أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) (١) أي يعاهدون فيها (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي لا يخافون عاقبة نقض المعاهدات والتلاعب بها حسب أهوائهم. وقوله تعالى (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ (٢) مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) يرشد رسوله آمرا إياه بما يجب أن يتخذه إزاء هؤلاء الناكثين للعهود المنغمسين في الكفر. بحيث لا يخرجون منه بحال من الأحوال ويشهد لهذه الحقيقة أنهم لما حوصروا في حصونهم ونزلوا منها مستسلمين كان يعرض على أحدهم الإسلام حتى لا يقتل فيؤثر باختياره القتل على الإسلام وماتوا كافرين وصدق الله إذ قال (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فهؤلاء إن ثقفتهم في حرب أي وجدتهم متمكنا منهم فاضربهم بعنف وشدة وبلا هوادة حتى تشرد أي تفرق بهم من خلفهم من أعداء الإسلام المتربصين بك الدوائر من كفار قريش وغيرهم لعلهم يذكرون أي يتعظون فلا يفكروا في حربك وقتالك بعد ، وقوله (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً (٣) فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) هذا إرشاد آخر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعلق بالخطط الحربية الناجحة وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن خاف من قوم معاهدين له خيانة ظهرت أماراتها وتأكد لديك علاماتها فاطرح تلك المعاهدة ملغيا لها معلنا ذلك لتكون وإياهم على علم تام بإلغائها ، وذلك حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة ، والله لا يحب الخائنين. وقاتلهم مستعينا بالله عليهم وستكون الدائرة على الناكث الخائن ، وهذا ضرب من الحزم وصحة العزم إذ ما دام قد عزم العدو على النقض فقد نقص فليبادر لافتكاك عنصر المباغتة من يده ، وهو عنصر مهم في الحروب. وقوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم من هرب من بدر من كفار قريش (سَبَقُوا) (٤) أي فاتوا فلم يقدر الله تعالى عليهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله بحال فإنه

__________________

(١) سبحان الله ، هذا الوصف الخسيس ما زال ملازما لليهود إلى اليوم فلا يوفون بعهد ولا ذمّة أبدا ، وصدق الله العظيم إذ قال عنهم. (كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ).

(٢) يقال : شرد البعير أو الدابة إن فارقت صاحبها ، وشرّده إذا عمل على تشريده بسبب ، وشردت بني فلان : إذا حملتهم على مفارقة منازلهم قال الشاعر :

أطوّف في الأباطح كل يوم

مخافة أن يشرّد بي حكيم

(٣) غشا ونقضا للعهد والآية عامة ، فهي مبدأ حربي يأخذ به المسلمون إلى يوم القيامة ، ولا وجه لذكر الخلاف هل هي في بني قريظة أو بني النضير؟ وخوف الخيانة هنا معناه : الظن الغالب وذلك بظهور علامات خيانة العدو واضحة.

(٤) أي : من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي : في الدنيا حتى يظفرك الله بهم.

٣٢١

تعالى لا يفوته هارب ، ولا يغلبه غالب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن شر الدواب هم الكفار من أهل الكتاب والمشركين بل هم شر البرية.

٢ ـ سنة الله فيمن توغل في الظلم والشر والفساد يحرم التوبة فلا يموت إلا كافرا.

٣ ـ من السياسة الحربية النافعة أن يضرب القائد عدوه بعنف وشدة ليكون نكالا لغيره من الأعداء.

٤ ـ حرمة الغدر والخيانة.

٥ ـ جواز إعلان إلغاء المعاهدة وضرب العدو فورا إن بدرت منه بوادر واضحة بأنه عازم على نقض المعاهدة (١) وذلك لتفويت عنصر المباغتة عليه.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

__________________

(١) روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة) وروى أبو داود والترمذي أن معاوية رضي الله عنه كان بينه وبين الروم عهد ، فلما قارب تاريخ العهد الانقضاء سار إليهم بجيشه فجاء عمرو بن عنبسة فقال له سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء) فرجع معاوية بالناس.

٣٢٢

شرح الكلمات :

(أَعِدُّوا) : هيئوا وأحضروا.

(مَا اسْتَطَعْتُمْ) : ما قدرتم عليه.

(مِنْ قُوَّةٍ) : أي حربية من سلاح على اختلاف أنواعه.

(يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) : أي أجره وثوابه.

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) : أي مالوا إلى عدم الحرب ورغبوا في ذلك.

(فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) : أي يكفيك شرهم ، وينصرك عليهم.

(أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) : أي جمع بين قلوب الأنصار بعد ما كانت متنافرة مختلفة.

(إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : أي غالب على أمره ، حكيم في فعله وتدبير أمور خلقه.

معنى الآيات :

بمناسبة انتهاء معركة بدر وهزيمة المشركين فيها ، وعودتهم إلى مكة وكلهم تغيظ على المؤمنين وفعلا أخذ أبو سفيان يعد العدة للانتقام. وما كانت غزوة أحد إلا نتيجة لذلك هنا أمر الله تعالى رسوله والمؤمنين بإعداد القوة وبذل ما في الوسع والطاقة لذلك فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ (١) مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) وقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القوة بالرمي بقوله «ألا إن القوة (٢) الرمي» قالها ثلاثا وقوله تعالى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) يخبر تعالى عباده المؤمنين بعد أن أمرهم بإعداد القوة على اختلافها بأن رباطهم للخيل وحبسها أمام دورهم معدة للغزو والجهاد عليها يرهب أعداء الله من الكافرين والمنافقين أي يخوفهم حتى لا يفكروا في غزو المسلمين وقتالهم ، وهذا ما يعرف بالسلم المسلح ، وهو أن الأمة إذا كانت مسلحة قادرة على القتال يرهبها أعداؤها فلا يحاربونها ، وإن رأوها لا عدة لها ولا عتاد ولا قدرة على رد أعدائها أغراهم ذلك بقتالها فقاتلوها. وقوله تعالى (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي من دون كفار

__________________

(١) روى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على المنبر يقول : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي) وعن عقبة أيضا قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجزه أحدكم أن يلهو بأسهمه) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق).

