرين إن كنتم فاعلين شيئا إزاء أخيكم فهذا أفضل السبل لذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الإخوة.

__________________

(١) السائلون : من يتوقع منهم السؤال عن المواعظ والعبر ، والحكم والعرب يستعملون هذا في أساليبهم للتشويق قال السمؤل :

سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم

فليسوا سواء عالم وجهول

(٢) أمهما يقال لها راحيل بنت لابان وباقي الأخوة منهم الأشقاء لبعضهم ومنهم لأب إذا لم تكن أمهم واحدة.

(٣) نظرتهم هذه مادية بحتة إذ رأوا أن نفع الجماعة لأبيهم أكثر من نفع الواحد والاثنين وهو ما فضّل يوسف للمادة ولكن للكمال الروحي المهيأ له الدال عليه رؤياه .. والعصبة الجماعة ولا واحد لها من لفظها.

(٤) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا قال فما ذا قالوا في تآمرهم وتشاورهم فأجيب قالوا أقتلوا الخ ..

(٥) غيابة الجب والجمع غيابات وهي ما غاب عن البصر من شيء والمراد هنا قعر الجب وسمي الجب جبا لأنه مقطوع من الأرض ويجمع على جياب وجيبة.

(٦) في الآية دليل على مشروعية التقاط اللقطة وقد أذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يأذن في ضالة الإبل إذ قال في اللقطة. اعرف عقاصها (وعاءها) ووكاءها ثم عرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. وقال في ضالة الغنم هي لك أو لأخيك أو للذئب وقال في الإبل مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها.

٥٩٦

٢ ـ الحسد (١) سبب لكثير من الكوارث البشرية.

٣ ـ ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون.

٤ ـ الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(لَناصِحُونَ) : لمشفقون عليه نحب له الخير كما نحبه لأنفسنا.

(يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) (٢) : أي يأكل ويشرب ويلعب بالمسابقة والمناضلة.

(إِنِّي لَيَحْزُنُنِي) : أي يوقعني في الحزن الذي هو ألم النفس أي ذهابكم به.

(الذِّئْبُ) : حيوان مفترس خداع شرس.

(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أي جماعة قوية.

(لَخاسِرُونَ) : أي ضعفاء عاجزون عرضة للخسران بفقدنا أخانا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة يوسف إنهم بعد ائتمارهم واتفاقهم السري على إلقاء يوسف في غيابة الجب طلبوا من أبيهم أن يترك يوسف يخرج معهم إلى البر كعادتهم للنزهة والتنفه

__________________

(١) شاهدها حسد إبليس آدم فكانت كارثة الهبوط في الأرض والفتنة فيها وآخر حسد قابيل هابيل فقتله لذلك وثالث حسد اليهود للإسلام والمسلمين فجرّ حروبا وويلات لا حد لها على الإسلام والمسلمين.

(٢) قرأ نافع يرتع بكسر العين مجزوم في جواب الطلب بحذف الياء من ارتعى يرتعي الغنم ليتدرب بذلك وقرأها حفص بإسكان العين جزما من رتع يرتع في المكان إذا أكل كيف شاء قال الشاعر

ترتع ما غفلت حتى إذا ادّكرت

فإنما هي اقبال وادبار

٥٩٧

وكأنهم لاحظوا عدم ثقة أبيهم فيهم فقالوا له (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا (١) عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) أي محبون له كل خير مشفقون عليه أن يمسه أدنى سوء. (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) أي يرتع في البادية يأكل الفواكه ويشرب الألبان ويأكل اللحوم ويلعب بما نلعب به من السباق والمناضلة ، والمصارعة ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من كل ما قد يضره أو يسيء إليه. فأجابهم عليه‌السلام قائلا (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي (٢) أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) أي إنه ليوقعني في الحزن وآلامه ذهابكم به. (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) في رتعكم ولعبكم. فأجابوه قائلين (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) أي لا خير في وجودنا ما دمنا نغلب على أخينا فيأكله الذئب بيننا. ومع الأسف فقد اقنعوا بهذا الحديث والدهم وغدا سيذهبون بيوسف لتنفيذ مؤامرتهم الدنية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة : لا حذر مع القدر أي لا حذر ينفع (٣) في ردّ المقدور.

٢ ـ صدق المؤمن يحمله على تصديق من يحلف له ويؤكد كلامه.

٣ ـ جواز الحزن وأنه لا إثم فيه وفي الحديث «وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».

٤ ـ أكل الذئب (٤) للإنسان إن أصاب منه غفلة واقع وكثير أيضا.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ

__________________

(١) قرئت لا تأمنا بالإدغام وبدون إشمام وقرئت بالادغام مع الإشمام وقرئت لا تأمننا بنونين ظاهرتين وقرئت لا تمنّا بكسر التاء لغة تميم.

(٢) أي يشق على مفارقته مدة ذهابكم به وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة ومخائل الكمال.

(٣) وينفع في ما لم يقدر بإذن الله تعالى.

(٤) الذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه. وقرأ ورش عن نافع الذيب بدون همز لأن الهمزة ساكنة وقبلهما كسرة فحذفت تخفيفا.

٥٩٨

بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

شرح الكلمات :

(وَأَجْمَعُوا) : أي أمرهم على إلقائه في غيابة الجب.