(٢) ومما يدل على فضل الرمي في سبيل الله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أبي داود والترمذي والنسائي : (إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومنبله).

٣٢٣

قريش ، وقوله (لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) من الجائز أن يكونوا اليهود أو المجوس أو المنافقين ، وأن يكونوا الجن أيضا ، وما دام الله عزوجل لم يسمهم فلا يجوز أن يقال هم كذا .. بصيغة الجزم ، غير أنا نعلم أن أعداء المسلمين كل أهل الأرض من أهل الشرك والكفر من الإنس والجن ، وقوله تعالى (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) إخبار منه تعالى أن ما ينفقه المسلمون من نفقة قلت أو كثرت في سبيل الله التي هي الجهاد يوفّيهم الله تعالى إياها كاملة ولا ينقصهم منها شيئا فجملة (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) جملة خالية ومعناها لا يظلمكم الله تعالى بنقص ثواب نفقاتكم في سبيله هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٠) أما الآية الثانية وهي قوله تعالى (وَإِنْ (١) جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فإن الله تعالى يأمر رسوله وهو قائد الجهاد يومئذ بقبول السلم متى طلبها (٢) أعداؤه ومالوا إليها ورغبوا بصدق فيها ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول رحمة لا رسول عذاب وأمره أن يتوكل على الله في ذلك أي يطيعه في قبول السلم ويفوض أمره إليه ويعتمد عليه فإنه تعالى يكفيه شرّ أعدائه لأنه سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم وأحوالهم لا يخفى عليه من أمرهم شيء فلذا سوف يكفي رسوله شر خداعهم إن أرادوا خداعه بطلب السلم والمسالمة ، وهذا معنى قوله تعالى في الآيتين (٦٢) و (٦٣) (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) أي بالميل إلى السلم والجنوح (٣) إليها (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي كافيك إنه (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) أي في بدر (وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي جمع بين تلك القلوب المتنافرة المنطوية على الإحن والعداوات ولأقل الأسباب وأتفهها ، لقد كان الأنصار يعيشون على عداوة عظيمة فيما بينهم حتى إن حربا وقعت بينهم مائة وعشرين سنة فلما دخلوا في الإسلام اصطلحوا وزالت كل آثار العداوة والبغضاء وأصبحوا جسما واحدا من فعل هذا سوى الله تعالى؟ اللهم لا أحد ، ولذا قال تعالى لرسوله (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي من مال

__________________

(١) (جَنَحُوا) : مالوا ، والجنوح : الميل أي : إذا مالوا إلى المسالمة التي هي الصلح فمل إليها ، اختلف هل هذه الآية منسوخة بآية : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) والصحيح ، والذي به العمل أن الآية محكمة غير منسوخة ، وأنّ المسلمين إذا كانوا في حالة ضعف يحتاجون فيها إلى تقوية بعقد هدنة أو مصالحة لدفع ضرر أو تحصيل نفع ظاهر وهم في حاجة إلى ذلك فإن لهم أن يجنحوا للسلم وإن كانوا أقوياء قادرين فلا يحلّ لهم إلّا إنفاذ أمر الله تعالى بقتال العدو حتى يسلم أو يستسلم لحكم الإسلام.

(٢) السلم : مؤنثه ولذا عاد الضمير إليها مؤنثا في قوله : (فَاجْنَحْ لَها).

(٣) وهم يضمرون في نفوسهم نية الغدر بك والمكر ليخدعوك بذلك فامض في صلحك والله حسبك.

٣٢٤

صامت وناطق (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب إعداد القوة وهي في كل زمان بحسبه إن كانت في الماضي الرمح والسيف ورباط الخيل فهي اليوم النفاثة المقاتلة والصاروخ ، والهدروجين والدبابة والغواصة ، والبارجة.

٢ ـ تقرير مبدأ : السلم المسلح ، إرجع إلى شرح الآيات.

٣ ـ لا يخلو المسلمون من أعداء ما داموا بحق مسلمين ، لأن قوى الشر من إنس وجن كلها عدو لهم.

٤ ـ نفقة الجهاد خير نفقة وهي مضمونة التضعيف.

٥ ـ جواز قبول (١) السلم في ظروف معينة ، وعدم قبوله في أخرى وذلك بحسب حال المسلمين قوة وضعفا.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

__________________

(١) المراد بالسلم : المهادنة ، والموادعة ، والصلح المؤقت ، وقد تقدم بيانه ، والإمام الشافعي يرى أن لا تزيد مدّة المسالمة على عشر سنين قياسا على صلح الحديبية إذ كانت المدة عشر سنين لا غير.

٣٢٥

شرح الكلمات :

(حَسْبُكَ اللهُ) (١) : أي كافيك الله كل ما يهمك من شأن أعدائك وغيرهم.

(وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : أي الله حسبهم كذلك أي كافيهم ما يهمهم من أمر أعدائهم.

(حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) : أي حثهم على القتال مرغبا لهم مرهبا.

(صابِرُونَ) : أي على القتال فلا يضعفون ولا ينهزمون بل يثبتون ويقاتلون.

(لا يَفْقَهُونَ) : أي لا يعرفون أسرار القتال ونتائجه بعد فنونه وحذق أساليبه.

معنى الآيات :

ينادي الرب تبارك وتعالى رسوله بعنوان النبوة التي شرفه الله بها على سائر الناس فيقول (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ويخبره بنعم الخبر مطمئنا إياه وأتباعه من المؤمنين بأنه كافيهم أمر أعدائهم فما عليهم إلا أن يقاتلوهم ما دام الله تعالى ناصرهم ومؤيدهم عليهم ، فيقول : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ثم يناديه ثانية قائلا (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ليأمره بالأخذ بالأسباب الموجبة للنصر بإذن الله تعالى وهي تحريض المؤمنين على القتال وحثهم عليه وترغيبهم فيه فيقول (حَرِّضِ (٢) الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) ويخبره آمرا له ولأتباعه المؤمنين بأنه (إِنْ يَكُنْ) أي يوجد منهم في المعركة (عِشْرُونَ (٣) صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، وإن يكن منهم مائة صابرة يغلبوا ألفا من الكافرين ، ويعلل لذلك فيقول (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يفقهون أسرار القتال وهي أن يعبد الله تعالى ويرفع الظلم من الأرض ويتخذ الله من المؤمنين شهداء فينزلهم منازل الشهداء عنده ، فالكافرون لا يفقهون هذا فلذا

__________________

(١) (حَسْبُكَ) خبر مقدم ولفظ الجلالة مبتدأ أي : الله حسبك بمعنى كافيك : (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) يصح أن يكون في موضع نصب عطفا على الكاف في (حسبك) ، والصواب أنها في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف والتقدير : ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله أيضا.

(٢) يقال : حرّضه على كذا : حثه وحضّه وحارض على الأمر وواظب وواصب وأكب بمعنى ، والحارض : الذي أشرف على الهلاك ومنه : (حتى تكون حرضا) أي : تذوب عمّا فتقارب الهلاك فتكون من الهالكين.

(٣) (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) الخ لفظ مضمّن وعدا إلهيا مشروط بشرط الصبر ، إذ تقدير الكلام : إن يصبر منكم عشرون صابرون الخ.

٣٢٦

هم لا يصبرون على القتال لأنهم يقاتلون لأجل حياتهم فقط فإذا خافوا عنها تركوا القتال طلبا للحياة زيادة على ذلك أنهم جهال لا يعرفون أساليب الحرب ولا وسائلها الناجعة بخلاف المؤمنين فإنهم علماء ، علماء بكل شيء هذا هو المفروض ، وإن ضعف الإيمان ضعف تبعا له الفقه والعلم وحل الجهل والضعف كما هو مشاهد اليوم في المسلمين وقوله تعالى (الْآنَ خَفَّفَ (١) اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً (٢) فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الآن بعد علمه تعالى بضعفكم حيث لا يقوى الواحد على قتال عشرة ، ولا العشرة على قتال مائة ولا المائة على قتال الألف خفف تعالى رحمة بكم ومنّة عليكم ، فنسخ (٣) الحكم الأول بالثاني الذي هو قتال الواحد للإثنين ، والعشرة للعشرين والمائة للمائتين ، والألف للألفين ، ومفاده أن المؤمن لا يجوز له أن يفر من وجه اثنين ولكن يجوز له أن يفر إذا كانوا أكثر من اثنين وهكذا سائر النسب فالعشرة يحرم عليهم ان يفروا من عشرين ولكن يجوز لهم أن يفروا من ثلاثين أو أربعين مثلا. وهذا من باب رفع الحرج فقط وإلا فإنه يجوز للمؤمن ان يقاتل عشرة أو أكثر ، فقد قاتل ثلاثة آلاف صحابي يوم مؤتة مائة وخمسين ألفا من الروم والعرب المتنصرة وقوله تعالى (بِإِذْنِ اللهِ) أي بمعونته وتأييده إذ لا نصر بدون عون من الله تعالى وإذن ، وقوله (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي بالتأييد والنصر ، والصبر شرط في تأييد الله وعونه فمن لم يصبر على القتال فليس له على الله وعد في نصره وتأييده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا كافي إلا الله تعالى ، ومن زعم أن هناك من يكفي سوى الله تعالى فقد أشرك.

٢ ـ وجوب تحريض المؤمنين على الجهاد وحثهم عليه في كل زمان ومكان.

٣ ـ حرمة هزيمة الواحد من الواحد والواحد من الاثنين ، ويجوز ما فوق ذلك.

__________________

(١) لما شق على المؤمنين ثبات العشرة للمائة والعشرين للمائتين وثبات المائة للألف ، خفّف الله تعالى عنهم وأنزل قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ..) فرخّص للواحد أن يفر من أكثر من اثنين وهكذا إن شاء فإنه لا حرج.

(٢) قرىء ضعفا بفتح الضاد وضمها ، وقيل إن الفتح في ضعف العقول والضم في ضعف الأجسام ، والصحيح أنهما لغتان فصيحتان.

(٣) لا بأس أن يسمى هذا نسخا لأنه حكم جديد غاير الأوّل ويسمى تخفيفا وهو حسن أيضا.

٣٢٧

٤ ـ وجوب تثقيف المجاهدين عقلا وروحا وصناعة.