(فِي غَيابَتِ الْجُبِ) : أي في ظلمة البئر.

(وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) : أي أعلمناه بطريق خفي سريع.

(عِشاءً) : أي بعد غروب الشمس أول الليل.

(نَسْتَبِقُ) : أي بالمناضلة.

(عِنْدَ مَتاعِنا) : أي أمتعتنا من ثياب وغيرها.

(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) : أي بمصدّق لنا.

(بِدَمٍ كَذِبٍ) : أي بدم مكذوب أي دم سخلة وليس دم يوسف.

(بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ) : أي زينت وحسنت.

(عَلى ما تَصِفُونَ) : أي من الكذب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الإخبار عما عزم عليه إخوة يوسف أن يفعلوه فقد أقنعوا والدهم يوم أمس على إرسال يوسف معهم إلى البر وها هم أولاء وقد أخذوه معهم وخرجوا به ، وما إن بعدوا به حتى تغيّرت وجوههم عليه وصار يتلقى الكلمات النابية والوكز والضرب أحيانا ، وقد أجمعوا أمرهم على إلقائه في بئر معلومة لهم في الصحراء ، ونفذوا مؤامرتهم وألقوا أخاهم وهو يبكي بأعلى صوته وقد انتزعوا منه قميصه وتركوه مكتوفا في قعر البئر. وهنا أوحى الله تعالى إليه أي أعلمه بما شاء من وسائط العلم انه سينبئهم في يوم من الأيام بعملهم الشنيع هذا وهو معنى قوله تعالى في السياق (وَأَوْحَيْنا (١) إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وبعد أن فرغوا من أخيهم ذبحوا سخلة ولطخوا بدمها قميصه ، وعادوا

__________________

(١) هذا دليل على نبوته وأنه نبىء وهو صغير إذ النبوة لا يشترط لها بلوغ الرشد كالرسالة. وقيل الهاء في إليه تعود إلى يعقوب وعليه فلا إشكال إذ هو نبي ورسول عليه‌السلام.

٥٩٩

إلى أبيهم مساء يبكون يحملون الفاجعة إلى أبيهم الشيخ الكبير قال تعالى (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً) أي ليلا (يَبْكُونَ) (١) وقالوا معتذرين (يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ (٢) وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا (٣) فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي بمصدق لنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) وقد دلت عباراتهم على كذبهم قال تعالى (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) (٤) أي ذي كذب أو مكذوب إذ هو دم سخلة ذبحوها فأكلوها ولطخوا ببعض دمها قميص يوسف أخيهم ونظر يعقوب إلى القميص وهو ملطخ بالدم الكذب ولم يكن به خرق ولا تمزيق فقال إن هذا الذئب لحليم إذ أكل يوسف ولم يخرق ثوبه. ثم قال ما أخبر تعالى عنه بقوله (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي لم يكن الأمر كما وصفتم وادعيتم وإنما سولت لكم أنفسكم أمرا فنفذتموه. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) (٥) أي فأمري صبر جميل والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى معه. (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ (٦) عَلى ما تَصِفُونَ) أي من الكذب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز صدور الذنب الكبير من الرجل المؤمن المهيء للكمال مستقبلا. (٧)

٢ ـ لطف الله تعالى بيوسف وإكرامه له بإعلامه إياه أنه سينّبىء إخوته بفعلتهم هذه وضمن ذلك بشره بسلامة الحال وحسن المآل.

٣ ـ اختيار الليل للاعتذار دون النهار لأن العين تستحي من العين كما يقال. وكما قيل «كيف يرجو الحياء منه صديق ... ومكان الحياء منه خراب. يريد عينيه لا تبصران.

٤ ـ فضيلة الصبر الجميل وهو الخالي من الجزع والشكوى معا.

__________________

(١) في الآية دليل على أن بكاء المرء لا يكون دليلا على صدق قوله لاحتمال أن يكون تصنعا كما حصل لأولاد يعقوب.

(٢) هو المسابقة وقيل ننتضل وهو نوع من المسابقة وهو في السهام لا في الأقدام وفي الآية دليل على مشروعية السباق وقد سابق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، والحفياء تبعد من ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة ، أجمع المسلمون أنه لا يجوز الرهان في السباق إلا في الخيل والإبل والنصل وهي الرماية بالسهام لإصابة الهدف.

(٣) أي ثيابنا وأمتعتنا.

(٤) استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الامارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها إذ يعقوب عليه‌السلام استدل على كذب بنيه بصحة القميص وعدم تمزقه بأنياب الذئب.

(٥) (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أولى به فصبر جميل مبتدأ وأولى به الخبر وهو محذوف وما في التفسير واضح كذلك.

(٦) (وَاللهُ) مبتدأ و (الْمُسْتَعانُ) خبر و (عَلى ما تَصِفُونَ) متعلق به ، والمعنى والله المستعان به على احتمال ما تصفون من الكذب.

(٧) لأن إخوة يوسف بعد فعلتهم تلك بأخيهم تاب الله عليهم ونجاهم ومن ألطافه بهم أنه حال بينهم وبين جريمة القتل ونجا يوسف وهم يعلمون.

٦٠٠