٥ ـ وجوب الصبر في ساحة المعارك ويحرم الهزيمة إذا كان عدد المؤمنين اثني عشر ألف مقاتل أو أكثر إذ هذا العدد لا يغلب (١) من قلة بإذن الله تعالى.

٦ ـ معية الله بالعلم والتأييد والنصر للصابرين دون الجزعين.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

شرح الكلمات :

(أَسْرى) : جمع أسير وهو من أخذ في الحرب يشد عادة بإسار وهو قيد من جلد فاطلق لفظ الأسير (٢) على كل من أخذ في الحرب.

(حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) : أي تكون له قوة وشدة يرهب بها العدو.

(عَرَضَ الدُّنْيا) : أي المال لأنه عارض ويزول فلا يبقى.

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) : وهو كتاب المقادير بأن الله تعالى أحل لنبيّ هذه الأمة الغنائم.

(فِيما أَخَذْتُمْ) : أي بسبب ما أخذتم من فداء أسرى بدر.

(حَلالاً طَيِّباً) : الحلال هو الطيب فكلمة طيبا تأكيد لحليّة اقتضاها المقام.

(وَاتَّقُوا اللهَ) : أي بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

معنى الآيات :

ما زال السياق في أحداث غزوة بدر من ذلك أن أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا عمر وسعد

__________________

(١) روى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة) والمراد أن الغلب إن حصل لن يكون سببه قلة العدد وإنما يكون لأمر آخر كعدم الصبر أو عدم الأخذ بأسباب النصر التي يتم بها النصر حسب سنّة الله.

(٢) أسير : كقتيل وجريح ، ويجمع على أسرى كقتلى وجرحى ، وعلى أسارى بضم الهمزة وفتحها ، والضم أشهر.

٣٢٨

بن معاذ رضي الله عنهما رغبوا في مفاداة الأسرى بالمال للظروف المعاشية القاسية التي كانوا يعيشونها ، وكانت رغبتهم في الفداء بدون علم من الله تعالى بإحلالها أو تحريمها أما عمر فكان لا يعثر على أسير إلا قتله وأما سعد فقد قال (الاثخان في القتال أولى من استبقاء الرجال) ولما تم الفداء نزلت هذه الآية الكريمة تعاتبهم أشد العتاب فيقول تعالى (ما كانَ لِنَبِيٍ) (١) أي ما صح منه ولا كان ينبغي له أن يكون له أسرى حرب يبقيهم ليفاديهم أو يمن عليهم مجانا (حَتَّى يُثْخِنَ (٢) فِي الْأَرْضِ) أرض العدو قتلا وتشريدا فإذا عرف بالبأس والشدة وهابه الأعداء جاز له الأسر أي الإبقاء على الأسرى أحياء ليمن عليهم بلا مقابل أو ليفاديهم بالمال ، وقوله تعالى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) هذا من (٣) عتابه تعالى لهم ، إذ ما فادوا الأسرى إلا لأنهم يريدون حطام الدنيا وهو المال ، وقوله (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فشتان ما بين مرادكم ومراد ربكم لكم تريدون العرض الفاني والله يريد لكم النعيم الباقي ، وقوله تعالى (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي غالب على أمره ينصر من توكل عليه وفوّض أمره إليه ، حكيم فى تصرفاته فلا يخذل أولياءه وينصر أعداءه فعليكم أيها المؤمنون بطلب مرضاته بترك ما تريدون لما يريد هو سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى (لَوْ لا كِتابٌ (٤) مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي لو لا أنه مضى علم الله تعالى بحلية الغنائم لهذه الأمة وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لكان ينالكم جزاء رضاكم بالمفاداة وأخذ الفدية عذاب عظيم.

وقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ (٥) حَلالاً طَيِّباً) إذن منه تعالى لأهل بدر أن يأكلوا مما

__________________

(١) هذه الآية نزلت يوم بدر عتابا من الله تعالى لأصحاب نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لم يثخنوا في قتل المشركين حتى يوجد منهم أسرى رغبوا في مفاداتهم منا بالمال.

(٢) الإثخان في الشيء : المبالغة فيه والإكثار منه والمراد به هنا : المبالغة في قتل المشركين حتى لا يبقى منهم أسير في ساحة المعركة.

(٣) روى مسلم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبعض أصحابه ومن بينهم أبو بكر وعمر (ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن يؤخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم ، فتمكّن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده فهوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت وإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان .. إلى أن قال : وأنزل الله عزوجل : (ما كانَ لِنَبِيٍ) إلى قوله : (حَلالاً طَيِّباً).

(٤) من ذلك أن الله تعالى لا يعذب قوما حتى يبيّن لهم ما يتقون.

(٥) هذا الإذن واقع بعد تخميس الغنيمة لا على إطلاقه.

٣٢٩

غنموا ، وحتى ما فادوا به الأسرى وهي منة منه سبحانه وتعالى ، وقوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر منه عزوجل لهم بتقواه بفعل أوامره وأوامر رسوله وترك نواهيهما ، وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إخبار منه تعالى أنه غفور لمن تاب من عباده رحيم بالمؤمنين منهم ، وتجلى ذلك في رفع العذاب عنهم حيث غفر لهم وأباح لهم ما رغبوا فيه وأرادوه. وفي الحديث : «لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم».

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إرشاد الله تعالى لقادة الأمة الإسلامية في الجهاد أن لا يفادوا الأسرى وأن لا يمنوا عليهم بإطلاقهم إلا بعد أن يخنثوا في أرض العدو قتلا وتشريدا فإذا خافهم العدو ورهبهم عندئذ يمكنهم أن يفادوا الأسرى أو يمنوا عليهم.

٢ ـ التزهيد في الرغبة في الدنيا لحقارتها ، والترغيب في الآخرة لعظم أجرها.

٣ ـ إباحة الغنائم.

٤ ـ وجوب تقوى الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

شرح الكلمات :

(مِنَ الْأَسْرى) : أسرى بدر الذين أخذ منهم الفداء كالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

(إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) : أي إيمانا صادقا وإخلاصا تاما.

(مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) : من مال الفداء.

٣٣٠

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) : أي الأسرى

(فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) : أي من قبل وقوعهم في الأسر وذلك بكفرهم في مكة.

(فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) : أي أمكنكم أنتم أيها المؤمنون منهم فقتلتموهم وأسرتموهم.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : عليم بخلقه حكيم في صنعه وتدبيره.

معنى الآيتين :

هذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه إذ كان يقول هذه الآية نزلت في وذلك أنه بعد أن وقع في الأسر (١) أسلم وأظهر إسلامه وطلب من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليه ما أخذ منه من فدية فأبى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فأنزل الله تعالى قوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي اسلاما حقيقيا (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي مالا خيرا (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، (٢) وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم التي كانت كفرا بالله ورسوله ، ثم حربا على الله ورسوله ، (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر ذنوب عباده التائبين (رَحِيمٌ) بعباده المؤمنين فلا يؤاخذهم بعد التوبة عليها بل يرحمهم برحمته في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى (وَإِنْ يُرِيدُوا (٣) خِيانَتَكَ) أي وإن يرد هؤلاء الأسرى الذين أخذ منهم الفداء ونطقوا بالشهادتين مظهرين إسلامهم خيانتك والغدر بك بإظهار إسلامهم ثم إذا عادوا إلى ديارهم عادوا إلى كفرهم ، فلا تبال (٤) بهم ولا ترهب جانبهم فإنهم قد خانوا الله من قبل بكفرهم وشركهم (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) المؤمنين وجعلهم في قبضتهم وتحت إمرتهم ، ولو عادوا لعاد الله تعالى فسلطكم عليهم وأمكنكم منهم وقوله تعالى (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بنيات القوم وتحركاتهم حكيم فيما يحكم به عليهم ألا فليتقوه عزوجل وليحسنوا

__________________

(١) أسره رضي الله عنه أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة ، وكان رجلا قصيرا والعباس رضي الله عنه ضخما طويلا فلما جاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : (لقد أعانك عليه ملك) وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : (افد نفسك فقال : لقد كنت مسلما يا رسول الله فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (والله أعلم بإسلامك فإن تكن كما تقول فالله يجزيك بذلك ، فأمّا ظاهر أمرك فكان علينا فافد نفسك وابني أخويك نوفل وعقيل) ففعل وفيه نزلت هذه الآية. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ...) الخ.

(٢) روى مسلم أنه لما قدم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مال من البحرين قال له العباس إني فاديت نفسي وفاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خذ فبسط ثوبه وأخذ ما استطاع أن يحمله ، وقال : هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر الله لي).

(٣) في هذه الآية تطمين لنفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليبلغ مضمونه إلى الأسرى فيعلموا أنهم لا يغلبون الله ورسوله. والخيانة : نقض العهد ، وما في معنى العهد كالأمانة ونحوها.

(٤) هذا هو جواب إن الشرطية المحذوف ، وقد دلّ عليه : (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ).

٣٣١

إسلامهم ويصدقوا في إيمانهم فذلك خير لهم.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ فضل العباس عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنزول الآية في حقه وشأنه.

٢ ـ فضل إضمار الخير والنيات الصالحة.

٣ ـ إطلاق لفظ الخير على الإسلام والقرآن وحقا هما الخير والخير كله.

٤ ـ ما ترك عبد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه.

٥ ـ الله جل جلاله : لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب ألا فليتق وليتوكل عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

٣٣٢

شرح الكلمات :

(آمَنُوا) : صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله وصدقوا بوعده ووعيده.

(وَهاجَرُوا) : أي تركوا ديارهم والتحقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة المنورة.

(فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي من أجل ان يعبد الله ولا يعبد معه غيره وهو الإسلام.

(آوَوْا) : أي آووا المهاجرين فضموهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم.

(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) : أي طلبوا منكم نصرتهم على أعدائهم.

(مِيثاقٌ) : عهد أي معاهدة سلم وعدم اعتداء.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ) : أي إن لم توالوا المسلمين ، وتقاطعوا الكافرين تكن فتنة. (١)

(أُولُوا الْأَرْحامِ) : أي الأقارب من ذوي النسب.

(بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) : في التوارث أي يرث بعضهم بعضا.

معنى الآيات :

بمناسبة انتهاء الحديث عن أحداث غزوة بدر الكبرى ذكر تعالى حال المؤمنين في تلك الفترة من الزمن وأنهم مختلفون في الكمال ، فقال وقوله الحق (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فهذا صنف : جمع أهله بين الإيمان والهجرة والجهاد بالمال والنفس ، والصنف الثاني في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) (٢) أي آووا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين في ديارهم ونصروهم. فهذان صنفا المهاجرين والأنصار وهما أكمل المؤمنين وأعلاهم درجة ، وسيذكرون في آخر السياق مرة أخرى ليذكر لهم جزاؤهم عند ربهم ، وقوله تعالى فيهم (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي في النصرة والموالاة والتوارث إلا أن التوارث نسخ بقوله تعالى في آخر آية من هذا السياق (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) والصنف الثالث من أصناف المؤمنين المذكور في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) أي آمنوا بالله ورسوله والدار الآخرة ثم رضوا بالبقاء بين

__________________

(١) محنة الحرب وما يتبع ذلك من الغارات والجلاء والأسر ، وما إلى ذلك من ويلات الحروب ، والفساد الكبير : هو ظهور الشرك.

(٢) قوله : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) معطوف على اسم إنّ والخبر : جملة (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

٣٣٣

ظهراني الكافرين فلم يهجروا ديارهم وأموالهم ويلتحقوا بدار الهجرة بالمدينة النبوية ، فهؤلاء الناقصون في إيمانهم بتركهم الهجرة ، يقول تعالى فيهم لرسوله والمؤمنين (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) فلا توارث ولا موالاة تقتضي النصرة والمحبة حتى يهاجروا إليكم ويلتحقوا بكم ، ويستثني تعالى حالة خاصة لهم وهي أنهم إذا طلبوا نصرة المؤمنين في دينهم فإن على المؤمنين أن ينصروهم وبشرط أن لا يكون الذي اعتدى عليهم وآذاهم فطلبوا النصرة لأجله أن لا يكون بينه وبين المؤمنين معاهدة سلم وترك الحرب ففي هذه الحال على المؤمنين أن يوفوا بعهدهم ولا يغدروا فينصروا أولئك القاعدين عن الهجرة هذا ما دل عليه قوله تعالى (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ذيل الكلام بهذه الجملة لإعلام المؤمنين الكاملين كالناقصين بأن الله مطلع على سلوكهم خبير بأعمالهم وأحوالهم فليراقبوه في ذلك حتى لا يخرجوا عن طاعته وقوله تعالى في الآية (٧٣) (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) يتناصرون ويتوارثون. وبناء على هذا يقول تعالى (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لا تفعلوا ما أمرتم به من مولاة المؤمنين محبة ونصرة وولاء ، ومن معاداة الكافرين بغضا وخذلانا لهم وحربا عليهم تكن فتنة عظيمة لا يقادر قدرها وفساد كبير لا يعرف مداه ، والفتنة الشرك والفساد المعاصي وقوله تعالي في الآية (٧٤) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هذا هو الصنف الأول أعيد ذكره ليذكر له جزاؤه عند ربه بعد تقرير إيمانهم وتأكيده فقال تعالى فيهم (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي لذنوبهم بسترها وعدم المؤاخذة عليها (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ألا وهو نعيم الجنة في جوار ربهم سبحانه وتعالى والصنف الرابع من أصناف المؤمنين ذكره تعالى بقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) فهذا الصنف أكمل من الصنف الثالث ودون الأول والثاني ، إذ الأول والثاني فازوا بالسبق ، وهؤلاء جاءوا من بعدهم ولكن لإيمانهم وهجرتهم وجهادهم ألحقهم الله تعالى

__________________

(١) الولاية : بكسر الواو وفتحها لغتان ، وقرىء بهما معا وهي هنا بمعنى النسب والنصرة ، وتكون الولاية بالكسرة والفتح أيضا بمعنى الإمارة وفي الآية دليل على أن المسلم لا يلي عقد نكاح أخته الكافرة لانعدام الموالاة بينهما ، والكافر لا يلي عقد نكاح أخته المسلمة.

(٢) روى الترمذي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير قالها ثلاثا) وقال الترمذي هو حديث غريب.

٣٣٤

بالسابقين فقال (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) وقوله تعالى (وَأُولُوا (١) الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي في الارث وبها نسخ التوارث بالهجرة والمعاقدة ، واستقر الإرث بالمصاهرة والولاء ، والنسب إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى (فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكمه وقضائه المدون في اللوح المحفوظ ، وقوله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذه الجملة تحمل الوعد والوعيد الوعد لأهل الإيمان والطاعة ، والوعيد لأهل الشرك والمعاصي.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان تفاوت المؤمنين في كمالاتهم وعلو درجاتهم عند ربهم.

٢ ـ أكمل المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والهجرة والجهاد وسبقوا لذلك وهم المهاجرون الأولون والذين جمعوا بين الإيمان والإيواء والنصرة والجهاد وهم الأنصار.

٣ ـ دون ذلك من آمنوا وهاجروا وجاهدوا ولكن بعد صلح الحدبيبة.

٤ ـ وأدنى أصناف المؤمنين من آمنوا ولم يهاجروا وهؤلاء على خطر عظيم.

٥ ـ وجوب نصرة المؤمنين بموالاتهم ومحبتهم ووجوب معاداة الكافرين وخذلانهم وبغضهم.

٦ ـ نسخ التوارث بغير المصاهرة والنسب والولاء.

سورة التّوبة

مدنية

وآياتها مائة وثلاثون آية

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١)

__________________

(١) أولوا : واحدها ذو ، والرحم مؤنثة والجمع أرحام وهي مقر الولد في البطن والمراد بأولي الأرحام هنا : العصبات كالآباء والأبناء والإخوة والأعمام وأصحاب الفروض وهم الجد والأب والأم والبنت والأخت والزوجة يشهد لهذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي رجل ذكر) أما أولوا الأرحام المختلف في إرثهم فهم : أولاد البنات وأولاد الاخوات وبنات الأخ ، والعمة والخالة والعم أخو الأب لأم والجد أبو الأم والجدة أم الأم. هذا ومن أهل العلم كابن كثير وغيره من أبقى اللفظ على ظاهره فجعل المراد من أولي الأرحام : القرابة الناشئة عن الأمومة على خلاف ما قدّمناه عن القرطبي من أنّ المراد بأولي الأرحام العصبات دون المولودين بالرحم ، وعلى رأي ابن كثير أن الآية ليست واردة في التوارث كما هو رأي مالك وإنما هي في الموالاة والنصرة.

٣٣٥

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

شرح الكلمات :

(بَراءَةٌ) (١) : أي هذه براءة بمعنى تبرؤ وتباعد وتخلص

(عاهَدْتُمْ) : أي جعلتم بينكم وبينهم عهدا وميثاقا.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) (٢) : أي سيروا في الأرض طالبين لكم الخلاص.

(مُخْزِي الْكافِرِينَ) : مذل الكافرين ومهينهم.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ) : إعلام منه تعالى.

(يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) : أي يوم عيد النحر.

(لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) : أي من شروط المعاهدة وبنود الاتفاقية.

(وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) : أي لم يعينوا عليكم أحدا.

__________________

(١) يقال : برئت من الشيء أبرأ براءة فأنا بريء منه إذا أزلته عن نفسي وقطعت سبب ما بيني وبينه. وبراءة هنا : مبتدأ ، وجوّز الابتداء به وهو نكرة : الوصف. والخبر (إِلَى الَّذِينَ) ويصح أن تكون براءة خبر ، والمبتدأ محذوف تقديره : هذه براءة.

(٢) أي قل لهم : سيحوا في الأرض أي : سيروا في الأرض آمنين غير خائفين ، يقال : ساح يسيح سياحة ، وسيوحا وسيحانا ومنه السّيح في الماء الجاري المنبسط.

٣٣٦

معنى الآيات :

هذه السورة القرآنية الوحيدة التي خلت من البسملة (١) لأنها مفتتحة بآيات عذاب فتنافى معها ذكر الرحمة ، وهذه السورة من آخر ما نزل من سور القرآن الكريم وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا وبعض الصحابة في حج سنة تسع يقرأون هذه الآيات في الموسم ، وهي تعلم المشركين أن من كان له عهد مطلق بلا حد شهر أو سنة مثلا أو كان له عهد دون أربعة أشهر ، أو كان له عهد فوق أربعة أشهر ونقضه تعلمهم بأن عليهم أن يسيحوا في الأرض بأمان كامل مدة أربعة أشهر فإن أسلموا فهو خير لهم وإن خرجوا من الجزيرة فإن لهم ذلك وإن بقوا كافرين فسوف يؤخذون ويقتلون حيثما وجدوا في ديار الجزيرة التي أصبحت دار إسلام بفتح مكة ودخول أهل الطائف في الإسلام هذا معنى قوله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي واصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ (٢) مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) تبدأ من يوم الإعلان عن ذلك وهو يوم العيد عيد الأضحى. وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي غير فائتيه ولا هاربين من قهره وسلطانه عليكم هذا أولا ، وثانيا (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مذلهم وقوله تعالى (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأذان الإعلان والإعلام ، (إِلَى النَّاسِ) وهم المشركون (يَوْمَ الْحَجِ (٣) الْأَكْبَرِ) (٤) أي يوم عيد الأضحى حيث تفرّغ الحجاج للاقامة بمنى للراحة والاستجمام قبل العودة إلى ديارهم ، وصورة الإعلان عن تلك البراءة هي قوله تعالى (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ (٥) مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) أي كذلك بريء من المشركين وعليه (فَإِنْ تُبْتُمْ) أيها المشركون الى الله تعالى بتوحيده والإيمان برسوله وطاعته وطاعة رسوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من الإصرار على الشرك

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سألت عليا رضي الله عنه : لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم قال : لأنّ بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. هذا أحد خمسة أوجه في عدم كتابة البسملة في براءة وهو أوجهها ، وهو ما ذكرناه في التفسير.

(٢) نسبت المعاهدة إلى المؤمنين كافة ، والمعاهد هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه المتولي لها ولسائر العقود. وكان رضاهم بها واجبا عليهم فلذا نسبت إليهم.

(٣) وقيل إنه يوم عرفة ، والصحيح ما ذكرناه في التفسير وأنه يوم النحر لحديث ابن عمر عن أبي داود إذ قال : (وقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم النحر في الحجة التي حجّ فيها فقال : أي يوم هذا؟ فقالوا : يوم النحر فقال : هذا يوم الحج الأكبر).

(٤) اختلف في العلة في تسمية الحج بالأكبر ، وأحسن الأقوال أنه قيل فيه الأكبر : لأنه حج حضره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحضرت فيه أمة الإسلام التي وجدت في تلك السنة فحجّ أكبر عدد في ذلك العام.

(٥) قالت العلماء : في الآية بيان جواز قطع المعاهدة بين المسلمين والكافرين لأحد أمرين : الأول : أن تنقضي المدة المعاهد عليها فنعلمهم بانقضائها وبالحرب عليهم. والثاني : أن نخاف غدرهم لظهور علامات تدلّ عليه.

٣٣٧

والكفر والعصيان ، (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإيمان والطاعة (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) بحال من الأحوال فلن تفوتوه ولن تهربوا من سلطانه فإن الله تعالى لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ثم قال تعالى لرسوله (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم به فإنه واقع بهم لا محالة إلا أن يتوبوا وقوله تعالى في الآية الرابعة (٤) (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ) من شروط المعاهدة (شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) لا برجال ولا بسلاح ولا حتى بمشورة ورأي فهؤلاء لم يبرأ الله تعالى منهم ولا رسوله ، وعليه (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ (١) إِلى مُدَّتِهِمْ) أي مدة أجلهم المحدد بزمن معين فوفوا لهم ولا تنقضوا لهم عهدا إلى أن ينقضوه هم بأنفسهم ، أو تنتهي مدتهم وحينئذ إما الإسلام وإما السيف إذ لم يبق مجال لبقاء الشرك في دار الإسلام وقبته.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز عقد المعاهدات بين المسلمين والكافرين إذا كان ذلك لدفع ضرر محقق عن المسلمين ، أو جلب نفع للإسلام والمسلمين محققا كذلك.

٢ ـ تحريم الغدر والخيانة ، ولذا كان إلغاء المعاهدات علنيا وإمداد أصحابها بمدة ثلث سنة يفكرون في أمرهم ويطلبون الأصلح لهم.

٣ ـ وجوب الوفاء بالمعاهدات ذات الآجال إلى أجلها إلا أن ينقضها المعاهدون.

٤ ـ فضل التقوى وأهلها وهو اتقاء سخط الله بفعل المحبوب له تعالى وترك المكروه.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)

__________________

(١) في الآية إشارة إلى أن هناك من خاس بعهده أي : نقضه ، ومنهم من ثبت عليه.

٣٣٨

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨))

شرح الكلمات :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ (١) الْحُرُمُ) : انقضت وخرجت الأشهر الأربعة التي أمنتم فيها المشركين.

(حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) : أي في أي مكان لقيتموهم في الحل أو الحرم.

(وَخُذُوهُمْ) : أي أسرى.

(وَاحْصُرُوهُمْ) : أي حاصروهم حتى يسلموا أنفسهم.

(وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) (٢) : أي اقعدوا لهم في طرقاتهم وارصدوا تحركاتهم.

(فَإِنْ تابُوا) : أي آمنوا بالله ورسوله.

(فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) : أي اتركوهم فلا حصار ولا مطاردة ولا قتال.

(اسْتَجارَكَ) : أي طلب جوارك أي حمايتك.

(مَأْمَنَهُ) : أي المكان الذي يأمن فيه.

(فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) : أي لم ينقضوا عهدهم ولم يخلوا بالاتفاقية.

__________________

(١) انسلخ : مطاوع سلخ ، وهو مأخوذ من سلخ الجلد : إذا أزاله عن لحم الحيوان.

(٢) المرصد : مكان الرصد والرصد : المراقبة وتتبع النظر ، قال الشاعر :

ولقد علمت وما إخالك ناسيا

أنّ المنيّة للفتى بالمرصد

٣٣٩

(وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) : أي يغلبوكم.

(لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ) : أي لا يراعوا فيكم ولا يحترموا.

(إِلًّا وَلا ذِمَّةً) : أي لا قرابة ، ولا عهدا فالإلّ : القرابة والذمة : العهد.

معنى الآيات :

ما زال السياق في إعلان الحرب العامة على المشركين تطهيرا لأرض الجزيرة التي هي دار الإسلام وحوزته من بقايا الشرك والمشركين ، فقال تعالى لرسوله والمؤمنين (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) (١) أي إذا انقضت وخرجت الأشهر الحرم التي أمنتم فيها المشركين الذين لا عهد لهم أولهم عهد ولكن دون أربعة أشهر أو فوقها وبدون حد محدود (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ (٢) حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحل والحرم سواء (وَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاحْصُرُوهُمْ) حتى يستسلموا ، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي سدوا عليهم الطرق حتى يقدموا أنفسهم مسلمين أو مستسلمين وقوله تعالى (فَإِنْ تابُوا) أي من الشرك وحربكم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ (٣) وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) (٤) إذ أصبحوا مسلمين مثلكم. وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أن الله سيغفر لهم ويرحمهم بعد إسلامهم ، لأنه تعالى غفور رحيم ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥) أما الآية الثانية (٦) فقد أمر تعالى رسوله أن يجير من طلب جواره من المشركين حتى يسمع كلام الله منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتفهم دعوة الإسلام ثم هو بالخيار إن شاء أسلم وذلك خير له وإن لم يسلم رده (٥) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكان يأمن فيه من المسلمين أن يقتلوه.

__________________

(١) ليس المراد بالأشهر الحرم الثلاثة السرد ، والواحد الفرد التي هي القعدة والحجة والمحرم ورجب بل المراد منها ما هو مبين في التفسير ومعنى كونها حرما أنه يحرم قتال المشركين فيها والتعرض لهم بالسوء والأذى.

(٢) لفظ المشركين عام في كل مشرك وهو مخصوص بالسنة إذ نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قتل المرأة والصبي والراهب.

(٣) شاهده حديث الصحاح : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله) وقال أبو بكر : والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال.

(٤) مالك والشافعي وأحمد على أن تارك الصلاة استحلالا لها أو غير استحلال يؤخر إلى أن يبقى من الوقت الضروري قدر ما يصلي ركعة قبل خروج الوقت ويقتل ، وأبو حنيفة والظاهرية يقولون : يسجن ويضرب حتى يصلي ولا يقتل.

(٥) إمام المسلمين هو الذي يتولى أمر التأمين لمن طلب ذلك من المشركين إذ هو نائب عن سائر المسلمين ، ويجوز للمسلم ذكرا كان أو انثى أن يؤمن شخصا ما لما له من حرمة لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (المسلمون تتكافؤ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد واحدة على من سواهم). وخالف بعضهم في المرأة فقالوا : لا بد من موافقة الإمام لها على تأمينها وخالف أبو حنيفة في العبد.

٣٤٠